الفصل الواحد والعشرون

72 2 0
                                    

(21)
عن العشق، وتفاصيل أخرى

يقال دائماً هناك خير داخل كل شر.. وهي ظنت ذات يوم أنها ستلقي بحالها للمجهول حتى تتخلصَ من معضلة أكبر، ولم يكن ليجول في خاطرها أن ذاك الغاضب ذو الحاجبين المعقودين طيلة الوقت سيملك قلبها في مدةٍ وجيزةٍ، لم تعد ترى رفاهية في خارج المنزل أو في هوس التسوق، النادي والسهر بصحبة الصديقات المدللات.. تلك الحياة الصاخبة لم تعد تروقها أو حتى تشتاقها، بدلت كل ذلك بساعاتٍ تقضيها بين جدران مطبخها محاولة منها كي تصنع له ما يحب ويشتهي من طعام.. المكوث هنا جوار تلك المرأة الطيبة، إطعامها ورعايتها، الثرثرة دون ملل والسفر لحقبات مختلفة من الزمن بصحبتها يخرج ضحكات حقيقية من أعماق قلبها، كل ذلك يسعدها بحق.. وبسمته الهادئة التي يخصها بها ما إن يراها تفعل كل ذلك تجعلها تحلق فوق الغيوم، وعن ضحكته قليلة الحيلة بعد كل كارثة تقوم بها فذاك العشق بعينه.. في عينيها مختلف هو عن كل الرجال، جاهل بقانون الغزل والعزف فوق أوتار قلوب الإناث، لسانه لم ينطق بكلمة غزل واحدة أو من باب المجاملة، لكنَّ عينيه تخبرها أنها باتت ذات مكانة عالية لديه.. حين يضمها لصدره كل ليلة فيطلق تنهيدته المعتادة تترجم لها كل كلمات الغزل التي قد تطير بعقل أي أنثى.. ليت والدتها هنا كي ترى لمعة السعادة داخل مقلتيها، وأبيها تشتاقه بحق، كم تتمنى رؤيته حتى تخبره كم هي سعيدة عله يرضى عنها.. حين طلب منها عدة مرات أن تقوم بمهاتفته او تسمح له بذلك حتى يحاول إصلاح ما بينهما كان الرفض جوابها في كل مرة، تعلم طباع أبيها اللاذعة وستكون الإهانة من نصيبه وهي لن ترضى له بذلك، ورغم ذلك حاولت في الخفاء أن تحادثه لتطلب العفو والوصال من جديد لكنه لم يتنازل لمرة ويجيب على اي من إتصالاتها المكررة كأنها باتت لا تخصه.. ما الفارق لديه إن كانت تقيم مع زوجته الحرباء او برفقة زوجها، في النهاية هو ليس هنا، غير موجود في حياتها على ماذا يعاقبها؟ يعاقبها لأنها إبتعدت عنه! ومتى كان هو قريب؟ هو بعيد منذ الأزل ومازال وسيظل، كيف إذن ترضى وتسمح له بالإهانة وقد وجدت فيه الأمان والسند، الدفء والملاذ المفقود..
بات لديك ما تخافين فقدانه تالا بعد ما عشت عمراً لا شيء يشغل بالك مثقال ذرة.. باتت لك حياة وزوج تعشقين كل نَفَس يصدر عنه.
تبسمت لحالها في خجل، هي غارقة في السيد بدر حد الثمالة.. نظرت للمرأة النائمة بجوارها فيبدو أن شرودها قد طال حيث راحت الأخرى في سبات عميق، دثرتها جيداً، اطفأت الأضواء وغادرت الغرفة مغلقة الباب خلفها برفق.. طالعت الساعة المستريحة فوق الحائط وجدتها قد تخطت الواحدة صباحاً ولم يعد بعد من المشفى.. دلفت حجرتها وأنسلت بجسدها داخل الفراش، تعبث بهاتفها قليلا تنتظر عودته ككل ليلة، وبعد حين بدأ النعاس يناوشها فوصلها صوت المزلاج ينبئ عن عودته.. دلف بهدوء بعدما ألقى تحية خفيضة، جلس بعدها على طرف الفراش يخلع عنه حذاءه بصمت وحين انتهى ولم ينتهِ صمته أو تحرك من مكانه اقتربت هي تلامس كتفه وتطالع شروده الصامت بقلق، سرعان ما قطعته بسؤال:
- مالك يا بدر.. في إيه؟
وحينها رفع لها عينين غائمتين وخرج صوته بسؤال آخر حانق:
-أنتِ إزاي ما تقوليش على موضوع باسل ولمار ده؟ هو ده السر اللي مش عيزاني أعرفه.. خايفه على منظر صحبتك قوي؟
صمتت لبرهة ثم حركت رأسها برفض لنبرته الغاضبة وسؤاله الحانق وعلى الرغم من ذلك أجابته ببساطة:
- يا بدر إفهمني لمار ماكنتش عايزه أي حد يعرف أي حاجة عن الموضوع.. وعدتها أن مش أجيب سيرة لأي مخلوق.. أعمل إيه يعني!
زفر بحنق ونهض يخلع عنه ملابسه، فعادت بتردد:
-عرفت منين؟ إسلام مش كده.
لم يجبْ.. أكمل تبديل ملابسه بصمت مطبق، فاغتاظت وهمهمت حانقة:
- ممكن أفهم أنت متعصب ليه دلوقت؟ أنا ذنبي إيه في كل ده ؟؟!
تحرك ناحية الفراش، أزاح الغطاء متأففاً بغضب وعاد يهتف بدوره:
- إسلام ما يستاهلش إللي صحبتك عملته ده.
أنهى حديثه متدثرا بالغطاء، فجذبته عنه بغضب جعله يعتدل جالسا ينظر لها بحدة فترمقه بدورها بعدما تملك منها الغيظ:
-يا سلام! صحبتي هي اللي قالت لأخوه يستندل مع بنات الناس، وصحبتي بردو هي اللي فضلت تجري وراه مش كده؟! وبعدين عايزها تعمل إيه يعني؟ تروح تقول له على فكرة أنا كنت بحب أخوك علشان كده رفضت طلبك زمان! لو هتلوموا حد يبقى أولى يلوم أخوه إللي راح أتجوز ولا على باله.
رمقها للحظات قبل أن يدمدم:
-مفيش حد خسران غير إسلام في الحكاية دي كلها.. كان لازم تصارحه مهما كان الموقف صعب.. مايستهلش ان يستغفلوه كده.
جذب الشرشف من بين يديها وعاد يتمدد من جديد مردفا بتبرم ساخر:
-طبعًا لازم تدافعي عنها.. مين عارف يمكن أنتِ كمان وراك سر.
ظلت تتابعه مفغرةً الفاه، انتظرت حتى يتبع نهاية حديثه بأسف ربما أو أي شيء من هذا القبيل ليمحي جملته الأخيرة، لكنه ببساطة لم يفعل.. ولأنه لم يفعل نهضت ببطء حاملة إحدى الوسائد من أعلى الفراش ثم فتحت صوان الملابس لتتناول شرشفاً ثقيلاً واتجهت نحو الباب وقبل أن تخطو خطوتها الأخيرة هتفت دونما أن تلتفت:
- أنا مقدرة أنك متضايق علشان صاحبك لكن مش معنى كده تغلط فيا.. ميرسي قوي يا بدر بجد ميرسي.
وغادرت مغلقة الباب من خلفها.. فاعتدل هو مزيحا الغطاء عنه بقوة متأففا بحنق، لا يعلم هل هو غاضب لأجل صديقه فعلا أم من سؤاله الذي ما إن غادر شفتيه حتى زعق فيه دون وعي..
"إيه القرف اللي بتقوله ده.. أنت إتجننت"
"قرررف.. الله ينور عليك.. هو قرف "
ظل يحدق فيه متعجبًا حتى ظن أنه يعاني من خطب ما وبعد دقائق حين هدأت ضحكاته الغريبة، ظلت عيناه شاردة نحو اللاشيء ولسانه يسرد حكاية لم يكن ليتخيلها يوما، حكاية عجز عن مواسته فيها او حتى في جمع حلول وطرح نصائح كعادته.. وباسل ذاك الأحمق كيف يفعل ذلك بأخيه لِمَ لمْ يخبره بالحقيقة منذ البداية؟ لو فقط يراه الآن لكان حطم فكه بعدة لكمات يستحقها.. هو بالفعل يضيق صدره لأجل صديقه، لكن ما يثير حنقه وغضبه سؤاله الذي أثار زوبعة أفكار عاتية بعقله تخص زوجته وخطيبها السابق.. مؤكد كانا يخرجان نهاراً ومن ثم يقضيان الليل سويا عبر الهاتف ولا يستبعد بل في الحقيقة هو جازم أنه كان يمطرها بتلك العبارات اللزجة بإسم الحب.. حين وصلت أفكاره لتلك المنطقة أدرك أن غضبه سيتفاقم رغماً عنه وربما ستفلت منه زمام الأمور وحينها لن يضمن ردود أفعاله.. نهض يدور في الحجرة بلا هدف فقط يفرغ طاقاته وعقله ينبهه أنه أصبح يماثل صديقه في نزعة الغضب التملكيه تلك، فأخمده بجواب يجاهد بأن يقتنعَ به حاله أولا.. أنه شتان بينهما، فصديقه يحركه عشق ولد بداخله منذ أن رأى تلك الفتاة بعد ما قلبت حياته رأسًا على عقب، أما هو غضبه وأفكاره  تخص زوجته فأي رجل ذو دماء حارة لن يقبل بذلك على نفسه.. جلس على طرف الفراش يغمض عينيه ويمسح عرقه البارد عن وجهه بكفيه، عله يطرد تلك الخرافات من رأسه.
طالع الفراش الفارغ بضيق، يعلم أنه أوجعها بكلماته، وهي بالفعل كانت له كالكتاب المفتوح منذ البداية جعلته يقرأ كل ما سطر بحياتها منذ الطفولة حتى تلك اللحظة التي رأها فيها.. كل ليلة تثرثر بين أحضانه وهو يستمع ولا يمل من أحاديثها ولا ضحكاتها التي تجعله يتبسم رغما عنه، والآن هي غاضبة ولها كل الحق في ذلك أخطأ ربما لكن ما يدركه جيدا أنه إعتاد وجودها ولن ينطبق له جفن وهو يعلم أنها الآن تضم وسادتها تبثها عبراتها وتكتم بها نحيبها الصامت.
فتح باب الغرفة وكانت هناك قابعة فوق الأريكة، تضم الوسادة والشرشف بين أحضانها وتبكي في صمت.. رغما عنه أفلتت منه ضحكة ساخرة فالحمقاء بتأكيد خائفه فقد أخبرته مسبقا أنها تخاف الجلوس في الردهه ليلا بمفردها بعدما أخبرتها" أماني "عن تلك المرأة في البناية المجاورة التي  تتلبسها حالة غريبة وتبدأ في الهذيان والتفوه بكلمات عجيبة كل ليلة والجميع يصرح وكأنه خبير بأن عليها إثنين من الجان.. جاورها فوق الأريكة فابتعدت عنه، يكره الإعتذار خصوصاً لامرأة، يمقت التدليل ولا صبر له على ذلك.. لذا هتف سريعًا ونبرته مازالت صارمة:
-خرجتي من أوضتك ليه؟
ويسأل؟ على أساس أنه لا يدري، يفعل فعلته ويعجز عن الإعتراف بخطئه لمرة، آثرت الصمت عن البوح بما يجول داخل عقلها، فعاد يهتف بنفاذ صبر:
-مش هتردي؟
وزاد صمتها وعنادها، وإن ظنت بفعلتها ستكسب شفقته ويكسر طبعه لأجل عينيها هي حتما خاطئة، فالطبع يغلب التطبع في معظم الأحيايين، نهض محركًا كتفيه بلا مبالاة وهمسه الماكر وصلها قبل أن يختفي من أمامها:
-براحتك.. بس ماتنسيش تقري قرآن قبل ما تنامي عشان العفاريت بتسرح بالليل.
وبينما إبتسامته تزداد إتساعا من خلف الباب المغلق .. كانت تدور بعيون جاحظة يمنة ويسرة في هلع، لم تكد تنتهي الدقيقة حتى اظلم المكان من حولها  تماما بعدما إنقطع التيار الكهربائي كعادته المكرره في تلك المنطقة، وقبل الدقيقة التالية كانت تفتح باب الغرفة وتخطو لداخل بتعثر، الفراغ المظلم يهيئ لها أشكالاً غريبة، مريبة..  تتلفت حولها بذعر وكفها المرتعش يمتد أمامها بتحسس علها تصل لهاتفها بأقصى سرعة بينما همستها خرجت بتحشرج:
- بدر..
تهتف اسمه بجزع لكن لا صوت ولا نفس حتى لأحياء في جوارها وبعد برهة شعرت بهواء يلفح عنقها من الخلف فخرجت صرختها المدويه لكنها لم تتعدَ المحيط من حولها بعد ما تم كتمانها بنجاح.. سار بها قليلا ومازال يكممها بكفه العريض وعودة التيار قطعت عليه إستمتاعه الشرير، وحينها فقط تمكنت من رؤيته عبر السطح العاكس.. العبث والتسلية ينضحان من بين عينيه وهي فقدت آخر خلاياها العصبية حتى باتت لا تشعر بأي من أطرافها.. أبعد كفه عنها ببطء فاستدارت تواجهه، ظلت تحدجه بنظرات لائمة وجسدها مازال يرتعد بخوف بينما أنفاسها اللاهثة لا تهدأ وحين إنتوت أن تنفجر فيه صارخة تلعثمت وإنتفض جسدها أكثر ثم إنهارت آخر ذرة تماسك لديها وإرتفع ذراعها يعصب عينيها كعادتها ما إن تبدأ وصلة بكاء.. يحاول مواساتها فيقترب وقبل أن يلمسها تدفعه بقوة كفيها بعيداً وبكاؤها يستمر.. إحترم رغبتها ووقف متكتف الساعدين ينظر لها بنصف عين رافعا أحد حاجبيه في تهكم ويسأل حاله لهذه الدرجة أخافها؟!  ام لعل بكاءها بسبب كلماته السابقة؟ وليقطع الشك باليقين عاد يسأل:
- أنتِ خايفة من العفار..
قطعت سؤاله الغبي بكفين مكورين انهالت بهما فوق صدره في لكمات متتاليةٍ، إختلطت بعدها شهقاتها مع ضحكاته الغير مصدقه لمدى جبنها، بالكاد هدأ من ضحكاته فالمسكينة جسدها ينتفض بذعر حقيقي، قبض على كفيها المكورين وأحكم قبضتيه حولهما ثم تخلى عنهما ببطء في جنبيها ونظرة عينيه فيها تحذير برفعهم من جديد.. إستكانت وهدأت في وقفتها كقطيطة وديعة إلا من عبراتها المنسابة ورعشة شفتيها، اقترب وتلك المرة لم يسمح لها برفض ضمها إليه برفق حتى إحتوى كل جسدها بين ذراعيه، فهدأت أنفاسها واطمئنت بين ضلوعه لذا تبخر خوفها واختفى وأصبح نشيجها الخافت فوق صدره يخص عتاباً على كلمات تفوه بها.. وهو أدرك ذلك، دموعها الدافئة تخترق قميصه مبللة بشرة صدره بينما كفها يستريح فوق موضع قلبه، لذا لا يعلم كيف ولا متى انحنى فوق أذنها يهمس بأسف:
- آسف.. حقك عليا.
وهي لن تسأل عن ماذا يعتذر بالتحديد، فقط شددت على ضمته لتستشعر معنى الأمان والإحتواء بين ذراعي رجل باتت عاشقة له لا محالة.. وهو من ناحيته لم يهتم بإعتذار خرج من بين شفتيه لا يعلم كيف، كل ما يهمه الآن أنها آمنة مستكينة بين ضلوعه.. وسؤال يعود ويطوف داخل ذهنه كلما اقترب منها بتلك الحميمية..
ماذا تفعل بك تلك المرأة؟
*   *   *   *
متلاعبٌ هو يتقن اللعب فوق أوتار الكلمات، بكذبة صغيرة محى صورة هزلية قد رسمتها له بعد ما كادت أن تودي برجولته أرضا وتسحقها بكلمات.. هي بالنهاية كذبة ويعترف بذلك، لكنَّ الغرض شريف وقد نال ما أراد.. تحولت الأنثى الساخرة لأخرى متلهفة، حنونة، قلبها الأحمق يهدر خوفا.. تؤنب نفسها بقسوة، فقد أرغمته على حملها وهو المسكين يعاني ويخجل أن يتكلم! غير الحقائب وصعود تسعة طوابق.. اللعنة عليك فرحة! اقتربت تضم وجهه بين كفيها وعينيها تفيض بخوف حقيقي وقلق:
-حبيبي أنت كويس، حاسس بإيه طمني؟ ماقولتليش ليه يا باسل إزاي أنا ماعرفش حاجة زي دي.
أمسك بكفيها يهمس بطمأنينة:
-ماتخافيش يا قلبي أنا كويس طول ما أنتِ جنبي.
تركت وجهه ونزلت بكفيها تحيط خصره وقد غزت الدموع مآقيها فذاك الأرعن يرسم دور الضحية بإتقان يستحق الأوسكار.. وهمست بتحشرج:
-عملتها إمتى؟
بدأ عقله يجمع ويحسب سريعا، بدأ الكذبة وعليه أن ينهيها بنظافة:
- من إسبوع وما تقلقيش قلت لك كويس، دي عملية بسيطة يعني.
ثم أردف بعدما رفع وجهها ينظر لعينيها المتأثرة بمكر واضح هاتفا بعبث:
-وكنت هقوم بكل المهام اللازمة بكل إتقان وحرفيه، لولا السفر والسلالم أجهدوني شوية مش أكتر.. بس ملحوقة.
وهي تتكلم بجدية ولا تعير حديثه العابث مثقال ذرة فالأمر يتعلق بصحته وهو مازال يمزح:
-باسل لازم نروح لدكتور وتقول له على كل اللي حاسس بيه علشان الموضوع مايتطورش وتبقى إنتكاسه لاسمح الله، بلاش تهمل في صحتك علشان خاطري.
لثم فكها بقبلة قوية وعاد ينظر لها متبسما وهتافه الأجش مطمئن بحق تلك المرة:
-والله أنا تمام وزي القرد أهوه قدامك.. ماتقلقيش بقى، هروح آخد شاور علشان نفطر وبعدين أثبت لك إن زي البومب.
أنهى جملته بغمزة وقبلة سريعة فوق ثغرها وأختفى من أمامها متنهدا بإرتياح.. قضى وقتا تحت رذاذ الماء البارد وما إن إنتهى إرتدى بنطالاً مريحاً وكنزة خفيفة وخرج عائدا لها، ليصطدم بوجود ضيف غير مرحب به على الإطلاق لا الآن ولا فيما بعد، ماذا تفعل تلك المغناج بصحبة زوجته!
ازدرد لعابه وتقدم بخطوات هادئة وبنبرة باردة رحب بها:
-أهلا لاتويا.
نهضت بدلال أنثوي مغوي تحت نظرات فرحة المشتعلة، ولم يكن ترحيبه البارد يكفيها، اقتربت، عانقت وقبلت وجنتيه عدة مرات والمسكينة الأخرى تحدق بعينيها وتعد فوق أصابعها، قطع ذلك نبرة الدلال خاصتها:
- مبروك الزواج.. تتهنى يا ئلبي.
وبعد تلقي التهنئة قام بتعارف بسيط لا غنى عنه:
-فرحة مراتي.. لاتويا صديقة من لبنان.
حركت فرحة رأسها بترحيب أكثر برودة وسماجة من ترحيب زوجها والأخرى تواجهها بنظرات متفحصة، وحده فقط إلتقط نظراتها الغريبة ذات المغزى الذي يفهمه جيداً.. تمتم موجها كلامه لعروسه المشتعلة بغضب الكون:
-فرحة ممكن عصير أو أي حاجة من إيديك يا حبيبتي.
وبسمته المرتبكة جعلتها تنتفض من جلستها المتحفزة متكتفة الساعدين.. شقراء مايعة بصبيحة زواجنا يا أرعن.. الويل لك فقط انتظر!
وهتافها حاد يماثل نظراتها المصوبة نحوه:
-مافيش عصير ولسه ماجبناش حاجة، وصلنا بالليل متأخر ومانعرفش أن في ضيوف هتشرفنا على الصبح كده.
رمقتها لاتويا من أعلى لأسفل ونهضت مرة أخرى وببحة ساحرة هتفت لها:
-كتييير مهضومه.
لتهمس لحالها من بين ضروسها...
" ياااا سم "
وعادت المغناج ترمق باسل:
-صار لازم روح هلا.. شو ما بدك توصلني؟
مد كفه كدعوة لتقدم وتجاهل نظرات فرحة التي كادت أن ترديه قتيلا في تلك اللحظة.. ظلت تعض شفتيها بحنق من خلف ستار النافذة وعينيها مصوبة عليهما أمام البنايه.. تتحدث فتضحك وتتمايع وتنهي حديثها بثلاث قبلات فوق وجنتيه كما استقبلته، لتدلف أخيراً إلى سيارتها وعسى ألا تصحبها السلامة.. وعاد بسلامته بعدما أوصلها كما أمرت، حاولت ان تهدأ من روعها تعد من الواحد إلى العشرة لكن لن تفلح تلك الطرق المستهلكة مع ذروتها المشتعلة..
يتحاشى النظر بالعبث في هاتفه متصنعا الإنشغال وهتافها المغتاظ جعله يرفع بصره إليها متعجبا:
-ست بوسات.. سته! ده انا اللي إسمي مراتك ماوصلتهمش.
رفع حاجبه الأيسر بإستنكار:
-وهو حد منعك!
رفع الحاجبين دورها، اقتربت أكثر وبنصف عين وهمس متمهل:
-إيه حكاية الست دي بالظبط؟
والسبابة ترتفع بلهجة تحذيرية مردفه:
-وحذاري تكذب أو تفكر تخبي.
والتلاعب وتغير المواضيع بات إسلوب حياة لدى الباسل:
- إحنا مش هنفطر ولا إيه؟
وهي لن تتنازل ولن تتزحزح وفي إنتظار إجابة وتوضيح، لذا أنهى الحديث بلهجة جاده، صارمة:
-أنتِ ناسيه طبيعة شغلي، و بعدين مش كل واحدة هتقابلك هتعملي تحقيق.
-ويا ترى طبيعة شغلك تسمح لهم يزوروك في بيتك؟
خرجت نبرتها بضيق حقيقي وليس مجرد حنق وإنفعال، حرك رأسه متأففا وإقترب يدلل، يضم ويهمس بحب:
-لا طبعا، بس هي ماتعرفش عاداتنا و جات تبارك أطردها يعني.. يلا بقى فطرينا هموت من الجوع، يرضيكِ أموت؟
ضربته فوق كتفه قبل ما تبتعد بزمجره:
-آدي اللي بأخده منك.. كلام وخلاص.
.....
وبعد فطور مليء بالمناوشات اللذيذة إصطحبها للخارج في نزهة خاصة.. هي فقط من يمكنها أن تنسيه حاله والكون أجمع، عشقها الفياض النابع من أعماقها يجعله يطمع في أيام أخرى مليئة بسعادة يهنئ فيها ببال مرتاح، وعلى قدر السعادة يوجد خوف ورعب من غد يجهل هويته، قبضة تعتصر قلبه دون هوادة ومع ذلك ترك الغد يأتي محملا كيفما يريد لكن اليوم سيعانق كفها سيحيا بها ولها فقط ، سيراقب ضحكاتها ويشاركها إياها، يضمها أمام الكون أجمع معلنا أن الجميلة، حبة القلب ومليكته باتت ملكا له.. حلمه الذي لم يكن ليتنازل عنه أبداً تحقق بسهولة ويسر لكن على ما يبدو أن الحياة لم ترضَ عليه بعد وتبخل بتقديم سعادة طويلة المدى، يعلم أن تلك اللحظات قصيرة للغاية  لكنه فقط يأمل ألا تنتهي على كابوس كما بدأت.
إنتهى اليوم الطويل بعد زيارة عدة أماكن مختلفة، تمدد فوق الفراش عقب حمام دافئ، وبعد دقائق إنتهت بدورها وخرجت بمئزرها القطني، تجفف شعرها المبلل بالمنشفة وعينيها تطوف فوق باقة الورود الحمراء المستريحة أمامها أعلى طاولة الزينة، قدمها لها في نهاية اليوم قبل عودتهم ليختم نزهته الرائعة بتلك الوردات.. تبسمت حينما إلتقطت عيناه تراقب شرودها المعكوس في المرآة.. مد كفه يدعوها حتى تقترب، فتركت الفرشاة وتحركت إليه وقلبها يخفق له ولأجله كما اعتاد منذ الصغر..
اقتربت.. وقبلة فوق الأنآمل منتهية أعلى الكتف، تبعتها أخرى فوق الجبهة وللوجنتين نصيب، وقبل أن يصل لشفاه ويعلو سقف طموحه.. أبعدته برفق وهمست بأسف:
-معلش يا حبيبي مش هينفع.
تصلب في مكانه عاقدًا حاجبيه في إستهجان، فتابعت هي مفسرة:
- ما هو ما كنش ينفع أسكت، قولت لك بلاش خروج عشان ما تتعبش بس أنت أصريت.. كلمت إسلام قولت هو عارف أكيد بموضوع العملية وكان عندي حق بعد ما عرف أن خرجنا وإنك إمبارح تعبت شوية وكده يعني..
ردد خلفها ببلاهة:
-وكده يعني!
ابتلعت لعابها تحت أنظاره المحدقه فيها بتركيز وأخذت تسترسل حديثها غير مدركة لما يعتمل داخله:
- أكد علىّ ما فيش خروج تاني و.. ويعني زي الأخوات بقى لمدة إسبوع كده وإلا الحكاية هتقلب لإنتكاسه وأخطر كمان.
تخلل بأنامله خصلات شعره، يمسح وجهه بكفيه بينما ساقه تهتز برتابه وغيظ يكاد يفتك به.. وفجأة تجاهل حديثها وجذب ذراعها بنبرة جامدة:
-مالكيش دعوه بكلام إسلام ده واحد بيستهبل.. وبعدين أنا أدرى بصحتي ماتقلقيش أنتِ بس.
خلصت نفسها من بين يديه ونبرتها لا تقبل نقاش:
-تؤ تؤ ماتحاولش أنا هنفذ كلام إسلام بالمللي كله إلا صحتك يا بيسو الله.
عاد يتمدد للخلف ملقيا بثقل جسده دفعة واحدة، مدمدماً بسخط:
- أنتم خليتوا فيها صحة خالص.
*  *   *   *  *
قابع خلف مكتبه يدون أسماء لبعض العقاقير لإحداهن، بينما عقله شارد مع كلمات زوجة أخيه.. عن أي فتق تتحدث، ولم يكذب ذاك الأبله! وما كان منه إلا أن يجاريها في الحديث بعد ما إنحدر تفكيره كما فعلت هي من قبله.. والآن قسراً يحتل تفكيره، هل الأمر بذلك السوء حتى يختلق أكاذيب واهية كتلك؟ حسناً ربما الحل الذي قدمه سيمنحه بعض الوقت..
وينتشله من بؤرة شروده إقتحام مفاجئ وهتاف حاد:
-دكتور إسلام الحق دكتورة لمار بتعيط ومنهاره.
....
التهم الطرقات بخطوات واسعة وقلبه ينبض بالألم، كيف لا وهو يشعر بها قبل أن يراها، كان يعلم من البداية أن الأمر لن يبقى سراً، لم تكن لتهدأ حتى تكسر أوامرة وتجتاز البوابة لتصل لصغارها.. وما كانت فعلتها تؤلمه، ما يؤلمه حقا شعورها وقتما يقابلها فراش الصغيرة فارغاً، مهجة قلبها التي أحبتها وميزتها عن الغير "مريم" تلك  البريئة ذات الإبتسامة الموجعة، بعد ثلاثة أعوام حاربت فيهم بكل قواها لتهزم ذاك المرض اللعين وشاء الله أن تفارق الحياة منذ يومين، لم يستطع إخبارها وجل ما فعل حرص على منعها من دخول تلك الحجرة من جديد.. لكن لم تكن لتتخلى عنهم كما ظن وكما وعدت هي، والآن ماذا..
تقف أمام الحجرة التي شهدت أجمل ساعات قضتها داخل تلك المشفى، كتفيها ينحنيان بحزن ونشجيها المتألم بين الجدران يشق عنان السماء حيث روح الصغيرة، دمعاتها المنسابة تعاتبها بألم..
"رحلت مريم و لم نكمل قصتنا.. انظري لقد صنعت لك حلواك المفضلة لم تتذوقيها بعد حبيبتي.. أفتقدك منذ الآن يا صغيرة"
انتهت الخطوات وباتت أمامه على بعد أمتار قليلة، يراها على تلك الحالة فتتحرك قدماه بآلية تلتهم ما تبقى، حتى توقف قبالتها.. حينها فقط رفعت رأسها المنكس تنظر له من خلف غشاوة عينيها وكفها يرتفع ببطء ويحط فوق موضع قلبها، تخبره أنها تتألم، ذاك النابض يذرف دمعا ويقطر وجعا على فراق أتى بغير ميعاده، كأنه لا يكفيه ما به ليأتي فراق الصغيرة ويقضي على البقية الباقية.
جذب كفها من فوق نابضها وعيناه لا تحيد عنها ضاما إياها لصدره.. فتتشبث بقميصه أكثر ونحيبها المتألم يخترق أضلعه ويسكن بين جنباته، يشد بمؤزارة ثم يمسد بحنو، يواسي بكلمات تحث بصبر على قضاء الله وعنها فقدت الشعور بأطرافها وسقطت بين يديه فاقدةً للوعي بعد ما استنزفت آخر ذرات طاقتها.. حملها بين ذراعيه تحت أنظار الجميع بملامح قطبت بخوف وقلق.. يريحها فوق الفراش ويعمل على إفاقتها بنفسه وبعد دقائق عاد وعيها وعاد نشيجها يعلو من جديد فتغفو سريعا بفعل مهدئ حقنها به.. يجاورها بصمت بينما عينيه لا تفارق وجهها، يضم كفها بين كفيه وحين أوشك مفعول المهدئ على الإنتهاء لثم أعلى جبينها بقبلة طويلة وغادر سريعًا..
وبعد وقت قصير كان يراقب من البعيد رحيلها بصحبة والديها يدعمها كل من جهة وهي منكسة الرأس.. صامته حتى إختفت من أمامه.. وكان يعلم، فقد أخبره حدسه أن رحيلها تلك المرة ليس كسابقه.. بل هو بمثابة وداع .
*  *  *   *  *
كان يقوم بإنهاء بعض الأعمال داخل صالة المطار بعد ما تم مهاتفته وطلب حضوره على وجه السرعة لحل مشكلة ما تخص عمله، حضر على الفور وحلت المشكلة، حسنا يمكنه العوده الآن حيث عش الزوجية فهو لن يتركه حتى تنتهي عطلته المسموح بها.. مضت ثلاثة أيام على زواجه السعيد، زواج مع وقف التنفيذ حتى يسترد الزوج صحته.. اللعنة!
بل عشرات ومئات اللعنات والحسرات على  إسبوعي العطلة، لقد خطط لسفر إلى الخارج ليوفي بوعده ويعوضها عن حفلة العرس الملغاة بأيام تحيا فيهم كالأميرات من ثم يعود بها إلى والديه فهو لن يتركها وحيده وقتما يعود لعمله.. لكنها حمقاء رفضت خوفاً عليه وحتما ستنتهي عطلته وهي ما زالت تتمسك بنصائح إسلام الكاذبة.. زفر بحنق وضجر بينما يسير شارداً اصطدم بأحدهم دون قصد فأتاه الصوت المألوف بمرح:
-بيسو.. إيه اللي نزلك يا عريس بسرعه كده زهقت؟
عانق الصديق وهتف بدوره:
-حبيبي يا أبو حميد.. حصل بس شوية لخبطه مع الكباتن، كلموني فنزلت أشوف الموضوع ومروح على طول.
لكزه أحمد في كتفه بحماس غامزا:
-تمام يا باشا.. خلص الأجازة اوام اوام وإرجع لنا.
تبادلا حديثاً يخص عملهم لبعض الوقت، ليستأذن بعدها باسل في عجل، وما إن استدار راحلاً حتى انسل الصديق هاتفه بينما لسانه يتمتم بسخرية:
-غبي.
.....
استقل سيارته عائدًا لوجهته فتعالى رنين الهاتف، رباه لن تكف تلك المراة عن مهاتفه، على ما يبدو أن فرحة ستوفي بوعدها قريبا وتقوم بتقطيعها قطعا منمنمة وتلقي كل قطعة بمكان حتى يحال جمعها من جديد.. رفع الهاتف وأتاه صوتها على الفور لكن بنبرة غاضبة.. غريبة لم يألفها من قبل:
-باسل إذا بدك تخلص من سعيد الغازي للأبد تعا هلا ناطرتك ب...
أنهت المحادثة ولم تزد حرفاً وهو على الفور استدار بسيارته في حدة جعلت عجلاتها تصر فوق الأسفلت، مغيراً وجهته حسب مهاتفته الأخيرة.
وبعد ساعات..
كان قد حل المساء وأسدل الليل أستاره وقتما عاد، ولج بهدوء شارد وعقل تائه، قلب بصره هنا وهناك فلم يجدها، خلع عنه سترته وألقى بها أرضا بإهمال، وأخذ يبحث عنها من جديد في باقي الأرجاء بعد ما قابله الفراغ بين جدران المطبخ، دلف لغرفة نومهما وما إن فتح الباب حتى تيبست قدماه، ثبت بصره أمامه بينما لسانه يعجز عن النطق وعقله يجاهد لفهم ما يرى واستعيابه، كأنما فقد جسده الحركة وجميع وظائفه، فقط يحدق بعيون متسعة.. جاحظة.

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن