الفصل الخامس عشر

112 2 0
                                    

(15)
خطبةٌ

تبقى الأمومةُ مِنْ أقوى غرائزِ المرأةِ، وهى حين تتفتحُ تُزين الدنيا بأرق وأرقى عواطفِ البشر وأبقاها.. إنَّ هذه الصحبةَ الطويلةَ –المؤلمةَ المحببةَ– للجنينِ بالجسمِ والنفسِ والأعصابِ والمشاعرِ هي التي تُولد الأمومةَ وتُفجر نبعها السخي الفياض بالحنو والعطف والحب.. هذا هو جوهر الأمومة.. بذلٌ وعطاءٌ وصبرٌ واحتمالٌ ومكابدةٌ ومعاناةٌ.
تغيرت حياتها الباردة وتبدد الصقيع رغمًا عنها وكيف لا وقد أشرقت شمسٌ دافئةٌ بددت عتمةَ روحِها القاتمةِ، روحٌ صغيرةٌ لا حولَ لها ولا قوة، طولها لا يتعدى بضع إنشات وعمرها أيام معدودة، تتبسم لها من وقتٍ لآخرٍ فتنفرجُ شفتاها ببسمةٍ مماثلةٍ لتلك الصغيرةِ، حينما تضمها لأحضانها تشعر بدفءٍ يكسوها وحنانٍ يغمرها تستمده هي مِنْ صغيرتها، أصبحت مولودتها محورها الذي تدور حوله وفقط.. جلست بأريحية أكثر على مقعدها الهزاز الوثير فقد أصبحت جلستها المفضلة هنا داخل حجرة الصغيرة بالقرب مِنْ النافذة حيث يمكنها رؤية القمرِ والنجومِ المبعثرةِ وتصلها رائحة البحرِ المعبقةِ باليودِ، جالسة تهز جسدها برفقٍ فيتحرك الكرسي برتابةٍ وبين ذراعيها تحمل "تاليا " الصغيرة نورها وجنتها الدنيوية.
قربتها لقلبها.. فهكذا تُفضل حملها.. قريبةً مِنْ قلبها تستنشقُ عبقها وتُلاعب وجنتها الناعمةِ وكفيها الرقيقين بشفتيها، نظرت نحوها والحزن كسى عينيها رغمًا عنها؛ فلوحُ الجليدِ لم يتأثرْ وأبوته لم تهزمْ صقيعه وبرودته كما فعلت معها، يتعامل مع صغيرته وكأن معه عشرات الإناث غيرها ولا يكف عن الثرثرة بتمنيه لمولودٍ ذكرٍ يحملُ اسمَه واسمَ العائلةِ.. كلُ يومٍ يأتي متأخرًا وما إنْ تبدأُ الصغيرة وصلةَ البكاءِ الليليةِ الطويلةِ حتى يطردها هي ووالدتها من غرفته مناديًا براحةٍ بعد تعب وشقاء النهارِ.. وحتى لم يذكرْ زهرته الأخرى الراحلة عن دنياه بكلمةٍ تعبر عن كونه ينتمي للبشرِ، بل سمعته يخبر والدته بكل بروده أنها كانت تعاني من مشكلةٍ ما في قلبها ومِنْ لطفِ الله ورحمته به أنْ ردها إليه سريعًا قبل أنْ تُضنيه بمرضها.. ألا يكفي كونها أنثى حتى تكون عليلة أيضًا!!
ضحكت روان بمرارة وهي تُدرك بداخلها أنَّ مِنْ حظها هي ورحمة الله بها أنها حُرمت مِنْ أبٍ مثلك لا مكان للإنسانية بقلبه، وأما صغيرتها الأخرى غنيمتها هي ستحميها وتُبدد كل قسوةٍ قد تُلم بها أو ترثها مِنْ لوحِ الجليدِ ذاك.
وفي النهاية اتخذت روان مِنْ غرفةِ الصغيرةِ ملجأهم الليلي حيث هي والصغيرة ومقعدها الهزاز وضوءِ القمرِ يشاركهما أمسياتهما الطويلة.. رغمًا عنها تذكرت كلماته القاسية وتعديه عليها بالضربِ أهانها بقسوةٍ ولم تطرقْ حتى برأسه فكرة الإعتذار بل أكملَ تجبره بمنعها من زيارة جارتها.. المرأة الحنون.
وهي كعادتها مستسلمة.. لا جدالَ.. لا اعتراضَ.. لا حديثَ.. إيماءة صامتة وكفى! لينتفخَ بعدها بغرورٍ ذكوريٍ.. منتشيًا بلذةِ السيطرةِ على أنثى وحتى إنْ كانت تلك الأنثى زوجته وأم طفلته وابنة عمه قبل كل ذلك.
