الفصل السابع

54 2 0
                                    

(7)
صدفة
يغير حبك طقس المدينة.. ليل المدينة
تغدو الشوارع عيداً من الضوء تحت رذاذ المطر
وتغدو الميادين أكثر سحرا
ويغدو حمام الكنائس يكتب شعرا
ويغدو الهوى في مقاهي الرصيف
أشد حماساً، وأطول عمرًا..
وتضحك أكشاك بيع الجرائد حين تراك..
تجيئين بالمعطف الشتوي إلى الموعد المنتظر..
فهل صدفةٌ أن يكون زمانك
مرتبطاً بزمان المطر؟
"نزار قباني "
*****
مضت عدة شهور أصبحت فيها السماء ملبدة بالغيوم ورذاذ الأمطار يغسل الوجوه.. حركة الطرق مستقرة والهدوء يعم الأجواء بينما رائحة القهوة تفوح من الأقداح.. نجد من تقلقه هذه الأجواء وآخر فرحاً سعيداً نشيطا.. لكن الجميع على يقين بأنه يوم من أيام ليل الشتاء.
تجلسان جوار بعضهما فوق الأريكة الدافئة.. تحملان قدحين من القهوة مشروب الشتاء الرسمي حيث تختلط رائحتها المميزة بين الأنفاس والأحاديث الشيقة.. مضت عدة أسابيع منذ آخر لقاء، فبعد زواج إحداهما أصبح تغيير العادات التزام لا بد منه..
هتفت لمار بحماس وهي تربت بأصابعها الرفيعة على البطن المنتفخ أمامها:
- فضايحك بانت ياهانم.. في الشهر الكام دلوقتي؟
تبسمت روان مغمغمة :
- يومين واخلص السابع إن شاء الله.
ارتشفت القليل من قهوتها ثم تابعت بنفس الحماس:
- حلو قوي يعني شهرين ويجي لي بيبي العب بيه..
ضحكت روان وهي تضربها على جبهتها معنفة إياها:
- ليه بقى إن شاء الله هو انا اخلف واتمرمط وأنت تلعبي!
أجابتها بهدوء بينما تعدل من ياقة قميصها:
- براحتك بس اللي مايرجعش في كلامه.. فكرتِ هتسمي البنوتين إيه ولا لسه ؟
همست وهي تتململ في جلستها:
-اسكتي بقى لحسن أشرف يطب علينا ويسمعنا.
ضحكت لمار وهتفت من بين ضحكاتها :
-تصدقي أنك سوسه الجواز غيرك قوي يا روني وبقى يتخاف منك.. أموت واشوف شكله لما يعرف انهم ياعيني الاتثين بنات يعني ولي العهد فشنك المرة دي ولا حماتك كمان موال تاني.
ضحكت روان بقوة حتى تألمت ثم إعتدلت في جلستها قائلة:
- ماتفكرنيش.. والله بخاف أغلط بلساني قدامه ده هيقلبها عزاء من دلوقتي هو وأمه.. أنت ماشفتيش شكلي وأنا بترجى الدكتورة علشان تقنع حماتي وهي بتقولها نوع البيبي مش واضح.
-طيب وهي صدقت كده عادي؟
-يا بنتي دي ولا فاهمة حاجة ولا نيلة.. فاكرة كل الناس زيها من أيام الفراعنة.. المهم سيبك من السيرة الغم دي وقولي لي موضوع إيه ده المهم ومحتاجه رأيي فيه؟
تركت لمار الكوب الدافئ من بين كفيها واقتربت منها تحثها على جدية الموضوع وأهميته:
- من كام يوم رحت الجامعه علشان أجيب ورق بتاعي كنت محتاجاه وهناك قابلت دكتور مراد وعرض عليا اسيب المستشفى اللي شغاله فيها واروح اشتغل في المستشفى بتاعته.. وانا محتارة ومش عارفة أخد قرار، خايفة أسيب شغلي الحالي مارتحش هناك.
بدت روان كأنها تفكر في الحل المناسب ثم تحدثت بهدوء:
-اللي اعرفه انك مش مرتاحه حاليا بردو مع مدير المستشفى الرخم وبعض زمايلك.. امممم أظن تفكري في عرض دكتور مراد وتحسبيها صح.
صمتت لمار لبعض الوقت ثم تابعت بحيرة:
-مش عارفة افكر و محتارة.
