الفصل الرابع والعشرون

82 8 5
                                    

للكلمات سحرٌ لا يعيه الكثيرون..
وللصمت لعنةٌ لا تصيب إلا مرتكبيه..
وبينهما تضيع المعاني..!
بعض المواقف يكون الأفضل بها هو الصمت؛ فالحديث هنا لن يسعنا..
نشعر بالخزي فنقف مطئطئين الرأس، ونستمع لتوبيخنا بصدرٍ رحب؛ فنحن نستحقه، وعن جدارة!
نتوقع صراخًا.. عتابًا قاسيًا.. وربما قرارًا بالهجر!
أما عندما نجد ردة الفعل هي الصمت المطبق؛ فهنا يتوجب القلق! هنا ندرك أن الحكاية على وشك الانتهاء..
كانت تقف أمام صديقتها الصامتة التي بخلت حتى عن معاتبتها، ترمقها بأمل وتتوسلها بصمت أن تقبلها بينهن مجددًا..
-ندى مختفية، جنى مشت ومش راجعة، سارة كمان مبقتش عايشة هنا، عشق مش بتكلمنا ولا بترد على حد فينا، وغادة..
صمتت للحظات ثم استطردت:
-وغادة مش موجودة حالياً، مفاضلش غيري يا هدى راجعة لمين!
-كل ده حصل في غيابي؟! أنتي بتقولي إيه يا منار!
ابتسمت بسخرية تجيبها:
-معلش أصلك غيبتي كتير..
-احكيلي؛ أنا دلوقتي رجعت، رجعت ومش همشي تاني.
ظلت منار على برهة من الصمت، تنهدت بحيرة، وفكرت بعقلانية؛ لا ضير من وجودها الآن فربما تساعدها وتدعمها بوجودها، وفي كلتا الأحوال أن يواجه المصاب إثنان أفضل من أن يواجهه أحدهم بمفرده، كما أن غادة- الغائبة الحاضرة- لا تتواجد معها دائمًا، ولا تكاد تأبه حتى لأمر المختفية!
أدركت كم كانت ندى محقة حينما كانت تُفضي إليها بخوفها من الوحدة، وعلمت حقيقتها المرة؛ فما أقسى أن تكون الأقرب لمن حولك، ولا تشعر أنت بقربهم إليك!

أن يكونوا هم محور حياتك، وأنت مجرد حادثٍ عابر!
أن تحزن لحزنهم.. يبكون هم فتشعر أنت بمرارة دموعهم في فمك.. تتعامل مع مشاكلهم مهما بلغت من الصغر كأنها تهدد أمن البشر، أما أنت فسلامٌ عليك وعلى مصابك!
والأسوأ من هذا الشعور هو أنك تدركه..
يوجد بداخلك ما يتيقن من صحته، ولكنك تنكره بعناد؛ خوفًا من إعترافك بالحقيقة المرة: لم يُخلق بعد من يحبك بنفس القدر الذي أحبتته به، ولعنتك الأبدية ستظل حبك اللامشروط!
-يا منار أنا بجد ندمت!
انتشلتها من شرودها وأكملت:
-هو اتخلى عني، متبقوش شبهه!
-مبقتش تفرق يا هدى صدقيني.. أبقي اطلبي من ندى تسامحك وتقبلك وسطنا لما نلاقيها.
قاومت غصتها ورغبتها في نطق الجملة المأساوية الأسوأ توقعًا "هذا إن وجدناها!"
-هنلاقيها إن شاء الله متقلقيش.
نطقتها بمواساة تربت على كفها في حنان، ولا يخلو قلبها من وجلٍ على الصديقة التي ذهبت للمجهول!
ألح هاتف منار بالرنين، ولاحظت هدى أنها تتجاهله؛ فسألتها بفضول:
-مش ده علي صاحب مصطفى؟ مش بتردي ليه!
-أنا وعلي اتجوزنا، ومصطفى في السجن؛ ندى محاميته وأنا وعلي شايفين إن ممكن يكون خطفها متعمد.
فجرت جميع قنابلها بوجهها عنوة؛ فطالعتها الأخرى بعدم تصديق أنهته بشعورٍ بالذنب وخيبة:
-أنا غيبت كتير أوي كدا؟!
-بس أنتي دلوقتي موجودة، عالاقل أنتي موجودة ورجعتي يا هدى الباقي مش راجعين!
نطقتها دامعة، ثم نهضت تجيب رنين زوجها المتواصل:
-خير يا علي!
-مش بتردي على تليفونك ليه؟!
-هحكيلك لما أروح، أنت فين؟
-تحت البيت وطالع، متتأخريش؛ لازم نتكلم.
ودعته بإقتضاب وأغلقت الخط، تنهدت بضيق؛ هي تتحاشى الحديث معه منذ شجارهما، وهو أيضًا يفعل المثل ولا يحادثها سوى في الأمور الهامة.
اصطحبت صديقتها بسيارتها لمنزل والديها حيث تقطن الآن، وانطلقت لمنزلها..
وفي المنزل كان علي ينتظرها، أحضر طعامًا جاهزًا وعصيرٌ طبيعيٌّ تفضله، وقد قرر أن يبدأ بوصل الود؛ فبعدها عنه وتجنبها له يصيبه بإختناق لم يعلم سببه الكامل بعد، ولكنه قرر أخيرًا أن يترك مشاعره تقوده هذه المرة؛ علّه يجد الإجابات التي يبحث عنها..
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس..
جملةٌ لطالما آمنت هي بها، وجعلتها منهاجًا في حياتها؛ في رحلتها المستمرة بحثًا عن الحق..
اعتادت نصرة الحق، وأقسمت على إغاثة المظلوم..
لم تعتد الصمت، واستخدمت كلماتها دومًا في زهق الباطل..
أما اليوم فهي تشعر بالعجز!
تشعر أنها مكبلة، مقيدة، تود أن تكمل مهمتها للنهاية، ولكنها الآن لن تستطيع؛ بسبب إحتجازها ها هنا..
غدًا جلسته القادمة، وهي لا تعرف أين ستؤول الأمور، ولكنها تدعو الله أن تمر على خير..
وفي حبسه كان هو الآخر يدعو الله؛ ليعيدها سالمة.. ليطمئن عليها، حتى ولو لم تأت غدًا، وتجدد حبسه بسبب غيابها..
مرت الليلة صعبة على الجميع؛ عليه وعليها، وعلى شقيقته وزوجها، وحتى على غادة؛ التي يكاد ترقبها وإنتظارها يقتلها!
انقضى الليل، وأتى النهار الذي يحمل لهم نتاج مصائرهم..
تحركت منار بوجل داخل ساحة القضاء برفقة زوجها، خطيا بسرعة إلى القاعة المقام بها الدعوى، اتخذا مجلسًا وعلي يحاول تهدئتها، يطمئنها أن تلك المرة ستكون الأمور على ما يرام، وهي تحاول تصديقه.
بدأ الجميع بالتوافد إلى قاعة الجلسة، ومنار التي كانت تنظر نحو الباب بفضول رأت غادة!
لكزت زوجها بخفة، وهمست له تنبهه بقدومها غير المتوقع، رأت شراسته البادية في عينيه وأثارت ريبتها ولكنها لم تعلق؛ فقد اتفقا ضمنيًا على تجاهل هذا الأمر حتى تعلم منار ما يخفيه عنها..
كانت آتية برفقة رجلٍ يرتدي بذلة رسمية ويحمل حقيبة، ويبدو بهيئة محامٍ!
اقتربت منهما بإبتسامة واسعة وهي تقدمه لهم:
-أستاذ فريد محامي؛ هيترافع عن مصطفى، وهيطلعلنا بالسلامة متقلقيش يا منار.
-شكرا يا غادة مافيش داعي؛ عندنا محامي.
-إيه ده هي ندى رجعت؟
نطقتها بسخرية؛ فسألتها منار بشك ورفعة حاجب:
-مهتمة أوي يعني؟
-أنا جاية أساعد يا منار!
-مستغنيين عن خدماتك..
أنهى علي الحديث بحسم؛ فطالعته هي بنظرة فهمها جيدًا، وتجاهلها..
حضرت هدى هي الأخرى برفقة شخصٍ لا يعرفونه جميعهم، حيت غادة بخفوت؛ فأجابتها بسخرية قبل أن ترحل دون إنتظار ردها:
-هاي يا هدى، رجعالنا بمصيبة إيه المرادي؟
رحلت من القاعة حانقة رغم أنها لم تظهر لهم حنقها، بينما نكست هدى رأسها بخزي؛ فأهداها طارق نظرة داعمة دون حديث..
شعرت منار أنها ترى الحقيقة متجسدة أمامها الآن، وأن غادة لم تكن صديقتها يومًا بل عاشت برفقتها وهمًا لسنوات؛ فالأصدقاء الحقيقيون لا يخونون، لا يبكوننا بل يبكون معنا، أما من يصرون على إصابتنا بجروحٍ غائرة في أعماق قلوبنا لم يكونوا بأصدقاء، ولن يكونوا..
استفاقت من شرودها على علي الذي جذبها لتجاوره؛ استعدادًا لبدء الجلسة..
مضى الوقت ثقيلًا على أربعتهم حتى طارق الذي استشعر ضيق الموقف دون أن يعلم أطرافه، حانت لحظة النطق بالحكم الخاص بقضية مصطفى؛ فانتظرت منار على أحر من الجمر وبقلبٍ واجف، ولم تهدأ إلا عندما أتى محاميهم الجديد بالبشرى:
-الحمدلله خد براءة.
تنفست الصعداء وهي تتشبث بذراع زوجها، الذي ابتسم براحة، هنأتها هدى وكذلك فعل طارق بمجاملة لكليهما، شرح لهما الرجل أن خروج مصطفى سيستلزم فقط بعض الوقت؛ لإنهاء الإجراءات وتصريحات الخروج، اقترحت هدى:
-أنا بقول تسبقوه أنتم يا منار؛ حضريله أكل بيحبه بقى وكدا.
أنهت حديثها بغمزة ابتسمت لها منار، وأيدها علي قائلًا:
-فعلا دي فكرة حلوة أوي.
غادر أربعتهم كلٌ لوجهته؛ فتوجهت منار مع زوجها لمنزلهم، بينما دعى طارق هدى لتناول القهوة في مكانٍ قريب؛ فوافقت..
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
الصمت مرادفٌ للتردد..

للنساء فقطحيث تعيش القصص. اكتشف الآن