زفرت روان بألمٍ وهي تنظر لطفلتها النائمة على صدرها، ثم رفعت رأسها نحو النافذة تنظر للقمرِ المضيء بعينيها اللامعة بالعبرات الحبيسة.. ليت تلك العبرات تُخلصها مِنْ كل ما يعتمل بداخلها، تحتاج لترجمةِ كل ما تشعر به لكنها ببساطةٍ تعجزُ عن فعلِ ذلك؛ فلو تحدثت لأيامٍ لنْ يخرجَ كلُ ما بداخلها ربما لأن ما يعتملها تعدى منطقةَ الكلامِ والبوحِ.. قطع شرودَها رنينُ هاتفها، عقدت حاجبيها بتعجبٍ وعدم فهمٍ، من تلك الرسالةِ النصيةِ صاحبة الرقمِ الغريبِ والتي حمل مضمونها كلمة واحدة لا غير ..
( اكتبِي )!
*****
- بدر، هي مامتك مجنونة!!
لثوانٍ شُلت حركته ثم أنزل كتابه ببطءٍ وهو يرمقها بغضبٍ وليدِ اللحظة، يفكر لها في عقابٍ مناسبٍ لما نطقت به للتو، استدارات تالا سريعًا تواجهه، تُوضحُ سؤالَها الغبي؛ لعلها تُهدئُ مِنْ غضبِه قبل فورةِ الاشتعالِ:
- أنا ما أقصدش والله.. أصل النهاردة الصبح قلت أطمن عليها بما إنها مش بتخرج من أوضتها خالص، بس أول ما شافتني فضلت تزعق فيا وتقولي منك لله يا عبير ! قولتلها أنا مش عبير يا طنط وحاولت أفهم هي تقصد مين معرفتش فضلت برضو تزعق جامد قوي ..
قَستْ ملامحه و تبادلوا النظرات الصامتة، قطعها صوتُ رنينِ هاتفِ تالا، اقتربت تنظر للمتصل، عبست قليلًا وهو تنظر للهاتف بوجومٍ، أجفلت على صوت بدر القوي:
- مش هتردي؟
قابلت نظراتَه الصارمةِ بنظراتٍ حانقةٍ ثم رفعته على أذنها تتحدث بصوتٍ أقرب للهمس لكنه كافٍ ليستمعَ له بدر بوضوحٍ:
- هاااى يا مامي.. الحمد لله.. هو قالك.. الله يبارك فيكي.. ميرسي.. ولا يهمك عادي بقى يا مامي متشغليش بالك أنا كويسة.. أوك براحتك... باااي.
قذفت الهاتفَ فوق المنضدةِ بغضبٍ، وهتفت تُواجه بدر بحنقٍ:
- بتبارك لي على الجواز.. كتر خيرها.. وبلغتني إنها مش هتقدر تنزل أجازة الصيف ده كمان أصل ظروف جوزها مسمحتش..
صمتَ بدر يُتابعُ علاماتَ الغضبِ والضيقِ التي كست وجهها، أدركت تالا تَسرُعها وغضبها واستدارات تُكمل عملها دون التفوه بمزيدٍ مِنْ الحديثِ.. قطعَ الصمتَ هذه المرة صوتُ تحطيمِ زجاجٍ و صرخةٌ صغيرةٌ خرجت بتأوهٍ مِنْ بين شفتيها الورديتين، نهضَ بدر مِنْ فورَه، ينظرُ لإصبعها المجروحِ عاقدًا حاجبيه، بينما هي تُغمضُ عينيها بقوةٍ، ابتعد لثوانٍ وعادَ سريعًا؛ جاذبًا كفها برفقٍ، واضعًا إصبعها المجروحِ بين مكعباتِ الثلجِ، ظلت تتألمُ قليلًا حتى خدر الألمَ تمامًا وبدأت تفتحُ عينيها ببطءٍ.. قابلتها عينيه الرمادية تنظر لعمقِ عينيها بقوةٍ.. هتف بدر بصوته الرخيمِ وهو مازال ممسكًا بكفها يغمره بالثلج:
- عبير تبقى مرات أخويا الوحيد "عماد".. أمي وعبير عمرهم ما اتفقوا، كانت دايمًا بتقسي عماد على أمي وهو للأسف كان بيسمعلها وآخر اقتراحات عبير كان السفر برا مصر، يعني فرص عمل أحسن وفلوس أكتر وهو كالعادة سمع لها وسافروا وطبعًا أمي مبقتش تشوف ابنها غير بالسنين وتسمع صوته كل شهور.
