الفصل الحادي عشر

14.6K 467 18
                                    

بإرادة مسلوبة .. بعقل حجبت عنه رجاحته المعهودة .. يمشي كالمسحور بلا حول ولا قوة صوب المجهول .. كطريدة عمياء تسير متخبطة لتلتجئ دون وعي لأحضان صيادها .. لا يعلم ما تلك السلطة التي تملكها عليه تلك المستبدة ، حب الماضي ، جرح الحاضر و خوف المستقبل .. تلك السلطانة الفاسدة التي تتلذذ بألم أسراها .. حتي جهاد النفس الذي يمارسه علي نفسه يعلن بكل تبجح تخليه عنه لصالحها .. لقد ظن ان الزواج هو حصانته ضدها .. ظن ان دفء فراشه بأخري سيبعد عنه ذلك الهوس المرضي بها .. ظن وظن ونسي في صخب أفكاره ان بعض الظن اثم ،،،،
أخذ يطالع هاتفه بانشداه وقد أنهي الاتصال معها للتو .. لقد وافق علي مقابلتها بعد الحاحاً طويلاً منها ، بل وقضاء يوماً كاملاً معها بصحبة أبنته الصغري .. كيف فعل ! وزوجها ! وهند !
شيطان نفسه يصارع صوت العقل الصارخ به أن يعي ما هو مقدماً عليه .. كبرياؤه الذكوري يخبره بانه الانتقام ممن سلبه أمنه وراحته ، من انهي حياته الزوجية وأحال أسرته الصغيرة لأشلاء فشل في جمعها .. متناسياً انه لم يكن الا طرفاً في معادلة لا تقبل الا بالقسمة علي اثنان .. وان رغدة لم تكن يوماً أهلاً له وكما باعته سابقاً ها هي تخون عهدها من جديد ولكن الفارق انه قد أصبح رغماً عنه الطرف الآخر من المعادلة !!!
كالمذنب عاد الي بيته .. يتحاشي النظر لعيناها .. يشعر بأن نظراتها البريئة ستعريه أمام نفسه .. ستكشف له علانية ما يستشتعره بنفسه .. رغم محاولاته لإخماد صوت الضمير الذي يخبره بأنه ينسلخ عن جلدته بلا ذرة مقاومة تذكر .. أخرج منامته بهدوء ينافي الصخب بداخله وهو يتواري عن عيناها الوجلتان خلف باب الحمام الذي أغلقه خلفه .. خلع ملابسه ووقف تحت صنبور المياه المفتوح .. عل المياه تزيح عنه ذلك الشعور المقيت بالذنب نحوها .. نظراتها يستشعرها كخناجر مسمومة تنخر في جسده .. بحق الله لقد أمنته علي نفسها وطفلها .. احتمت به من غدر القريب والتجأت له من قسوة الأيام وماذا فعل هو !!!
خرج من الحمام بعد فترة ليست بالقليلة ليجدها في انتظاره .. حاول التهرب من عيناها ولكنها تلك المرة لن تمهله .. اقتربت منه بهدوء متناولة منه المنشفة ، تعاونه علي تجفيف شعيراته الرمادية الطويلة بعض الشئ .. استسلم لها كطفل مذنب في حضرة والدته وهو يسمعها تسأله بخفوت عن ما به ليجيبها باقتضاب ،،،
- " ارهاق شعل "
انطلت عليها جملته بينما عقلها حائراً .. هل تخبره عن حال ابناؤه أم لا ؟ .. بشرود تحركت نحو باب الغرفة وهي تحسم أمرها بعدم اخباره .. فهو ليس في حالة تسمح له بالانصات لشكواها الآن فلتحاول مع أبناؤه مجدداً علها تصل لسبب تغيرهم الجذري نحوها .. دلفت للمطبخ ويدها تمتد نحو الموقد لتشعله قبل ان تلتفت لتشهق وعينا مازن تطالعانها بحقد وهو يقول بصوت خفيض ،،،،
- " طبعاً اشتكيتيله مني مش كدة ! عاوزاه يكرهنا ويسيبنا زي ما ساب ماما واتجوزك "
اتسعت حدقتاها بصدمة من كلماته المباغته وهي تقول بذهول ،،،،
- " أنا يا مازن !! ده انا بعتبركوا زي باسم بالظبط وانت بالذات بعتبرك صاحبي قبل ما اعتبرك ابني وبعدين ماما متجوزة من قبل ما اتجوز انا وباباك "
أشاح بيده وهو يبتسم بتهكم قبل ان يقول بغضب ،،،
- " ايوة مثلي عليا انا مش ممكن اصدقك تاني انا عرفت الحقيقة كلها "
رمقته بجهل قبل ان تتساءل بحذر ،،،
- " حقيقة ايه دي ؟ "
- " حقيقة ان انتي الي كنتي السبب في طلاقهم .. انا كنت فاكرك طيبة بس طلعت غبي "
فرغت فاها ببلاهة وهي تطالعه بذهول .. هل يظنها حقاً كانت السبب في طلاق والديه ؟ .. نفضت رأسها بحركة حادة برفض وعقلها يستوعب الآن فقط ان زوجة كامل السابقة هي السبب في تبدل أحوالهم معها .. اعتصرت عيناها لبرهة قبل ان تفتحهما وقد التمع الاصرار بهما ،،،،،،،
دلفت خلفه لغرفتهما بعد ان رفعت الأطباق عن طاولة السفرة وأغلقت الباب خلفها .. تمدد علي الفراش بإرهاق لتباغته بالقول ،،،،،
- " كامل انت وعدتني انك هتقولي سبب طلاقك انت ومامت الولاد .. وأعتقد ان دلوقتي من حقي أعرف "
إجفاله من سؤالها المباغت كان واضحاً لعيناها .. غامت عيناه بنظرة لم تفهمها قبل ان يسألها بحدة لم يقصدها ،،،،
- " وايه لازمته الطلب ده واشمعنا دلوقتي يعني "
تلعثمت ولكنها لم تشأ التراجع .. ليس بعد ما سمعت من مازن .. استجمعت رباطة جأشها لتقول بجدية ،،،،
- " انا بتعامل مع الأولاد دلوقتي اكتر منك انت شخصياً والأولاد بيروحوا لمامتهم فانا لازم افهم "
دقق النظر بعيناها وقد تناسي شعوره بالذنب نحوها محاولاً سبر اغوارها قبل ان يتساءل بحذر ،،،،
- " حصل حاجة مع الأولاد لما رجعوا ؟ "
اخفت انفعالها بمهارة تحسد عليها وهي تجيبه بتساؤل مماثل ،،،،
- " وهو انا لازم استني حاجة تحصل .. لو سمحت جاوبني يا كامل "
ظهر الضيق علي ملامحه ولكنه لم يجد بداً من مصارحتها .. ربت علي الفراش بجواره وهو يدعوها للإقتراب هاتفاً ،،،،،
- " تعالي اقعدي يا هند وانا هحكيلك كل حاجة "
( بعض الحقائق نخجل من الإفصاح عنها بينما تتآكلنا من الداخل كمرض عضال لا شفاء منه )
انهي سرده للحقائق بوجه مكفهر وملامح نقشت عليها علامات الانكسار والقهر وهل هناك ما هو أقسي من قهر الرجال !!
لم تجد كلمات تواسيه بها ولكنها اكتفت باحتضانه .. علها تخفف عنه ما التمع بعيناه من ألم حتي انتظمت أنفاسه أخيراً .. زفرت بخفوت وهي تبعد رأسه المتوسدة صدرها برفق لتضعها علي الوسادة خلفه وتحركت علي أطراف أصابعها مغادرة للغرفة حتي تطمئن علي الأولاد كعادتها قبل خلودها للنوم .. بمجرد ان اغلقت باب الغرفة خلفها فتح عيناه يرمق الباب المغلق بحزن والشعور بالذنب نحوها يتعاظم بداخله .. مال بجسده نحو المنضدة بجوار الفراش متناولاً هاتفه باحثاً عن رقمٍ بعينه .. تحركت انامله علي الأحرف بسرعة ليخط رسالته ،،،
- " ابعدي عني ، كل واحد فينا ليه حياته وولادك عمري ما هحرمك منهم بس انا خلاص .. لما تحبي تشوفيهم اتصلي بمازن وياريت تمسحي رقمي نهائي "
القي الهاتف باهمال بعد ان ضغط زر الإرسال وهو يزفر بارتياح ليعتدل مناشداً للنوم الذي تظاهر به بينما ينعم بدفء طالما افتقده بين أحضانها .. وعلي الجانب الآخر كانت هناك من تنظر لرسالته بغيظ وهي تتوعده وزوجته في سرها متناسية ذلك الذي يغط في نوم عميق بجوارها  ،،،،،
***
بحث بلا نتائج ، غائب بلا أمل في العودة وخوف بلغ منها مبلغه مع كل دقة لعقارب الساعة .. عيناها الغائمتان بسحابة من دموع تتأرجح في مآقيها وقد عجزت عن ذرفها وقد اعياها البكاء وعدم النوم .. ارث والداها الذي غاب عن عالمها ليزيد من قتامة أيامها وقد أضحي بين ليلة وضحاها كنز مفقود لا سبيل اليه .. رغم ألمها منه الا ان ألمها الآن يتضاعف لأجله .. تخشي ان تسمع عنه ما يسوءها أو لا تسمع عنه مجدداً من الأساس .. تناولت الهاتف بسرعة من جانبها عندما استمعت لصوت رنينه .. فتحت الخط ليأتيها صوت كريم المنهك قائلاً بهدوء لا يتناسب ووضعها الآن ،،،،
- " لقيته يا ماهي"
تأهبت كل حواسها وقد أطلقت لدموعها العنان وهي تهتف من بين دموعها بغير تصديق ،،،
- " بجد لقيته ،، فين وازاي .. بتتكلم جد لقيته ؟ "
- " اهدي بس يا ماهي لقيته والله بس .... "
وترك كلمته الأخيرة معلقة لتشعر هي بقبضة من فولاذ تعتصر أحشائها بينما تسأله بخفوت حذر ،،،،
- " بس ب بس ايه يا كريم أخويا جراله حاجة ! "
لا يعلم كيف يخبرها ولكنها توقعت الأسوأ فما الضير من اخبارها بما لديه ،،،
- " أخوكي كويس يا ماهي بس محبوس علي ذمة قضية سرقة وشروع في قتل "
شهقت لاطمة صدرها بصدمة بينما اتسعتا عيناها بهلع لتقول ،،،
- " قتل ! "
- " شروع في قتل يا ماهي دي غير دي المهم انا الصبح هاجي اخدك تروحيله وهشرحلك كل حاجة في الطريق .. المهم اننا لقيناه .. انا مرضيتش اروح الا لما اطمنك "
مال ثغرها بابتسامة متهكمة بينما تشكره بصوت منهك بالكاد وصله ،،،،
- " متشكرة "
- " تصبحي علي خير "
- " وانت من اهله "
اغلقت الهاتف معه بينما عيناها تفيضان بدموع ظنتها قد نضبت ولكن هيهات .. تكورت علي نفسها محتضنة ركبتيها الي صدرها علي الأريكة بجوار باب الشقة .. الأفكار تتآكلها كحيوان مفترس وجد وجبته المفضلة .. تتخيل أخاها وقد أضحي مجرماً ورغم كل ما فعله بها سابقاً الا ان فطرتها الأنثوية الحنونة كانت لها الكلمة العليا .. ظلت تبكي بصمت وجسدها يئن وجعاً حتي غفت في مرحلة ما .. لتفيق علي صوت طرقات عنيفة علي باب المنزل .. اعتدلت في جلستها وهي تلاحظ تسلل آشعة الشمس علي استحياء من نافذة المنزل .. وكأنها تعلن أسفها علي ما آلت اليه أمورهم .. رتبت هيئتها المذرية بيدها بسرعة قبل ان تتحرك نحو الباب ليستقبلها وجه كريم القلق وهو يسألها باندفاع وعيناه تلتهمان ملامحها التهاماً ،،،،
- " انتي كويسة ! انا بقالي ربع ساعة بخبط كنت خلاص قررت أكسر الباب "
ابتلعت ريقها بحرج وهي تزيح بيدها بحرج واضح خصلة وهمية لخلف أذنها ،،،،
- " م معلش راحت عليا نومة "
زفر بارتياح وهو يشير لها لتدخل بينما يقول ،،،،،
- " طيب يلا ادخلي غيرى هدومك علشان نروح نشوف وليد "
أومأت برأسها وقد التمعت عيناها بالدموع .. تتواري عن عيناه خلف الباب وهي تهم بإغلاقه بينما يرتقي هو درجات سلم المنزل نزولاً ،،،،،،،،،،،

سبايا بلا أغلال ( الجزء الثالث من سلسلة ألحان حوائية )حيث تعيش القصص. اكتشف الآن