أعرف ان هناك صداقة مثلا وزمالة وعلاقات إعجاب.. أعرف أن هناك عداوة أو محبة أو لا مبالاة، ولكني لا زلت لا أعرف كيف أضع اسما للعلاقة الإنسانية التي ربطتني به.
من ناحيتي كنت واحدا من عشرين أدمي لا يجمع بينهم إلا هذا النادي، ولا يلتقون إلا عند رغبة ملحة واحدة.. رغبة من رغبات البشر التي تظل تلح وتصر حتى تفرض نفسها وتتحقق بطريقة أو بأخرى. فرد من عشرات..
مجرد طرف سلبي، عملي طول الوقت أن أجلس وأشاهد، والجهد الإيجابي الوحيد الذي كنت أقوم به لا يتعدى بضع محاولات، معظمها فشل، لكبت إنفعالي كي لا أنساق وراء المواء الجماعي اذا صدر عن العشرات، أو إخفاء وجهي اشمئزازا أحيانا، أو خوفا، أو لضعف الأعصاب.
أما هو فقد كان بالنسبة لي مجرد وجه اختارته عيناي من بين العشرات لتلمحه، وما تكاد تلمحه حتى تتوقف عنه كقطار سريع يبطيء ليعود يمضي فاذا بإبطائه يتحول الى وقوف. لم تتوقف عيناي لأن الوجه كان شاحبا، لم يكن أصفر، ولا كانت هناك نقاط عرق، ولا كان الشحوب بإرادته، الشعور الذي دهمني وأجبرني على التوقف أن نظرتي الأولى له أشعرتني أن هناك شيئا هو الذي أذهب لونه، وبيَض قمحية وجهه، شيء وسط الزحام الشديد لا يمكن ادراكه أو ضبطه، ولكن كان باستطاعتي أن أقسم أنه هناك، وأنه المسيطر على كل تلك الأفراد وإن كانت ملامحهم لا تنجح في الكشف عنه، ولا يهديك اليه الا نظرة لذلك الوجه، أجل هناك كعقاب خفي داكن رابض فوق السماء.
عقاب له ثلاثون ألف مخلب، في كل وجه ينشب مخلبا وطواطيا لا يمكن انتزاعه، ويفعل هذا دون أن يعي به أو ينتبه اليه أحد، أو يترك أثرا واحدا يشير الى وجوده لولا ذلك الإحساس المبهم الذي تحسه وتشم رائحته تتسرب..إحساس جامح شامل له دوي الجنازات القادمة من بعيد، والإنقباض الذي يشمل البيت اذا نعقت في غنائه بومة.
وربما الذي استوقفني في الوجه أنه الوحيد المتميز الشحوب، وكأنه من نوع خاص ناتج عن احساس خاص لا يشاركه فيه سواه، وكأنه وحده الذي يدري، ووحده الذي يتوقع، وحده الذي حين تراه ينتقل اليك علمه، وتبدأ انت الأخر تدرك وجود شيء في الجو والمكان، شيء أخر غير الناس والإزدحام وشمس ما بعد الظهر وضجة الحياة والإحتفال، شيء حاضر خفي داكن رابض ينتظر اللحظة المناسبة ليعلن حتما عن وجوده وينقض، وفي الحال، ودونا عن العشرين انسان، وبمثل شرارة التماس لا بد أيضا أن يدق قلبك دقة الخوف، اذ تدرك على الفور ادراكا غريبا مبهما وكأنما يهبط عليك كالإلهام، أن ثمة شيئا غير عادي سيقع اليوم لصاحب ذلك الوجه، وإنه أبدا لن يغادر المكان بنفس الحال التي جاء بها.
هذه الدقة المفاجئة وما صاحبها من انزعاج صغير عابر، حددت لحظة خطيرة غريبة في حياتي، لحظة التقائي بإنسان جديد لم يكن منذ ومضة يعنيني أمره. فاذا بالدقة تبدأ معها علاقة، وتتعدى العلاقة بسرعة مراحل التعارف الأولى الى مرحلة الصداقة، بل تتعداها الى ما هو أكثر.. الى مرحلة القلق العظيم على الصديق والتتبع المشفق لخط مصيره.
وهكذا ألقيت النظرة الثانية على صديقي الجديد وكأن بين النظرتين عاما، وكأنني أعود أتفحص ملامح عزيز طالت غيبته محاولا أن أدرك ما حدث له ولشكله من تغيير. كان الوجه دقيقا نحيلا وكان يصنع مع رأسه الأنيق مثلثا رشيقا صغيرا كل ما فيه حتى أذناه رشيق صغير.
ولكل وجه قصة يحكيها أو معنى أو صيحة يطلقها ويعلن بها عن جماله مثلا أو ذكائه، أو عما يكمن في أعماق صاحبه من دهاء. ذلك الوجه كان من الوجوه التي لا تتحدث عن نفسها.. من الوجوه التي نحس بها دائما مشغولة بحدث خارج عنها أو بقضية. ولحظة رؤيتي الثانية له لم يكن وجهه يتحدث عن شيء بالذات أو مشغولا بشيء، كان صامتا.. صمتا لو صبرت عليه لاستحال الى حزن، حزن لا بد شفافا كحزن الملائكة أو إبتئاس الأطفال.
وكان يبدو في الثالثة والعشرين، ولكن مجرد النظر في وجهه ومراقبة صمته وهو يأخذ لون الأحزان البريئة يرغمك أيضا، ولا تدرك كيف، على أن تحس تجاهه ومهما كانت سنك. ولو كنت أصغر منه - بأبوة لا تفسير لها ولا تبرير.
أنت تقرأ
يتفكرو
Romanceإذ كان لك في القلب ذاكرة , سوف تجد لقياها هنا. إذا كان لك وجود في اللامكان, ذلك البعد اللامتناهي بين قلب يدق وعقل ينادي إذا فمكانك هنا. روائع ما يقال و يذكر بين القلب والعقل, الحديث المحتقن بين مشاعرك و ضميرك.... مكان ذلك الحديث هنا, بين صفحات كتابي...