النهايات لها مذاقٌ خاص؛ خاصةً السعيدة منها..
تأتي بعد عناء..
بعد انتظار..
وبعد قلوبٍ أضناها الفراق، أو أتعبتها الخيبات..
فتأتينا تلك النهاية مُحملة بالبركة..
بالبِشر..
بالفرحة..
وبالكثير الكثير من الحب!
هناك نهايةٌ تأتينا بعد صبرٍ طويل؛ فتُشبه رشفة ماءٍ عذب بعد ظمأ استمر لساعات وربما لأيام في شدة القيظ..
تأتي فتجعلنا نتذوق طعم السعادة الحقيقية، ورفرفة القلب المليء بالحب، والحبور..
نتمسك بها بإصرار؛ خشية أن تهرب منّا مجددًا..
ونصيبه من السعادة اليوم كان يكفي الجميع؛ فأخيرًا سيظفر بالمحبوبة، وسيحيا معها دهرًا من العمر وعدها ألا يمنحها فيه سوى السعادة..
أما عنها فكانت سعادتها مختلفة..
تتسلل إلى قلبها برهبة، وتستقبلها هي بوداعة وترقب للقادم..
أهداها وعدًا تعلم أنه سيكون وفيًا به، لكن ماذا عنها؛ هل ستستطيع منحه السعادة التي يستحقها، أم ستفشل في ذلك؟!
استفاقت من شرودها على منار التي تحتضنها من الخلف بسعادة طفولية:
-مبروك يا نادووو.
ابتسمت لها بحب:
-الله يبارك فيكي يا حبيبتي..
اقتربت منهما هدى تمازح صديقتها التي أصبحت عروسًا:
-عشنا وشفنا ندى بتتجوز اللي قالت عليه ده لو آخر واحد في الدنيا مش هتتجوزه!
ضحكت منار بشدة، ثم شاركتها المزاح:
-اه وقامت مشوحة بإيديها كدا قال يعني مش هاممها..
تغضن جبين ندى بضيق مصطنع قبل أن توجه حديثها لمنار بغرور:
-على فكرة بقى اخوكي هو اللي كان بيجري ورايا، ولما صِعب عليا وافقت؛ قولت أهو مننا وعلينا يعني برضو.
تحركت هدى إلى الطاولة خلفهما تحضر بعض الدبابيس؛ لتثبت بهما حجاب ندى، وهي تقول بمكر:
-متصدقيهاش يا بنتي دنا لحد دلوقتي فاكرة أول يوم قابلته فيه؛ مبطلتش كلام عنه.
-عشان كان قليل الأدب وعاكسني!
-مانتي زي القمر يا نودي ليه حق برضو، وبعدين أنا أخويا مش بيعاكس أي حد كدا والسلام ده بيقدر الجمال.
-طبعاً طبعاً اومااال!
نطقتها ندى بسخرية وهي تتجاهلها وتُسلم رأسها لهدى، برعت هدى في طلتها وزادتها جمالًا على جمالها؛ فنظرت ندى لنفسها عبر المرآة بإنبهار، ثم شكرتها بحرارة.
طُرق الباب؛ فنهضت منار- التي خمنت هوية الطارق مسبقًا- لتفتح الباب..
صدق ظنها وكان الطارق أخيها؛ فسدت الطريق من أمامه:
-على فين يا باشا!
تملقها بابتسامة زائفة:
-منورتي حبيبة قلب اخوكي طالعة زي القمر، وسعيلي أشوف عروستي بقى وخليكي أخت جدعة.
تخصرت وأجابته برفعة حاجب:
-لا أنا النهاردة صاحبة العروسة مش أختك؛ عشان كدا لازم نشوقك الأول.
-يا بنتي اوعي بدل ما اناديلك جوزك!
رفعت كتفيها بلا اهتمام:
-ناديه عادي..
-حرام عليكي يا منار دخليه بقى..
استدارت لمُحدثتها وأجابتها متنازلة:
-ماشي يا هدهد عشانك أنتي بس.
أفسحت له الطريق فعبر من جوارها إلى الداخل بلهفة، ثم توقف أمام ندى بأعين غير مصدقة!
أسبلت جفنيها بخجل؛ عندما استمعت لمنار التي قالت بمكر وهي تنسحب مع هدى من الغرفة:
-تعالي يا بنتي نسيبهم مع بعض شوية؛ لقد هرمنا والله!
-مبروك يا ندى..
-الله يبارك فيك يا مصطفى، مبروك ليك أنت كمان.
-مبروك عليا أنتي..
قالها بحب مما زاد من خجلها، طلب منها أن تتأبط ذراعه؛ ففعلت، وسارت معه للخارج على استحياء..
وفي القاعة كانت هدى تجلس بجوار زوجها المُحب، وعلى يمينها منار وعلي..
رأت منار عشق تدلف القاعة بتردد متأبطة ذراع خاطبها الجديد- الذي رأينه جميعًا في الصور عبر شبكة الإنترنت فقط- وتبحث عن أي وجهٍ مألوف، تبادلت النظرات مع هدى ثم نهضتا لاستقبالها بحفاوة أذابت توترها، ودعتاها للجلوس على نفس الطاولة رفقة خطيبها الذي عرفته قائلة بنبرة مختصرة:
-أمجد خطيبي..
ابتسمت هدى بمجاملة وحيته منار بإيمائة خفيفة، ثم التم شمل الثلاث صديقات أخيرًا بعد وقتٍ ليس بالقليل..
تعارف الجميع وبدأوا يتجاذبون أطراف الحديث بود..
بعد قليل انضمت لهن جنى الغائبة منذ زمن فعانقنها جميعًا بسعادة، وشاركتهم الجلسة برفقة كريم الذي أخبرهم:
-قريب إن شاء الله تيجو خطوبتي أنا وجنى.
فَرِح الجميع لهم وانخرطوا معهم بالأحاديث، وبدأ ضيوف الحفل بالتوافد إليه رويدًا رويدًا؛ فنهضت منار تتعجل شقيقها وزوجته بعد أن أصر على الانفراد بها قليلًا قبل بدء العرس، بينما نهضت هدى تشرف على ترتيبات الحفل وترحب بالضيوف..
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
بعض النهايات قد تكون هادئة..
لا تملك صخب النهايات السعيدة، ولا خيبة النهايات التي لا تأتي وفق هوانا..
تلك النهايات البسيطة التي تشبه نسمة ربيعية لطيفة..
تأتينا حين الضيق؛ فتُفرجه، تُهون علينا مشقة الطريق، وخيباته..
نحن أصحاب النهايات اللطيفة..
النهايات المُرضية لذواتنا وإن كانت ليست الأفضل..
لكن من يدري.. ربما الخير يكمُن فعلًا في الشر؛ كما يخبرنا الكبار!
انسحبت من القاعة لبعض الوقت الذي أرادت أن تختلي فيه بنفسها؛ تتذكر ليلة مشابهة، تجمع صديقات سعيدات مشابه، والفارق الوحيد هو أنها كانت هي العروس!
ابتسمت بسخرية وهي تتذكر سعادتها هذا اليوم؛ فقد اقترنت بمن ظنته سيكون شريك العمر، استغرقت في دوامة ذكرياتها ولم ينتشلها منها سوى صوت آخر:
-ايه يا عشق طلعتي من القاعة ليه؟
كانت توليه ظهرها؛ فلم ير ملامحها المكتئبة، أسرعت في رسم الإبتسامة الزائفة على شفتيها واستدارت له:
-كنت حابة أشم شوية هوا، متقلقش عليا.
-تمام، بيقولوا العروسة هتدخل دلوقتي..
نطقها بهدوء واستدار عائدًا للداخل؛ فاستوقفته منادية:
-أمجد..
عاد إليها بابتسامته اللطيفة؛ فشكرته ممتنة:
-شكرا إنك جيت معايا النهاردة.
-العفو على إيه بس دي حاجة بسيطة!
زفرت براحة وقررت أن تتوقف عن المقارنة غير المتكافئة؛ فهذا الشاب مختلف تمامًا عن هاني..
هاني ما كان ليقبل أبدًا مرافقتها للحفل، وإن فعل سيظل متذمرًا ويطالب بالرحيل في كل دقيقة.
أما أمجد فهو من عرض عليها مرافقتها؛ بغية التقرب منها، وهي تعلم ويروقها الأمر!
لم تعتد من قبل إهتمام أحدهم بها، حتى هاني؛ كان يحبها بلا شك لكن الاهتمام لم يوجد في قاموسه.
أمجد ليس العاشق الذي تمنته، كما أنه ليس مدلهًا في حبها..
ليس الأمير الذي أتى لينسيها الحب الغادر، ولا يصلح فارسًا للأحلام..
هو مجرد شابٌ عادي، توسم فيها القبول، ورأى فيها الفتاة المناسبة؛ لتكون شريكة حياته، ومنذ ذلك الحين يتقرب منها بحكمة..
يحاول التعرف إليها أكثر، وهي قررت أن تفعل بالمثل؛ علها تجد لديه سلواها، وتتعايش معه بالمودة والرحمة التي أمر الله بها؛ فالحب لم يجلب لها سوى المتاعب.
سارت إلى جانبه ومن داخلها تشعر- أخيرًا- أنها ترغب في قبوله، واكتشاف شخصيته التي تبدو لها لطيفة.
تأملت ملامحه متوسطة الوسامة دون أن ينتبه إلى تحديقها فيه، وابتسمت متنهدة برضا؛ فهي تعلمت الدرس وعن قناعة..
الحب ليس بالضرورة أن يكون صاخبًا..
لا يحتاج حروبًا طاحنة، ولا تضحيات مبالغٌ فيها..
في الحب يكفي فقط أن نطمئن..
ألا تبيت ليلتك خائفًا من الغد، ومما يخفيه..
الحب لا يُبكينا أو يجعلنا نحتار..
لا يملأ رؤوسنا بأسئلة لا إجابات لها، ولا يسمح للوحدة بأن تتسرب إلى ليالينا الباردة..
وكاذبٌ من نادى بأن الحب الأول يبقى ساكنًا داخل قلوبنا للأبد؛ فالحب الأول يتقهقر متخاذلًا حين يأتينا الحب الحقيقي الذي يتربع داخل عرش القلب ويُحيينا من جديد.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
حبٌ واحدٌ حقيقي في هذه الحياة قد يكون هو النهاية التي نستحقها بعد عمرٍ من التعب، وبعد كل الخيبات التي مررنا بها سابقًا على طريق العمر..
أنت تقرأ
للنساء فقط
Romanceالنساء.. لغزٌ كبيرٌ عجزت الكتب عن تفسيره على مر الزمان، وعجز العالم عن فهمه. أن تفهم ما تريده المرأة لهو ضربٌ من الخيال يا عزيزي؛ فكيف ستفهم من عجزت هي شخصيًا عن فهم نفسها!