الفصل الثاني عشر

83 2 0
                                    

(12)
عرض زواج

منذ أن قررت واتخذت خطتها قيد التنفيذ وهي تقيّم كل رجلٍ تصادفه من رأسه لأخمص قدميه.. لكن هذا يرتدي سلسال حول عنقه وآخر يلوك بين شدقيه علكة! وغيرهم يضحك مع هذه وتلك ونظراته تلتهم الجسد الماثل أمامه.. اللعنة ماذا أصاب الرجال؟ هي طلبها واضح وصريح هي تحتاج رجل لا أشباه الرجال, تحتاج من يستطيع مواجهة
"عاصم رسلان"
تصارعها الأفكار وتتخبط هي من الداخل فقد عاد والدها منذ يومين وأمرها بإعداد ما يلزمها والاستعداد للرحيل, أمريكا تنتظرها.. والخلاصه غربة و أب يأمر وينهى يطالبها بطاعة وهو من تخلى عنها بسبب نزواته ومتعته, منذ صغرها يسافر هنا وهناك يتزوج بتلك ويترك تلك.. يحن عليها بمكالمة من وقت لآخر يطمئن عليها بها, فهي لديها مربيتها تهتم بها, ولديها الأموال التي تغني عن الجميع ماذا تريد إذًا؟!
في نظره هو يفعل جل ما بوسعه.. وكبرت دون حنان أم أو حماية وأمان أب.. اعتادت الأمر إن كان هم استطاعوا وضعها في منطقة الهوامش’ لم لا تستطيع هي؟ لكن يكفي إصدار أوامر وفرمانات من الحاكم بأمره بداية أرغمها على ابن صديقه, أذعنت فقط حتى تتخلص من ضغوطه, وبقرارة نفسها تلك الخطبه لن تتم ولكنها ظنت يوما أن الموعو"كريم" ليس بالسئ وفكرت في إتمام تلك الزيجة, حتى اكتشفت خيانته مع أختها التي تركت جهازها اللوحي الخاص مفتوح بالقرب منها عن قصد حتى تتوالى الرسائل والرنات بقربها, وحين قررت خرسه تفاجأت بصورة خطيبها المحترم تحتل شاشته المسطحه وأخذت تنبش بعدها على أدلة أقوى, والحقيقة لم تضيع وقت كل شيء كان واضحًا للعيان حين بدأت تقرأ المحادثات الدائرة بينهما والتي أقل ما يقال عنها مبتذلة لا حياء فيها, وحين واجهتها أجابت بكل حقارة دون إنكار. .
"والله يا ست تالا أنا ماضربتوش على إيده أنتِ  إللي مش مالية عينه"
خلعت حلقته من بنصرها وأنهت تلك المهزلة.. وكان رد أبيها هو الابتعاد عن زوجته وابنته الغاضبتين حتى تهدأ الأجواء وتعيد التفكير  في أمر خطبتها, فأختها المصون ابنة السابعة عشر من عمرها وهي في نظرهم جميعًا طفلة, فلا داعي لتحميلها ذنب هي ليست واعية كفاية لتفاديه, أما الخطيب المبجل يبرر بأنها نزوة عابرة لم إذً تضع العقدة في المنشار!..
وصلت مع أبيها لطريق سد عليها من كافة الجوانب.. حسنًا وهي لن ترضخ ولن تستسلم لأفكارهم العقيمة.. هي فقط تحتاج رادع يمنعها من السفر ولا يستطيع أبوها تفاديه وأهداها تفكيرها بعد أيام لخطة مضمونة ..
ميثاق غليظ أو عقد قران.. أيا يكن المسمى فهو سيمنع أبيها فالزوجة إقامتها مع زوجها, جيد فكرة رائعة, بسيطة, كل ما تحتاجه فقط .. زوجًا!
رأته من إحدى النوافذ_فاليوم مناوبتها المملة_ يدلف من بوابة المشفى والأعمى يبصر الغضب الذي ينطلق شرارات من بين عينيه.. تبسمت لحالها بانتصار, يبدو ذاك الغاضب مناسبًا تمامًا لإتمام خطتها, حاد الطباع  ومتقلب المزاج لكن الأهم هولا يخاف أحدًا وهذا هو المطلوب..
حسنًا قليل الذوق ولا يفقه شيء عن معاملة الأنثى لكن لا بأس فلا وقت للبحث عن غيره..
تراقبه من البعيد, يجلس في استراحة الأطباء يمدد ذراعيه أمامه على المنضدة..  ينظر نحو الفراغ منذ مدة, يبدو غارقًا في تفكير عميق فالمكان فارغ لا يوجد أحد غيره.
ظلت تراقب لمدة من الوقت حتى شعرت أن ملامحه باتت أهدأ.. تقدمت بثبات خارجي ترسم على ملامحها الأسى ويبدأ مشهدها الدرامي, تطلب إذنًا للحديث بأدب وهو متعجبًا ثم يدعو  للجلوس وترمي هي ما يحتجز داخل حنجرتها بكل وداعة الكون وتنتهي..
- تتجوزني..؟
ظل يحدق فيها بذهول يعجز لسانه عن التفوه بالكلمات.. امرأه تعرض عليك الزاوج  يالهنائك يا رجل.. لكن أليست هذه هي نفسها تلك الشرسة التي كادت أن تشطر رأسي لنصفين منذ أيام!
تابعت "تالا" توضح له الصورة أكثر.. تهمس بكل استسلام وهدوء:
-أرجوك خليني أكمل كلامي اسمعني للآخر وفكر كويس  قبل ما ترد عليا.. خد وقتك.
رفع حاجبيه في استنكار وشفتاه انفرجت ساخرة بمعنى
" كمااااان "
بينما تابعت هي فلا مجال للتراجع هي اتخذت قرارها و وجب التنفيذ في أقصى سرعة, فالوقت ليس في صالحها أبدًا.. توضح علاقتها بأبيها الذي تركها تتربى وسط زوجته الحقودة وابنتها, والآن يرغمها على الهجرة لبلد لا تعرفها أبدًا ولا تود معرفتها معه, تؤكد أنها ستكمل خطتها به أو بغيره.. والآن بات الأمر واضحً بالنسبة له والكرة في ملعبه وهي صمتت تنتظر..
لا يعلم هل نبرتها المتذبذبة خلف كل ذلك الثبات التي تحاول جاهده الظهور به, أم غضبه من ذاك المدعو أبيها كيف لرجل أن يترك ابنته هكذا ويبدل في النساء كيفما يشاء؟ اجتاحه الغضب ويقسم لو رآه الآن أمامه لربما أهداه  بضع لكمات أو كمية سباب تليق به!
رباااااه لم الآن؟ جزء من عقله يسخر من الموقف برمته والجزء الآخر يسترخي بغرور ذكوري يجتاح داخله وكرامة ظنها مهدورة منذ قليل وتأتي تلك الشقراء فتدعمها ببساطة.. ولم لا؟  جميلة بل رائعة بكل المقاييس.. ابنة لرجل يعد من أهم طبقات المجتمع الراقي, تختاره هو دون غيره, دون الاكتراث للأسباب فالنهاية واحدة.. كان بإمكانها فقط أن تشير بطرف إصبعها وتجد بدل الزوج عشرة.. لكن هي لجأت إليه هو بالتحديد..
يغمض عينيه يمسد جبينه في تفكير.. لم يكن يوماً مشوش التفكير كان دائمًا يتخذ القرار الصائب، لكن هل ما يفكر به الآن من الصواب؟ رفع بصره إليها يطالعها بصمت, يدقق فيها النظر ويدمدم:
- وياترى الكومبارس اللي هيقوم بدور زوج معاليك هيستفيد إيه من الحبكة دي كلها.. إيه المقابل لعرضك العظيم؟
تتابع بإصرار بعدما رأته اتخذ موضع التفكيروالقرار:
- أنا عندي مجوهرات كتير وحساب في البنك هو مش كبيرقوي بس مع المجوهرات صدقني مش هتكون خسران.
رمقها بنظره عميقه عن عينيها لا يحيد لعدة ثوان ثم هتف أخيرا بقراره:
- حلو، أنا موافق.. بس بشروطي.
*  *   *   *   *
"يا أهل الدار، أنتم فين؟.. أنا جييييت ماحدش مستقبلني ليه!"
زعق بها باسل فور دخوله من بوابة الفيلا.. جال ببصره هنا وهناك ولا حياة داخل الدار.. التهم الدرج في خطوات واسعة إلى الطابق العلوي متجهًا لغرفة شقيقته.. طرقات سريعة فاقتحام أسرع وهتاف حاد:
-أنتم فين يا سو؟
و"سو" تتوسد فراشها، تحتضن دميتها الضخمة وغارقة في دوامة من البكاء والنحيب تلعن نفسها آلاف المرات في الدقيقة وجملة واحدة تهمس بها لحالها كل ثانية
"ده بدر يا غبيه!"
تجذب هاتفها النقال وتنوي اتصالًا تعتذر فيه وتطلب السماح لكنها تعود وتلقي به بقوة فوق الفراش، هو لن يجيب مهما حاولت فهي تحفظه عن ظهر قلب كما تحفظ أخويها تمامًا..