روان بثقة:
- خدي فرصة مش هتخسري حاجه والمثل بيقول اللي نعرفه احسن من اللي مانعرفوش.
تنهدت بقوة قبل أن تنهض تعدل من وشاحها الصوفي حول عنقها فالليلة تحمل طقسًا ذا برودة قارصة.. من ثم ودعتها بحضن دافئ حتى لقاء آخر.
هبطت لمار أسفل البناية تمني نفسها بعودة سريعة قبل هطول الأمطار و قبل أن تنتهي من تفكيرها كانت الأمطار بدأت في الانهمار بالفعل.. انتظرت أسفل إحدى البنايات حتى تهدأ الأجواء لكن على مايبدو الانتظار سيطول بعض الشئ.. بدأت في البحث عن سيارات الأجرة و كأن لا أحد يراها الكل يسير على عجل متفاديًا الأمطار..
شعرت بالغضب والحنق يملؤها, ماذا تفعل الآن! هل تعود إلى روان؟ لكن زوجها "اللزج" كما تدعوه دائما رأته أثناء هبوطها من الدرج حين كان واقفًا في انتظارالمصعد والبقاء في الشارع تحت الأمطار أهون بكثير من أحاديثه السخيفة, فأقل شئ ممكن أن يتفوه به هو ما الداعي لنزولها من منزلها في وقت كهذا بل لم النزول من الأساس؟! حتما ستنال الحرج إن عادت..
نفضت رأسها برفض تام لتلك الفكرة وما كان منها إلا الاختيار الأخير ,فالانتظار لم يعد حل صائب, الأمطار تزداد لاتتوقف لذا قررت السير على الأقدام رغم بعد مسافة منزلها.. لكن ربما يتبسم لها الحظ ويرسل لها عربة أجرة تنتشلها من مأزقها..
ظلت تسير وتسير بخطوات واسعة مضطربة والقلق ينهشها فوالداها بالتأكيد مشغولا البال عليها، فقد بدأ سوء الحظ بنسيانها لهاتفها في منزلها من البداية!
و الآن أسدل الليل أستاره وعتمة الشتاء مخيفة, و صوت حفيف الأشجار أثار الرعب داخل أوصالها رغما عنها, حتى شعرت بالتعب, وفضلت الوقوف للحظات تلتقط فيها أنفاسها اللاهثه, وبين أنفاسها المضطربة وقلبها الخافق خوفا وذعرًا لم تتنبه لسيارة آتية من الخلف تقف بمحاذاتها عن قصد!
* * * * *
ما إن غادرت لمار حتى عاد هو غاضبا شاكيًا من العمل في وقت كهذا ثم كعادته مطالبا بالطعام على وجه السرعه فقد نال منه الجوع مناله.. تحركت هي متثاقلة الخطى تستند بظهرها على ذراعها الأيسر بينما كفها اليمنى تمسد بطنها المنتفخ، حمدت الله أنه ما إن انتهى من طعامه حتى آوى لفراشه.. هذا أفضل بكثير، تجلس هي على أريكتها الخاصه في غرفة نومها تعود برأسها للخلف وتحط بها على حافتها عينيها تتبعان الكائن النائم أمامها أعلى الفراش تراه يتململ في نومه فهو لا يكف عن الحركة وصوت أنفاسه يصدر موسيقاه المعتاده مقطوعات من "الشخير"لا يجيدها سوى"أشرف الزيان"، تحمل إحدى رواياتها بين ساقيها، تركت أبطالها يسبحون في غزلهم الخاص وهي تطالعه وتتذكر ما أصبحت عليه من يوم زفافها.. فقد كسر فيها شيء ما لا تعرف كنهه, لكنه موجود بداخلها بل بأعماقها لا تراه, فقط تستشعره..
كثيرًا ما تلوم حالها على جفائها لكن ماذا إن كان الزوج نفسه يحمل من البرود مايكفي شعبا بأكمله! ماذا إن كان الزوج قلبه الساكن بين ضلوعه مهمته فقط محاربة لفائف التبغ وأمثالها ليناضل حتى يستمر في البقاء!.. أما الحب والحنوّ؛ تلك المشاعر النقيه لا وجود لها من الأساس, لم يتذوقها يوما.. كم تشفق عليه!