صَمَتَ لثوانٍ ثم تَابَعَ بضيقٍ عاقدًا حاجبيه:
- أمي مريضة يا تالا.. تنسى أكتر ما تفتكر، بقت تغلط وتنسى أقرب الناس ليها، أحيانًا تفتكرني عماد وتفضل تكلمني لساعات كأني هو وأحيانًا تانية ترجع بالزمن لسنين فاتت.
ظَلَّ يُتابع نظراتها و صمتها المطبقِ قليلًا ثم جذبها خلفه  لخارجِ المطبخِ، جلست على الأريكةِ بأمرٍ منه، وبعد عدةِ دقائق كان  يجثو أمامها يُنهي تعقيمَ جرحِها وتضميده.. وهي شاردةٌ تائهةٌ وكأنها في عالمٍ آخرٍ، تَنبهت أخيرًا أنه انتهى، جذبت كفها مِنْ بين كفيه برفقٍ ونهضت بصمتٍ، دلفت لغرفتها وأغلقت بابها برفقٍ، تَابع رحيلها الصامتِ حتى اختفتْ مِنْ أمامه، لمْ يستطع منعَ نفسه مِنْ الإقترابِ وما إنْ أرهفَ سمعه حتى أغمض عينيه متنهدًا بضيقٍ بعد ما وصله صوتُ شهقاتها ونشجيها الخافتِ كما توقع تمامًا.
*****
حربٌ شنعاءُ قائمةٌ داخل بهوِ منزلِ الشافعي!
شاهي تَصرخُ بصوتها الذي رجَّ جدرانَ المنزل:
- على جثتي يا إسلام.. مش هتتجوزها.. إنتَ اللي قلت مش عاوزها.. رجعت لجنانك تاني ليه؟
وإسلام يدورُ خلفها مِنْ مكانٍ لآخرٍ هاتفًا باستعطافٍ وإقناعٍ:
- يا ماما افهميني عشان خاطري بقى.. ماهو أنا مش هتجوز غيرها..
وأبوه جالسٌ في ركنِه المفضلِ ممسكًا بجريدته و يغمغم بهدوءٍ:
- قولنالك مش هنروح نخطب لا تاني ولا تالت هو لعب عيال يا ولد !
ويصرخُ إسلام بنفاذِ صبرٍ مِنْ بين أسنانه:
- استهدى بالله بس إنتَ يا حاج دورك لسه جاي.
وساندي فوق الأريكةِ الكبيرةِ تحملُ حاسوبها فوق ساقيها وتُدافع بنزاهةٍ:
- يووو ماتوافقوا وتخلصونا بقى، في فستان عاجبني هموت وألبسه خليه يتجوز عشان ألبس الفستان!
صرختْ شاهي مرةً أخرى بتصميمٍ:
- نفس البنت مستحيييييييييييل.
وتَابع عزيز بهدوءٍ مغيظٍ:
- فعلًا نفس البنت مينفعش، شوف واحده غيرها يا إسلام.
وَقَفَ إسلام في وسطِ البهوِ مقلبًا نظره بين الجميعِ بيأسٍ وإحباطٍ، قائلًا بضيقٍ:
- أشوف غيرها إيه بس يا بابا هي صينية كنافة!
رَمَشَتْ ياسمينا المجاورة لساندي بعينيها الكبيرتين مِنْ خلف زجاج عويناتها وهتفت بإستفهامٍ:
- قولي يا إثلام هي العروثه حلوة.. تثتاهل يعني كل الدوشة اللي عاملها من إمبارح دي؟!
ابتسم ببطءٍ حتى ازدادت إبتسامته اتساعًا مغمغمًا بحنوٍ:
- حلوة إيه بس يا ياسمينا.. قولي تجنن.. قولي تهووووس.
حرَّكتْ ياسمينا رأسها بتعجبٍ بينما زعقتْ شاهي بجنونٍ:
- ابنك اتجنن يا عزيز ؛ شايف بيتكلم إزاااي ؟!
دافعتْ ساندي للمرة الثانية وبنزاهةٍ أيضًا:
- فعلًا يا ماما اتجنن خالص ده حتى مش مراعي مشاعيري أنا وياثمينا.
رَمَقَها إسلام بحنقٍ ثم أَخَذَ نفسًا قويًا.. هادرًا بحزمٍ:
- شوفو بقى مفيش قدامكم غير يا توافقوا.. يا إما توافقوا.. يا توافقوووووو!
