الفصل التاسع عشر

85 9 5
                                    

تفاصيل حياتنا ومشاعرنا ما هي إلا أسرار..
خفايا تنزوي خلف الأبواب المغلقة..
في الواقع من حولنا يرون ذلك الجانب الذي نظهره لهم فقط، أما ما دون ذلك نحن ندفنه بداخلنا..

نخشى أن يطفو على السطح؛ فيُعرينا!
بعض الأحقاد قد تولد بداخلنا ذات يوم..

تنمو بمرور الأيام في غفلةٍ منّا..
تغذيها الأحداث من حولنا، وفي لحظةٍ مباغتة.. تظهر!
بعض المشاعر لا دخل لنا بنشأتها داخل قلوبنا، ولكننا بالتأكيد نتحكم بنموها أو التخلص منها؛ بإرادتنا..
وهي كانت قد تشبع الحقد منها تجاه من كانت يومًا صديقة!
كانت ترى حبه لها ينمو في عينيه كل يوم..
لم تمنعه خطبتها من الوقوع في حبها أكثر..
كانت ترى حزنه عليها يتفاقم..
تدرك أن الآخرى تعلم مشاعره، وتنكرها..
تنقم عليها؛ فما تمنت هي أن تحظى به طوال عمرها حصدته أخرى في بضع سنوات!
وما حدث اليوم قضى على صبرها..
لم تعد الصداقة عائقًا عن إظهار غضبها..
-ندى هي السبب في اللي حصل مصطفى يا منار..
طالعتها الأخرى بصدمة!
هي تقدر خوفها على مصطفى.. مشاعرها تجاهه..
ولكن أن تتحدث عن إحدى صديقاتهن بتلك اللهجة هو ما أثار ريبتها!
-أو خليني أكون أدق، خطيب ندى هو السبب.
شرعت تحكي لها ما عرفته من معلومات استطاعت الحصول عليها من داخل شركته؛ المذكور استطاع شراء أحد موظفي الشركة وهو من ساعده على تلفيق التهمة، وإجادة صنع الأدلة ضده.
أنهت حديثها بزفرة حادة، بينما كانت منار تحاول استيعاب كم المعلومات التي أخبرتها بها للتو..
غضت الطرف عن حديثها ولكنها قررت أن تخبر علي بما علمته عند عودته..
غيرت مسار الحديث لآخر عن حالتها منذ الأمس وبكائها على الشقيق، وكما توقعت تمامًا.. لم تلمح حتى التعاطف الكاذب تجاهها!
أيقنت أن صديقة طفولتها قد تغيرت..
تبدلت للحد الذي أضحت به أخرى لا تستطيع التعرف عليها!
مشاعرها أصبحت متجمدة تجاه الجميع إلا الشقيق الذي يعلمون كلهم أنها تحبه، وأنه لا يبادلها مشاعرها..
وإما من سواه؛ فهي لم تعد تعرهم إهتمامًا..
أنهت جلستها معها ثم ذهبت عندما عاد علي الذي كان يعاملها بطريقةٍ لم تستسغها؛ فرحلت..
جلس يجاورها بصمت وهو يضع بعض الطعام الجاهز أمامها ثم نطق:
-كلي يا منار عشان أنتي مكلتيش حاجة من امبارح.
اومأت بهدوء ثم بدأت تفتح علب الطعام، مدت يدها له بواحدة مع ابتسامة خفيفة:
-كل أنت كمان.
بادلها الإبتسامة، ثم شرعا في تناول الوجبة سويًا..
انتهيا فنهضت تحمل العلب الفارغة للقمامة، تبعها للمطبخ بصمت ثم سألها بضيق:
-غادة كان مالها بقى؟
زفرت وقد انتقل ضيقه إليها على ذكر الصديقة التي تبدلت، وبدأت تقص عليه ما حدث في غيابه.. سر القضية الذي علمته منها..نبرة حديثها التي أصبحت أكثر حدة.. عدوانيتها التي أضحت ظاهرة في عينيها.. نقمتها على صديقتهما الثالثة التي لا تملك من الذنب شيئًا!
ضيق عينيه بتفكير؛ الأمر يبدو مريبًا!
هناك أسئلةٌ كثيرة تحتاج لإجابة..
أفاق من غمرة شروده على لمسة كفها الرقيقة وهي تسأله بيأس:
-مصطفى هيطلع يا علي صح؟
تنهد بحيرة.. هو عاجزٌ عن إجابتها بيقين، ولكنه لا يملك سوى طمأنتها..
ربت على كفها بهدوء، وأهداها بضع كلمات مطمئنة، ثم أخبرها أنه سيبيت برفقتها حتى تعود الأمور لسابق عهدها؛ فهو لن يتركها بمفردها خاصةً إذا كان ما تقوله غادة صحيح، وأن عز يستهدف صديقه.
قضيا بعض الوقت سويًا ثم تفرقا كلٌ لغرفته، خلدا للنوم آملين أن يحمل لهم الغد ما هو أفضل..
ولكن.. ليس كل ما نتمناه آتٍ..!
بعضٌ مما يخبئه لنا القدر يأتي ككابوسٍ بشع.. لا نرجوه، ولا نسعد بحدوثه!
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
هناك أبوابٌ تخفي خلفها ما لا ندركه..
بعض المشاعر تناوش قلوبنا ذات يوم..
تتسلل إلينا في لحظةٍ ما؛ فنألفها..
رغم أننا قد نغفل عن تأصلها بداخلنا إلى ذلك الحد!
نظنها محض مشاعر عابرة..
لا نقف عندها كثيرًا؛ فبالحياة ما هو أهم..
وعندما نتعرض لسقطة نقف مع النفس وقفةً صارمة!
نتأمل فيما مضى وفيما هو آت..
حينما نصل للنهاية نعود بذكرياتنا دائمًا للبدايات..
نتذكر كيف كُنا، وكيف كانوا..
ما الذي آل بنا إلى هنا؟!
متى تغيرنا إلى هذا الحد؟!
نسترجع لحظة البداية.. نبتسم بحنين حين نتذكر تفاصيلها المنسية.. تتسع إنفراجة البسمة عندما نذكر التفاصيل التي أغضبتنا يومًا.. تلمع عينينا بشجن، ونتنهد بحسرة ونحن نعي أن ما خسرناه كان عزيزًا.. عزيزًا للحد الذي سيجعلنا نتساءل إلى الأبد: هل كان الدافع وراء خسارته يستحق؟!
وبدايتها هنا كانت مختلفة؛ تشبهها!
بدايةٌ برائحة عصير التوت الذي توقفت عن شربه مؤخرًا ولا تعرف السبب!
بدايتهما كانت عاصفة.. ثورية؛ تشبه علاقتهما صاحبة اللا مسمى..
كانت المرة الأولى التي تراه بها رغم صداقتها المقربة التي دامت مع شقيقته، وغادة التي لا تتوقف عن الحديث عنه.
كان مشاكسًا، مرحًا، وعابثًا من الدرجة الأولى..
حاول المزاح معها؛ فصدته.. مرة واحدة، ولكنها كانت للأبد!
ومنذ ذلك اليوم علق بينهما ما لم يستطيعا تفسيره..
مرت أيامهما دون أحداثٍ أخرى تذكر.. فقط مناوشات باللسان أو الأعين من حينٍ لآخر، حتى تمت خطبتها!
حينها هاج وماج.. ثار عليها وعلى الجميع.. كانت تصرفاته مبهمة.. يومها أدركت أن ما بينهما سيأخذ منحىً آخر لو لم تتصرف بسرعة؛ فوافقت على الخطبة دون تفكير..
فعلت ذلك لأجل صديقتها العاشقة.. الصديقة التي تهيم به حبًا..
هي نفسها الصديقة التي تصرفت معها بوقاحة في الصباح!
في بعض الأحيان نقف أمام قراراتنا بعجب..
نتأمل أصدقائنا الذين ضحينا من أجلهم، ونرى أنهم قد تبدلوا على النقيض! أصبحوا قساة.. يتعاملون معنا بصلف، ولا يأبهون لتضحياتنا من أجلهم؛ بل يرونها حقًا مكتسبًا، وعندما تتبدل المصالح.. يضيع كل طيبٍ كان بيننا وكأنه هباءًا منثورًا!
الآن استفاقت على تلك الحقيقة، وعلمت أن صداقتها بغادة بدأت تتجه للمجهول.. تنحدر نحو الهاوية، ولم يعد هنالك سبيلٌ لإنقاذها!
بعض العلاقات تستحق أن تغرق أحيانًا دون أن نهرع لإستعادتها، نتخذ معها دور المتفرجين الصامتين؛ فنحن قد سئمنا السعي، وحان الآن دورهم فيه؛ فهل يا ترى سيركضون نحونا ممسكين بأيدينا في محاولةٍ أخيرة؟
مذاق الحسرة طال حنجرتها، رغم أنها لم تخسره بعد، كما أن خسارته من المفترض ألا تكون مهمةً بالنسبة لها!
تنهدت بضيق؛ تنفض عن رأسها تلك الأفكار التي لا طائل منها، ثم تقرر الانتباه لما بين يديها من أعمال..
يمر الوقت ثقيلًا عليها؛ فأمسكت ملف قضيته تدقق البحث فيها..
هي تعلم من الذي رفع القضية ضده وصدمتها هوية الفاعل، ولكنها تظن أن الأمر كله موجهٌ إليها، ومصطفى مجرد أداة؛ لإنتقامه منها!
بحثت عن ثغرة ولم تجد..
أنهكها التفكير ولم تجد بدًّا من المواجهة؛ فنهضت تحمل حقيبة يدها وتغادر المكتب..
ستخرجه من مأزقه حتى لو كان الثمن هو اللقاء الذي ترفضه؛ فهو يستحق أن تتنازل قليلًا لأجله..
أمسكت هاتفها وأجرت إتصالًا بالرقم الذي لم تمسحه بعد، وسرعان ما أتاها صوته المندهش:
-ندى!
-من غير كلام كتير يا عز، هقابلك كمان نص ساعة في الكافيه القريب من مكتبي.
نطقتها بإيجاز ثم أغلقت الخط دون أن تسمع رده..
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
بعض الرجال بارعين في الخداع..
يشبهون الذئب في فصيلته، في مكره، وفي طريقته بقنص فريسته!
يظهرون أمام فريستهم بملامح حملٍ وديع، يتعاملون بنبل فرسانٍ لم يصبحوا موجودين بعصرنا هذا..
يجعلونك تظنين أنهم مختلفون عمّن سبقهم من أشباه الرجال؛ فتقعين في الفخ!
وخلف أبوابهم المغلقة يختبئ الذئب.. يظل كامنًا حتى يتأكد من سقوطك الكامل، وحينها يظهر أمامك!
بوحشيته الحقيقية، وأنيابه البشعة..
تقفين مذهولةً أمام هيئته الجديدة، وتلعنين نفسك؛ لأنكِ كنتي حمقاء للمرة الألف!
هي كانت واعية..
تعلم أن الرجال جميعهم ذئاب بشرية..
ينتظرون اللحظة المناسبة للنهش، ثم يفترسون!
كانت تظن أنها مخضرمة بأمور الرجال، ربما هي لم تربطها علاقة بأحدهم قبله، لكنها ظنت أن العلم بمآسي صديقاتها يكفيها، ونست أن التجربة هي وحدها من تلقننا الدرس ببراعة..
وصلت للمكان الذي طلبت ملاقاته فيه قبل الموعد، طلبت بعض القهوة، وجلست ترتشفها على مهل؛ تنتظر حضوره..
جاء في ميعاده تمامًا وكأنه كان ينتظر تلك المقابلة..
منذ أن رأته تلك الليلة متلبسًا بجرمه وخطيئته الكبرى وهي تتجاهل اتصالاته المتتالية، وترفض لقائه..
أما الآن فهي مجبرة من أجل ذلك الذي يقبع بالسجن البارد القاسي فقط لأنه صديقها!
طالعته من علو ثم أشارت إليه ببرود ليجلس، جلس بمقابلها وهي ينظر لها بترقب؛ يحاول تفسير ملامحها المصمتة التي تطالعه بها..
بدأ هو الحديث:
-ندى أنا...
قاطعته بإشارةٍ صارمة من كفها، ثم تقدمت للأمام قليلًا، وبدأت بالحديث بجدية:
-مش عايزة أسمع منك حاجة، جاية أفهم ليه عملت مع مصطفى كدا!
ابتسم بسخرية يتضمنها غضب لاح في عينيه، والتقطته هي بفطنة..
-عشان هو السبب في اللي حصل؛ هو اللي جابك عندي، هو صاحب الرسالة اللي جاتلك!
طالعته بدهشة ما لبثت حتى تلاشت ملامحها من على وجهها الغاضب، ثم سرعان ما سألته:
-وأنت عرفت منين بقى يا عز إني جيتلك بسبب رسالة؟
أنهت جملتها وهي تضع ساقًا فوق الأخرى بلباقة؛ فارتبك هو!
لقد كشفته بسبب ذلة لسانه المندفعة والغبية، والآن لا يمتلك سوى حله الأخير؛ المساومة..
-أظن أنتي محامية وعارفة شغلنا كويس؛ أهم حاجة فيه إظهار الحق.
قالها بدهاء فطالعته بسخرية:
-وأنا وأنت عارفين كويس إن مصطفى برئ.
-والمطلوب؟
-تقولي أنت بتعمل كدا ليه.. حد وراك ولا بتنتقم عشان الهبل اللي في دماغك؟!
صمت للحظات يتلاعب بأعصابها، ثم أجاب سؤالها بسؤال:
-هتفرق؟
ثم أكمل حديثه وهو ينهض:
-عالعموم إحنا هنسيب القانون ياخد مجراه، ولو هو برئ فعلاً هيطلع.
أتم كلماته وغادرها؛ فنهضت هي الأخرى مغادرة بعصبية..
عادت لمنزلها وطوال الطريق كانت تفكر.. ترى ماذا كان يقصد بكلامه؟ ماذا كان يعني بذلك الإحتمال "لو كان بريئًا" ؟ أيمكن ألا يكون؟!
نفضت الأفكار السيئة عن رأسها حينما دلفت للبيت، حيت والديها بخفوت، ثم استأذنتهما التوجه لغرفتها، وانكفأت على وجهها تراجع ملفه مرارًا وتكرارًا؛ تبحث عن ثغرة تبرئه، ولا تجد!
هي توقن من برائته مهما أخبروها بالعكس..
تتأكد من عدم إقدامه على ذلك الفعل مهما أكدوا لها..
وستفش عن براءته بين السطور والأحداث، حتى تلتقطها..
هي اكتشفت أنها خذلته من قبل، ولن تكرر فعلتها مجددًا..
هو يحتاجها.. صديقتها تحتاجها.. وهي لم تعتد التراجع، أو ترك الأصدقاء حينما يكونون في محنة..
هي امرأة تعتز بالحق، تتغنى به ليل نهار، ولكن.. حين يتعلق الأمر بمن نحبهم؛ هل ستبقى كلمة الحق هي كلمتنا؟!
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
بعض الأبواب قد تغلق في وجوهنا لحكمة..
تحجب عنّا خلفها ما تسوؤنا معرفته؛ رأفةً بنا!
تنزوي خلفها الحقيقة المشينة بخجل، وأصحابها يستلذون بغبائنا منقطع النظير في الفشل بكشفها..
يظنوننا أغبياء؛ لأننا لا نستطيع كشف ما يضمرونه لنا من سوء، ولا يدركون أننا نتغافل.. أن حبنا لهم كان أكبر من أن يجعلنا نلاحظ هفواتهم التي كانت ظاهرة للجميع إلانا!
بعض المصائب التي تحدث لنا قد لا يكون سببها إبتلاءًا أو غفلة؛ بل هو نتاج أعمالنا..
تلك هي حصائد أعمالنا؛ فلم العجب؟!
الأذى الذي يسببه لنا الآخرون هو ما سببناه نحن لغيرنا..
تلك سنة الكون مهما أنكرنا؛ الدائرة ستدور لتعود علينا مجددًا، وتنتقم ممن آذيناهم بقصدٍ أو بدونه!
كان غاضبًا هذا الأسبوع؛ لأن كل شيءٍ في حياته يسير معاكسًا لهواه..
زوجته خرجت هذه المرة عن طوعه..
ظن أنه عندما يهملها ستعود له صاغرة؛ كعادتها، ولكنها باغتته هذه المرة بالعصيان!
أصرت على الطلاق ونالته بالمحكمة؛ لتقطع الخيط الأخير الذي كان بينهما..
كان غاضبًا ولكنه عالأقل ارتاح من عبئها، والآن بإمكانه التفرغ لمعشوقته وجنينها الذي يكون هو والده..
ابتعد عنها أسبوعًا كاملًا ينهي علاقته بالأخرى، والآن جاء..
لم يخبرها بمجيئه وآثر أن يفاجئها..
فتح باب الشقة بالمفتاح الذي يمتلك نسخة عنه، ثم دلف للداخل على مهل دون أن يصدر صوتًا، بحث عنها بصمت حتى سمع صوتها الآتي من غرفة نومهما، سار نحوها بفضول؛ يحاول إستراق السمع، وليته لم يفعل!