وبالتأكيد ليس هناك حاجة لها بالسؤال عن سبب طلاق زوجته الأولى, فالجواب كوضوح الشمس في يوم صيفي حارق فمن لديها القدرة لتعيش مع لوح الجليد ذاك سوى لوحًا يماثله..
بعد الزواج مباشرة فرضت على حالها عزلة رغما عنها لم تعد شهيتها تستقبل أي واردة, وبعد مرور فترة قصيرة اكتشفت خبر حملها وكأن هذا ما كان ينقصها، لكم بكت يومها وكأن جرحها أصبح غائرا ينادي بضماد طارئ أو مسكن ما، وظلت على حالها لعدة شهور أخرى حتى تخللها دون مقدمات نبضات دافئه إجتاحتها ونمت داخلها بعد ما بدأت تعطي إشارات لثبات وجودها، لم تعلم وقتها ماهو شعورها لكنه بتأكيد من إنتشلها من ضياعها كبصيص أمل بدت تتحسسه..
وقررت في ليلة وضحاها أنها ستدفن الأنثى الحالمه في ركن بعيد المنال جوار شرخها العميق وتحضر روح إبنة الزيان بكل ما تحمله من إستسلام و برود وعدم مبالاة.. فقط تعيش لانه لاسبيل آخر غير العيش وهكذا دارت وتدور الأيام برتابة، لا تبالي لشيء أيا كان ليس هناك أدنى رغبة على الاعتراض..
حتى جسدها اصبح له من يوم زفافهما يفعل مايحلو له وقت ما يشاء دون رادع ، وحين استقبلت خبر خطوبة ذاك" العمر" واجهته بنفس الطريقه فما مات فيها قد مات منذ زمن ولا سبيل لها غير التجرد من ثوب الإحساس..
تنظر لحالها تضحك مع أحدهم وتمازح آخر وكل من يراها يمدح روحها المفعمة دوما بالسعادة.. و حين تواجه حالها كم تستشعر ضعفها بين ثناياها.. خواء فقط خواء ما تحمله بين ضلوعها ومع الوقت ايقنت أن ضعفها هو سر قوتها، لو تركت روحها لليأس لكان قضي عليها وطفلتيها منذ زمن، ربما الخواء أقسى ألمًا لكنه أقل عذابًا للروح..
وفي أيامها الأخيره دون سبب واضح؛ لعلها هرمونات الحمل مازالت تتلاعب بها, فهي تجعل الأنثى الخامدة بداخلها تصحو فترويها آخر ساعات الليل ببعض من أحلامها من بين صفحات حالمة كسابق عهدها فتعانق روحها السجينة, وقبل بزوغ الفجر تكون قد أعادت حالميتها وروحها لمنفاهما البعيد وتعود تتلبسها روح ابنة الزيان فقط لا غير.
* * * *
تفترش أريكتها الباردة نسبيا بكتب وأوراق مملة للغاية خاصة بمجال دراستها.. والغد هو أحد ايام الاختبارات الأكثر مللا، تنهدت بقوة وملل.. تطالع رذاذ المطر المنزلق بإستمرار من خلف زجاج النافذة، كم اشتاقت للربيع ولوروده الحمراء البلدية، وكم تكره الشتاء ببرودته وقسوته الهادئه..
تحتاج أن تفتح نافذتها على مصراعيها وتعبئ رئتيها بالنسيم العليل، تمتع نظرها باللون الأخضر الساحر.. لكن طقس الشتاء طقس الاختناق بلا منازع، عادت أناملها تعبث بهاتفها مرة أخرى وعقلها يصرخ بها لاتفعلي.. إياك!
والقلب يهمس بهدوء مرة واحده فقط.. لن تندمي!
وفي طقس كهذا بارد بشدة والصقيع يلفها تماما, لابد للقلب أن يربح!.. وقبل أن تغرق أكثر في أفكارها, ويعود العقل يتحكم, ضغطت على زر الاتصال, وحملته إلى أذنها بأصابع مرتعشة, وما إن قطع الرنين, ووصلها الصوت الأجش من الطرف الآخر, حتى إنبعثت الرعشة بكامل جسدها, وهمست بنبرة خافتة:
- باسل.. إزيك؟
جاءها الرد بصوت هادئ:
- الحمد لله يافرحة.. أنت ازيك؟
- أنا بخيرالحمد لله.
وفقط صمت ساد بين الطرفين لدقائق معدودة ربما طالت أم قصرت, وأخيرًا تحدث باسل بنبرة حانيه أكثر:
-مالك؟.. أنت زعلانة من حاجة؟
هزت رأسها بنفي كأنه يراها, ثم همست بنبرة تحشرجت رغما عنها:
- مافيش.. عندي امتحان بكرة وخايفة شوية.
همس لها بصوت دافىء ليواجه صقيعها المحيط بها:
- ماتخافيش أنت قدها، أنا متأكد من كده.. وبعدين أنت لازم تشدي حيلك علشان أجيب لك هدية تتطير لك الباقي من عقلك.
وصلته ضحكتها الخافتة, فتبسم لها بحنو مردفًا بصوت جدي أكثر:
- يلا قومي من تحت الشباك الجو برد قوي، روحي نامي واتغطي كويس وماتنسيش تطمنيني بكرة عملتي إيه.. فرحه أنت معايا؟
همسة رقيقة صدرت منها أنهت بعدها المهاتفه وكأنما صوته بدد البرودة, وأصبح جسدها يبعث الحرارة المطلوبة.. تمددت فوق فراشها متدثرة جيدًا.. من ثم تودع ليلتها ببسمه رائعة خطت فوق شفتيها.
بينما هو عاد لمقعده ماقبل المهاتفه المفاجئة في أحد الأماكن الدافئه ذات الطابع الحميمي في ليلة شتوية كهذه.. جلس وعاد يتناول طعامه بهدوء وسريعا ما أتاه صوت المغناج:
-مع مين كنت عم تحكي؟
غمغم بهدوء دون أن ينظر لها, فقط اهتم بما يتناول:
- ده إسلام بيسأل إذا نازل إسكندرية بكره.. قولت له حصل لغبطه في جدول رحلاتي ومش هينفع بكره.
رمقته لاتويا للحظات بنظرات صامتة وقد رسمت بسمة ماكرة على جانب شفتيها المطلية بالأحمر الصارخ ليوازي أنوثتها.. ثم همست بهدوء :
- منيح.
* * * * *
أنهى عمله في مشفاه أخيرا بعد يوم طويل وشاق بالتأكيد، عمليات جراحية وتبعها عدة كشوفات أخرى، صراخ وعويل النساء أمر اعتاده يوميًا وهو مضطرٌ لتحمل لا سبيل أمامه فهو من اختار ذلك الطريق.. ضحك حتى ظهرت نواجذه حينما تذكر كلمات أخيه المشاكسة دائمًا ما يقولها وقتما يسرد عليه إحدى طرائفه اليومية من عالم النساء الخاص به..
" يا إبن المحظوظه يا إسلام لا وإيييه كله بما يرضي الله "
استقل سيارته بهدوء يشبه الليلة الباردة ولا يعلم سبب احتلالها لأحلامه الآن, فموعدها مع الأحلام يبدأ ما إن يضع رأسه على وسادته ليلا.. أو في إحدى مناوباته حيث غرفته ومشروبه المفضل وأريكته الدافئة التي بمثابة فراش آخر لا يستغني عنه لكنها ليست المفضلة بالتأكيد فأثيرته تمكث هناك في قلب منزل العم حيث راحة النفس..
والآن وبكل صلف تلوح أمامه في الأفق ألا يكفي زيارتها الغير منتهية في منامه لتأتي الآن وتحتل الصحو والغفى.. هذا غير عادل بالمرة!
دائما ما يتساءل عن سبب انجذابه لها؟.. لا هي صاحبة جمال متفجر الأنوثه أو حتى تضاريس ملفتة.. بملامحها الهادئة تثير كل حواسه وقلبه اللعين اختارها هي دون معشر حواء برمته، تأسره لمعة عينيها البنيه بل تربكه بقوة, ولشعرها الكثيف قصة أخرى, كيف اتفق مع عينيها فاختار نفس اللون ونفس البريق.. ربما غيره يراها لابأس, أو يطلق عليها لقب جميلة, لكن هو وبكل عنفوانه فقط يراها "أيقونة لامعة" كقطعة ألماس براقة تظهر دائما من اللاشئ لتعكس شعاع بريقها المتلألئ داخل مقلتي العسل خاصته!.. ومايكون منه إلا الانصهار والتحديق والتمتع بكل ما تحمله أيقونته من جمال!..
لكن ماذا بعد؟! قطعت عدة شهور وهو على حاله فقط يستنزف مشاعره بالبطيء، معترف أنها مجرد ذكرى ورحلت عن عالمه منذ آخر مرة رأها فيها في منزلها, حين كسرت قلبه بكل قسوة دون حتى مراعاة لأي من مشاعره!
هل اخطأ وقتما اختارها هي دون الغير؟ بالتأكيد لا.. وهي كذلك لم تخطئ فللقلوب أحكام.. ليته لم ينتظر وصارحها بحقيقة مشاعره على الفور ربما كان انتظاره ماهو إلا عبورلآخر ليستحوذ على قلبها.. رغم كل ما يموج في داخله إلا أنه يتمنى لها السعادة من قلب أصيب يوما بلعنة عشقها ومازال يعاني!
و يعود السؤال مرة اخرى ماذا بعد؟ ربما عليه الانصياع لرغبة والدته, واختيار عروس مناسبة ليستقر بحياته, ويترك أمور القلب فيما بعد الزواج.. لكن وبكل عناد لأفكاره المتضاربة, تتجسد أمامه مرة أخرى, حتى قطرات الأمطار الغزيرة لا تعيقها وكأن ذلك الخافق فقط يعانده ويتمرد عليه, فيرسل إشاراته السريعة لعقله الباطن فتظهر له من العدم!!..
تقف تحت سيول الأمطار,تفرك كفيها في حالة يرثى لها, وشاحها السميك يلتف حول عنقها, تتخلله مياه الأمطار, ربما أصبح ثقيلا ووجب التخلص منه, وبلوزتها الصوفية أيضا اصبحت بوزن ليس هين ولا يوجد حماية لشعرها الجميل حتى تشبعت خصلاته..
يا إلهي كم هي قاسية صورتها اليوم فقطته الناعمه لاتستحق عقابا كهذا.. نفض رأسه يمنة ويسرة عله يتخلص من أفكاره الجامحة فقد زادت عن المعدل الطبيعي..
لكن لحظة..
هذه ليست بأفكار جامحة ولا أحلام يقظة كما فطن إنها هي.. رغم الأمطار, ورغم الظلام المحيط بالمكان, لكن ضوء سيارته ساعده قليلًا وهنا لا مجال للخطأ ؟ ولو خذله قلبه كالعادة, لايمكن لعينيه أن تخوناه أبدًا.. ماذا تفعل الآن في طقس كهذا؟ تبدو كقطة سقطت في دلو من الماء البارد فأصبحت ككتلة مشعثة..
لم يستطع الانتظار أكثر وسرعان ما توجه لها بعدما تأكد من هويتها خلال الثوان الفائتة وقف بمحاذاتها.. ترجل من سيارته سريعًا وإقترب منها هاتفًا بقلق:
- لمار..؟!
وكأن شبحا خلق من العدم, استدارت بقوة تواجهه, تنظر له بذعر حقيقي, فما دار داخل مخيلتها في الدقائق الماضية يكفي لجعل الخوف يدب داخل أعماقها..
ظلت تنظر له وحدقتاها تتسعان وصرير أسنانها لا يتوقف, جسدها ينتفض لاتعلم أهو من الخوف أم من البرد, لكن النتيجة واحدة فهي كقطة شاردة في أشد الليالي قسوة دون مأوى..
استشعر خوفها والهلع المحيط بها, وأدرك أنها لم تتعرف عليه البتة لكن لامجال للعواطف فلتتنحى جانبًا الآن، أردف مرة أخرى بنبرة أهدأ علها تهدأ:
- دكتورة لمار ماتخافيش أنا.. إسلام الشافعي.
لفظ حروف اسمه بتمهل شديد علها تخلصه من حرجه, ولا يوجد داعٍ لشرح من يكون بالتحديد! وحصل على إجابته حين أغمضت عينيها بقوة فتأكيد هذا الإسم مربوط بتلك الليلة؛ " عريس الغفلة " ..
ظل ينظر لها منتظرًا ردة فعل منها, حتى تحدثت بصوت خالطه الخجل والخوف معًا :
- خير يادكتور في حاجه؟
لعنت نفسَها ألف مرة أهذا سؤال يسأل؟.. لكن ماذا تقول, فهذا ما طرأ على رأسها، آخر شخص كانت تتوقع رؤيته, بل هو لا يمت لتوقعاتها بصلة, تراه متجسدًا أمامها الآن, بل أصبح مثلها تمامًا بعد ما تمكن منه المطر أشد تمكين..
- أفندم !
هتف بها وهو يرفع حاجبيه مذهولًا, فحاولت تجميل الموقف قدر المستطاع فتابعت :
-أقصد حضرتك بتعمل إيه هنا تحت المطر؟!
وأي تجميل أحسنت صنعا يابلهاء.. غمغم بصوته الأجش:
-حضرتي قرر يكون ضحية المطر الليلة علشان اسأل حضرتك بتعملي إيه في وقت زي ده وجو بالشكل ده و لوحدك في الشارع؟
اجتاحها الغضب لاتدري له سببًا, ربما لنبرته الهازئة بعض الشيء.. أخبرته سريعًا بوضوح دون مواراة :
- أنا كنت عند واحدة صاحبتي.. لأ هي قريبتي، أوووف يعني هي قريبتي وصاحبتي الاتنين.. المهم بعد ما نزلت المطر زي ما إنت شايف كده ومافيش سواق تاكسي واحد عنده دم لحد ما بقيت الكارثه دي.
لاح على محياه بسمة عذبة لم يستطع منعها؛ كم هي بريئة تلك الأيقونة كما تخيلها تمامًا، تنظر للأرض خجلًا خوفًا من أن تصدم بعينيه المحدقتين فيها بكل هذا التركيز دون حياء.. تنحنح أخيرًا, وتحدث بجدية تنفي بسمته السابقة:
- طيب اتفضلي معايا أوصلك للبيت.. وقفتك كده ماتنفعش والوقت كل مادى بيتأخر أكتر وأكيد الباشمهندس عز ومدام نهال قلقانين عليك، وطبعا محال تلاقي أي مواصله في وقت زي ده وأكيد بردو مش هتقدري تكمليها مشي البيت لسه بعيد.
في البداية طالعته بذعر أكبر كأنها تود صفعه.. وحينما ذكرأسماء والديها بالتحديد وكأنه يطمئنها بذلك، وبعد ذكر باقي الأسباب عاد القلق والخوف ينهش دواخلها بعد أن تناسته للحظات.. ما الحل الآن هل يصاحبها رجل غريب للمنزل أم تظل هكذا تنبش عن حلول ولايواجهها غير سوء الحظ..
صمتت وعادت تنظر للأرض مرة أخرى تجمعت دمعاتها الدافئة أسفل جفنيها تهدد بالنزول.. وتحدثت بصوت متهدج :
- لا اتفضل حضرتك ماهو مش معقول هركب مع راجل غريب.. عربيته.
وهو كان في انتظار تلك الكلمات، حسنا وهو لن يذهب بدونها عليه جذب كل أسلحة الإقناع حتى يبثها الطمأنينه فعاد يسأل من جديد:
- طيب موبايلك فين انا ممكن أكلم البشمهندس وهو يتصرف او يسمح لي أوصلك؟
اختلطت عبراتها مع قطرات المطر , و وصله نشيجها الخافت وهي تفرد ذراعيها كما يفعل هو عندما يصاب بقلة الحيله في حين همست بخفوت:
- نسيته في البيت.. ومش بعرف أحفظ ارقام.
يحيطها بنظراته الدافئة, إنها تبكي بقلة حيلة مطرقة برأسها للأسفل مسلمة أمرها لليلة باردة تفعل بها ماتشاء.. اقترب منها خطوة أخرى قائلا:
-طيب مافيش مشكلة إهدي خالص وبلاش عياط أنت كنتِ عايزه تاكسي.. تمام؟ تقدري تتخيلي عربيتي المحترمة زي التاكسي بالظبط .. نمشي بقى إحنا كده هنموت في الثلج ده.
هزت رأسها برفضٍ جديد.. بينما هو تنهد بخيبة أمل, لكنه لم ييأس, وأي يأسٍ الآن تحت قطرات المياة الكثيفة التي تطرق رأسه دون رحمه.. أخذ يعيد مرة تلو مرة يحاول إقناعها وهي فقط تبكي، وحينما بدأ فقدان الأمل في الاستحواذ عليه إتكأ على سيارته واضعا ساق فوق الأخرى مكتفا ساعديه يطالعها بصمت.. وبعد مدة وجيزة همست بنبرة متهدجة للغاية:
- طيب ممكن بس بشرط.. هدفع لك فلوس زي التاكسي بالظبط.
دون تفكير هتف سريعا وهو يتنحى جانبا مفسحا لها الطريق :
- موافق.
فتح لها باب سيارته الخلفي, بينما سارت هي بخطوات متعثره وثقيلة للغاية, وما إن وصلت عند الباب وقبل أن تدلف عادت له بنظراتها الخجلة:
- بس العربية هتتبهدل كدة وتغرق ميه!
نظر لها متبسما ثم إستعار نظرة صارمة ليخبرها بعملية بحتة:
-ولا يهمك يا هانم إتفضلي إحنا متعودين في الوقت ده على كده مع كل الزباين.
رغما عنها انفرجت شفتاها ببسمة صغيرة, فحفر غمازتاها موقعهما الهندسي بدقه في وجنتيها.. ربااااه منذ متى تمتلك تلك الغمازات فهو يراهم للمرة الأولى.. وتاه المعتوه من جديد وضاع العقل في غيابت تلك البسمة الممزوجة بدموعها ثم أصابته في مقتل بتلك الغمازات.
وبعد عذاب شديد تمكن من السيطرة على مشاعره المنفلتة واحتل مقعده خلف عجلة القيادة بعدما اطمأن على استقرارها في المقعد خلفه تماما..
ما إن وطأت قدمها داخل سيارته, وكل ما شعرت به هو الدفء, مجرد لمحات بسيطة منها بطرف عينيها تأكد لها أنها سيارة جميلة بما تعني الكلمة, ولا علاقه لها بعربات الأجرة, رائحة عطره النافذة التي تفوح داخلها تنبئ عن رجل شرقي يحمل من الأناقه والوسامه مايكفي، عند انحدار مستوى تفكيرها لتلك المنطقة, قررت مواجهة النافذة والانشغال بعد حبات المطر المنزلقة برتابة على النافذة من الخارج..
بينما هو ينظر لها بين الفينة والأخرى, يشبع حواسه يستشعرها بقربه وما أجمله من شعور, يراها ملتصقة بالباب وشاردة مع حبات المطر, وشعرها تشبع من الماء حد الارتواء فتجمع على هيئة خصلات كثيفة ثم متفرقة.
وانطوت أجمل اللحظات سريعًا, كما هدأت العاصفة وأصبح المطر مجرد رذاذ خفيف يتطايرهنا وهناك..
توقف أمام البناية الخاصة بها, فترجلت هي سريعًا و تبعها هو.. وقفت أمامه وهو يطالعها ببسمة هادئة, وهي تردها ببسمة شكر وعرفان لما قدمه الليلة بينما امتدت يدها في إتجاهه محملة بالنقود:
- إتفضل عشرين جنية مبلولة للأسف مش معايا فكة وإلا ماكنتش تحلم تأخد مني المبلغ ده كله.
تناولها سريعًا, وكأنه سيرفض شيئًا لامسته أناملها, وكان يخصها يومًا, تحدث قائلًا ومازال محتفظا بابتسامته الهادئة:
- ربنا يكرمك يابنتي أهو كده الواحد يقدر يرجع للعيال بعشوة فول وطعمية متينة.
بالطبع لم تنسَ أن تهديه ضحكة أخرى تسبي بها قلبه المسكين, ثم ترحل من أمامه ملوحة له بكفها الصغيروهو يشملها بنظراته حتى غابت عنه.. فيتنهد من جوف أعماقه عائدًا لسيارته, ثم ينظر لحاله المروع نصف ساعة أو أكثر مرت عليه برفقتها والأمطار تعصف بهما معا, حتى تنازلت صاحبة المقام الرفيع وقبلت به كسائق أجرة!
في الصباح طبيب نسائي..
وفي المساء سائق.. نسائي أيضًا..
نعم للرجال حظوظ ..
لم ينسَ أن يحتفظ بنقوده في جيب سترته جوار قلبه تمامًا, كما لم يفُتْه التحديق في أصابع كفيها عدة مرات حتى تأكد بدل المرة عشر أنها خالية تماما من أي حلقات لعينة تحمل اسم غيره!..

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن