يولد الشخص منّا في مكانٍ بائس.. ثم يبدأ بتناول أطباق غير معدودة من الأمل، وبكل شراهة!
ثم يصبح في العشرين من عمره.. خال الوفاض.. يشعر بالجوع تجاه الحياة، ولكنه مصابٌ بالغثيان؛ نتيجةً لتراكم الآمال الخائبة في معدته!
صوت القرآن الكريم يصدح في الأجواء.. جوٌ كئيب يناسب عزاء.. وجنى التي ارتدت الأسود تطوف بين الحضور وتقدم لهم الضيافة الباهتة كحال مناسبتها، وتتجاهل فضول الجميع حول هويتها.
كانت السيدة فريدة والدة كريم تبكي بإنهيار، دنت جنى منها وهي تمسك بكفها:
-كفاية عياط يا طنط ادعيله هو محتاج دعاكي دلوقتي
تمتمت السيدة بذكر الله ثم دعت له بالرحمة والمغفرة..
انتهى العزاء ورحل الجميع.. صعد هو لغرفة والده وقرر المكوث فيها الليلة.. اعتذر لها:
-أنا آسف إني جبتك معايا لهنا وكمان اسف مش هعرف اوصلك خدي عربيتي روحي بيها وهاتيها هنا الصبح لأني مش هنزل الكافيه..
اومأت برأسها في صمت.. هي لم تره هكذا من قبل؛ كان هشًا! ذهبت لتودع والدته التي ابتسمت لها بحزن:
-شكرا يا بنتي على وقفتك معانا..
ربتت جنى عليها بحنو وهي تتمتم بخفوت:
-ربنا يرحمه ويصبركم على فراقه
آمنت السيدة على دعاها بحسرة فودعتها جنى ثم رحلت..
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
هل يغيرنا الماضي؟
هل نصبح مسوخًا صنعها القهر والظلم؟ ونصبح مستبدين آخرين يضعون غيرهم في دائرة أذى لا نهائية؟
في روايةٍ ما تحول البطل المغوار لشريرٍ آخر..
أصبح مسخًا بالفعل؛ يرى أن الشر يجب أن يهزم بشرٍ أعظم منه! ثم يؤمن بعدها أن الدنيا لا تسع الطيبين، وأنها فقط أصبحت مرتعًا لذوي النفوس الدنيئة؛ لذا قرر أن يكون مثلهم كي يستطيع العيش.
وفي روايةٍ أخرى ظل البطل على حاله.. لم يتحول لمسخ.. أنقذته قوى سحرية انبثقت من اللاشيء دون أن يتغير ما بداخله من نقاء؛ لتتحول لرواية وردية بامتياز، ولا تشبه واقعنا في شيء!
أما هنا فالبطل قد تغير بالفعل، ولكنه لم يتحول لضارية، فقط تعلم كيف عليه أن يحيا بمأمن من شرورهم..
تخطى الجزء الأكبر من ماضيه وترك الدرس فقط ليتعلمه..
قانونه الوحيد الذي أضافه لمحصلته هو اللاحب؛ فبالنسبة له الحب يعمي الأعين، ويضعف البشر، وهو أقسم ألا يكون ضعيفًا كوالده مهما حدث!وصل لشركته في الصباح الباكر كعادته ووجدها تنتظره في صالة الانتظار.. رحب بها في حفاوة، ثم اصطحبها لمكتبه وهو يطلب لهما قدحين من القهوة.
جلس يتحدث معها عن مهامها ومسؤلياتها كمديرة مكتبه، وأخبرها أنها لن تكون مضطرة للتعامل مع غيره في أغلب الأحيان، ثم رافقها لمكتبها بالخارج، وقال لها بمزاح:
-ها يا فندم المكتب ناقصه حاجة؟
ضحكت بخفة ثم توجهت لتجلس خلف مكتبها المتميز بالفخامة رغم بساطته.. نطقت بإمتنان:
-شكراً يا علي..
شاكسها مجيبًا:
-متقوليش شكراً كتير ها
ابتسمت له برقة فبادلها الابتسامة، ثم عاد لمكتبه مرة أخرى.
نهضت هي من مكانها تتجول في مكتبها الجديد.. مكتبٌ من الخشب البني، وكرسيٌ دوار، يقابلهما طاولةً مربعةً صغيرة من الزجاج الشفاف وكرسيين بسيطين للاستقبال، أما بجوار الباب فهناك مكتبةٌ متوسطة الحجم تحوي بعض الملفات خمنت ساندي أنهم يخصون العمل.
رن جرس الاستدعاء الملحق بمكتبها فتوجهت نحو مكتب مديرها الجديد لتبدأ عملها رسميًا..
فترى ما الذي يخبئه لها؟
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
التسرع آفة النساء؛ وذلك لأنهم يتبعون مشاعرهم فقط..
ويجعلونها تتحكم في مصائرهن، ثم يندمن في وقتٍ لا يصلح به ندم..
وهي أدركت رعونتها، وقررت أن تذهب لتعتذر لصديقتها..
ذهبت لمكتبها في اليوم التالي وهي تحمل لها بعض الحلوى التي تعلم عن عشقها لها.. طلبت من سكرتيرتها أن تخبرها بوجودها والأخيرة فعلت.. أذنت لها ندى بالدخول ولكنها استقبلتها ببرود:
-اهلا يا غادة اتفضلي..
تنحنحت غادة بحرج وعانقتها:
-أنا آسفة
لم تجبها الأخرى بل أشاحت بوجهها عنها في ضيق.. ابتعدت عنها وهي تقدم لها الكيس البلاستيكي بإعتذار صادق:
-أنا آسفة والله وعارفة إني فهمتك غلط سامحيني
تنهدت ندى باستسلام ونطقت بعتاب:
-مكنتش أتخيل أبدا يا غادة إنك تشكي فيا! وبسبب مصطفى كمان؟ أنتي أكتر واحدة عارفة إني مش بطيقه!
بررت غادة بسرعة:
-عارفة والله بس اللي حصل يوم خطوبة عشق خلاني استغربت! بس أنتي عندك حق فعلاً أنا مغفلة
لم تستطع ندى كبح ابتسامتها على اعتذار صديقتها الطفولي.. ربتت على كتفها واصطحبتها ليجلسا على الأريكة الجلدية في أقصى الغرفة ليتحدثا بأريحية.
تحدثا لبعض الوقت.. أخبرتها غادة أنها لم تكن تقصد التشكيك بها، وأن الأمر كله محض سوء فهم.. شرحت لها ما رأته في حفل الخطبة وجعل هذا الشعور يتسلل إليها، فزفرت ندى بضيق؛ لا تنكر أن تصرفاته ذلك اليوم جعلها تشعر بنفس الأمر.. ابتسمت بسرعة قبل أن تلاحظ غادة وجومها:
-سيبك من كل ده تعالي بقى أقولك خبر محدش من البنات لسة عرفه
اعتدلت في جلستها بحماس:
-قولي قولي
ابتسمت ندى بخجل:
-متقدملي عريس..
صمتت للحظات قبل أن تكمل:
-وأنا موافقة!
لم تصدق غادة ما تسمعه، وبدت على ملامحها الصدمة:
-عريس؟!
اومأت ندى برأسها فانفجرت الأخرى ضحكًا:
-انسة هرقل هتتجوز؟! وكمان مكسوفة!! مين لعب ف الإعدادات يا جدعان!
لكزتها في كتفها بحنق:
-بطلي تناديني شبهه باللقب المستفز ده!
أكملت وهي تنهض:
-تعالي معايا بقى عشان المفروض إني هروح لمنار وسارة وعشق كمان جايين وأنا عايزة افاجئهم
نهضت غادة معها وهي تقول بفضول:
-ماشي يلا بس هتحكيلي كل حاجة واحنا ف السكة..
خرجا سويًا من المكتب بعد أن أخبرت ندى سكرتيرتها أن تلغي لها باقي مواعيد اليوم، ثم استقلتا سيارة أجرة لتقلهما نحو وجهتهما..
كانت غادة سعيدةٌ لصديقتها بالفعل، وتكاد تطير من فرحتها أن احداهن ستتزوج، بل وبدأت تفكر بالترتيبات لذلك اليوم من الآن!
ولكن هل سعادتها تلك خالصةٌ من أجل ندى وفقط؟ أم لأنها فازت في معركة الحب بتنحي غريمةٍ لا يستهان بها..!
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
ما هو الحب؟
أنت تقرأ
للنساء فقط
Romanceالنساء.. لغزٌ كبيرٌ عجزت الكتب عن تفسيره على مر الزمان، وعجز العالم عن فهمه. أن تفهم ما تريده المرأة لهو ضربٌ من الخيال يا عزيزي؛ فكيف ستفهم من عجزت هي شخصيًا عن فهم نفسها!