نظرَ له والده بصرامةٍ عاقدًا حاجبيه بمعنى
"يا عيني على الرجال"
فَهَمَ إسلام نظراته ووصله معناها، لكنه ببساطةٍ تجاهلها والتفت نحو والدته يستعطفها لعلَّ قلبها يرقُ  وترضخُ لطلبِهِ الغيرِ قابلٍ للرفضِ مهما طالت مدةُ الإقناعِ.. لكن والدته تُنظفُ، وتُقلمُ، وتُنعمُ أظافرها تاركةً إياه مشتعلَ الدماءِ!
وقبل أنْ يصرخَ فيهم مجددًا، علا رنينُ هاتفِه الكامنِ بين كفه اليسرى، رفعه لأذنه هاتفًا بغضبٍ وحنقٍ:
- في إيه يا زفت إنتَ كمان.
ردَّ الطرفُ الآخرُ بهدوءٍ مستفزٍ:
- اهدى يا عم إنتَ المفروض عريس وداخل على دنيا جديدة والعصبية مش كويسة.. هااا لسة موافقوش؟!
تَحدثَ إسلام مِنْ بين أسنانه يَكتمُ غيظًا كادَ أنْ يفتكَ به:
- يابني إنتَ مش لسه مكلمني من ساعة وقلت لك لسة هو أنا لحقت؟! باسل متكلمنيش تاني أنا مش فايق لك.
أتاه رد باسل حزينًا:
- مش عارف بابا وماما بقم قاسيين كده ليه مش شايفينك وإنتَ متشحتف كده ياحبة عيني والحب مبهدلك.. إحساسي بيقول لي مش هيوافقوا أبدًا!
صَرَخَ إسلام تلك المرة بصوتٍ جهوريٍ رَجَّ المكانَ حوله  وكادَ أنْ يصمَّ محدثه بالهاتف:
- وإنتَ من أمتى يعني بتحس عشان جاي تحس دلوقتي !! هتجوزها يعني هتجوزها إن شاء الله أولع في البيت وبعدين أخطفها وأتجوزها.
تَحدث باسل بامتعاضٍ ومسكنةٍ:
- طب وتولع في البيت ليه بس.. وأنا أروح فين لما أنزل أجازة؟.. تشرد أخوك على آخر الزمن عشان تتجوز إنتَ.. مكنش العشم يا واد عمي !
زَفَرَ إسلام بقلةِ حيلةٍ قاطعًا المهاتفة بوجه أخيه دون وداعٍ.. متحدثًا بنبرةٍ متعبةٍ:
- إيييه العيلة المجنونة دي !! لا أنا أحسن حاجه ألم هدومي وأطلع على مراد وبلا هم ووجع قلب بقى.
واستدار صاعدًا الدرجَ يلتهم كل درجتين مرةً واحدةً، بينما انفجر الجميع ضاحكًا حتى أدمعت أعينهم على العاشقِ المسكينِ؛ فقد أوشكَ أنْ يفقدَ عقلَه منذ الأمسِ.. الكلُ اتفقَ على تعذيبه قبل الرضوخِ لطلبِه ماعدا شاهي..  كان صراخُها نابعًا مِنْ رفضها التامِ لتلك الزيجةِ.
*****
بعد عدةِ أيامٍ
خَرجَتْ ببطءٍ تُلوح بكفها وتنثر قبلات رقيقةً مِنْ البعيدِ؛ تُودع بها ملائكتها بعد ساعةٍ مِنْ البهجةِ المُؤلمةِ، قَضتها بينهم تَحقنُ هذا، وتَمسحُ عبرات ذاك، وتُهدهدُ مُدللتها مَريَم، تَسيرُ في الرواقِ الطويلِ مُطأطئةَ الرأس، شاردةً في اللآشيء..
وفجأةً.. ذراعٌ قويةٌ جذبتها مِنْ معصمها لتوقف سيرها، شهقت بخفوتٍ وهي تحاول الاتزان على قدميها حتى لا تسقط، وما إنْ كَشفتْ هويةَ الفاعلِ حتى عَقدت حاجبيها وهتفت بغضبٍ هامسٍ:
- إيه اللي بتعمله ده ؟!
والردُ واثقُ وجادُ ... برئٌ:
- إيه.. عاوز أعاكس عروستي!
رددت خلفه ببلاهةٍ:
- عروستي!
اتسعت ابتسامته بثقةٍ أكبر وتحدث بصوته الأجش:
- مش خطوبتنا بكرا تبقي عروستي ولا مش عروستي ؟
كتفت ذراعيها وهتفت باعتراضٍ طفوليٍ محببٍ:
- أيوه بس ده برا مش هنا وسط المستشفى.