حين رأته أمامها لم تدرِ هل تسعد لوجود حاميها الذي حتمًا سيخلصها من ذاك الحقير أم تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها لترتاح من وضعها المخزي أمامه..
ترى ماذا يظن بها الآن!
ولتتخلص من حرجها غضبت وثارت كالمجنونة وصرخت فيه، كأنها تتهمه بمجيئه و رؤيته لها في صورة كتلك..
رفعت ساندي رأسها شاهقة من وسط دمعاتها ووجنتها المحمرة من آثار البكاء، دمدمت بحنق متهدج:
- مش تخبط.. خضيتني يا أخي.
اقترب من طرف الفراش يجاورها عاقدا حاجبيه في قلق:
- مالك بتعيطي ليه؟
محت عبراتها بكفها محاولة رسم ابتسامة باهتة:
-مافيش.. أنا كويسه.
رفع ذقنها بأنامله ينظر لعينيها التي اكتست باللون الأحمر، ويعود يسأل بحنو أكبر:
-كل الدموع دي ومافيش؟ في إيه بجد أنتِ عارفه مش هسيبك غير لما أعرف؟
عادت مرة أخرى تنهمر عبراتها بغزارة وتنتحب بخفوت.. ثم أجابت بشفاه مرتعدة:
-صدقني مافيش، كل الحكاية مخنوقه شويه.. حاسه إني وحيدة يا باسل.
وضاع باقي حديثها بغصتها فقربها لصدره يضمها بذراعيه يمسد ظهرها وشهقاتها مازالت تتوالى.. ربت فوق رأسها واستطرد:
-ليه تقولي كده إحنا كلنا معاك و بنحبك قوي.. أنتِ  مش لوحدك إياك تقولي كده تاني.. خلاص بقى بطلي عياط.
رفعت رأسها تمحي عبراتها وتهمس ببسمة هادئة:
-وانا كمان بحبك قوي.
داعب أرنبة أنفها بسبابته وهتف بمشاكسة غاضبة:
-هنفضل نحب في بعض كتير.. شاهي فييين؟ انا جعااااااان هي الوليه دي ملهاش ابن تسأل عليه وتتشحتف كده زي ما كل الأمهات بتعمل ولا إحنا اضحك علينا ومامى طلعت صيني!
ضحكت ساندي وهتفت بتحذير:
- ماما في أوضتها ولو سمعت كلامك أنا ماليش دعوة بأي رقاب هتطير.
غمغم بخوف وتراجع:
-لا ياعم دي فيها رقاب خلاص مش لاعب.
أومأت برأسها وتتنهد بقلة حيلة فتابع هو هتافه مع نهوضه:
-قومي يلاعلشان تاكلي معايا وكمان نعدي على ماما أسلم عليها.
-ماليش نفس روح أنت بالهنا والشفا مقدما.
ودون مقدمات مد ذراعيه أسفل ركبتيها وحملها فوق كتفه متحركا لخارج الغرفه بينما هي تتشبث بقميصه خشية السقوط وتركل الهواء بقدميها صارخه بغضب:
-بطل سخافه يا باسل نزلني .. هو عافيه إيه الرخامه دي.
والإجابة هادئة باردة متزامنة مع تلاعب الحاجبين:
-آآه عافيه محتاج حد أرخم عليه وأنا بأكل عند حضرتك مانع!
وأكمل طريقه للطابق السفلي في مهمة البحث عن الطعام وهو يدندن بمقطوعات مختلفة دون أن يعير للمحمولة فوق كتفه أدنى اهتمام لصراخها الحانق.
*  *  *  *  *
اهتمت بأطفالها كعادتها وتركتهم ملوحة على وعد بلقاء جديد  في الغد.. ترمق بطرف عينيها ذلك المتطفل الذي شاركها وقت بهجتها لليوم، تفاجأت به يتوسط الحجرة يلاعب الأطفال ويقلدها في كل ما تفعل! يرمقها بنظرات لعوب بين الفينة والأخرى كأنه يهددها إن إعترضت سيفضح أمرها وهي فقط تجاريه وماعساها أن تفعل.. وما يزيد حنقها وغضبها أن ملائكتها انسجموا معه تماماً بل كادوا أن ينسوا أمرها، هي من تترك الجميع لأجلهم يفضلون اليوم ضيف غيرها؟..
وهذا الأحمق منذ متى يحبذ مجالسة الأطفال؟ حتى صغيرتها "مريم" الأقرب لقلبها من بين جميع الأطفال لم تسلم منه جعلها تتطبع العديد من القبلات فوق وجنتيه وهو يضحك ويقهقه كأنما يريد أن يفضح الأمر وينتهي..
زفرت بحنق وهو يتابعها ويتعجب لغضبها..ويكاد ينفجر ضاحكا، حتما هي تشتهي قتله الآن.. كم مرة خنقتها العبرة وكادت أن تصرخ فيه باكيه حتى يترك لها صغارها.. الأيقونه تغار وكم هي رائعة وقتما تفعل..
هتف أخيرًا ليكسر الصمت، هو لن يفوت الرواق الطويل بصحبتها في الصمت المطبق:
- حلوين قوي.. كان عندك حق اما قولتي هحبهم أنا فعلا حبيتهم جدًا.
همست بغيظ تحاول جاهده إخفاءه:
-أنت كل يوم هتطلع لهم ولا إيه؟
غضن جبينه يرمقها بتعجب:
-هو ماينفعش؟
تضع كفيها في جيوب معطفها وتتلعثم في إجابتها:
-لا ما أقصدش بس خايفه حد يشوفنا ويقول لدكتور مراد، أنت كنت بتضحك بصوت عالي قوي ربنا ستر المرة دي وماحدش سمع.
اعترض ببراءة:
-أنا!
هزت كتفيها وتابعت السير دون تعقيب على اعتراضه اللئيم.. ليتابع هو بحزن مصطنع:
-هو للأسف صعب كل يوم وقتي مايسمحش، بس هحاول أكررها في أقرب فرصة.
تنفست الصعداء.. جيد هذا يعني أنه لن ينوي على هذا كل يوم حقا جيد، أطفالها لها وحدها وهي تغار على صغارها من أي دخيل بينهم..
عاد يسألها بمكر:
-صحيح هي مريم لما كنا خارجين وشوشتك وكانت تبص عليا وتضحك.. كانت بتقول لك إيه؟
هتفت بعفويه:
-كانت بتقول لي أن عينيك شبه البليه!
توقف رافعاً حاجبيه في تعجب ثم غمغم في تساؤل:
-وده يعني تشبيه حلو ولا وحش؟
عضت فوق شفتيها في حرج عقب جوابها الذي خرج بعفوية دون أدنى تفكير ولتتخلص من ذلك المتطفل:
-مش عارفه..
اقترب يربكها أكثر وأنفاسه تلفح وجهها وعيناه تنظر لعينيها هامسًا بجرأة:
-طيب أنتِ رأيك عينيا حلوة ولا وحشه؟
تقهقرت للخلف في توتر وإجابتها متلعثمه للغاية توازي متابعة سيرها علها تتخلص منه:
- لأ، آه.. أقصد ابقى اسألها أنا ماعرفش.
وفي غضون ثوان كانت قد احتلت المصعد وغادرت الدور بأكمله وهو نال حمرة خديها وبريق عينيها المتذبذب وأسكره عبقها الخاص.. وأخيرًا ابتسامة رضا غمرته لينطلق بعدها متابعًا عمله مفكرًا في خطوته القادمة.
*  *  *  *  *
بعد يومين..
يقف خلف النافذة بحجرة صديقه يحمل في كفه اليسرى مشروبا يتناوله بتلذذ واليد الأخرى تحمل مجموعة من الأوراق يقلب فيها بصره.. والآخر قابع خلف مكتبه كلما وصل الحديث على طرف لسانه أبى أن يخرج يحاول جاهدًا ولا فائده.. كيف يخبره أن بعد سويعات سيعقد قرانه!
لم يخبره من قبل كان سيقف له بالمرصاد وينهال عليه بالنصائح والحكم وهو اتخذ قراره والعروس قبلت بشروطه وانتهى..
تنحنح يجلي حنجرته وقذف ما بخاطره قبل أن يتراجع:
-أنت معزوم النهاردة على كتب كتابي!
والإجابة خرجت ساخرة فهو ليس بمتفرغ الآن لمزاح الأخ:
- والله! طيب الف مبروك.. عقبال البكاري يا سيدي.
ترك سخريته جانبا وأكد بجدية:
- بعد صلاة العشاء ماتتأخرش.. ماحدش غيرك هيشهد على العقد.
رفع إسلام بصره بغتة ينظر له ولنبرته الجادة ثم ترك ما بيده وتحرك يواجه ويسأل بتوجس ودهشة:
-أنت بتتكلم جد؟!
اومأ بدر برأسه ولم ينبس بحرف.. فحدق فيه بذهول والكلمات تخرج دون ترتيب:
- ازاي يعني.. مش فاهم حصل امتى ده.. أنا كنت فين وليه ماقولتش قبلها؟
والإجابة هادئة:
-كل حاجة جات بسرعة ومن غير ترتيب.
يغضب من هدوئه ويتحدث بنبرة زاعقة:
- أنت بتهرج يا بدر.. أنت فاكرني أهبل ولا لسه هنعرف بعض.. قول في إيه بالظبط أنت مخبيه، قول وخلصني.
تنهد ثم نهض يلملم أشيائه من فوق مكتبه ويجاور صديقه قائلا:
-مافيش وقت للشرح لينا قعدة مع بعض هشرح لك فيها كل حاجة بس دلوقت لازم أمشي يدوب أجهز نفسي.. ماتتأخرش أنا ماليش غيرك.. عصام ماقدرش ياخد إجازه علشان ينزل.. و زي ما أنت عارف والدتي  تعبت في الفترة الأخيرة وعلشان تنزل من البيت وتطلع تاني عايزة معجزة.
ضربه على كتفه مردفًا بمزاح:
-يعني مافيش غيرك اتدبست يا صاحبي.
وخطى نحو الخارج سريعا قبل ان يعود الآخر من حالة الوجوم ويسأل من جديد.. لكن ما إن خرج حتى عاد برأسه هاتفا:
-أنت مسألتش العروسة تبقى مين؟
رفع له رأسه ينظر إليه ولم يتحدث.. فتابع بدر:
-تالا.. العروسة تبقى تالا.
غادر العريس والصديق لا يميز المزاح من الصدق اختلط عليه الأمر..
ماهي إلا دقائق حتى إستعاد وعيه واندفع لخارج الحجرة يلحق به.. هو لن يظل ضائعًا هكذا سيوضح ذاك المجنون ويشرح له وبعدها لكل حادث حديث..
هبط على الدرج سريعا لكن على مايبدو قد تأخر فلا أثر للمدعو بدر.. عاد أدراجه ويكاد عقله ينفجر من التفكير,ما الشيء الذي قد يدفع صديقه للزواج بتلك السرعة ومِمَّن؟ تالا!
اصطدم بوجه آخر يحدق في بوابة المشفى بوجوم.. سارع إليها بالخطى ينظر لها وهي كأنها فارقت عالم الأحياء وأصبحت جثة باردة لا روح فيها.. ربت على وجنتها برفق حتى تفيق..
- لمار.. تالا فين؟
وكما كانت خارج عالم الأحياء عادت له مع نبرة صوته وهي تحرك رأسها له، تحدق فيه مذهولة وتهتف بحدة:
-المجنونة بتقول رايحه تجهز نفسها.. قال فرحها النهارده!
دمدمت تشابك الخيوط ببعضها دون وعي:
- علشان تخلص من موضوع السفر تتجوز بالطريقه دي؟ ومن صاحبك!
عقد حاجبيه في استفهام:
-سفر إيه مش فاهم؟
أردفت بحنق:
- هو صاحبك مقالكش؟
- لا مقالش، تعالي معايا لازم أعرف الموضوع ده بالظبط من البداية لحد اللحظة دي.
وبعد مرور بعض الوقت  كانت قد وضحت الصورة تماماً، زفر بهدوء وهو يمسد جبينه بكفه.. فهتفت لمار بحدة :
- أنت هتفضل ساكت كده مش هتعمل أي حاجة توقف المجانين دول؟
نظر لها بتمعن رافعًا أحد حاجبيه:
- أوقفهم ليه؟
كتفت ساعديها أمامها والنبرة متأففة:
-يعني أنت موافق على اللي بيحصل ده؟
حرك كتفيه وهتف موضحًا:
-وأنا مالي الاتنين مش صغيرين ويقدرو يتحملوا قرارهم أيًا كانت عواقبه.
والصمت المطبق ساد لعدة دقائق يتفحص ملامحها الحائرة ليقطعه ناهضا:
-يلا قومي يدوب نلحق احنا كمان نجهز نفسنا..
-أنت كمان هتروح!
والإجابة مؤكدة:
-أكيد مش هسيب صاحبي في يوم زي ده.
اكتست ملامحها بالأسى وهي تغمغم:
-بس اللي هيعملوه ده غلط.
تبسم هو برفق واقترب من مقعدها يطالعها من علو ويهتف بجدية:
-ولا غلط ولا حاجة ده جواز مش نهاية العالم يعني.. ياريت أنتِ  كمان تيجي، على حسب ما فهمت منك تالا مالهاش حد يقف معاها في يوم زي ده.. على الأقل أنتِ كوني معاها.
هزت رأسها بهدوء في إيجاب تبسم له.. ثم أردفت حائرة:
-أيوه بس أنا ماعرفش كتب الكتاب امتى ولا أروح فين بالظبط.. المجنونه رمت القنبله في وشي ومشيت على طول.
أردف في استغلال ماكر غامزًا بعينه:
-روحي أنتِ دلوقت وظبطي الدنيا أحمر هنا، أخضر هناك و أنا هعدي عليك نروح سوا.
وقبل أن تعي ما قال كان قد غادر المكان برمته.. لتتبسم لحالها بخفوت:
-وده كمان مجنون رسمي.. أحمر إيه وأخضر إيه!
*  *  *  *  *
ارتدى حلة رمادية مع رابطة عنق تناسبها.. يرتكز على مقدمة سيارته ينتظر أميرة عصره وزمانه.. أخبرها أنه من سيقلها وهو لا يتراجع عن كلمته مهما كلفه الأمر، وحتى يمنع عنها أي إعتراض.. مهاتفة صغيرة لوالدها يطلب منه الإذن بكل أدب الكون حتى يقوم بتلك المهمة النبيلة، والوالد لم يعارض بل شكره مقدما.. فالعم مراد يقوم بدوره على أكمل وجه وأصبح والد الأميرة ضمن قائمة أصدقاء العم ودون شك أخبره أن ابن أخيه مستعد للزواج من ابنته المصون اليوم قبل الغد فقط يلزمه بعض الوقت حتى يستحوذ على قلب العروس أولًا وبعدها تسير الأمور برسمية تامة فرحب ولم يعترض..
والآن باتت الأميره تحت الأمر الواقع.. واختارت أسوأ أنواع العقاب فهو ينتظرها أسفل البناية منذ قرابة النصف ساعة، أهلكه فيها العريس مهاتفات يتعجله..
وطلت أميرته..
بفستانها الأسود يحتضن جسدها في نعومة بطبقات الحرير والشيفون، أكمام حد المرفقين وزين خصرها حزام ماسي  يتناسب مع حذائها البراق الذي  زادها طولا بعض الشيء لتنافس طفولتها بأنوثتها..
لأول مرة يراها خارج إطار السروال الجينز والقميص العملي ومعطفها الأبيض.. وهذا كثير عليه!
خصلات الشيوكولا لم ترحمه بل تحتضن وجهها بحميمية بينما عينيها تلمع اليوم بإغراء ينافس شفتيها الوردية والقلب يخفق دون هوادة..
اقتربت هي تلقي التحية وتهتف بعجل:
-يلا اتأخرنا قوي.. تالا كلمتني فوق العشر مرات.
وهو مازال قيد السحر..  لو أنه فقط يختطفها بعيدًا وتنتهي تلك المأساة..  اقترب متناولًا كفها برقة ولثم ظهره بقبلة صغيرة مردفًا بهمس:
-أنتِ شبه الأميرات بجد.
تخضبت وجنتاها وهي تسحب كفها برفق.. تتمتم بخجل:
-ميرسي.
فتح لها الباب الأمامي تجاوره في مقعده.. وانطلقا حيث وجهتهما..
هائمة هي مع مداد البحر ليلا  لكن شارده في ذاك الذي تجاوره.. الأعمى يبصر ما يحمله بين عينيه.. نظراته لها مختلفة حديثه مختلف حتى بسمته.. هو كله مختلف حين يكون معها, و تالا أكدت لها ذلك فهي لاتكف عن إلقاء الكلمات والدعابات السمجة هنا وهناك كلما اجتمعتا.. تحاول جاهدة جعل الأمر طبيعي لكن الحقيقة ما بداخلها ليس طبيعيًّا أبدًا بل صراعات من الأسئلة والاستفهامات، أهمها متى أحبها لتلك الدرجة؟ هي لم تقدم له شيئًا حتى يمنحها تلك المشاعر بل حينما اقترب أوجعته بكلماتها, وهو يتناسى الأمر تمامًا وكأن شيئا لم يكن.. لكن كيف لها أن تعود وتثق، كيف تحب من جديد! من أحبته خذلها كيف إذًا بهذا ربما ما إن تبادله مشاعره يتركها كما فعل غيره.. لكن شيء آخر نبت مؤخرًا يدفعها دفعًا حتى تنظر لعينيه وقتما يتحدث معها تلك النظرات تخترق كل الحواجز, وضحكته! صدقًا لم ترَ ماهو أجمل منها.. وكثيرًا ما يروادها ماذا لو كانت منحت  فرصة!
نهرت نفسها مؤنبة لقد انحدر التفكير لحد خطير.. ربما بسبب تلك البذلة الرسمية التي يرتديها التي زادت من وسامته.. يخبرها أنها تشبه الأميرات وماهو إلا أمير وسيم..
تنهدت بيأس لا خلاص الليلة من حرب الأفكار تلك..
قطع هو صمتها بهتاف عابث:
- ما احنا حلوين أهو و بنسمع الكلام امال ليه يوم المطره طلعتِ عيني علشان تركبي..؟
نظرت له فجأة عاقدة حاجبيها وتثرثر بدفاع:
-على فكره أنا كلمت تالا وعرفت العنوان كنت هروح لوحدي، لقيت بابا بيقول لي فجأة أنك تحت مستنيني، حاولت أقنعه أروح لوحدي بس ماعرفش قولت له إيه علشان يرفض وصمم أروح معاك بحجة يكون مطمن عليا أكتر.. ماكنش في لزوم تتعب حضرتك على فكره.
تبسم لها بخفوت:
- ماينفعش تروحي لوحدك.
زمجرت بعناد:
- ليه بقى إن شاء الله صغيرة مثلا؟
والإجابة صريحة عابثة:
-أخاف حد كده ولا كده يعاكسك  لكن لما أنا اوصلك.. أنا بس اللي هعاكس.
حدقت فيه بذهول لثوان, ثم استدارت ناحية النافذة بعيدًا عنه وآثرت الصمت..
دائما مايقصد التطرق لتلك الأحاديث عن قصد وهي لن ترضخ لكلمات منمقة وأفضل الطرق هي التجاهل.
*   *   *  *  *
خرجت العروس من بوابة صالون التجميل في حين كان الثلاثة  في انتظارها.. حدق فيها بدر لثوان كانت حقًا عروس كاملة فقد اختارت ثوب مناسب كما إشترط عليها..
كان أول شروطه الثوب.. يجب أن يكون هادئ مناسب لعقد قرآن وكفى فلا يوجد حفلة عرس ليكون الثوب مبالغ فيه يكفي لونه الأبيض كي يقتل الشكوك وتظهر داخل إطار العروس.. والحقيقة هي التزمت لكن بمرواغة بعض الشيء وإن لم تفعل لن تكون تالا..
الثوب ينساب فوق جسدها الممشوق وقد رسم تضاريسها بمنتهى الدقة.. تتلألأ من البعيد بفعل تلك الماسات الصغيرة المتناثرة على الثوب بأكمله وخصلاتها الذهبية رفعتها لأعلى وتركت القليل يداعب وجنتها بعد ما زينتها بتاج رقيق.. إذً تصر تلك التالا على الظهور بمظهر العروس الكاملة..الرائعة بما تعني الكلمة..
تقدمت لمار تضمها وتهتف بمباركة والعروس تضحك ببهجة لوجود صديقتها في حين اقترب العريس يهمس جانب أذنها بحنق:
-مش قولنا حاجة بسيطه ليه عامله الحفله دي كلها!
رمقته باعتراض واقتربت بدورها تهمس:
-مش كان شرط من لستة الشروط بتاعتك أن الجوازه تظهر عادية خالص وإننا مبسوطين وفرحانين والكل يعرف انك أنت اللي طلبت إيدي مش أنا اللي طلبت!
يكز فوق أسنانه بغيظ ويعود يهمس:
- أنا مش إمبارح طلبتك من نفسك وأنتِ وافقتي! يبقى تنسي موضوع إيدي و إيدك ده مش بدر إللي واحده ست تطلبه للجواز.. مفهوم ولا أقول كمان؟
نفخت بسأم.. بينما اقترب إسلام يقطع الهمس القائم :
-مش ورانا كتب كتاب يا جماعة ولا هتقضوها وشوشه؟
تبسمت تالا ملئ شدقيها  تهتف بمرح وتتحرك ناحية السيارة:
-آه يلا تأخرنا فعلا..
وإسلام يكتم ضحكاته تحت تهديد صديقه إن تجرأ وأطلقها:
-إسلام مش وقتك خالص.
ضبط ملامحه واقترب بدوره يهمس:
-بس يا بدر البدور وشها مش بيجيب ألوان ولا حاجة!
زفر بدر بحنق من هذا الأخير الذي يبدو أن الوضع مسلي له حتى بعد معرفته بكل تفاصيل تلك الزيجه العجيبة.. ألا يكفيه تلك البلهاء التي تظن حالها بمسرح  وتقوم بدور البطولة فالجميع على علم بما يجري وهي مازالت تؤدي دورها بمرح ولهو دون أن تأبه لمنزلها الذي تركته منذ ساعات وهي تنوي عدم العودة  مجددًا ولا لطائرة الغد التي تنتظرها مع أبيها لمغادرة أرض الوطن..
بأي فخ أوقعت حالك يا ابن زهران!
*  *   *  *  *
وانتهى عقد القرآن ..
وحصلت تالا على رادعها.. منذ الليلة هي زوجة لـ
"بدر زهران"
أصر بعدها إسلام على الذهاب لأحد المطاعم الشهيرة على الشاطئ لتناول العشاء جميعًا بعدما أرغم بدر المعترض رغما عنه.. وبعد الانتهاء انتظرت العروس بصحبة رفيقتها  داخل السيارة.. بينما يقف هو بالجوار ينتظر بدر حتى يسدد فاتورة الحساب ويبدو أن الصديقتين منسجمتان حتى لم تلحظا وجوده بالقرب منهما فطرق مسامعه سؤال لمار الذي عزف على أوتار قلبه..
-تالا.. هو بجد في حب من أول نظرة!
اقترب بحذر يستمع لبقية الحوار.. أفقدته تلك اللمار الكثير القيم والمبادئ فالتجسس أصبح له مؤخرا أسلوب حياة..
-اممم أظن في.. يعني مثلا معانا هنا واحد متيم وواقع من أول نظرة ولا أنتِ مش واخده بالك يا لومي؟
-ممكن تخرسي بقى وخليك في الهبل بتاعك.. أنا الغلطانه أصلا اسأل واحدة مجنونه بتاع إيه!
وجواب العروس مع هروبها المتلعثم أكد ظنونه.. أخيرا تمكن من شغل حيز تفكيرها وسيطر عليه.. وما أجملها من بسمة زينت محياه قطعتها عودة الآخر..
قام إسلام بإيصاله إلى منزله الموجود بإحدى المناطق الشعبية نوعا ما.. وما إن وصلا حتى أطلق بوق السيارة عدة مرات متتالية..  فتلألأت الأنوار الملونة وافترشت السماء بالألعاب النارية ثم أطلقت فرقة المزمار مقطوعاتها المميزة مع زغاريد النساء التي صدحت من داخل الشرفات وانقلب الشارع حفلة عرس من نوع خاص..
ترجلوا جميعًا من السيارة.. بادله  بدر النظرات معاتبًا فهو لم يرد حفلة من الأساس والأخ جعل الحي بأكمله يحتفل..
عانقه إسلام هاتفا بمرح:
-حبيبي ياعريس سامحني.. بس ماينفعش أخويا يتجوز سوكيتي.
تبسم له بهدوء ثم زفر بيأس وهو ينظر لتالا المندهشة.. فقد ظن أنها ستصاب بالإحباط والندم ما إن تخطو ابنة الأكابر داخل شارعه البسيط.. لكنها كالعادة تفاجئه فضحكاتها تكاد تغطي على صوت المزمار!
ودع إسلام ولمار العروسين بعد ساعة من زمن الاحتفال.. وعادت تجاوره داخل سيارته، ترتكز برأسها على الزجاج البارد شارده في اللاشئ، ظنت أن ليلتها ستكون سيئة لكن على العكس صديقتها المجنونة تبدو سعيدة حقا، لا تعلم سبب كل تلك السعادة هل لأنها ابتعدت عن حياة لم تحبها يوما أم لانها تثأر لنفسها من والدها وتثبت له أنها ليست بحاجته وأنها عاشت بدونه وستظل..
التفتت ببطء لذاك الذي تجاوره منذ أن دلفا وهو في حالة سكون ينظر أمامه و بسمة هادئة تعلو ثغره و لم ينطق بحرف واحد على عكس عادته مما أثار داخلها الشك والريبة..
أمام بنايتها ترجلت من العربة كما ترجلت من قبل  لكنه لم يتحرك كما فعل سابقًا ظل قابعا مكانه محتفظًا ببسمته على محياه فقط التفت لها برأسه فودعته هي:
-ميرسي قوي على التوصيل.. الليلة كانت حلوة قوي.
أومأ بصمت فبادلته نظراته بأخرى حائرة لثوان، استدارت بعدها مبتعدة وما إن وضعت قدمها داخل البناية حتى تعالى صوت هاتفها النقال برنين.. تناولته من حقيبتها الصغيرة تنظر فيه.. فيخفق نابضها وهي تمررعينيها فوق كلمات رسالة نصية حديثة الوصول..
"مفيش حب من أول نظرة بس في خطفة من أول نظرة.. اللي ممكن منها تبتدي أجمل قصة حب في الدنيا"

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن