الفصل العشرون

38 1 0
                                    

(20)
كارتٌ رابحٌ

إذا سقطتُ لن أشكو أو أتلو فعل الندامة..
المهم أنني عرفتُ نشوة أن أطير..
أغامر وأطير..
"غادة السمان"
***
قدحٌ من القهوة، وصوتُ الفيروز يدندن قربها، بأناملها تخط وتشكل حروفها كما تريد وتشعر، ترفرف بقلمها وتطير به نحو البعيد.. حالةٌ من السلام النفسي والسكينة تحيط بها، تطوف داخل بحور الكلمات وتتغلغل نحو الأعماق فتعود روحها تطفو بسعادةٍ، تخرج مايعتمل داخلها من كلماتٍ عجز لسانها عن ترجمتها وتجسدها في شخصياتٍ على الورق.. خواطرٌ عابرةٌ وكثيرٌ من الأحايين تلخصها في بيتِ شعرٍ..
باتت الكتابة مرفأ السعادة لابنة الزيان، تلتقي بروحها التائهة منذ زمنٍ فتعانقها وتربت عليها بحنوٍ.. فيطيب خاطرها المكسور.. ساعدها غيابُ زوجها عن البيت، فمن بعد ولادة طفلتيها وهو لا يعود إلا في الثلث الأخير من الليل، وما إن يستيقظ حتى يبدل ملابسه ويخرج من جديدٍ، لا تتذكر متى كانت آخر وجبة تناولاها سويًا، وعن لياليها فهي تقضيها داخل حجرة طفلتها، لا يهتم بإيقاظها عند عودته وهي بدورها اعتادت الأمر.. اتخذت من الكتابة متنفسًا يحركه الشغف بينما طفلتها تؤنس وحدتها..
تركت قلمها عنوةً حينما أتاها صوت الباب، طالعت الساعة لتجدها قد تخطت الواحدة صباحًا فتعجبت لعودته باكرًا، ظلت في شرودها لدقائقٍ فاقت منه على حركة المقبض ودخوله العاصف دون إنذارٍ:
- أنتِ إستحليتي النومه هنا! ماتعرفيش أن ليك راجل وله حق عليكِ يامدام؟
همست بصوتٍ خفيضٍ، مترددٍ من نبرته الغاضبة والغير مفسرة لها:
- رجعت بدري يعني؟
اشتاط غضبًا، وزعق بقوةٍ:
- كمان هاتحسبيني رجعت بدري ولا متأخر.. سيبك من التفاهه إللي في إيدك دي وتعالي.. عايزك.
أنهى كلماته وغادر..
ألقت نظرةً على الصغيرة النائمة، ونهضت كعادتها تلبي أوامره دون رفضٍ.. أنفاسه الغير نظيفة تخنقها، تحاول وتجاهد لتتحمل فيطرق مسامعها كلمات ذاك الغريب
"تخلصي من قيدك الصدئ"
"انبذي ضعفكِ"
ولا يوجد أصدأ من لوح الجليد ذاك.. لكن كيف يأتي الخلاص؟ هل تعد التعاسة سببًا وجيهًا للخلاص؟ ومن يستمع لها من الأساس! أبوها الذي يرى فيه الزوج المتكامل؟ أم أمها التي تراها تأخذ كافة شيءٍ بعواطفها الحالمة ولا تنفك تلقي محاضراتها عن تعمير البيوت الزوجية وتحمل تصرفات الزوج من أهم المتطلبات؟.. كيف يُنبذ الضعف  وقد صارت كالفتات بين يديه، لا مقاومة ولا رغبة في خوض متاهات ستخرج منها خاسرةً دون شكٍ..
انتهى منها مواليًا ظهره كعادته فانسحبت من جواره ببطءٍ.. قضت ساعة وأخرى تحت رشاش الماء.. لتلقي بنفسها بين يدي ربها تبثه شكواها في سجودها، تطلب صبرًا.. الكثير من الصبر لتتحمل هكذا حياة باردة تحيا فيها.. تبكي وتتضرع فتهدأ روحها وتعود بإذن الله تحط على مرفأ السكينة والرضا بالمكتوب.
