الفصل الرابع

171 11 0
                                    

كأنها كانت جرعةً مفرطة من الادرنالين؛ في كل مرةٍ يلقاها يتوقف ذلك البائس القابع يسار صدره!
تتبعثر نبضاته بجنونٍ لا يصاحبه سوى في وجودها..
هي الملعونة صاحبة العاصفة التوتية، وفي روايةٍ أخرى آنسة هرقل..
كان يهبط الدرج في منزله ليجدها جالسةٌ على الأريكة الوثيرة بأريحية وكأنه منزلها!
أسرع الخطى نحوها.. كانت المرة الأولى التي يراها بها بعد ذلك اليوم بالمشفى، ولكن يبدو أنها بخيرٍ الآن..
توقف أمامها؛ فرفعت رأسها بفضول يشوبه الضيق:
-خير؟
تصنع اللامبالاة، وكبح شعورًا غامضًا بداخله يحثه أن يسألها عن صحتها وعن آخر ما يخص ذلك الحادث، استعاض عن كل ذلك بسؤال مقتضب:
-نادولك منار ولا أطلع اناديهالك؟
تنهدت بهدوء وأعادت النظر في هاتفها:
-لا نادوها شكرًا..
انتظرته ليرحل ولكنه لم يفعل! تحرك ليجلس على الطرف الآخر من الأريكة، نظرت له بحدة ولكنها آثرت الصمت..
جلس ضائقًا من صمتها.. حضرت شقيقته أخيرًا.. تعانقتا الصديقتين ثم جلست منار بينه وبينها، سألته بدهشة:
-خير يا مصطفى أنت كنت عايز حاجة؟
تنحنح بحرج، شقيقته تطرده من المكان بأدب! نهض قائلًا ببرود:
-لا كنت مستنيكي عشان أقولك إن ماما سافرت الصبح وهتقعد أسبوع كدا ولا حاجة.. أنا دلوقتي هخرج مع علي وأنتي لو هتخرجي متتأخريش أو كلمينا نيجي ناخدك..
أنهى حديثه بإقتضاب وهو يتجاهل الأخرى بجانبها، أخفضت منار رأسها بحزن فوالدتها قد سافرت ونسيت أن الغد هو عيد ميلادها! ربت شقيقها على كتفها بحنان ثم لثم جبهتها بقبلةٍ حانية:
-يمكن هي نسيت يا منار بس أنا فاكر ومش هنسى كل سنة وأنتي طيبة يا حبيبتي..
دمعت عينيها بسعادة وارتمت بين أحضانه:
-وأنت طيب يا حبيبي
ابتسمت لهما ندى بحب وهي ترى هذا المشهد الدافئ، هي تبغض مصطفى بكل ما فيه، ولكن تبقى علاقته بشقيقته هي ما تثير فيها مشاعر متضاربة، تشعر نحوه بلطفٍ غريب، تراه أبًا حنونًا وشقيقًا متفهمًا، تراه شخصًا نبيلًا وليس ذلك الوغد العابث الذي تراه به دائمًا!
أفاقت من شرودها على نحنحته وهو ينظر لها بتفكه؛ البلهاء شردت به دون أن تشعر! وجمت ملامحها وهي تنظر له بجمود، حولت بصرها لمنار بإبتسامة خفيفة:
-يلا بينا بقى عشان نلحق الخياطة.. مش عارفة أنا إيه الشورة المهببة بتاعت تفصيل الفساتين دي! ما كنا أجرنا وخلاص
نطقت جملتها الأخيرة بتذمر بينما قالت الأخرى:
-يابنتي حرام عليكي دي خطوبه صاحبتنا مش خطوبة حد غريب!
أخذتها ورحلت بينما ابتسم هو بخبث ذكوري وهو يفكر أي فستانٍ هذا الذي سترتديه تلك الملعونة، وترى كيف ستبدو به..!
أما عنها؛ استقلت السيارة مع صديقتها وذهبتا لإصطحاب البقية كي يتوجهن لتفصيل فساتينهن وشراء ما يتبقى لهن من مستلزمات؛ فخطبة عشق قد اقتربت، ولا يوجد مناسبة لدى الفتيات أهم من خطبة إحداهن، وخطبة عشق كانت حالةً خاصة تحتاج مجهودًا مكثفًا..
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
النجاح..
هو ما يعيش الإنسان ينقب عنه في كل مراحل حياته، وربما يموت دون أن يصل له..
تختلف معاييره من شخصٍ لآخر، ومن جيلٍ إلى جيل..
فمثلًا نحن نرى أن النجاح يكمن في أن تجد شيئًا ما وتجيده بمهارة، أن تتفوق به على أقرانك، حينها فقط تستشعر نجاحك.
والبعض يرى نجاحه في شهرته، كن مشهورًا تكن ناجحًا؛ هذا هو شعارهم..
يرون أن النجاح يعني أن يعرفك أكبر قدر من الناس، لا يهم سبب تلك المعرفة، لا يهم أن تكون مبتذلًا، تقدم فنًا هابطًا، تكون شخصًا فاسدًا، أو قدوةً سيئة؛ المهم فقط أن تصبح معروفًا بين البشر!
كان مختلفًا.. لم يكن ماهرًا أبدًا في دراسته.. خيب ظن والديه- على حد قولهما- ولم يلتحق بكلية قمة مثل شقيقه! درس بكلية التجارة وتخرج منها.. قرر افتتاح مطعمًا خاصًا به، على شاطيء البحر تحديدًا؛ منظر الأمواج الهادرة يمنحه سلامًا داخليًا هو بأمسّ الحاجة إليه مهما أدعى العكس، ويرى في سكونه راحة تذيب ثلوج صدره.
وقد كان؛ مطعمٌ فخم، هو الأشهر والأكثر جودة عمّن حوله؛ مما جعله قبلةً للكثير من الزبائن، والتتمة نجاح.. نجاحٌ يستحقه وينفي عنه صفة الفشل..
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
إن منظر الإنسان في هذا القرن العشرين يدعو إلى العجب!
الصورة الحقيقية له تتمثل في صورة مخلوق له ذكاء العالم، وضمير القرصان، وغريزة الحيوان..!
الرجل..
كائنٌ يهوى السيطرة.. يتلذذ بخضوع أنثاه له.. والقليل فقط من يعتبر المرأة كائنًا آدميًا يتساوى معه في الحقوق والواجبات!
وهو كان رجعيًا.. ربما تتصل جيناته بذلك المدعو"سي السيد" بل أن الجينات تحورت لتصبح أسوأ! كان مؤمنًا أن المرأة خلقت من ضلعه لا ينكر.. ولكنه كان يعتقد أن هذا ما يجعلها ملكه ويحق له فعل ما يريد بها، وافق على ذهابها لخطبة صديقتها، رغم أنها لن تقام في يوم اللقاء الأسبوعي! انتابتها دهشة، كادت أن تشكره ولكنه فاجئها بوابلٍ من القرارات التعسفية:
-هاجي معاكي.. ومش هتروحي معاها الكوافير هنروح عالقاعة على طول.. وهما ساعتين زمن مش هنتأخر عشان مش بحب الدوشة وطبعاً ملهاش لازمة تشتري فستان ولا حتى تأجري الفستان اللي كنت جايبهولك السنة اللي فاتت لسة جديد
أخفضت رأسها بيأس؛ فهي كانت تظنه يفعل هذا من أجل خاطرها! تمتمت بخنوع:
-حاضر..
ابتسم برضا مشبع بالسيطرة ثم تركها وذهب، تنهدت بمرارة أصبحت هي أسلوب حياتها منذ تزوجته، ثم شرعت في تجهيز العشاء له؛ عليها أن تكون متفانية، وأن تحرص على عدم إغضابه تلك الفترة؛ كي لا يمنعها من الذهاب لخطبة عشق!
انتهت من تجهيز العشاء وجلست تتناوله معه، تلاعبت بطعامها بلا شهية بينما هو كان يلتهم الأخضر واليابس!
انتهيا من الوجبة الصامتة ثم تركها هو ونهض للغرفة، لملمت الأطباق الفارغة وتوجهت بهم للمطبخ، قامت بغسلهم ثم كادت أن تعيدهم لأماكنهم حتى جائها صوته من الغرفة:
-هدى خلصي وتعالي عشان عايزك
تنهدت ببؤس؛ فبالتأكيد هو يريد حقوقه الزوجية ككل ليلة..
دلفت للغرفة فانقض عليها كوحشٍ جائع، سحبها معه للسرير فانصاعت بخنوع، لم تستطع التفاعل معه تلك المرة، كانت تشعر بثقلٍ يجثم على روحها؛ لذا تركته ينهل من رحيق جسدها الذي كاد يذبل كما يشاء، انتفض من فوقها فجأة بغضب، طالعها بتأفف بينما هي نظرت إليه بتساؤل صامت، أشاح بوجهه متذمرًا:
-أنا زهقت يا هدى!
نهضت تسأله بتلهف:
-من إيه؟!
نظر لها بأعينٍ قاتمة وأجابها بجمود جعلها تنظر له في ذعر:
-منك..
قالها ونهض من على السرير، ركضت خلفه بفزع؛ فهي تخشى فقدانه بعد كل ما حدث، تشبثت بقميصه الأسود الذي لم يغلق أزراره بعد، تلمست جزعه العاري وسألته ببكاء:
-مني؟! مني يا محمد!
كانت تلومه بعينيها رغم أن الهيئة تنم عن توسلٍ ذليل، فتشت في دجنة مقلتيه عن بقايا حب ولم تجد، لصدمتها لم تجد! ترنحت للخلف بخبال، هل أتت النهاية؟ والسؤال الأدهى هنا: هل ستنتهي حكايتهما هنا؟ هل هذه هي نهاية المطاف! نهايةٌ عاصفة تشبه قصة حبٍ ظنتها هي أسطورية ولم تكن، الآن فقط اكتشفت أنها لم تكن! فتح فمه يمنحها تفسيرًا توسلته هي أن تحصل عليه ولم يبخل هو عليها به:
-بقيت حاسس إني بعاشر جثة يا هدى! بتحسسيني إنك بتمني عليا بعلاقة هي من حقي أصلا
كادت أن تجيبه مبررة ولكنه قاطعها بسخرية:
-أنا الضحية هنا يا هدى مش أنتي خليكي فاكرة ده وأوعي تنسيه.. أنا اللي اتنازلت وبتنازل وأنتي لازم تقدري ده
أنهى حديثه ورحل.. تركها تستند للجدار من خلفها بخزي؛ تنعى كرامتها المهدورة بفعل الحب.
فهي أنثى امتهنت الذل كعادة؛ في سبيل حبٍ لا ينتمي لعالم الأساطير بشيء..
وهي باتت الآن تعلم..!
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
كانت صلبة..
لا تظن أبدًا بأنك ستستطيع أن تهزها بكلماتك؛ فهي التي تجتاز العاصفة دومًا، ولن تهزها رياح خفيفةٌ، لن تبعثرها بكلماتك المعسولة، ولا بدفء عينيك الذي يمنح أمانًا مطلقًا، هي استثنائية؛ فكن مختلفًا؛ علّها تلين لك يومًا ما!
التقت به مجددًا، ولكن مصادفةً تلك المرة وبداخل مبنى المحكمة العريق، وقف يهديها إبتسامةً مهذبة:

للنساء فقطحيث تعيش القصص. اكتشف الآن