بعض الأسرار يجب أن تبقى طي الكتمان؛ فإنكشافها يعني إنهيار عالمنا، الذي عانينا لنثبته من تحت أقدامنا!
سمع صوت ضحكاتها المتغنجة التي لا تطلقها سوى بين يديه؛ فأرهف السمع أكثر ليتعرف على ما تفعله بغيابه..
-متقلقش يا حسام هو بقاله أسبوع مش بيجي؛ الباشا مراته خلعاه ويا حرام متعصب ومكتئب.
قالت جملتها الأخيرة بسخرية جعلت الغضب يتسلل لأوردته، سمعها تكمل من بين ضحكاتها الماجنة:
-المغفل بلع الطعم وما صدق إن اللي في بطني ابنه، وكمان تحليل الdna اللي أنت دفعت عشان نظبطه أكدله إنه خلاص خف وبقى بيخلف.
مطت شفتيها بتذمر:
-مفكر إنه بقى راجل!
عند هذه النقطة لم يستطع التحمل أكثر.. غضبه بلغ مداه؛ فاندفع لداخل الغرفة كثورٍ هائج.. ارتعبت حين رأته وأسقطت الهاتف من يدها فتهشم لقطعتين.. اقترب منها مزمجرًا، جذب شعرها بقساوة، وبدأ يكيل لها الصفعات:
-آه يا بنت ال***** يا ****** وأنا اللي فكرتك توبتي!!
-يا محمد استنى بس أنت مش.. آآآه!! مش فاهم.
كانت تتلوى بين يديه بألم، وهو لا يتواني في إيلامها بالمزيد والمزيد، بل وتطور الأمر لركلاتٍ وصفعاتٍ طالت جسدها بأكمله..
كان يكيل لها الضربات والشتائم معًا دون توقف..
لم يتوقف إلا حين لمح تكومها تحت قدميه بلا حراك، وذلك الخيط الرفيع من الدماء يسيل من تحتها!
حينها بدأ يعود لواقعه.. يدرك أنها ربما تلفظ أنفاسها الأخيرة على يديه.. جثى على ركبتيه بقربها.. حركها بين يديه ولم تصدر منها أي مقاومة كقماشةٍ بالية لا روح بها.. البرودة بدأت تسري بجسدها ونزيفها يزداد!
نهض من جوارها كمن لدغته حية..!
طالعها بفزع؛ لقد قتلها هي وطفلها الذي لم يرْ النور بعد!
ازدرد ريقه بعسر وقرر الهرب..
لا يهمه إن ماتت أو حتى ذهبت للجحيم؛ هو يريد أن ينجو بنفسه وفقط..!
نحن البشر حين نرتكب جرمًا أو تطالنا مصيبة.. لا نفلح سوى بالهرب!
تتوقف أمخاخنا عن العمل، ويُشل عقلنا عن التفكير..
لا نفقه إلا حقيقة واحدة؛ علينا أن ننجو، مهما خلفّنا ورائنا من ضحايا..!
هو بأمان..
لا أحد يعرف عن علاقتهما؛ هكذا أقنع نفسه وهو يفر هاربًا.. غير آبه لجثتها التي فارقت الحياة على يديه!
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
علاقاتنا بمن حولنا هي أبواب..
منزلٌ يقام بداخلنا، وتلك أعمدته..
بابٌ يقطنه الأهل..
وآخر لأصدقاء الطفولة والمدرسة..
ذاك لأصدقاء أيام الصبا..
وهذا تستولي عليه المحبوبة، وتتربع على أرضيته كملكة متوجة..
أبوابٌ وأبواب..
متاهاتٌ كثيرة بداخلنا..
تتوازى طرقها بلا تقاطع؛ حتى لا يختل التناسق..
يحتفظ كل شخص بمكانته داخلنا، ويلتزم ببابه داخل حياتنا، وفجأة.. يقرر أحد ساكنينا أن يتمرد!
يعلن فجأة -علنًا أو ضمنًا- أنه يود ترقية.. يود أن ينزح لبابٍ آخر؛ أقرب للقلب..
حينها تتعرقل خيوط المتاهة، وتتشابك بعضها ببعض.. حتى يصبح السبيل الوحيد الذي يحل المعضلة؛ هو إنقطاع الخيوط جميعها، أو حتى إهلاك بعضها إبقاءًا على الآخر!
وهو دون أن يشعر كان يسير بطريقه نحو الحل الثاني.. علاقته بالمحبوبة تتدهور وهو لا يسعى لإنقاذها؛ بل يترك لها هي تلك المبادرة!
يظنها تتصرف بصلف تجاه صديقته المقربة، وتجاه علاقته بها..
الرجل غالبًا ما يغفل عن نظرات النساء.. عن تصرفاتهن معه؛ لا يدرك تلك التي تريده وتسعى لإصطياده..
الرجال كائنات عمياء مغفلة؛ لا يستطيعون التمييز، ولا إدراك دهاء الأفاعي من جنس حواء!
الأنثى فقط هي من تعرف..
يقال أن الأنثى لغزٌ لا يفهمه سوى مثيلاتها من بنات جنسها..
هي من تدرك دوافع غريمتها، وتراها واضحة كشمس النهار..
وحين تلفت لها انتباه الرجل ينكر!
أو الأسوأ.. ينتبه لها!
يتابعها بوضوح.. يقترب أكثر.. ينتشي غروره الذكوري كطاووس يعلم أنه مرغوبٌ في دنيا النساء..!
لا ينكر أن مشاعره تجاه مها لا تتعدى الصداقة، وأن مخطوبته هي من حازت القلب كاملًا، ولكن.. آدم لا يكتفي بواحدة!
لا يعترف بالرفض في قاموسه حين يتعلق الأمر بأنثى تريده، كما أن مها فاتنة ولا ينكر.. لديها جمالها الخاص، الذي لا يشبه محبوبته اللطيفة في شيء..
والرجل يا عزيزاتي لا يرى النساء سوى أصنافٍ من الفاكهة؛ كلٌ منهن تمتلك لونًا ورحيقًا خاصًا، وإن سألتني يا عزيزتي ما هي فاكهته المفضلة؟ سأجيبك بثقة إنها.. سلطة الفواكه!
مر قرابة الشهر على إنقطاع حديثه مع عشق، ومها لا تترك جواره.. تواسيه وتخبره أن كل شيء سيصبح أفضل في القريب العاجل.. هي حنونة للغاية، وهو أعجبته اللعبة! ازدادت مقابلاتهما في الآونة الأخيرة، وتعددت أماكنها..
واليوم أخبرته أنها تدعوه لمنزلها؛ تود أن تذيقه طبخاتها اللذيذة..
رفض وتردد في البداية، ولكن أمام إصرار الأنثى الذي يشبه شن غارة مفخخة على عقله؛ وافق!
وقفت في المطبخ لساعتين تعد له وجباته المفضلة، تتحرك هنا وهناك بنشاط، تقطع لحمًا، تسلق بعض الخضر، وتقطع البعض الآخر، تعصر الفاكهة لتعد له عصيره المفضل، وتقلب مزيجًا شهيًا في قدرٍ على الموقد..
ابتسمت برضا وهي ترى كل الطعام قد أصبح جاهزًا، ثم ذهبت للتحضر هي لملاقاته؛ فحضوره لمنزلها حدثٌ جلل يجب الاستعداد إليه جيدًا!
دللت نفسها بحمامٍ ساخنٍ، ثم توجهت لغرفتها لتكمل استعداداتها..
ارتدت ثوبًا من اللون الأزرق الداكن كان كلاسيكيًا بإحتشام، طويل بأكمام طويلة، وفتحة صدرٍ خبيثة تعد بالكثير لكن دون كشفه، عقصت شعرها الناري لأعلى على شكل دائرة، وضعت عطرًا فرنسيًا، أحمر شفاه نبيذي، ظلال عيون تشبه لون الثوب، ولمستها الأخيرة كانت عقدٌ كرستالي زينت به جيدها..
بعد أن أنهت كل الترتيبات جلست تنتظره، وأمسكت هاتفها تقلب به قليلًا وتنهي عملًا ما.
نهضت تستقبله حينما آتاها صوت رنين جرس المنزل، وبإبتسامة واسعة كانت تقوده للداخل:
-نورتني يا هاني.
قالتها بحبور وبداخلها تتسع الإبتسامة بخبث؛ فخطتها الجديدة على وشك البدء..!
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
الخوف من المجهول..

للنساء فقطحيث تعيش القصص. اكتشف الآن