*  *  *  *  *
- ممنوع دخول أي حد غير المسئولين.. دي أوامر يا دكتورة.
هتفت بها ممرضة بجسدٍ ممتلىءٍ وقامةٍ قصيرةٍ في وجهها ما إن وضعت يدها على باب حجرة صغارها تنوي بدأ زيارتها اليومية، عادت للخلف خطوتين، تنظر لوجه المرأة بملامحٍ مبهمةٍ، ثم قامت بدس يدها داخل جيب معطفها؛ تنوي إخراج بضع وريقات نقديةٍ كما اعتادت معها.. قاطعتها المرأة قائلةً بجديةٍ:
- للأسف مش هقدر بردو دي أوامر دكتور إسلام مانع أي حد يدخل.. خصوصًا أنتِ!
حدقت فيها بذهولٍ، هل ينتقم منها بتلك الطريقة؟ يريد إيلامها كما فعلت هي؟!.. وها قد نجح فقد اختار وأصاب.. تركت المرأة خلفها وأخذت تطرق الأرض بحنقٍ وغضبٍ وليدٍ حتى وصلت لحجرته..
نفسٌ عميقٌ، من ثم دفعت الباب دون مقدماتٍ محدثةً صوت ارتطام، رفع على أثره رأسه بغتةً من خلف مكتبه، ينظر لها في صمتٍ فتبادله نظراته بقوةٍ غاضبةٍ، طال صمته وطالت النظرات قبل أن تقطعتها بهتافٍ مختنقٍ:
- قول لهم يدخلوني.
لم يتحرك له ساكن سوى عضلة فكه اهتزت لثوانٍ، فعاد ببصره لأوراقه ينهي ما كان يدونه قبل اقتحامها المفاجئ لحجرته.. وصمت
فانفجرت أوردتها غضبًا من صمته وغمغمت بغضبٍ تلك المرة:
- لو عايز تعاقبني أنا قدامك أهوه لكن بلاش دي يا إسلام..
تابعت بنبرةٍ تهدجت رغمًا عنها:
- أنت عارف كويس قوي هما إيه بالنسبالي.
تحدث أخيراً مغمغمًا بجمودٍ دون أن يتنازل ويرفع بصره نحوها:
- اتفضلي على شغلك يا دكتورة.. قسم الكانسر ممنوع دخوله لغير المختصين أيًا كان.
اقتربت أكثر ترتكز بكفيها فوق سطح المكتب وهمست فيه بحنقٍ:
- بتعمل كده ليه؟
وحينما اقتربت شق عطرها المسافة القليلة المتبقية منتهيًا بين أنفاسه، فترك ما بيده ورفع رأسه ينظر لها بثباتٍ.. هاتفًا بقسوةٍ:
- أنتِ نسيتي أنك موظفة هنا ومش من حقك تسألي صاحب المستشفى ليه ولا إزاي!
ابتلعت غصتها وعيناه الغاضبة بقسوةٍ أثارت دمعاتها، فالتمعت مقلتاها بألمٍ وخرجت نبرتها ساهمةً:
- أنا مش بسأل صاحب المستشفى.. أنا بسأل إسلام.
ضرب بقوةٍ كفيه فوق سطح المكتب فشهقت بعيونٍ متسعةٍ وعادت للخلف تتقهقر في خطواتها.. تنظر لمقلتي العسل وتكاد تبصر شراراتٍ منبعثةٍ من داخلهم.. وكلماته الزاعقة تلجمها:
- أنتِ مش ناويه تسبيني في حالي؟!
وهي لن تضعف، لن تخافه، من غيرها يعلم ما به ورغم ذلك ستجابه بقوةٍ لأجل أطفالها.. هم يستحقون وهي لن تتخلى عنهم:
- قول لهم يدخلوني وأنا هسيبك في حالك.
وقراره خرج بعنادٍ وحسمٍ لا يقبل النقاش:
- لأ.
أظلمت عيناها بألمٍ، وهتفت بآخر جملةٍ قبل رحيلها:
- هدخل يا إسلام ومش هتقدر تمنعني.
وابتعدت تاركةً إياه  يطفئ ناره المشتعلة، تجابه وتعاند ومن ثم تقرر معتمدةً على مخزون عشقٍ تعلم علم اليقين أنه ملكٌ لها وحدها داخل فؤاده المتألم بصمتٍ.. أما عنه فقد أبت نيرانه أن تخمد فذهب بها إلى عمه.. يقتحم خلوته بعاصفةٍ غاضبةٍ كما فعلت هي منذ قليلٍ.. أخذ يتحرك يمينًا و يسارًا داخل الحجرة دون هدفٍ، فقط الغضب يتملك منه تحت أنظار مراد المراقبة.. يحاول فلترة كلماته قبل أن تخرج لكنها خرجت وانتهى:
- خليها تمشي.. زي ما جبتها مشيها.
أنفاسه تزداد حرارة ليلقي بجسده فوق المقعد المواجه لمكتب الآخر.. طالعه بصمتٍ لبرهةٍ قبل أن يحرك كتفيه بهدوئه المعتاد مدمدمًا:
- لو ده هيريحك الصبح مش هتلاقيها.
زفر بقوةٍ، وعاد برأسه للخلف ليهمس بصوتٍ خفيضٍ:
- مش هرتاح يا مراد.. مش هرتاح.
وكلمات مراد أشعلت فتيل قلبه:
- جرب تسامح يا إسلام وتنسى.. لمار بتحبك.
أما عنه خرجت نبرته ساخرةً مريرةً:
- وبتحب أخويا.
ومراد يحاول ويثابر حتى يرسو قلب ابن أخيه في مرساه:
- شدها إهتمامه، شكله و مع أول عقبة نسيته.. تبقى حبته إزاي وقدرت تنساه بسهولة كده.. لو كان النسيان سهل كان زمانك مرتاح  ولا إيه؟
بما يجيب وهو عاجزٌ عن فهم نفسه، كل ما يعلمه أنه بالفعل حاول وجاهد حتى ينسى لكنه ما عاد يرى إنعكاس صورته داخل مقلتيها، يرى آخرًا.. أخوه الذي تزوج بدوره وابتعد غير آبهٍ بما أشعله وخلفه وراءه، رحل لينعم بحياة زوجية هادئة وكأن شيئًا لم يكن، كأنه ما كان السبب في كل ما حدث وسيحدث.. فبالله كيف ينسى كل ذلك.
عاد لحجرته خلف مكتبه من جديد، يضم رأسه بين كفيه، حائر داخل سراديب عشقه الخانقة..
واقتحامٌ آخرٌ من صديقٍ يقطع عليه خلوته، يزعق ويسخط غاضبًا فقد طفح الكيل:
- أنا عايز أفهم  وإلا قسمًا بالله أخنقك بإيدي بعدين أقتل اللي عندي في البيت دي؛ كل ما أسألها تقول لي أسرار وماقدرش أقول! وأنا عامل زي الأطرش في الزفة.. حد يفهمني في إيه لكل ده؟
رفع له بصره وسأله ببرودة الكون:
-قول لي يا بدر لو عرفت إني كنت بحب مراتك ومراتك بتحبني.. تعمل إيه؟
*  *  *  *  *
من منا لا يملك أحلامًا؟
جميعًا نتحسس بصيصها ورفيقنا الأمل، والمكافئة إما نيل المراد أو مواساةٍ بحظٍ أوفرٍ.. وهو وارى حلم الصبا الأول بالتراب مع رفض أبيه القاطع، وتشبث بالآخر وكان أبوه داعمًا ومشجعًا تلك المرة.. وما ظنه حلمًا وتحقق ما كان إلا كابوسًا مهلكًا!
وكانت البداية مع خطواته نحو مستقبلٍ مشرقٍ، صاحب تدريباته اجتهادٌ ومثابرةٌ يدفعهم طموح وعنفوان شاب، ومع أول خطوة داخل قمرة القيادة بصحبة مدربه تملك منه الشغف والحماس أكثر من ذي قبلٍ، أضواء كثيفة، معدات، وحدات تخص الراديو والردار، أزرار عديدة ومقابض.. يتابع كل ذلك بعينيه فيغمره القلق والخوف ومع مرور الوقت اندمج وصار ينهال بأسئلته وفضوله يزداد، حتى أنه سال المدرب ماذا يفعل إن فتح باب الطائرة بشكلٍ مفاجئٍ أثناء التحليق؟ قهقه الرجل آنذاك حتى دمعت عيناه وهو يلكزه في كتفه مخبرًا إياه أنه أمرٌ صعبٌ للغاية، إن لم يكن مستحيلاً، فالضغط داخل الطائرة أكبر بكثيرٍ مما هو عليه خارجها، أي أن فتح الباب يتطلب قوةً خارقةً لا يمتلكها أي إنسانٍ، ومايشاهده في الأفلام غايته الإثارة والتشويق فقط ولا يمت الواقع بصلةٍ، ليتنفس الصعداء بعد سماعه لذلك ولا يكاد ينتهي من سؤالٍ حتى يطرق آخر رأسه.. ساعدته كثيراً كنية والده في الحصول دائمًا على الأفضلية فمن ذا الذي لا يعرف الجراح الأشهر ذو السمعة الحسنة والاسم اللآمع.. لينتهي بنتائج مشرفة وفي غضون أشهر كان يحتل مقعد القيادة بدور الكابتن.. ولم يكن الداعم فقط اسم والده بل كان لـ "سعيد الغازي" دورٌ كبيرٌ بعد ما توطدت علاقته بالمغناج "لاتويا".. دعمه في المطارات الأخرى بعدة بلدان، سلط عليه الضوء وسانده حتى بات ذا شأنٍ في مهنته رغم صغر سنه وحداثته.. لم يطل تعجبه من اهتمام ذاك الرجل وابنته الشقراء، بعدما رفع الستار وظهرت الغاية مع أول دعوة عشاء داخل قصره في بيروت العاصمة..
مائدة تعج بأشهى المأكولات
يترأسها رجل ذو نفوذ طاغ
تجاوره حسناء بثوب مغوي
ومع جلوسه الهادئ بينهم نال عرضه
حقيبة صغيرة لن تكلفه شيء سوى نقلها من بلد لآخر ضمن رحلاته و العائد يفوق خيالاته..
والرد ترجم في سؤال متوجس عن فحوى دواخل تلك الحقائب..
وإبتسامة الرجل  تخبره أن ذلك العرض ماهو إلا لبداية المهالك.. ومع خروج كلمات الرجل سقط قلبه من بين ضلوعه.. فقد شملت كلماته كل ما درج تحت مسمى ممنوعات!
تصلبت عيناه فوق عيني الرجل ينتظر ضحكة ساخرة، أو خروج أحد ما من خلفه صارخاً بقطع المشهد بعد ما ابتلع الباسل المقلب كاملًا.. وما تمناه مزحة لم يكن سوى حقيقة تعرت أمامه، كشفت أوراق اللعب كاملة وهو تم اختياره و بجدارة  ليكون كارت رابح لصفقات وأعمال غير نظيفة.. انتفض من مقعده دون أن يتفوه بكلمةٍ كأنما فقد النطق، ليخطو نحو الخارج بخطواتٍ مضطربةٍ وعثرها أكثر هتاف الغازي الذي بطن معناه أنه لا مهرب بعدما كًشفت الأسرار فليكن معهم ويربح أو يختار العكس وحينها ستكون الخسائر لا تعد ولا تحصى.
لم تهتز له شعرة وأكمل طريقه صافقًا الباب من خلفه ومع هبوط طائرته داخل أراضي البلاد كان قد أعد النية مسبقاً، هو في مركز قوة ولن يهتز فعمله دعامة ليست بهينةٍ، فليذهب للجهات المختصة ويلقي بعرضهم وتهديداتهم في أحضان المسئولين عن ذلك..
لكن...
ولكن هنا تعني قلب الموازين!
وازى خطواته تصاعد رنين هاتفه وتزامن مع الإثنين نصلٌ حادٌ غرز في صدر أخيه وكان له الخيار..!
يكمل طريقه ومعه يغرز النصل كاملًا بأعماق القلب ليودع شقيقه بعدها الحياة على أيدي قطاع طرقٍ كما سيظن الجميع عداه
أو..
يعود أدراجه ويصبح واحداً  منهم، وحينها سينحدر النصل بعيداً عن القلب
وعاد أدراجه..
ليحيا إسلام ويموت الباسل.
ومن ظن نفسه ذو شأنٍ ومكانةٍ، أصبح بيدق يحركونه كيفما أرادوا، جدول رحلاته هم من يختارونه على حسب مبتغاهم، أوامر يتلقاها في صمت لا يسمح له بالتفوه بحرفٍ أو حتى حق الإعتراض على ما يحمله  داخل تلك الحقائب المشبوهة التي يعبر بها أو للدقة "يهربها "بكل سلاسةٍ ويسرٍ من بلدٍ لآخرٍ.. الجميع تحالف ضده حتى من حوله الكل يدعم الكل، رجالٌ ظنهم شرفاء فكشف أنهم أقل من أن يطلق عليهم رجال، شهوة الأموال اغتالت ضمائر البشر.
وهو؟
ماذا عنه؟
اغتالو ضميره أم أخرسوا لسانه بتهديداتهم بعد ما فقدوا الأمل في إغرائه بأرقامهم القياسية.. وتلك المتغنجة تخبره أنه لا مهرب من رجل استخدم ابنته من قبله للوصول لمبتغاه، وتأمره بوجوب السمع والطاعة وإلا سيناله عقاب الغازي.
وغرق في دوامات المهالك وسار على خطاهم مرغمًا لشهورٍ.. أصبح يتعمد الجهل بما يدور حوله، وكلما انتفض القلب و صحى الضمير تحضر أمامه صورة أخيه بندبه الموشوم فوق صدره وصورعدة لشقيقته؛ توأمته تزينها أبشع الخيالات فيخمده من فوره.. حتى جاء ذاك اليوم منذ أسابيعٍ قليلةٍ حين سلم إحدى تلك الحقائب لأحد رجالهم في بلاد الفرنجة كما طلب منه تمامًا، وقتها فقط التقطت أذناه بالمصادفة حديث الرجل مع آخر عبر الهاتف، فتصلبت شرايينه  وربما توقف قلبه لثوانٍ معدودةٍ وعاد يضخ في قسوةٍ موضحاً الحقيقة كاملة، أنه طيلة الشهور الماضية ما كان إلا كارت رابح لتجار الأعضاء البشرية..!
عاد بعد ما أشتعلت دواخله بنيرانٍ حارقةٍ تكاد تقضي عليه، ولم يكن أمامه غيرها حتى ترسو به على كافة الحقائق.. يواجه ويسأل بصوتٍ ميتٍ لاحياة فيه..
"مخدرات ولا أعضاء"
وتتبسم لاتويا ساخرةً وجملتها تماثلها سخرية..
"وشو الفرق باسل"
جذبها عنوةً، وغرز أصابعه بقوةٍ في ذراعها، وهو يطالعها وحممه المتراكمة تزداد اشتعالًا، ينتظر جوابًا..
حينها نظرت له بصمتٍ ثم همست ببساطةٍ:
"صدقني ما بتفرق إذا كان هيك ولا هيك.. أنا وأنت صرنا أتباع الغازي نقطة انتهى"
وعاد يسأل ويلح بجمود حتى أفضت له بكافة الحقائق و هتفت بما كان يخافه..
"أعضاء بشرية"
وانتهى الحديث.
قضى سواد الليل كله داخل مغطس الماء البارد بجسده وعيناه الجامدة.. وحينما غفى قسرًا زارته طفلةٌ صغيرةٌ ذات خصالٍ ليليةٍ حالكةٍ وعينين سوداويتين، تركض داخل حقلٍ كبيرٍ ملئٍ بالزهور وهو من خلفها، تعلو ضحكاتهما سويًا، وحين يمسك بها يلقي بها عاليًا فيشق شعاع الشمس موضع قلبها مخترقًا إياه لداخل عينيه مباشرةً فيغمضهما عنوةً و يعود يرمش فيقابله فراغٌ بدلًا من قلب الصغيرة، من ثم تسقط بين يديه جثةً هامدةً.. ليفزع من غفوته وعيون الصغيرة لا تفارقه بينما رأسه يكاد ينفجر، هل يساندهم؟ يدعمهم في اصطياد البشر واستغلال فقرهم لبيع أجسادهم، وربما الأمر أنكى من ذلك، ويقومون بإرتكاب الجرائم ويسلبون البشر قطع من أجسادهم دون علمهم.. كانت تلك الليلة تحمل له من القسوةِ والخوفِ مايكفي لينشب بين ضلوعه ويمزق نياط قلبه دون رحمةٍ.. وقتها  استقل سيارته وهو لا يبصر أمامه سوى الدماء.. توسط منزل الغازي الذي يقع في أرقى أحياء القاهرة وصراخه تلك المرة أخرسهم جميعًا وهو يخبرهم أنه من الساعة ترك أعمالهم السوداء ولن يتراجع عن قراره حتى لو تم زهق روحه.
وهم لم يختاروا زهق الروح بل مارسوا أفعالهم الدنيئة، بدايةً من ذاك الفيديو اللعين الذي أرسلونه لأخيه، ونالو مرادهم وقتما فرقوا بينهما، هكذا يكسرون عوده أسرع؛ فينحني يقدم فروض الولاء والطاعة، لكنه على وعده لن يعود.. لن يشاركهم أفعالهم.. وتعود لاتويا تصرخ فيه.. ما الفارق؟!
عن أي فارقٍ تتحدث تلك المغناج؟.. هل تساوي بيع سمٍ قاتلٍ للراغبين به بتجارة واستغلال أجساد البشر.. لا والله شتان بين هذا وذاك وإن استطاع إخماد ضميره مع الأول خوفاً على من يهمه أمرهم، لن يستطيع إخماده في الثاني حتى لو أراد ذلك.. وعدهم بأن يخرس ولن يتفوه بكلمةٍ تعود عليهم بالضرر فقط يتركونه لحال سبيله.. وكان أحمقًا؛ حين ظن لوهلةٍ أن هؤلاء يملكون قلبًا من الأساس كباقي البشر.. وتمادوا في أفعالهم حتى ليلة البارحة، ليلة زفافه.. حتى طالت تهديداتهم.. عروسه الجميلة.
رباااه!
ماذا فعلت باسل؟
لأي درجةٍ وصلت بكَ الأنانية حتى تقدم لهم فرصةً من ذهبٍ لينالوا منك؟!
لكن ألا يحق له راحة روحه المنهكة من خضام وأحداث الشهور الماضية؟.. أرادها بجانبه، تكون دعامته وقت الحاجة بعدما تمكن منه الضعف والهوان.. يحتاج لرادعٍ قويٍ؛ وإلا سيضعف دون شكٍ ويعود ليسقط بين شباكهم من جديدٍ.. يستشعرها قربه لا يطمح بغير ذلك، لكن أي وجودٍ هذا؟.. فمع وصول تلك الرسائل حاول التظاهر بعدم الإكتراث حتى لا تلحظ ذلك، حاول صب تركيزه على عروسه، لكن وازى اقترابه الشغوف خيالاتٌ دمويةٌ تخصه ونسيج السواد يلتف حول جسد فرحته، فزادت قبلاته ضغطًا وقسوةً حتى تأوهت بأنينٍ بين يديه، فابتعد عنها يطالعها بجبينٍ مقطبٍ وحاجبين معقودين ونظرةِ عينيها القلقةِ تسأله ألف سؤال..! وكما ابتعد بغتةً، عاد وضمها من جديدٍ يحتجزها  بين ضلوعه بغتةً في عناقٍ طال بخوفٍ متملكٍ.. يدفن وجهه بين خصلاتها الحالكة ويطلق تنهيدات لاتنتهي ومن ثم ابتعد أكثر، وتلك المرة خرج وتركها وحيدةً في ليلة زفافهما.. وحينما تتبعته أمرها بجفاءٍ أن تعود لغرفتها، وتنعم بنومٍ هادئٍ. جادلت وعاد صوته يعلو بصراخٍ، فانصاعت لأوامره مرغمةً.. ليقضيَ ليلته مستلقيًا على ظهره  داخل الشرفة ينظر للسماء ويعد في النجوم البعيدة.
وعنها.. لاتصدق كيف عاملها هكذا بجفاءٍ وحينما أرادت فهم ما يجري صرخ فيها!.. قضت ليلتها ساهرةً تحاول فهم ذلك المعتوه حتى غلبها التعب والنعاس، وما إن استيقظت من باكورة الصباح  كعادتها، لفت جسدها بمئزرها الأبيض وخرجت تبحث عنه، زوج الهنا.
وبعد بحثٍ لم يطل وجدته مستلقيًا فوق أرضية الشرفة عاري الصدر، جذبت كوب ماء تُرك من ليلة الأمس فوق منضدة قريبة.. ومع سقوط قطرات الماء فوق جذعه العاري انتفض من نومته جالسًا يسب في الفاعل قبل أن يكشف هويته وحين عاد له تركيزه طالعها بغيظٍ، هب واقفًا ليزيحها من أمامه حانقًا، فصرخت فيه بكبتٍ منذ ليلة أمس:
- ممكن أفهم نايم في البلكونة ليه؟ وبعدين في عريس يسيب عروسته ليلة فرحهم لوحدها!
ارتمى بجسده فوق صوفا جانبية، من ثم تخلل خصلاته بأنآمله هاتفًا بخشونةٍ وعنجهية فارغة:
- الحق علىّ  قولت أكيد  تعبانة من المشوار ومحتاجه ترتاح.. بدل ما تشكريني جاية تصحيني بغباوة.
كتفت ساعديها في تهكمٍ واضحٍ، بينما التوى فمها يمينًا ويسارًا كسائر نساء البلدة حينما ينتابهم الإمتعاض من أمرٍ ما، نظر لها بنصف عينٍ بعدما أثارت حركتها الممتعضة حنقه فصاح بها بغضبٍ متوجسٍ:
- قصدك إيه بالحركة دي!
شملته بنظرتها من أعلى لأسفل ثم تحدثت بنبرةٍ مترددةٍ:
- يعني عريس يسيب عروسته ويتعصب فجأة هيكون ماله؟ حواجبه واجعاه مثلًا.. عادي يعني يا باسل لو عندك أي مشاكل قول ماتتكسفش أنا ستر وغطى عليك بردو.
رفع حاجبيه في ذهولٍ، والثوان التالية كان يقف قبالتها، ينظر لها شذرًا و جانب شفتيه يرتفع بإمتعاض بينما لسانه يكرر جملتها:
- ستر وغطى!
هزت رأسها ببساطةٍ، فعقد حاجبيه في سخطٍ ونبرته تلك المرة خرجت
متسرعةً..
كاذبةً..
لكنها وللأمانة تحمل وسامَ دفاعٍ عن رجولةٍ أهانتها تلك الرعناء الغبية:
- أنا عامل فتاق.

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن