الفصل التاسع

106 2 0
                                    

(9)
اعتذار واجب

حزن يغتالني.. وهم يقتلني.. وظلم حبيب يعذبني
آه .. ما هذه الحياة
التي كلها آلام لا تنتهي.. وجروح لا تنبري
ودموع من العيون.. تجري جرحت خدي
أرقت مضجعي.. وسلبت نومي
آه يا قلبي يا لك من صبور
" نزار قباني "
*****
تعالت الزغاريد من جديد داخل منزل "آل زيان " وهذه المرة من أجل المتمرد الوحيد داخل تلك العائلة "عمر الزيان " فقد تخلى عن فكرة السفر إلى الخارج منذ فترة بعيدة, وتقدم لخطبة زميلته في مقر عمله؛ هكذا أخبرتها والدتها، وتمت الخطبة منذ عدة شهور تعذّرت وقتها بالمرض هربًا من حضورها، والليلة كان الزفاف السعيد!..
حاولت كذلك الهروب, لكن أتاها الأمر الصارم بالحضور رغما عنها عن لسان زوجها العزيز، ورغم بطنها المنتفخ والآلآم المعتادة لمن في وضعها تأنقت واستعدت للذهاب برفقة زوجها، ظنت حالها أصبحت مزودة بالقوة المطلوبة لتحمي قلبها المسكين من أي ألم قد يلمّ به فيكفيه مابه.. حقا يكفيه!
ولكن متى نالت روان الزيان ما تمنته يوما!..
رغما عنها شعرت بنصل حاد يغرز داخل نابضها مع أول إطلالة للعروسين.. يراقص عروسه، يهدهد مشاعرها فتضحك بغنج إثر غزله المتدفق.. ياللسخرية! فاليوم تتحقق أحلامها، أحلام الأنثى الحالمة.. فهكذا تخيلته ينظر لها, وهكذا يراقصها بحميمية تحسدها أعين الناظرين, وهكذا كانت وسامته بحلّته السوداء, وهكذا رأت فرحته بها وهي بين أحضانه!
وانتهى الزفاف..
وعادت ابنة الزيان حيث مسكنها البارد، يتغلغل السقيع جدرانه على مدار المواسم الأربع، لا مكان للدفء هنا, وهي تحتاج للدفء تحتاجه بشده، ضلوعها تؤلمها وهناك حرقة تشبه حمم البراكين تسكن خلف جفنيها تطلب الإذن حتى تنفجر..
- هتفضلي قاعدة عندك كتير.. مش هتغيري هدومك؟
أجفلت من نبرته العالية لترى أنها مازلت جالسة على إحدى الأرائك في ردهة منزلها, وأنها قد أطالت الشرود حيث أنه بدل ملابسه.. همست بصوت خفيض:
- هقوم حالا.
انتهت من تبديل ملابسها, و تحركت نحو فراشها تستمد منه الدفء.. اندست جواره, ويبدو كعادته واضعا أحد ذراعيه أسفل رأسه بينما الأخرى ممددة على الفراش.. شارد في حساباته الغير منتهية الخاصة بسوق العمل.. ومن لا يعرف عائلة الزيان تملك سلسلة محلات خاصة بالملابس بجميع أنواعها لهم اسم ساطع داخل ذاك المجال, ولسعادة حظها زوجها يحمل نفس هوس أبيها وأعمامها بالعمل وجمع الأموال, حتى يتمكنوا من بطش اسمهم أكثر وأكثر داخل أرجاء البلاد وخارجها إن أمكن..
أصبح نسخة مصغرة منهم فالحياة محورها العمل وكسب الأموال لا غير.. لا رفاهية لا دلال لا حب ولا غيره من تلك الأمور التافهة في نظرهم, والنتيجة لا حياة حقيقية مع لوح الجليد.. وياليته لم يكن مثلهم لربما وجدت معه ماضاع منها وعاش هو حياة لم يسعَ لها يوما..
مازالت البرودة تتخلل روحها و ضلوعها حتى بدأت تنتفض ببطء, وحتى فراشها الليلة بات يماثل جميع ما يحيط بها لا دفء فيه.. اقتربت منه دون دعوة، دست بنفسها بين أحضانه وفقط همسة أقرب لتهدج خرجت منها:
- احضني يا أشرف..
تدفن رأسها داخل صدره تطالب بحقها كزوجة تطالب بدفء فقط دفء.. رفع بعفوية ذراعه الممدد على الفراش ليمسد ذراعها وهتف بنبرة ساخرة كعادته:
-أنت غيرانة من العرسان ولا إيه؟
فقط تنهيدة خرجت منها, لا داعي للحديث, لذا آثرت الصمت, لن يفهمها أبدًا لن يشعر بها يومًا, فهو جاهل بكل ما يخص الأنثى.. وعشر دقائق فقط كافية جدا ليطلق بعدها معزوفته الليلية الخاصة التي تعلن عن رحيلة لسبات عميق وتسقط ذراعه من عليها قبل أن توفر لها الدفء المنشود..
نهضت بجذعها قليلا تنظر له ترمقه بغضب وبغض في هذه اللحظة لم تشعر بهم قبلًا.. يا إلهي كم يحمل من البرود داخل روحه؟ لأي حد لا يبالي؟ إنها زوجته من تطلب منه الدفء والاحتواء, بل تتذلل للحصول عليهم! وببساطة كأنها نكرة لا يعيرها أي اهتمام حتى لم يسألها هل هي بخير؟ أليست تحمل طفلتيه داخل أحشائها, ألا يحق لها بفتات من الدعم حتى تتمكن من المضي قدمًا في هذه الحياة القاسية!..
نهضت بتثاقل من جواره, لكم تكرهه في هذه اللحظة!.. أسرعت باتجاه الشرفة الخارجية تجذب مقبضها بقوة، تريد جرعة من الهواء النقي, هواء لا يحمل بين ثناياه أنفاس ابن الزيان, فإن ظلت تشارك أنفاسه نفس الهواء حتما ستختنق..
ارتكزت بكفيها على السور الحديدي ورأسها مطرقة للأسفل.. أخذت شهيق طويل, ومع أول زفير تطلقه كانت براكين عبراتها الساخنة قد انفجرت أخيرًا, لم تأبه لصوت شهقاتها ونحيبها الذي بدأ يعلو رويدا رويدا في ساعات الليل المتأخرة ليشق سكون الليل الصامت وهي تمتم داخلها بجملة واحدة لا ثان لها..
"لعنة الله على كل الرجال أمثال ذلك المدعو زوجها"
* * * * *
مضى أسبوع منذ أن بدأت في العمل داخل حصون تلك المشفى، تجلس في حجرتها الخاصة.. الآن وقت استراحتها وهي كالعادة تفضل تقضيته داخل هذه الحجرة لا استراحة لا مواجهة.. وكيف تواجهه بعد فعلتها تلك؟
امتدت يدها تجذب قلما تخط به فوق ورقة بيضاء وهي شاردة تماما في أول يوم مارست عملها هنا.. فمنذ يوم صدفتهم الصباحية حين رأته يرتدي معطفه بأريحية طبيب يمارس عمله, خفتَ بداخلها شعاع السعادة, وبعد طول تفكير أضناها حدثت حالها بإقناع بأنه لامجال فقد تخلت عن عملها السابق بكامل إرادتها, لذا لا سبيل للرجوع.. والحق يقال هو لم يخطئ في شيء, بل على العكس لطيف للغاية لكن ما يؤرقها ما حدث قديمًا.. فهو في يوم من الأيام طرق بابها طالبًا منها الوصال, وهي بكل عنجهية الكون رفضته دون حتى أن تأبه لأمره، كيف إذًا تعمل معه في مشفى واحد؟ وفي الأخير أقنعت حالها أنه على مايبدو قد نسي تمامًا, فهو لم يتطرق في الحديث لذلك الأمر ولو لمرة..
وبالفعل استقبلها أول يوم بابتسامة بشوش كأنما يرحب بصديق.. وبعد مرور نصف يومها الأول, ذهبت لاستراحة الأطباء تحتسي مشروبًا دافئًا فاقتربت منها إحداهن تشاركها مجلسها بتودد، أخبرتها أنها زميلة بتخصص آخر، فقد أخطأت فالمشفى لم يكن خاص بالأطفال وفقط بل يضم باقي التخصصات بأريحيه تامة فمساحته وموقعه المميز يكفي لذلك تحت إشراف دكتور مراد ..
ومع مرور الوقت وتناول الأحاديث المختلفة مع تلك الودودة, لم تستطيع كبح فضولها فسألت بفضول عن دوره داخل المشفى الكبير وأتاها الجواب الصادم من بين ضحكات الطبيبة المتعجبة:
- في حد مايعرفش مين دكتور إسلام ابن عزيز الشافعي وابن أخو مراد الشافعي.. وكمان صاحب المستشفى اللي حضرتك شغالة فيها..؟!
وكأن دلوًا من الماء البارد سُكب فوق رأسها حدقت فيها بذهول وهي تردد كلماتها:
-عمه!.. دكتور مراد يبقى عمه عمه يعني؟ انا كنت فاكرة درجة القرابة مش قوي كده.. وبعدين اللي أعرفه إن دكتور مراد هو صاحب المستشفى..
أجابتها الطبيبة ببساطة وثقة:
- ده حقيقي دكتور مراد يملك نص المستشفى والنص التاني كان هدية دكتور عزيز لابنه.. وزي ما أنتِ شايفة المستشفى ماشاء الله كبيرة.. الدور الأرضي للاستقبال والطوارئ.. الأول بقى كل التخصصات والأطفال بكل أقسامه.. أما الدور الثاني ياستي كلنا بنقول عليه هنا "مملكة دكتورإسلام"
عقدت لمار حاجبيها في تساؤل فأكملت المتحدثه بمرح:
-أقصد يعني الكشوفات والعمليات وكمان الحضانات.
بتوجس وبلاهه سألت:
- مش فاهمه بردو هو تخصصه إيه؟
ومع ضحكة رنانه أتاها الجواب:
- نسا وتوليد.
فغرت فاها بشهقة خافتة انفلتت منها قسرًا.. رمقتها الطبيبة الودودة باستغراب لصدمتها ثم أردفت:
-أنتِ يابنتي ماعندكيش خبر بأي حاجة؟ طيب على الأقل ماشفتيش اليافطة الكبيرة بره؟ ده اسمه هو وعمه بالبونط العريض منور في وشك وأنتِ داخلة من بوابة المستشفى..
نفت بهزة رأس وهمست بفتور:
- دي تاني مرة ادخل المستشفى وفي المرتين دخلت من البوابة الخلفية الخاصة بالدكاترة.
- معلش كلنا كنا كده في الأول زي التايهين بس ماتخافيش أوعدك هتاخدي علينا وعلى المستشفى بسرعة.. إحنا كلنا هنا عيله واحدة بداية من المرضى لحد المسؤولين.. أهم حاجه الالتزام بالمواعيد.. دكتور مراد عدو الوقت والإهمال عدا كده أنتِ في السليم والخبرة هتكسبيها مع الوقت اطمني.
بادلتها لمار بسمة باهتة, استأذنت بعدها الطبيبة فاستراحتها قد انتهت بينما هي ظلت جالسة تعصف بها الأفكار وتحدث حالها..
هل يعلم مراد من البداية عن عرضه ورفضها له؟ يالسذاجتك مازلت تتساءلين.. من الطبيعي أن يعلم أليس ابن أخيه! ومع ذلك أتى بها إلى هنا ؟ لم إذا لم يخبرها عن وجوده من البداية؟
يا إلهي.. والوقح الآخر يعمل طبيب نسائي وحين سألته راوغها بمكر واكتفى بجملته اللعينة..
"هسيبك تكتشفي لوحدك يادكتور و وقتها تأكدي هكون في الخدمة في أي وقت وبعرض خاص كمان.. أنت تخصي مدير المستشفى شخصيا"
أي خدمه سأقصده لأجلها ذلك الأحمق بتخصصه النسائي.. وماذا يعني بأني أخص صاحب المشفى؟ هل كان يقصد نفسه أم عمه؟!
آآآه لمار.. يالك من حمقاء لاتتعلمين أبدا من أخطائك, فقط ترين من البشر صفاتهم الحسنة, ولا ترين مكرهم ونفوسهم الخبيثة, الجميع يتلاعب بك وأنت كالبلهاء..
اجتاحها الغضب ودت لو تسدد لأحدهم أيا يكن عدة لكمات حتى تهدأ ويبدو أنه تطوع لذلك.. فماهي إلا لحظات حتى شعرت بصوت أنفاس يعلوها، رفعت رأسها ببطء لتصطدم بنظراته الثاقبة لها وثوان قليلة حتى تحدث بنبرة مرحة:
- للدرجة دي تعبتِ معانا أنت لسه أول يوم يادكتور..
ابتعدت بنظراتها عنه وجذبت هاتفها بغضب من أعلى المنضدة وهمت بالرحيل قائلة بخفوت:
- عن إذنك..
قطب جبينه في حيره ودون تفكير إعترض طريقها فهي لاتبدو بخير أبدا وسألها بجدية:
- في إيه يا لمار؟ في حد ضايقك؟
اللعنة! مَن عيّنه محاميًا لي.. هتفت بها لمار في داخلها وغضب الكون يعصف بها التفتت يمينًا ويسارًا لتجد الجميع غادر لإكمال مهامهم الطبية, حسنًا لا أحد سيسمعها, ودون تفكير هدرت غاضبة:
- أنت مالك ومالي أصلًا؟
ظل ينظر لها بدهشة ويتساءل ما بها؟ وبما أخطأ هو؟ كل هذا لأنه فقط أراد الاطمئنان عليها..
تابع إسلام بنبرة هادئة مازالت متلونة بالدهشة:
-أنا حبيت بس اطمن عليكِ.. احنا مش صحاب ولا إيه؟
خطأ..
لفظه لتلك الكلمة الآن خطأ فادح.. اهتزت حدقتاها وبدأتا تلتمعان ببريق مختلف.. بريق يذكرها بحقير آخر وعادت جملته الحقيرة تضرب مسامعها
" لمار احنا صحاب وبس "
لم الكل يراها وضيعة لتلك الدرجة؟ ماذا فعلت غير أنها تعاملت بنية حسنة مع الجميع؟ فالأول ظنته عاشقًا لها لذا سلّمت له مفاتيح قلبها وهي لم تفعلها قبلا, فعلتها فقط لأنها أحبته بصدق, وهذا الآخر تحدثت معه مرتين فقط وكونها ممنونة لم قدمه لها وقت حاجتها هذا لا يعطيه الحق أبدًا ليتعدى حدوده.. صرخت به غاضبة :
-انا مش صاحبة حد أنت فاهم ومش بصاحب.. وكون حضرتك صاحب المستشفى اللي بشتغل فيها ده مش هيديلك الحق أنت أو غيرك بتعدي حدوده معايا.
طالعها في صمت لثوان معدودة, ثم ابتعد عن طريقها بهدوء قائلًا بنبرة حازمة هادئة :
- اتفضلي على شغلك يا دكتورة وتعدي الحدود مش مسموح بيه هنا لأي حد من الأساس.. بس مسموح نطمن على زمايلنا واخواتنا باعتبار اننا عيلة واحدة.
أنهى حديثه بنظرات لم تراها من قبل, وعنها لم تنطق بكلمة فقط اكتفت بالهرب السريع من أمامه..
ومنذ تلك المناقشة الحادة قابلته صدفة مرتين فقط وفي المرتين كان خارج المشفى.. كانت تراه وهو يدلف لسيارته عائدًا لمنزله لم يحادثها.. لم ينظر لها ولو لمرة وهذا ما يزيد من حنقها وغضبها, لا تستطيع ممارسة عملها براحة تامة.. يا إلهي لم يشعرها بالذنب دائما؟!
تعترف أنها غاضبه من حالها أكثر فكل ما صرخت به في وجهه كان من الخطأ عينه، حدثته بطريقة لا يفعلها سوى المشردين ترى ما يظن بها؟ ولكن هو يذكرها به ورغما عنها تغضب وتفقد السيطرة.. عيناه شبيهة الأخرى للغاية رغم شعاعها العسلي الصافي إلا أنهما تذكرانها بتلك العيون الداكنة، وتلك الكلمة الغبية التي نطق بها, ربما هو لم يقصد معناها لكنها كانت كافية لتفجير الغضب الكامن بداخلها لتطلق بعدها سهام لسانها السليط.
ألقت بالقلم من بين أصابعها بغضب.. إلى متى سأظل حبيسة هذه الحجرة خوفا من مواجهته؟ ما المشكلة في تقديم الاعتذار !..أخطأت ويجب أن أنهي هذا التوتر الذي أحيا فيه..
نهضت بتثاقل عقب ما انتهت من حديث النفس تجذب مقبض الباب برفق.. فبعد طول تفكير قررت الذهاب وتقديم اعتذارات تخص الماضي والحاضر لكن سرعان ما تخاذلت وعادت أدراجها تتخبط حائرة مابين الخطأ والصواب.. هل تذهب أم تترك الأمور معلقه وكأنها فقط لا تبالي!..
* * * * *
يرتدي حلته الرسمية بلونها الكحلي وقد زينت بداية أكمام سترتها بأربعة خطوط مذهبة بينما يحمل قميصهُ الأبيض خطوطًا مشابهة في اللون والعدد أعلى الكتفين, وتجاور تلك الخطوط نجمة واحدة ذهبية.. هي ليست مجرد مهنة وكفى, إنما تمثل له الشغف بعينه فقد وجد فيها المتعة والإثارة التي لا حدود لها..
في البداية استمر في التدريب المكثف لقرابة العام والنصف حتى يحصل على حلته تلك ورخصه الأساسية.. كان مجرد مستجد بعدها نال ترقية لمساعد طيار.. من ثم لقي تشجيع من أقرب أصدقائه " أحمد" دفعه بقوة حتى يجتهد أكثر و يحصل على الرخصة الرابعة والأخيرة التي تؤهله ليصبح هو"الكابتن " وليس مجرد مساعد.. وبالفعل تمكن في عدة شهور من اجتياز جميع الاختبارات والحصول على ساعات الطيران المطلوبة لتتم ترقيته من جديد لينال أخيرًا نجمته المذهبة.
طالع نجمته المرتاحة أعلى كتفه, وسؤال واحد يدور داخل ذهنه "هل يستحقها؟"
طرقات عالية على الباب أجفلته وخرج من شروده الذي بات يلازمه كثيرًا في الآونة الأخيرة..
توسط المكتب الأنيق جالسًا وأردف بهدوء:
- اتفضل.
ولج إلى الحجرة شابًا صغير السن.. طالعه باسل بتفحص بداية من أخمص قدميه حتى شعره الطويل المنتصب بقوة والذي يبدو عليه أنه قد استهلك علبة كاملة من "الجل"حتى يصل لتلك المرحلة الخطيرة.. أنهى تفحصه ونظر له رافعًا أحد حاجبيه منتظرًا منه أن يتحدث وماهي إلا دقائق قليلة حتى هتف الماثل أمامه بحماس:
- حضرتك كابتن باسل مش كده؟ أنا نسيم مساعد حضرتك الجديد و معاك في رحلة تركيا اللي هتطلع كمان نص ساعة.. كنت بس عايز اسأل حضرتك على شاحن.
تمتم باسل بصوت خفيض ببضع شتائم غير لائقة أبدًا بكابتن طيران.. رمقه بنظرة متهكمة ورسم معها بسمة أقل ما يقال عنها سمجة بحق قائلا من بين صرير أسنانه:
- يا أهلا منور يا حبيبي.. ماقولتليش عايز الشاحن ليه يا نسيم وقدامنا نص ساعة بس على الإقلاع.. عايز تلعب كاندي كراش ولا إيه؟
قهقه نسيم بعلو جعل باسل يزفر حانقا عدة مرات.. ليتنفس الصعداء ويهتف بحماس أكبر:
- هو انا فاضي لكاندي دلوقتي.. أنا عايز اشحن الفون علشان أخد سيلفي وابعتها للمزة بتاعتي اصلها موصياني ابعتلها صورة..
ثمّ غمز بعينه وتابع :
- علشان تتمنظر بيا قدام صحباتها, حركات بنات بقى وكده.
هل وصلت سلطة الأموال والواسطات لتلك الدرجة من التدني!.. لم يستطع التحكم أكثر فذلك الكائن اللزج أخرجه عن طوره.. نهض واقفا يهدر فيه بغضب مشيرًا بسبابته للباب:
- اطلع بره حالاااا.. بدل ما أوريك أنا السيلفي على حق..
زم نسيم شفتيه بحنق وغادر الغرفة غاضبًا.. وقبل أن يهدأ عادت الطرقات تعلو مرة أخرى فعاد يصيح بغضب:
-تصدق إنك حيوان وعايز تتر..
-يخربيتك شو قليل ذوق.
بتر كلماته بعدما أطلّت الشقراء المدللة ودلفت للداخل.. فأردف معتذرا:
- سوري لاتويا فكرت حد تاني.
تحدثت بغنج وهي ترتاح على المقعد المواجهه له واضعة ساق فوق أخرى:
- ولا يهمك حبيبي اصلا خلاص اتعودت.. كل ما بتشوف خلقتي بتعصب بسبب او من دون.
تابع باسل بملل:
- خلاص بقى قولنا سوري.. ماقولتيش إيه اللي جابك؟
حملت حقيبه سوداء صغيرة من جوارها, تركتها أمامه فوق سطح المكتب ثم تحدثت بهدوء:
- حبيت اعطيك الشنتايه بنفسي.
تناول الحقيبة وجعلها تجاوره أرضا قبل أن يهتف ساخرا:
- والله فيك الخير.
تابعت لاتويا بجدية:
- في مفاجأه كمان.. طالعة معك بنفس الطياره عتركيا.
صاح بغضب:
- ممكن أفهم ليه؟
هزت كتفيها بلا مبالاة ثم همست بنبرة دلال:
- هاد بدل ما تنبسط.. على كل انا طالعة حتى غير جو.. صارلي كتير ما سافرت ولا غيرت جو .. وجاي عبالي أروح تركيا وليكني هون حدك.
حاول السيطرة على غضبه أكثر.. اللعنة اولا كأئن لزج يدعى نسيم والآن دور تلك المتغنجة:
- لاتويا مش عاوز مشاكل لو سمحت تلتزمي بالقوانين وإياك ثم إياك تفكري بس تيجي لي غرفة القيادة زي المرة اللي فاتت صدقيني انا مش في مزاج يسمح لك تستفزيني خالص.
نهضت وتحركت أمامه بخيلاء, حتى وصلت عند الباب استدارت له وتابعت بنبرة مغناج:
- راح حاول بس ما بوعدك هاه.
- لاتويااااا.
- خلاص خلاص.. يا ربي عنجد صاير ما بتنطاق.
وغادرت عقب جملتها.. تاركة إياه يهدئ ثورة غضبه التي ساهمت وبجدارة في إشعالها.
* * * * *
صعدت إلى الطابق العلوي لأول مرة منذ أن خطت داخل المشفى.. اقتربت ترنو من حجرته حذرة، مرتبكة.. تنفسها يزداد كأنما انتهت للتو من عداء ما.. تتقدم خطوة فتعود بها وبعد مضي ثلث الساعة تقريبا تقدمت دون رجعة.. طرقت بخفة فوق باب الغرفة المفتوح ليرفع هو رأسه من خلف حاسوبه ليطالعها بعيون متعجبة..
مابال تلك المجنونه!
يوم تعامله بود وآخر تصرخ فيه دون سبب واضح والآن تقف أمامه داخل حجرته الخاصة!
الأسبوع الماضي تجنبها تماما كما أرادت، رغماً عن تلك المشاعر التي تعصف به دون رحمة.. بالنهاية لا يستطيع فرض نفسه عليها، فقد أصابته في مقتل حين ظنت به السوء هو حتما لم يقصد ما ظنته ولم تعط حتى فرصة ليوضح حقيقة الأمر.. لهذه الدرجة تراه عابثًا؟ ورغم غضبه منها لم يستطيع منع نفسه من اختلاس بعض النظرات من حين لآخر..
-ممكن اتكلم مع حضرتك شويه؟
قطعت جملتها عنه شروده وتحديقه المتعجب بها.. تنحنح يجلي حنجرته في حرج وأردف بجدية وهو ينزع عويناته الطبية مشيراً بكفه كدعوة للجلوس:
-أكيد يا دكتوره.. إتفضلي.
جلست على المقعد أمامه كطالبة مذنبة.. تنظرأمامها خشية أن تستدير فتواجهه.. تفرك كفيها في ارتباك و تتمتم بخفوت:
- جاية أعتذر بخصوص آخر مرة اتكلمنا فيها.. أنا آسفة.
يطالعها بترقب.. شعرها البني يشبه الشكولا المذابه ينسدل بحميمية حول وجهها البريء فيعزل عنه الرؤية.. كم يتوق لدس وجهه بين تلك الخصلات الناعمة ترى بأي الروائح معبقة هي؟
حسنا صاحبة المقام الرفيع قررت تقديم اعتذارها بعد أسبوع كامل يا لقسوة قلبها.. ومع ذلك لم يستطع منع طيف ابتسامة زينت محياه.. حين طال صمته عادت بخصلاتها خلف أذنها.. ترفع بصرها نحوه بحذر فربما مازال غاضبا واعتذارها لن يفي بالغرض.. لكنها حين تفاجأت ببسمة هادئة تلعو شفتيه طمأنت حالها وتابعت همسها:
-أنا آسفة بجد.
ليتحدث بدوره بنبرة هادئة:
-ولا يهمك خلاص إنسي.
عادت مرة أخرى تنظر أمامها تفرك كفيها بحرج أكبر وشعرها يحجب الرؤية من جديد.. لتبدو غارقة في تفكير ما.. تحدث بنبرة مرحة حتى يرفع عنها الحرج:
-صدقيني مش زعلان.. إللي فات مات زي ما بيقولوا.
قطعت حديثه بنبرة مضطربة بعض الشيء:
-في اعتذار تاني كمان من حقك تسمعه.. كان واجب من شهور, يوم ما كنت عندنا في البيت وأنا كنت قليلة الذوق بمعنى الكلمة.. أيا كانت أسبابي ماكنش يصح أقول لك كده أبدا.. أنا آسفة كمان مرة.
بهتت إبتسامته حتى إختفت تماما لم يتحرك به سوى عضلة فكه التي اهتزت قليلا.. كيف يخبرها أن اعتذارها لن يجدي نفعا وأن الاعتذار الأوحد الذي يستطيع محو تلك الليلة هو استبدالها بليلة أخرى تكون فيها ملكه هو لاغيره ويرى في عينيها تلك النظرة التي رآها من قبل وكانت تخص رجلًا آخر.. اقترب بجذعه للأمام يضيق حدقتيه ويهمس بهدوء يناقض ما يعتمل داخله:
- كده قدمتِ اتنين يعني مش باقي لك غير واحد بس..
رفعت رأسها بغتة عاقدة حاجبيها في استفهام فتابع هو بمكر خفي:
- شكلك ناسية رغم إن ده كان الاعتذار الأهم بالنسبالي.. عموما كفاية دلوقتي اتنين.. الثالث خليه وقت تاني.
حاولت التحدث وفهم مقصده لكن اقتحام بدر لجلستهما جعلها تلتزم الصمت.. تقدم الدخيل بخطوات واسعة حتى اقترب منهما وجلس على المقعد الآخر يواجه إسلام بهتاف متعجل:
- إسلام اتصرف عايزين دكتور للحضانات بدل الدكتور اللي مشي.. أنا مش لاحق على الحضانات والحالات سوا.
زفر إسلام بحنق.. هذا وقته! هتف منهيا الموضوع:
-خلاص يابدر أنا هشوف الموضوع ده.
بعصبية وليدة زعق:
- مافيش حاجة اسمها هشوف كفايه تأجيل عايز حل فوري.
عاد إسلام ينهي الموضوع:
- يعني أخلق لك دكتور منين دلوقتي؟ خلاص قولت لك هشوف.
قطعت حديثهم متنحنحه في حرج:
- في دكتورة زميلتي ممكن تحل المشكله دي.. بس يعني اصلها..
حثها بدر على المتابعه:
- اصلها إيه.. كملي.
أجابت موضحة:
-يعني لسه متخرجة بردو فمعندهاش خبره قوي زي حالاتي كده.. لأ دي كمان ماشتغلتش خالص من وقت ما اتخرجنا.
سأل بدر مجددا:
- ايه بقى إللي منعها من الشغل.. كان ليه الدراسة من الأول و وجع القلب.
هتفت بعفوية:
-أصل خطيبها بيغير عليها.
رفع حاجبيه متعجبًا بينما ضحك إسلام بحبور وهو يسأل بدوره:
-طيب ولما تشتغل هنا مش هيغير؟
تحدثت بأمل:
-أنا هحاول اقنعها وهي تقنعه بطريقتها.
تبسم إسلام قائلا:
- تمام شوفيها وبلغينا وصلتي لإيه.
غادرت بوجه بشوش وباسم غير الذي أتت به بينما التفت بدر لوجه صديقه الضاحك وهتف متهكما:
- يعني مش كفاية هي.. كمان هتجيب لنا صاحبتها يادي الهنا اللي انا فيه.
غمغم إسلام بإبتسامة واسعة لإغاظته أكثر:
- من ريحة الحبايب ماقدرش أقول لا.
تمتم بدر ساخطًا:
-ياعيني عليكِ يا رجولة.. إخشوشن شويه يادكتره مش كده يعني.. بس تعرف هي فعلا طيبة وبريئة قوي, كان عندك حق لم قلت عليها قطة مغمضة, كنت فاكر النوع ده انقرض من زمان.. صراحة خسارة فيك يا نمس.
قهقه إسلام في مرح وهو يقذفه بالقلم الذي كان يتلاعب به بين أنامله.. فخرج بدر متمتما بكلمات ساخرة.. فهو حقًا يتعجب لحال صديقه, كيف لإمرأة أن تتمكن من السيطرة على رجل بجسد البغال وهي حتى لم تبادله الشعور إلى الآن.. كيف الحال إن فعلت!
* * * * *
وفي مكان آخر كانت تعلو الدهشة والمفاجأة ملامحها الصغيرة.. فباقة الزهور اليوم لم تجدها بمفردها كالباقيات، بل هي محمله ببطاقة عطرة تحمل دعوة للعشاء في أمسية الغد بأحد المطاعم على الشاطئ حتى تتعرف على صاحب الباقات المجهول.

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن