(1)
بدايةتقع مدينةُ الإسكندريةِ العصريةِ على شاطئِ مصر الشمالي إلى الغربِ من نهرِ النيلِ، حيث تلتقي الصحراء بالأبيض المتوسط، وتكمن رومانسية هذه المدينة في الماضي وليس في الحاضر.. فقد تردد في شوارعِ هذه المدينة على مدارِ ألفيِ عامٍ صدى أصواتِ عددٍ من أهمِ شخصياتِ التاريخِ القديمِ.
وقعت هنا أحداثُ إحدى أهمِ قصصِ الحبِ في العالمِ، في العلاقة بين (مارك أنطوني وكليوباترا)، وهنا في أحدِ أرقى أحياءِ تلك المدينةِ نرى ( فيلا ) تجذبُ أنظارَ كلِ مَن يمرُ بجانبها.. شُيدت بطرازٍ حديثٍ يُنبأ عن ذوقٍ راقٍ وخاصٍ لتليقَ بأكبرِ "جراحٍ للقلبِ" الذي حُفر إسمُه عبر مرورِ السنواتِ بالعلمِ واﻹجتهادِ والخبرةِ والسمعةِ الطيبةِ، ليسطعَ إسمُه ضمن أهمِ الأسماءِ وأبرزِها في الشرقِ الأوسطِ
" د/ عزيز الشافعي "
******
يَهلُ عيدُ الفطرِ علينا فينثرُ اﻷفراحَ في كلِ مكانٍ وتزدهرُ النفسُ البشريةُ بأريجِ المحبةِ والسعادةِ، خاصةً أنَّ هذا العيدُ جاءَ بعدَ صومِ شهرٍ كاملٍ، شعرَ فيه جميعُ الصائمين بالجوعِ والعطشِ، تباعًا لأوامرِ اللهِ سبحانَه وتعالى، وفي العيدِ هناكَ ذكرياتٌ كثيرةٌ تَختَزِنُها ذاكرةُ كلٍ منَا، ونَتذكرُها مع كلِ عيدٍ يَطلُ علينا، ولكن تَبقى ذكرياتُ الطفولةِ لا يمحُوها الزمنُ.
ذقنٌ خفيفةٌ يتوسطُها طابعُ حُسنٍ، خُصلاتُ شعرٍ مشذبةٌ بعنايةٍ، ونثرةُ عطرٍ رجوليٍ تُشبهُ صاحِبها، ليكتمل بها تأنقُه إستعددًا لأداءِ صلاةِ العيدِ.
" إسلام الشافعي "
الابنُ اﻷكبرُ لـِ "عزيز الشافعي" ذو التاسعِ والعشرين ربيعًا، ورثَ هذا الشابُ النصيبَ اﻷكبرَ من وسامةِ ورجولةِ أبيِهِ، باﻹضافةِ لطولِه الفارعِ، أما عيناهُ العسليتان نصيبُه من إرثِ والدتِهِ.
واختارَ السيرَ على نهجِ والدِهِ وتخرَّجَ من كليةِ الطبِ ولكن بمجالٍ آخرٍ ربما أقربُ قليلًا لعمِه "مراد" المقربِ لقلبِهِ..
فقد اختارَ الشابُ الوسيمُ أنْ يكونَ طبيبًا نسائيًا!
اُختيرَ مِنْ قِبل "البروفيسور" العالميِ" كيبروس نيكولايديس" الذي اخترعَ الجراحاتِ التي تُجرى للجنينِ داخل رحمِ الأمِ للتدربِ علي يدِهِ.. عملَ مع البروفيسور العالمي في مركزِهِ الخاصِ في شارعِ "هارلي" بلندن لمدة عامين؛ ليعودَ بعدها لبلادِهِ ويباشرُ عملَه في مشفاهِ الخاصِ.
ألقى نظرةً أخيرةً على المرآةِ أمامه ليتأكدَ من هندامِه، تبعها بإبتسامةِ رضا؛ ليخرجَ من حجرتِه ويلجُ لغرفةٍ مجاورةٍ له تمامًا لا يفصلُ بينهما سوى جدارٍ واحدٍ، امتعضَ قليلًا وهو ينظرُ دون رضا نحو ذاك المستلقي على الفراشِ بجذعِه العاريِ.. أخذَ يجولُ ببصرِهِ في أرجاءِ الغرفةِ ليلتقطَ أخيرًا جهازَ التحكمِ الخاصِ بالمبردِ ويقومُ بإغلاقِهِ.
ومِنْ ثَمَّ اقتربَ منه يهزُ أحدَ كتفيِهِ بلطفٍ قائلًا:
-باسل.. إنتَ يابني فوق بقى هتتأخر كده.
"باسل الشافعي "
اﻷخُ الأصغرِ ﻹسلام .. في الرابعةِ والعشرين مِنْ عمرِهِ، لا يقلُ كثيرًا عن وسامةِ الأخِ الأكبرِ، فالأصغرُ له جاذبيتُه الخاصةِ؛ لكن ببنيةٍ أنحفُ بعض الشئِ عن أخيِه.. أنهى دراستَه في مجالِ الطيرانِ وحصلَ على رخصتِهِ الأخيرةِ منذ فترة ليست بالبعيدة، ابتعدَ كلَ البعدِ عن كل مايخصُ الطب، فالطبُ لم يكنْ يومًا غايته.. واختارَ تحقيقَ حلمِه الثاني بإلإلتحاق بـِ "كلية الطيران" بعد صراعٍ دامَ طويلًا مع والدِه لرفضِهِ له بتحقيقِ حلمِه اﻷولِ!
زمجرَ بنفاذِ صبرٍ وأردفَ بهتافٍ أعلى:
- يعني لازم أجيب مية خليك محترم وقوم واخلص، بقالك ساعة بتمثل إنك نايم عينيك بتبربش على فكرة.. هااا أجيب مية؟!
انتفضَ النائمُ من فراشِهِ بسرعةِ البرقِ رافعًا كفيه بمحاذاة رأسه معلنًا اﻹستسلام:
-خلاص ياباشا والله صحيت أي أوامر تانية؟
رد بجديةٍ مصطنعةٍ:
-لا يا ابني مفيش أي أوامر تانية بس اخلص علشان تلحق الصلاة بدل ما اﻷوامر العليا تنزل فوق دماغك.
نظرَ إليه باسل بنصف عينٍ وكأنه تذكر شيئًا ما:
- طيب العيدية قبل الصلاة ولا بعد؟
بدا الآخر وكأنه يفكر:
-اممممم زي ماتحب قبل.. بعد أي حاجة حلوة منك يا بطة.
واسترسل ساخرًا:
- أنا هعدي على ساندي وإنتَ اخلص.. آل عيدية آل.
لينهض بعدها الآخر من فوق الفراش متكاسلًا.
*****
دخلَ للغرفةِ المفصولةِ عن الغرفتين السابقتين بممرٍ طويلٍ بإبتسامةٍ جذابةٍ بعد أن أذنت له بالدخولِ.. فهتفَ غامزًا بعينِهِ:
- أيه ده يا إخواتي قمر مش ساندي.
نظرت له عبرَ المرآةِ وهي تُمشطُ شعرهَا القصيرِ، بالكاد يصلُ لكتفيِها.. ثم نهضت على الفورِ؛ اتجهت نحوه بقامتها القصيرةِ وتعلقت بعنقِهِ وهي ترتفعُ على أطرافِ قدميِها مقبلةً وجنته اليمنى بقبلةٍ رقيقةٍ:
- أروح فين أنا في حبيبي .. كل سنة وإنتَ طيب.
- وإنتِ طيبة يا سو.
نظرت له من أعلى لأسفل تُقيمه بعينٍ متفحصةٍ وأكملت بمشاكسةٍ:
-بس أيه الشياكة دي.. عريس بقى وكده.
أنهت حديثها بغمزةِ عينٍ وإبتسامةٍ ماكرةٍ رسمتها فوق شفتيها.
" ساندي الشافعي "
توأمُ باسل.. من يراها لا يعطيها أبدًا ذاك العمر .. بل يُؤكدُ أنها لا تتعدى الثامنةَ عشر مِنْ عمرِها ببنيتِها الضئيلةِ بالنسبةِ لأخويها .. تخرجت مِنْ كليةِ اﻹعلامِ وتعملُ مذيعةً بإحدى محطاتِ الإذاعةِ ببرنامجِ
'صباحُك مع ساندي'
استطاعت بفترةٍ وجيزةٍ جذبَ أسماعِ الناسِ بخفةِ ظلِها ومعاملتِها البسيطةِ التلقائيةِ.
- أنا مش هخلص منكم.. عالم رغاية.. سلام يا لمضة.
قالها إسلام وهو يتجهُ لخارجِ الغرفةِ مسرعًا، بينما أعادت هي النظرَ لمرآتِها قائلةً ببراءةٍ وهي تهزُ أكتافَها و تنظر لانعكاسِ صورتِها عن بعدٍ:
- أنا مش لمضة ! امممم لمضة بس مش أوي يعني.
*****
أنهى الجميعُ صلاتَه وتجمعوا حول مائدةِ الطعامِ ليتناولوا فطورَهم بسعادةٍ وهم يتبادلون أطراف الحديث.. تنحنحَ إسلام بخجلٍ تحت نظراتِ إخوتِهِ الساخرةِ ليخبرَ والدَه:
- بابا أنا اتفقت مع البشمهندس عز الدين والد "لمار" إننا نزورهم بعد بكرة علشان تتعرفوا عليهم وهما يتعرفوا على حضرتك إنت وماما طبعًا.. الساعه ٨ بإذن الله.
أجابَ الوالدُ:
- ماشي يا سيدي أما نشوف أخرتها معاك إنتَ وعمك.
- أخرتها فل إن شاء الله.
قالها مراد وهو يلجُ بإبتسامتِه البشوشةِ.. فبادله شقيقه الإبتسامة مُرحبًا بقدومِه قائلًابعفويةٍ:
- تعالَ يامراد حماتك بتحبك.. اللمة مش ناقصة غيرك.
همسَتْ تلك العجوزُ الجالسةُ على الطرفِ الآخرِ مِنْ المائدةِ بنبرةِ أمٍ حزينةٍ على ابنها:
- وهي فين حماته دي اللي تحبه مش لما يتجوز الأول بعدين تحبه أو إن شاء الله تكرهه.. عيني عليك يابني أربعين سنة راحو من عمرك وإنتَ وحداني وهتفضل طول عمرك كده لو مبطلتش تزور قبرها وتغني ظلموه.
ظلَّ الجميعُ ينظرُ لذلك المشهدِ الذي يتكررُ كلما التقى الابنُ بأمِهِ الحزينةِ على حالِه.. بينما هو جذبَ أحدَ المقاعدِ وجلسَ بالقربِ منها يلتقطُ كفَها مقبلًا إياه.. ويُجيبُها بإبتسامتِهِ الحانيةِ، الهادئةِ،الغيرِ ملائمة لما يعتملُ داخلَه مِنْ وجعٍ سبَّبَتَهَ كلماتُ والدتِهِ التي عبثت بذكرياتِهِ.. ابتلعَ غُصتَه بينما يقول:
- يا أمي يا حبيبتي أنا مرتاح كده صدقيني.
صمتَ لثوانٍ ثُمَّ أكملَ:
- وبعدين إسلام هيتجوز قريب أهوه يعني فرحته هي فرحتي.
هزّت رأسَها رفضًا لمراوغةِ فلذةِ كبدِها.. ولكن سرعان ما أتاه صوتَ أخيه الأكبرِ بجديةٍ:
- هي بتتكلم صح يامراد ماينفعش تفضل عازب طول عمرك؛ "ليلى" الله يرحمها من سنين.. مش آن الأوان تفكر ف نفسك.. العمر رايح مش جاي.
هتف مراد بنبرةٍ حادةٍ بعض الشئِ:
- عزيز لو سمحت ياريت بلاش نتكلم في الموضوع ده.
- يوووه إنتم مستلمين خطيبي من أول ما جه ارحمونا بقى.
نطقت ساندي بتلك الكلماتِ لتُنهيَ ذلك الحديثَ الغالب ما ينتهي بضغوطٍ تُغضبُ العمَ فيهربُ سريعًا ويتجهُ ليغرقَ بنفسِهِ داخلَ دوامةِ العملِ والعملُ فقط ليتناسى كعادته دائمًا.
تبسَّمَ مراد لمنقذتِهِ وفضَّل إدارةَ الدفةِ بعيدًا عنه فغيرَ مجرى الحديثِ وهو يلتفتُ للجالسِ بجوارِها ومِنْ الواضحِ أنَّه لم يكنْ معهم بكاملِ تركيزِهِ فقد كان مشغولًا بنهمِ شطيرتِه الشهيةِ فبادره سائلًا:
-وإنتَ ياكابتن أجازتك قد إيه؟
تناولَ سريعًا آخرَ قضمةٍ وأجابَ بفمٍ ممتلئٍ بالطعامٍ:
- لسه ياعمو كام يوم.
أتاه صوتُ والدتِه الغاضبِ:
-باسل بلييييز يا تأكل كويس يا بلاش قرف.
-حاضر يا شاهي هبطل قرف ولا أقولك أنا هلف باقي أكلي في منديل وأطلع أوضتي أكمل براحتي.. هو الواحد يعني لو ما أخدش راحته في بيته هياخدها فين؟
عقدت حاجبيها بإمتعاضٍ مغمغمةً بإشمئزازٍ:
-هتلف ! ومنديل !!
حرك رأسه بلامبالآةٍ قائلًا:
- بقولك أيه ياشهيرة مش وقتك خالص أنا ماكلتش حاجه من امبارح.
وأكمل بطريقةٍ دراميةٍ:
- إنت بتعملي معايا كده ليه؟ إعتبريني زي ابنك يا شيخة!
نظرت لزوجِها بغضبٍ أكبر قائلةً:
-عزيز شايف ابنك بيتكلم زي بتوع الشوارع ازاي.. لااااا ده لايمكن أسكت عليه.
ثم عادت لباسل من جديد بنظراتها الحانقة:
- أنا معرفش إنتَ ازاي دخلت طيران واتقبلت على أي أساس أصلًا ؟!
همهم عزيز بهدوئه المعتادِ وهو يتنقلُ بإصبعِه فوق شاشة هاتفِه:
- أنتم صداع أنا داخل المكتب أعمل كام تليفون مهم .
-خدني معاك قبل ما ابنك يشلني.
ذهبَ الزوجان وانفجر الجميعُ ضاحكًا مِنْ مشاكسةِ الابنِ لأمِهِ الغاضبةِ.. تلك السيدةُ التي تعشقُ الطبقةَ المخمليةَ وتقضي معظمَ أوقاتِها بينهم إما في أحدِ النواديِ، أو مع أعضاءِ تلك الجمعيةِ الخيريةِ التي تُدافعُ عن حقوقِ الإنسانِ بوجهٍ عامٍ وعن المرأةِ بوجهٍ خاصٍ.. صالوناتُ التجميلِ مكانُها المفضلِ رُغم صباها الذي تَنعمُ به.. ويأتي هوسُ التسوقِ في المرتبةِ الثانيةِ كسائر النساءِ لتختارَ ما يُلائمُ قوامَها الممشوقِ الذي تحافظُ عليه رُغم تَقدمِ عمرِها بتلك الأنظمةِ الغذائيةِ التي تتبعها مع طبيبِها الخاصِ.. لا يوجدُ لديها عائقٌ سوى إسمها الذي كُتب لها يوم مولدِها تيمنًا بجدتها "شهيرة" مسببًا لها بعقدةٍ بسيطةٍ؛ لتجبرَ الجميعَ على مناداتِها بما يليقُ بها من وجهةِ نظرهِا "شاهي".
تبسمت الجدةُ العجوزُ لرؤيةِ أولِ أحفادِها بتلك السعادةِ، رأته شاردًا متبسمًا وتعرفُ حقَ المعرفةِ سببَ تلك الإبتسامةِ المحفورةِ فوق شفتيه، وسبب تلك اللمعةِ داخل عسلِ مقلتيه.. رأت عينيه تتبسم قبل شفتيه.. ربما لأول مرةٍ تراه بتلك السعادةِ وربما يفقدُ الطبيبُ الوسيمُ عقلَه بسبب فرطِ سعادته وعدم قدرتِه لإنتظارِ موعدِه المرتقب.. انتشلته من شرودِه بسؤالها:
- إيه يا إسلام مش هتروحني.. فرحة وحشتني قوي بقالي كتير هنا كفاية كده، وبيتي كمان وحشني ولا أنتَ مش فاضي لي دلوقتي ؟
هتف باسل سريعًا :
- يا تيته ده ندل إسأليني أنا.. قولت له تعالى خدني من المطار قال لي تعالى بتاكسي أنا تعبان مش هقدر أجيلك.
هتفت ساندي لإغاظته:
- هو اللي ندل برضو ولا إنتَ الرخم؛ مين ده اللي هيروح يجيبك الفجر؟!
قاطعهم إسلام بمللٍ:
-ممكن تخرسوا بقى.
وتابع موجهًا حديثَه لجدتِه :
- طبعًا يا تيته هوصلك لحد البيت وأطمن عليكِ كمان.. معنديش أغلى منك يا طمطم.
تحدث مراد بنبرةٍ حانيةٍ:
- ليه كده يا أمي خليكِ معانا شوية ملحقناش نشبع منك.
همست الجدة بملامةٍ:
- لو عايزين تشبعوا مني يبقى تحاولو تلاقوا وقت وتيجو البلد ونتلم كلنا في بيت العيلة.. بيت أبوك وجدك.. وبعدين لو اتأخرت أكتر من كده فرحة هتزعل أكتر وإنتَ عارف أنا مقدرش على زعلها دي هي اللي باقية لي من ريحة أختك الله يرحمها.
تمتم مراد بخفوتٍ:
- الله يرحمها.
رفعت الجدةُ فاطمة كفيها تدعو الله من قلبِها:
- ربنا ما يحرمني منكم.. ويريح قلبك ويسعدك يا مراد يابني.. وأشوفك أحلى عريس يا إسلام يا حبيبي.
نطق باسل بغضبٍ مصطنعٍ:
- ياااا سلام وأنا ابن البطة السودا يعني.
ضحكتْ الجدةُ قائلةً:
- آآآه لو تسمعك شهيرة.. ربنا يهديك ويصلح حالك يا باسل.. وأشوفك عروسة يا ساندي إنت وفرحه قبل ما أموت.
نهضتْ ساندي واتجهتْ نحو جدتها تُطوقها بذراعيها وتُقبلُ جبينها:
- ربنا يديكِ طولة العمر يا أحلى تيتة في الدنيا.
لَكمْ ذاقت تلك المرأةُ العجوزُ مِنْ الشقاءِ ألوانًا، أفنتْ عمرَها وشبابَها حتى تَرى أبناءَها وتفخرُ بما هم عليه اليوم.. كمْ عانتْ حينما ابتعدت عن أهلِها.. لم تكنْ تعدّت السادسةَ عشرَ مِنْ عمرِها وقتما تزوجتْ برجلٍ رأته أول مرةٍ عقبَ انتهاءِ زفافِهم.. لكن سرعان ما رأت فيه الرجلَ الناضجَ الذي يفخرُ بعملِهِ في أرضِهِ ويُعطيها حقها كابن من أبنائه.. عاشتْ حياةً هانئةً في بلدةٍ غريبةٍ عنها تبعدُ أميالًا عن الإسكندرية مكان نشأتها.. تلقتْ من الحياةِ ما يجبُ أنْ تتلقاه لتصبحَ زوجةً مثاليةً وأمًا عظيمةً، بنت أحلامًا مع زوجِها وتعاهدا على تحقيقِها يومًا.. ولكن شاءَ القدرُ أنْ تكملَ تلك الأحلامُ بمفردها.. كمْ عذبها ألمُ الحنينِ.. كمْ عانت من وجعِ الفراقِ، لكن ظلَّتْ صامدةً قويةً، تُعلمُ.. تَنصحُ.. تُساندُ.. ربت رجلين تفخرُ بهم وابنةً كانت نورَ عينيها، رأت فيها نسختَها المصغرةِ في حنانِها وعشقِها لتلك البلدةِ التي أصبحتْ موطنَها بزواجِها من أحدِ رجالِها كأمها .. حتى شاءَ القدرُ مرةً أخرى وتفقدُ نورَ عينيها لترحلَ عنها تاركةً خلفها " فرحتها "، طفلةً في العاشرةِ مِنْ عمرِها.. وكانت تلك القشةُ التي قسمت ظهرَ البعيرِ .. لم تعد للفرحةِ مكانًا في قلبِها.. لكنها تماسكت بما تبقى لديها مِنْ قوةٍ لأجلِ حفيدتِها يتيمةِ الأمِ.. لتُغدقَ عليها بحنانِها وحبِها لَربما تُعوضها عن ما فقدته.
قلَّبت نظرها بين أولادِها وأحفادِها داعيةً.. راجيةً.. بقلبٍ صادقٍ أنْ تراهم في سعادةٍ وحياةٍ هادئةٍ.. لكن عذرًا أيتها العجوزُ الطيبةُ؛ في دنيانا دائمًا ما تأتي الرياح محملةً بما لا تشتهي السفن.
*****
مازالت أمسيةُ العيدِ في بدايتِها.. تعالت الضحكاتُ في تلك البنايةِ وفي تلك الشقةِ بالتحديدِ التي احتلت الدورَ الخامسَ بأكملِه.. أثاتٌ راقٍ وألوانٌ تبعثُ الهدوءَ للنفسِ وبتجمعٍ أسريٍ يملأه الألفةَ والمودةَ.
دلفت فتاةً عشرينيةً تحملُ بين يديها صِينيةً محملةً بالكعكِ اللذيذِ، تفوحُ منه رائحةُ العيدِ الخاصةِ.. مرحبةً بضيوفِ منزلِهم بإبتسامتها الرقيقةِ:
- نورتينا ياخالتو وحشتيني جدًا إنتِ وريهام .
هتفتْ الخالةُ ببشاشةٍ:
- ده نورك يا لمار وإنتِ كمان وحشتينا أكتر ياحبيبتي.
وأكملت ريهام:
- ما إنتِ اللي مش بتزورينا يا ست لمار كفاية عليكِ روان طبعًا ماهو أنا وخالتك على الهامش.
هتفت لمار مدافعةً:
- لا والله يارورو أبدًا أنا كنت لسة بقول لماما لازم أزور خالتو وريهام.. حتى اسأليها مش كده ياماما ؟
أجابت الأم" نهال "بابتسامة:
- كده يا لومي.
ثم تابعت لمار مشاكسةً:
- وبعدين روان إيه ولا مين اللي تشغلني عنك يا جميل، إنتِ بس المشغولة عننا بجوزك.
ضحكت ريهام ثم قالت :
-ماشي، ماشي كلي بعقلي حلاوة.
بينما هتفت روان وهي ترفعُ ساقًا فوق الأخرى.. تُهندم ياقة قميصها بغرورٍ مصطنعٍ هاتفةً بثقةٍ:
- دلوقتي روان مين وأيه.. خليكِ فاكرة بس.. وياريت مترجعيش تعتذري مش هقبل أص...
وقبل أن تُكمل جملتها سحبتها لمار مِنْ يدِها قائلةً:
-تعالي بس عايزة أوريكِ حاجة في أوضتي.
التفتت نهال لأختها قائلةً بقلة حيلة:
-مش هيعقلوا أبدًا.
تبسمت الأخرى وأجابت بهدوءٍ:
- ياستي بكره يتجوزو ويعقلوا.. إلا المجنونة الثالثة فين ؟
- أنا اهوووه يا خالتو صباح الخير أو مساء.. هي الساعة كام ؟
قالت " لارا " تلك الجملة وهي تتثاءَب بمظهرِها المشعثِ والغيرِ مهندم .. جلست بالقربِ مِنْ ابنةِ خالتِها والتي سألتْ بدورِها:
- في حد ينام لحد دلوقتي يا بنتي إنتِ؟
أجابت لارا بنعاسٍ:
- أصل بخزن نوم على قد ما أقدر عشان أستعد لأم الثانوية دي.
هتفت الخالة:
- والله إنتِ و " رامي" مكبرين الموضوع وخايفين على الفاضي.. سنة وهتعدي إنتم شدو حيلكم بس.
- إن شاء الله يا خالتو.. دعواتك.
تدخلت نهال قائلةً:
- إن شاء الله ربنا يوفقوا.. وبعدين إنتِ صاحية تنكدي علينا يا هانم.. اتفضلي هوينا يلا وبلاش دوشة روحي شوفي روان ولمار جوه.
هتفت لارا بطفولية:
- امممممم ماشي ياست ماما إطرديني براحتك بس خليكِ فاكرة.
انتظرت الأم حتى تذهب ابنتها ووجهت حديثها لريهام:
- ها يا ريهام محصلش حمل كمان الشهر ده ؟
أجابت ريهام بخيبةِ أملٍ:
- لا والله ياخالتو مفيش نصيب بقالي خمس سنين كل شهر أتأمل وبعدين يطلع مفيش حاجه أنا خلاص فقدت الأمل.
ردت اﻷم بحزنٍ على ابنتها :
-ماتقوليش كده ياحبيبتي مفيش حاجه بعيدة عن ربنا.
وتابعت الخالة:
- ماتقوليش كده ياريهام الطب كل يوم بيتطور وربنا كبير اوعي تيأسي أبدًا.
تنهدت بضيقٍ ثم أردفت بخفوتٍ راجٍ:
-يااااااارب .
*****
فتحت بابَ الحجرةِ دون إستئذانٍ، قلّبت نظرَها بين الجالستين فوق الفراشِ قائلةً بمللٍ:
- ممكن أقعد معاكم شوية أنا زهقانة وماما وخالتو وريهام طردوني شكلهم بيتكلموا كلام كبار.
هتفت لمار وهي تَكزُ على أسنانِها:
- اتفضلي يا لارا من غير مطرود.. احنا كمان هنتكلم كلام كبار.
لارا بضيقٍ:
- بطلي رخامه بقى يا لمار.
هتفت لمار ببساطةٍ:
- ياستي مش رخامة بس احنا بنتكلم في حاجات تخصنا احنا الإتنين بس.. وبعدين رامي زمانه جاي ياخد خالتو وأكيد هيطلع يسلم عليكِ آ..آ.. أقصد يسلم علينا كلنا يعني.
أنهت جملتَها وهي تنظرُ للجالسةِ أمامها وتكتمُ ضحكاتَها بكفِها.. حتى فقدتا السيطرةَ وضحكتا الفتاتان بصوتٍ أعلى
ولارا المسكينةُ احمرّت وجنتيها.. ثم ضربتْ الأرضَ بقدمِها قائلةً بتلعثمٍ مصبوغٍ بالخجلِ:
- إنتِ قليلة الأدب يالمار.. ماشي والله لأقول لماما.
وأغلقتْ البابَ خلفها بغضبٍ
بينما التقطت روان أنفاسَها بصعوبةٍ من كثرةِ الضحكِ وهي تلومُ لمار:
- ليه كده حرام عليكِ أحرجتيها قدامي.
والإجابةُ مختصرةٌ:
- لا متخافيش هصالحها بطريقتي.. المهم كملي وبعدين حصل أيه بعد ما شوفتي عمر ؟
تنهدت الآخرى بحالميةٍ وهي تتمددُ فوق الفراشِ بكاملِ جسدِها وأكملتْ حديثًا كان قد بدأ قبل دخولِ المزعجةِ الصغيرةِ:
- اممم بس ياستي قالي إزيك وبعدين أخبارك ايه ؟ نازله رايحة فين ؟ وكده حسيت إنه مهتم يعني.
ضحكتْ لمار ونظرتْ لها بطرفِ عينيها قائلةً بنبرةٍ ساخرةٍ:
- بذمتك قال لك أخبارك أيه ورايحة فين.. ومهتم كمان!
اعتدلت روان في جلستِها وأجابتْ مسرعةً:
- طب والله العظيم قال لي ازيك ياروان!
زادتْ ضحكاتُ الأولى وهي تقولُ:
- أيوه كده بلاش حوارات بتاعة كل مرة دي.
غمغمتْ الأخرى بمللٍ وهي تستندُ بوجنتِها على كفِها:
- أوووف بقى طيب أعمل أيه بس إذا كان حجر مش بيحس.. المهم سيبك مني أخبار سي روميو إيه؟
جاء دورُ الأخرى لتجيبَ بحالميةٍ.. ولم يكتفيا مِنْ ثرثرتِهم الحالمة حتى أتى موعدُ انتهاء الزيارة وافترقتا على وعدٍ باللقاءِ في وقتٍ قريبٍ.
*****
تمددت لمار فوق فراشِها وتدثرت جيدًا بغطائِها الناعمِ وهي تُغمضُ عينيها.. تتذكرُ حديثَها مع روان التي بمثابة أختٍ وصديقةٍ مقربةٍ قبل كونِها ابنة خالتها.. أخبرتها كمْ تشتاقُه.. تشتاقُ لحديثِه.. تشتاقُ رؤيتَه.. تشتاقُ لكلِ شئٍ فيه.. قطعَ أحلامَها المحلقةِ فوق غيومِها الورديةِ صوتَ رنينِ هاتفِها يُنبئُ عن وصولِ رسالةٍ نصيةٍ.. التقطتْ هاتفَها بلهفةٍ وقرأتْ بعينيِها ما كانت تنتظره منذ صباح يومها:
"ماكنتش أعرف إن وجودك في حياتي هيخلي العيد حلو قوي كده "
مجرد حروفٍ كونت بضع كلماتٍ كفيلةٍ بجعلِ نبضاتِ فؤادها ترقصُ طربًا،استندت برأسها للخلفِ تفكر في حالها وتتعجبُ!
تبدلَ حالُها من ليلةٍ وضحاها، تبدلتْ لمار الفتاةُ الخجولةُ الهادئةُ والطالبةُ المجتهدةُ طوال السنين الماضيةِ لم يكنْ الحبُ والعشقُ هاجسها ككثير من الفتياتِ، برغم أنها تتمتعُ بقدرٍ عالٍ من الجمالِ الناعمِ الرقيقِ.. عينان بنيتان واسعتان، شعرٌ كثيفٌ ينسدلُ فوق كتفيها له نفس لون عينيها، شفتان ورديتان مكتنزتان، غمازتان عميقتان لهما سحرٌ خاصٌ، وبشرةٌ بيضاءٌ صافيةٌ، حاولَ الكثيرُ التقربَ منها والكلُ كانت تصحبه خيبةُ الأملِ؛ كانت تضعُ هدفَها نُصب عينيها، وهاهي أخيرًا بعد تعبٍ دام طويلًا تخرجت حديثًا من كليةِ الطبِ.. لطالما أرادت أن تُصبح طبيبةَ أطفالٍ.. منذ الصغر وتلك كانت لعبتها المفضلةِ.. ومرت الأعوامُ وهاهي الطبيبةُ الصغيرةُ نضجتْ وكبرتْ وحققتْ حلمَها.. لكن تغير حالها.
منذ شهورٍ أتى فارسُ الأحلامِ وخطفَ قلبَها، لأولِ مرةٍ تتجرعُ الحبَ.. تتلمسُه بكلِ جوارحِها.. تشعرُ كأنها محلقةً فوق الغيومِ، حتى أنها أبدلت لونها الأبيضِ باللونِ الورديِ الحالمِ لتغرقَ داخل عالمها الخاصِ مع فارسِها الذي يُحلقُ معها.. فقط هو مسموحٌ له بذلك.
أخرجها من عالمِها الورديِ طرقاتٌ خفيفةٌ على البابِ، اعتدلت في جلستِها آذنةً للطارقِ بالدخولِ:
- اتفضل.
- الجميل سهران ليه ؟
تبسمت له برقةٍ:
- أبدًا يا بابا مفيش كنت لسه هنام.. حضرتك بقى سهران ليه ؟
اقترب منها.. جاورها فوق الفراشِ وأمسكَ بكفيها قائلًا بنبرةٍ سعيدةٍ:
- سهران علشان فرحان.
تبسمت ضاحكة من جديدٍ مع هتافٍ حماسيٍ:
- طيب فرحني معاك يا سي بابا.
والإجابةُ غيرُ متوقعةٍ:
- النهاردة في عريس إتقدم لك وجاي هو وأهله بعد بكرة إن شاء الله.. دكتور محترم وابن ناس قوي.. وكمان مش هتصدقي يبقى قريب دكتور مراد أستاذك في الجامعة.
وأردفَ غامزًا:
- يظهر كده هنفرح بيك قريب ياجميل.
لو أنَّ دلوًا من الماءِ الباردِ سُكب فوق رأسِها فجأةً ربما كان أهونَ.. هربتْ الكلماتُ.. تلعثمتْ الحروفُ.. لاتدري، مهلًا !
هل يتحدثُ والدُها عنها !
هل هذا العريسُ الأحمقُ لأجلِها؟
رأتْ الجوابَ داخل عينيه.. نعم لأجلِها، هذا الحماسُ البادي على قسماتِ وجهِهِ وتلك السعادةُ وكأن أحد الأمراءِ قرر الزواج بها تُؤكدُ ذلك.. وقبل أن تستجمعَ ماتبقى لديها من تركيزٍ قاطعها والدُها:
- إيييييه رحتِ فين ومالك مذبهلة كده.. عمومًا إحنا لسه هنتعرف عليهم وإنتِ تتعرفي عليه يعني ماتقلقيش.. يلا نامي الوقت اتأخر، تصبحي على خير.
رأتُه يغادر ويغلقُ البابَ.. وهي على حالها لاتعلمُ هل ذهولًا أم خوفًا مِنْ القادمِ؟!
هل ستفقدُه؟ ستفقدُ أحلامَها الورديةِ ؟
مازال نظرُها معلقًا في الفراغِ حيث كان والدها.. عادتْ برأسِها للخلفِ والآفُ الأفكارِ تتخبطُ داخلها.. نظرت للهاتفِ الملقى بجانبِها ثم عادت ببصرها إلى البابِ في وجومٍ.. ظلت على حالها للحظاتٍ.. وأخيرًا امتدت يداها لتجذبَ الهاتفَ عنوةً.. تضمُه لصدرها بقوةٍ، كأنها تخشى فقدانَه.يتبع..
أنت تقرأ
دوامة عشق
Mystery / Thrillerيقع طبيب النساء والتوليد "إسلام الشافعي" في قصة حب من طرف واحد حيث يخبأ له القدر الكثير من المفاجآت الغير سارة.. على صعيد آخر يحلق كابتن الطيران "باسل الشافعي" على متن رحلة من الأسرار يخفيها خلف قناع المسؤولية والسخرية أحيانًا.. فيما تتقدم الآنسة "ت...