كتف ذراعيه يُقلدها وحرك رأسه نفيًا هاتفًا باعتراضٍ على اعتراضها:
- تؤ تؤ إنتِ حبيبتي هنا وبرا وفي كل حتة !
تَخَضّبَت وجنتاها خجلًا، وهتفت بتلعثمٍ خجلٍ:
- أنا هنزل بقى أشوف شغلي.
وقبل أنْ تستديرَ.. أوقفها للمرةِ الثانيةِ معترضًا طريقها، رافعًا ذقنها بأصابعه، نظر لعينيها وهتف بحنوٍ:
- مش قبل ما تقولي لي زعلانة ليه؟
كان عسلُ عينيه الدافئ كافٍ لتفضيَ له كل ما بجعبتها دون أنْ يُلح حتى،  ازدردت لعابها بتحشرجٍ وغمغمت في خفوتٍ:
- مريم تعبانة قوي.. وكمان زياد ومحمد طول الوقت بيعيطو وأنا مش عارفة أساعدهم ازاي.. ساعات بحس إني  بخفف عنهم وساعات تانية...
ضاعت باقي كلماتها في حشرجتها وصمتت تنظر لعينيه.. فتحدث هو بصوته الرخيم:
- إنتِ فعلًا بتساعديهم وبتخففي عنهم، واحنا مفيش في إيدينا غير ندعي لهم بالشفاء... وربنا معاهم هو أحن عليهم من أي حد.
صمت قليلًا يستشعرُ ألمها النابعِ مِنْ بين حدقتيها وحزنها الذي لَوَّنَ روحُها الصافيةِ، ثم تَابَعَ بنبرته الخشنةِ القلقةِ عليها قبل أي شيءٍ:
- لمار.. بلاش الموضوع ده لو هيأثر عليكِ ويتعبك، بلاش تروحي لهم كل يوم أو على الأقل كفاية مرة ولا مرتين في الأسبوع.
حرَّكت رأسها فورًا باعتراضٍ غيرِ قابلٍ للنقاشِ، ونبرتها حازمةٌ:
- أنا هتعب بجد لو بعدت عنهم.. أنا بحبهم ومقدرش أستغنى عنهم.
وما كان منه غير أن ابتسمَ بحنوٍ، وغَمغَمَ بخفوتٍ:
- طيب يا ستي.. ياااابختهم.
تَبسمت له برقةٍ، واستدارتْ مبتعدةً عن عينيه، تتحسُ نابضها بأناملها، تشعرُ بخفقاته القويةِ.. تتحسسُ وجنتها الساخنةِ بفعلِ كلماتِه ونظراتِه الثاقبةِ..
لكم يُربكها هذا الرجل، ويُبعثرُ خلجاتَ قلبها بنظراتِه الحانيةِ، وضحكتِه العابثةِ بمكرٍ، الجذابةِ بهلاكٍ.
تنفست الصعداء وهي تدلف لحجرتها الخاصةِ، تتمنى بقلبٍ صادقٍ أن يأتيَ الغدُ بنسائمٍ عطرةٍ تُعبقُ يومَها.. لا تصدقُ أنها مِنْ الغدِ ستكون مخطوبةً رسميًا للسيدِ إسلام الشافعي !
ضَحكتْ بخفوتٍ وهي تتخيل صورًا لهما معًا يُغازلها بعينيه وما إنْ يتوفر الوقتَ المتاحَ، لا يدخرُ جهدًا للمغازلةِ حرفيًا.. وما أجمله مِنْ شعورٍ يَنمو بداخلها ويَزدهرُ يومًا بعدَ يومٍ.
وأما عن إسلام فقد بات يعدُ الدقائقَ والثوانِ حتى يجمعه مع محبوبته رباطٌ مقدسٌ، ويضمها تحت سقفِ بيته، ويمتلكها قلبًا وقالبًا، كم تمنى أنْ تكون خطبةُ الغدِ عقدَ قرآنٍ بزفافٍ سعيدٍ، وتسدل الستار على قصةِ حُبِهِ التي أرهقته للغاية حتى وصل لمبتغاه بعد مثابرةٍ ونزاهةٍ.. لكن عليه الصبر لشهرٍ كاملٍ كما أمرَ العزيزُ "حماه المستقبلي"، وكأنَّ الكل اتفق على تعذيبه بدايةً مِنْ والدتِهِ التي استغرق إقناعها، وترقيق قلبها يومين كاملين مِنْ نسجِ عباراتِ الغزلِ والتدليلِ حتى وافقت في النهاية.. والآن يعذبونه بقلبٍ باردٍ، ويماطلون في زواجه شهرًا كاملًا، يالهم مِنْ قساةِ قلبٍ!!
دَلَفَ لحجرته فاصطدم ببدر المتعجل، قطب جبينه مِنْ مظهره القلقِ وملامحه القاسية، هَتَفَ فيه قبل أنْ يبتعد مستفهمًا:
-بدر .. إنتَ يا بني.. في إيه طيب!!
واختفى بدر مِنْ أمامِه دون جوابٍ؛ فهو لا يبدو قد سمعه مِنْ الأساسِ.. حَكَّ ذقنه النابتة قليلًا كعادته ماطًا شفتيه في تفكيرٍ عن مابه ذاك المجنون!
استرخى على مقعده  طاردًا بدر وغير بدر مِنْ تفكيره، متبسمًا بخفوتٍ وهو يتذكر أنَّ الغدَ خطبته رسميًا.. حسنًا فلنرى أيتها الجميلة الخجولة إلى متى ستهربين؛ فأنا رجلٌ لا يكفيني شعورك بالإعجابِ، أو الإنجذابِ، أو كل ما درج تحت ذلك مِنْ مُسمى.. فأنتِ مدينةٌ لقلبي الغارق في دوامة عشقك باعترافٍ مشابهٍ لاعترافِ قلبي.. تُعلنين فيه غرقك بين أمواجِ عشقي ورضوخِ قلبك لمليكه، اعترافٌ مِنْ بين شفتيك الورديةِ وعن طيبِ خاطرك مليكتي.
*****
تتلفتُ بعينيها يمينًا ويسارًا بذعرٍ حقيقيٍ تسأل الغادي والرائح.. تبتهلُ بداخلها، تسألُ الله، وترجوه أنْ تجدها قبل أن يصل.. يا إلهي ماذا إنْ لم تجدها، ماذا ستكون نهايتها؟! سيقتلها؟ أم ربما يُذيقها ألوانَ العذابِ أولًا ثم يقتلها؟!
انتفضت بذعرٍ حين غُرزت أصابعه القوية في ذراعها تجذبها له بقوةٍ، وكأن أفكارها تجسدت الآن، نظرت له بعينيها المحدقة بخوفٍ وذعرٍ لتقابلها عيناه الرمادية العاصفة والغاضبة.. الغاضبة جدًا.. قَصت له ما حدثَ مِنْ البدايةِ بتوترٍ وتلعثمٍ.. كيف دخلت حجرةَ والدته صباحًا؛ تطمئنُ عليها ككل يومٍ وجدتها ترتدي عباءتها السوداءِ الفضفاضةِ، وتلفُ وشاحًا يماثلها اللون، وتُخبرها ببساطةٍ أنها تحتاج لبعضِ الأغراضِ مِنْ السوقِ، وستنزل لشرائها، ولأنها لا تعلم إنْ كانت السيدةَ "راوية" في حالتها الطبيعية أم أنها مسافرةً إلى حقبةٍ مِنْ زمنٍ آخرٍ ؛ لذا آثرت السلامةَ، وبدلت ملابسها ونزلتا سويًا للسوقِ، ولم تمر نصف الساعة على تجولهم هنا وهناك بقيادةِ راوية بالتأكيد؛ فتالا جاهلةٌ بكلِ طرقِ تلك المنطقةِ، لكن حدث ما لم يكن في حسبانها واختفت السيدة راوية ولا أثر لها!!
فقد أخبرتها ألا تتحرك مِنْ ذاك المقعد حتى تنتهيَ مِنْ تنقيد البائعِ في الجوارِ ، وما إن انتهت، وعادت لها على الفور لم تجدها، بحثت عنها وسألت هذا وذاك وحينما أوشكت هي الأخرى على الضياع؛ فهي لم تعد تعلم بأي شارعٍ ولا أي حارةٍ تسير، فلم تجد بدًا من مهاتفته وطلب المساعدة..
أنهت حديثها وصمتت تنظر له بتوجسٍ، بينما هو مسَّد جبينه المتعرقِ في قلقٍ، بل خوفٍ على أمه المسنةِ، المريضةِ.. يا إلهي ! هل هي ضائعةٌ بالفعلِ منذ أكثرِ مِنْ ساعتين كما ذكرت تلك الكارثة، جذبها مِنْ كفِها دون أنْ يُوجه لها أي حديثٍ، يجرها خلفه حتى كادت أنْ تسقطَ مِنْ خُطواتِهِ الواسعةِ.. يسألُ كل مَنْ يُقابله في وجهه، يدخل في زقاقٍ ويخرجُ مِنْ آخر ، وكلما مرَّ الوقتُ.. كلما زادت ملامحه قسوةً وتصلبًا، وعيناه تهتز بذعرٍ وازى ذعرها وأكثر، وهي خلفه تراقبه بصمتٍ، تتبعه بتعثرٍ حتى علا رنينُ هاتفِهِ، فأخرجه بأنفاسٍ لاهثةٍ، ينظرُ لشاشته بتأملٍ ويرد بلهفةٍ، فتهدأ ملامحه، وتتظلل عيناه بطمأنينةٍ ويزفر أنفاسه ببطءٍ، منهيًا المهاتفة:
- تمام.. أنا جاي حالًا.
ويعودُ يجذبها مِنْ جديدٍ دون أنْ ينظر لها، حتى وصلا أمام بنايةِ منزلهم، وقتها فقط ترك كفها بغضبٍ، وصعد يلتهم الدرج حتى وصل أمام الشقةِ المواجهةِ لشقتهم وطَرَقَ البابَ.. ففتحت له أماني بوجهٍ بشوشٍ تدعوه للدخول.
اقتربت تالا مِنْ البابِ المفتوحِ تُقدم قدمًا وتعود بأخرى.. حتى وقفت أمامه تنظر لبدر الذي يتوسط المنزل وأمامه سيدة تشبه أماني لحدٍ كبيرٍ تربت على كتفه، وتهتف:
- متقلقش يا بني صدقني كويسة ونايمة كمان.. ادخل اطمن عليها.
دَلَفَ للداخل، وبعد لحظاتٍ خَرَجَ بملامحٍ مُستكينةٍ أكثر.. تخلل شعره ببطءٍ، ثم سألَ السيدة قائلًا:
- جات هنا إزاي ؟!
ردت السيدة ببساطةٍ:
- قابلتها أم مصطفى جارتنا في السوق بالصدفة ولما إتكلمت معاها فهمت إنها تقريبًا تايهة ومش عارفة ترجع البيت.. بعدين جابتها على هنا، الست كتر خيرها مرضيتش تمشي إلا لما اطمنت عليها..
هَزَّ رأسه بفتورٍ، وتحدث بصوته الرخيم:
- طيب لو مفهاش إزعاج ياست معالي خليها نايمة بلاش نصحيها، وأول ماتصحى هاجي أخدها بنفسي.
ضَحكت المرأة ببشاشةٍ وغمغمت في عتابٍ:
- إزعاج!!إخص عليك.. ده لو مشلتهاش الأرض تشلها رموش عنينا، وبعدين لو مكنش الباب في الباب يعني، روح إنتَ وإرتاح دلوقتي  وياسيدي أول ما تصحى هجبهالك بنفسي.
وَدعها بإبتسامةٍ فاترةٍ، وتقدم يتخطى تالا التي لم يهدأ ذُعرها للآن، بل للأمانة قد زَادَ مع نظراتِ بدر المتوعدةِ، فَتَحَ البابَ، ووَقَفَ ينظر أمامه بجمودٍ.. تقدمت تالا تخطو بتثاقلٍ حتى أغلق الباب خلفها، أغمضت عينيها،  تزدرد لعابها مرةً تلو الأخرى حتى شعرت بهديرِ أنفاسِهِ الساخنةِ يلفحُ عنقها مِنْ الخلفِ، استدارت ببطءٍ تواجهه، تفتحُ عينيها ببطءٍ يوازي همسها الخافت:
- أنا.. أنا.. والله ما كنت أعرف.. هي.. قالت..
قَطعتْ حديثها بشهقةٍ مِنْ منظرِ عينيه المتوحشةِ، والتي كادت أنْ ترديها قتيلةً في لحظتها.. عادتْ للخلفِ بِذعرٍ حتى اصطدمت بالحائطِ مِنْ خلفها فرفعت كفها المرتعدِ تضعه فوق خافقِها الذي يدوي كقرع الطبولِ، بينما هو في خطوتين كان التهم المسافةَ بينهما، ووقف أمامها هادرًا بعنفٍ وغضبٍ، وسبابته تنقر على جانب رأسها:
- إنتِ إيــــــــــــــــــه!! عقلك ده فيــــــــــــن ؟!!
حركت رأسَها بسرعةٍ نفيًا وإيجابًا، وعادت تُنفي مرةً أخرى، وعيناها متسعةٌ في تحديقٍ قويٍ.. وما إنْ رأت يده ترتفعُ عاليًا في قبضةٍ مكورةٍ بقوةٍ غاضبةٍ، حتى انتفضت صارخةً تتعلقُ برقبته، تدفنُ رأسها في تجويفِ عنقه، بينما جسدها كله يرتعدُ ويهتزُ بخوفٍ، وشفتاها تتحركان على بشرته بتمتمةٍ مُختنقةٍ.. مُنتفضةٍ.. كباقي جسدها:
- لا.. يا بدر.. والله آخر مرة.. مش هعمل كده تاني!!
نظرَ ليدِهِ المعلقةِ في الهواءِ بعبوسٍ، لقد كان ينوي ضربَ الحائطِ؛ ليفرغَ شحناتَ غضبِهِ حتى لا يؤذيها!
ما بها؟!
لِمَ تنتفض هكذا كالفرخ المبلل؟!
هل ظنت أنَّه سيضربها؟!!
أَنزلَ يدَه ببطءٍ، وأَخَذَ يُهدئ أنفاسه اللاهثة، وهي مازالت متعلقةً به.
صوتُ أنفاسها المرتعبةِ، وخفقاتُ قلبِها المذعورةِ لا تهدأ، صدرُها يعلو ويهبطُ فوق صدرِه، رَفَعَ يديه يُفككُ ذراعيها المعقودين ببعضهما خلف عنقه؛ أبعدها عنه ببطءٍ، ينظرُ لوجهِها المحمرِ بدرجةٍ خطيرةٍ، وعيناها الهاربة بعيدًا لاتقوى على النظرِ نحوه.. وبعد قليلٍ مِنْ الوقتِ استدار مبتعدًا بصمتٍ ليرحمها، أو ربما ليلملمَ شتاتَ نفسه.
*****
هل عندكِ شَكٌّ أنَّكِ أحلى امرأةٍ في الدُنيا؟.
وأَهَمَّ امرأةٍ في الدُنيا ؟.
هل عندكِ شكٌّ أنّي حين عثرتُ عليكِ . .
ملكتُ مفاتيحَ الدُنيا؟
هَمَسَ لها وحدها بتلك الكلماتِ الغزليةِ، وأصابعه تُزينُ بنصرها بخاتمه الذهبي ذي الحجرِ الماسي، فتوردت خجلًا وهي تُزينُ بنصره بدورها.. تنظر لعينيه العاشقةِ.. فترى انعكاسَ صورتها الذهبية داخل مقلتيه العسليةِ..
كانت جميلةً، جذابةً، تخطفُ الأنفاسَ بثوبِها الذهبي.. تشبه تلك الفراشة الذهبية المثبتة بجانبِ خصلاتِها البنيةِ الكثيفةِ المنسدلةِ على كتفيها.. أيقونةٌ لامعةٌ كما تخيلها دائمًا.. أما هو فكانت عيناهُ المشعةُ بسعادةٍ كافيةً ليكونَ أميرًا ساحرًا تحيط به آهات الإعجاب، غمغم هامسًا لها  بصوته الرخيم:
-مبروك عليَّ.
تبسمت له وقَطَعَ ردَها الهامس ذراعُ والدتِها تجذبها لأحضانها، وتبعها الأهلُ والأصدقاءُ وهو كذلك.. كان فقط ينقصه أخوه الغائبُ مِنْ بين كلِ هؤلاء المهنئين، أخبره أنه سيتأخر قليلًا.. لكن انتهى نصفُ الحفلِ تقريبًا وهو لمْ يحضرْ حتى الآن، وبعد مرورِ بعضٍ مِنْ الوقتِ حضرَ الغائبُ أخيرًا، ونظرًا لتأخرِه استقل سيارة أجرة فور خروجه مِنْ المطارِ لعنوانِ صالةِ الحفلِ مباشرةً.. لم يسعفه الوقتُ لتبديلِ ملابسِه، فحَضَرَ بحلتِه الرسميةِ.. وكم يكون جذابًا بها، مُلفتًا للأنظارِ..
رآه إسلام أولًا فأشار له يَحثه ليتقدمَ، لوح له الآخر متقدمًا بين الجموعِ، ومع كلِ خُطوةٍ يخطوها كانت بسمتُه تُصبحُ.. فاترةً.. خافتةً..
حتى أصبحَ على بعدِ خطوتين.. فتلاشت تمامًا مع استدارةِ عروسِ أخيه.
وإنْ كان الفراقُ مؤلمًا ذات يومٍ.. فاللقاءُ في تلك اللحظةِ قاتلٌ!

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن