الفصل العاشر

108 3 0
                                    

(10)
تالا

ملائكة بيضاء..
هكذا منحتهم  هذا اللقب الذي يعبر عنهم منذ أول وهلة وقع بصرها عليهم.. حجرة واسعة تعد من أكبر الحجرات داخل المشفى, جدران صبغت بالأبيض.. أسرة غطيت جميعها بشراشف بيضاء مصفوفة في تجاور بكل انتظام يعتليها ملائكة صغار بأعمار متفاوتة.. يوجد بينهم الكثير من التشابه, فجميعهم  يحمل بريقًا دامعًا داخل عينيه, وأنين يلازم شفتيه, وجوههم شاحبة على الدوام..
فقد البعض ثقته حين فقد شعره وبات يشبه آخر بقربه كان يخاف أن يماثله يوما ومنهم من يستعد لتلك المرحلة.. رغم صغر سنهم واختلاف مسقط رؤوسهم  إلا أن الألم جمعهم تحت سقف واحد.. جنود صغار مسلحين بقوة منحها إياهم الخالق لا سواه.. يقاتلون بمفردهم ذاك الوحش الكاسر الكامن داخل كل واحد فيهم..
هنا داخل القسم الخاص  "بالكانسر" كل شيء مثالي في صفائه ونقائه كل شئ أبيض.
قررت مد يد العون بقسم الحاضنات ريثما تحضر صديقتها الطبيبة المنتظرة.. هاتفتها وأقنعتها بفكرة العمل, وبدت الأخرى مفعمة بالملل والسأم حيث تحمست للفكرة وهذا ما تعجبت لمار لأمره, فصديقتها "تالا" لم تكن يوما شغوفة بالعمل مثلها..
في النهاية أخبرتها انها فقط تريد بعض الوقت حتى تستطيع إقناع خطيبها بتلك الفكرة.. لتقرر بعدها  منح رفيقتها مهلتها اللازمة, وهي لن تضيع وقتًا كعادتها وعرضت المساعدة وتم قبولها بترحاب صدر.. وبات تواجدها في الطابق الثاني شيئًا واردًا, من ثم دفعها فضولها لاكتشاف الحجرة الكبيرة الكامنة في الركن الهادئ الواقعة بآخر الطابق والممنوع لغير المختصين الاقتراب منها..
لكن ببساطة الأنثى كائن فضولي بطبعه ما إن تضع هدفًا صوب عينيها يمكنها الحصول عليه دون رادع, وهي لم تستطع كبح فضولها لتتعرف بنفسها على سر تلك الغرفة التي تميز بعناية خاصة ومكانة رفيعة لدى دكتور مراد شخصيًا..  وهذا ما فعلته وحينما كشفت الحجاب عنها لم تجد بها  لغزًا أو سرًا.. كانت تحوي على مجموعة من الملائكة الصغار.
*  *   *  *  *
" إن سئمت من تفاصيل الواقع.. عش خيالاً يسعدك"
تتأثر فتضحك تارة وتعود تدمع عيناها أخرى.. ظنت أن بعد الزواج ستودع أيام الأحلام والروايات ولم تتأثر كما كانت تفعل لكن العكس تمامًا ما حصل, فعادت في آونتها الأخيرة لسابق عهدها أكثر بمراحل.. تنغرس أكثر وأكثر,  أصبحت قراءة الروايات جزءًا لا يتجزأ من يومها ربما وجدت داخلها الونيس والصحبة وبات حاسوبها أقرب رفيق ليومها.. ساعات وساعات تقضيها أمامه دون كلل أو ملل.. أخرجها من عالمها الوهمي طرقات متتالية..
نهضت بتثاقل تتجه صوب الباب.. فقد أصبحت حركتها ثقيلة عقب ما خطت في شهرها الأخير.. ربما أسبوع  أو إثنان أكثر أم أقل الله وحده من يعلم لكنها على يقين أنها ستصبح "أم" خلال فترة ليست بالبعيدة.
ما إن فتحت بابها حتى واجهتها امرأة مسنة ربما في عقدها السادس لا تعلم.. تحاول أن تتذكر أين رأتها من قبل لكن لا نتيجة.. وحينما لم تجد المرأة ترحيبًا غير ابتسامة هادئة تحدثت هي:
- إيه مفيش اتفضلي؟ ماتخافيش مش هعضك ده انا حتى  جايبة لك بسبوسة.
ومدت يدها بطبق مغطى بمحارم خاصة بالمطبخ.. تناولته منها في حرج ودعتها للدخول.. تقدمت المرأة  بخطوات هادئه ولم تلبث حتى عرفتها على نفسها..
"السيدة إيمان "جارتها في نفس العقار.. ربما قابلتها أثناء دخولها أو خروجها من البوابة لذا تبدو مألوفة الوجه، تقع شقة السيدة  أسفل شقتها مباشرة، أخبرتها أن لديها ابنة متزوجة في محافظة أخرى لا تراها كثيرًا فظروف زوجها تمنعها من الزيارة الدائمة لوالدتها المسنة ولديها أيضا ابنًا مازال يدرس في الجامعة..
المرأة ودودة لأقصى حد انتهت الزيارة السريعة وهمت بالرحيل وقبل أن تتحرك استدارت ونطقت بجملتها التي أثارت التعجب داخل نفس روان:
-انا حبيتك قوي فكرتيني بإيناس بنتي.. ممكن أحضنك ياروان علشان أحس إني بحضن إيناس اصلها وحشاني قوي.
وجدت روان نفسها تتقدم بخنوع تضمها بقوة ودموع المرأة أثارت دموعها هي الأخرى.. رحلت بعدها عقب ما أخذت وعد  برد الزيارة في القريب العاجل.
خطت بسمة ساخرة على جانب شفتيها.. فقد وصلها الآن غاية تلك الزائرة.. هي في أيامها الأخيرة أصبحت تفضي بنحيبها في أشد لياليها قسوة داخل شرفة منزلها.. تنهي هناك طاقاتها المكبوتة داخلها غير آبهة بوجود أحد.. أتت متعذرة بابنتها حتى تقدم مواساتها.. تقدم لها ما عجز عن تقديمه أقرب الأقربين.. كم أنتِ  بائسة مثيرة للشفقة يا ابنة الزيان.
*  *  *  *  *
ارتكز بجذعه على جدار جانبي يراقبها من البعيد.. تنتظر  استراحة الأطباء حيث يتجه الجميع إلى الأسفل فتقترب هي خلسة تتطلع يمينا ويسارًا بحذر.. وما إن تقبض على المقبض حتى تديره ببطء وتلج بحذر من ثم تغلق الباب من جديد, وقبل انتهاء مدة الاستراحة بدقائق قليلة تخرج بحذر كما دلفت..
ترتفع على أصابع قدميها تلقي بنظراتها الأخيرة عليهم لهذا اليوم ملوحة لهم  بوداع  بكفها الصغير من خلف الدائرة الزجاجية المزروعة وسط باب الحجره.. بعدها تغادر محملة بجرعة ألم جديدة, فتخونها عبراتها كالعادة وتسقط برفق تشق طريقها عبر وجنتيها فتسارع  أناملها بمحوها ظنا منها ألا أحد يراها.
لكن هو لم يفوت العرض اليومي منذ أن بدأت فيه من أسبوع مضى.. الأول قضته داخل حجرتها خوفًا من أن تواجهه وعن أسبوعها الثاني قررت بكل طيبة قلب أن تمنح ملائكتها الصغار بسمة تمحي بها دموع مآقيهم وتبدل آهات الألم بضحكات بريئة تشبههم..
يراها كل يوم ترسم ابتسامة واسعة تعدها قبل الدخول.. تداعبهم بمرح مرة متقمصة دور المهرج بأنف أحمر كبير, ومرة أخرى ساحر يبهر عيون الصغار بخدع بسيطة, فيتناقلون نظرات التعجب فيما بينهم, فتعلو ضحكاتهم الواهنة تصدح بين الجدران.. هذا ما يراه حين يسمح له الوضع بالاقتراب أكثر دون أن يفضح أمره..
تتستر عليها الممرضة مقابل حفنة مالية تدسها في جيبها كل حين.. كما يتستر عليها هؤلاء الأطفال مقابلها هي, فهي تتجرد من ثوب الطبيبة لتبدو لهم حينها كصانع البهجة الذي يحمل نفحة من السعادة يدخل ويخرج حذرًا خوفًا من أن يفضح أمره فيخسر بهجته.. وأخيرًا يتستر عليها هو, والمقابل إرضاء نابضه المجنون الذي بات يهوى اكتشافها والتعمق فيها أكثر.
لو كان أحد غيرها لكان بالتأكيد الوضع اختلف وربما اتخذ إجراءًا قانونيًا مقابل كسر القوانين الخاصة بمشفاه.. لكن حين توجد هي تتبدل كل قوانينه ويضرب بها  في عرض الحائط ولا يكتفي فيشاركها أفعالها خلسة.
يتتبع أثرها الراحل وهو شارد فيها.. في تفاصيلها.. في لماره.. كم هي هشة رقيقة سهلة الكسر..
رباه.. لأي مدى هي حنونة, يشتهي ضمها لقلبه, يحفظها بعيداً عن ذلك العالم, يبعدها عن كل ما يعكر صفاءها وطيبتها.. توجعه عبراتها المتقافزة بقدر وجعها, رغمًا عنه تزعجه جرعات الألم التي تتناولها يومًا بعد يوم.. يود منعها ولكن يخشى أن يؤلمها أكثر كما أن ضحكات هؤلاء الصغار كانت حاجزًا منيعًا ضد كل رغباته.
حتى مرضاها العاديين لم تغفل عنهم انتشرت الشيكولاتة داخل المشفى فالجميع يغادر محملًا بها.. حتى ظن يومًا أنه دخل لفندق ما وتلك الشيكولاتة التي يحملها الجميع دعوة للعودة مرة أخرى حيث الخدمات المتميزة والمعاملة الأفضل.
مزيج ساحر فحواه بسماتها وعبقها الخاص الذي ينتشر في الأجواء ويستقر بأعماقه منذ أن وطأت بقدمها أرض المشفى.. لا يعلم هل وحده من أصابه سحرها وتملك منه هذا الشعور حد الجنون أم هي بتلك الروعة لتصل بسحرها للجميع.
وصوت أنثوي لإحدى العاملات ينتشله من دوامته:
- دكتور إسلام.. دكتور مراد عاوزك.
أطلق تنهيدة مستسلمه  تبعها بخطوات متتابعة نحو حجرة عمه وأيقونته لا تفارق خياله، ويقر لنفسه أنه ربما كان من الخطأ وجودها بقربه في مكان واحد.. هو عاشق لتلك القريبة البعيدة, وذاك البعد يؤلمه, هي لا تسمح بأي اقتراب خارج حدود العمل, تحبس حالها داخل شرنقة محكمة عليها جيدا, وعنه فقط يتمنى من البعيد, ليس عاجزًا عن القرب بقدر ما يخشى من وجود ذلك الغريب الذي أعلنت عن عشقه مسبقًا..
يتفانى في مراقبتها بشتى الطرق ولا وجود لأي رجل في حياتها هي تدور داخل دوامة العمل لا غير.. و ربما هو يقنع نفسه بذلك لا يعلم, هو متخبط  حائر يخاف الاقتراب ويعجزعن الابتعاد وسؤال واحد يرهقه دائما.. ماذا إن رفضت قربه للمرة الثانية؟
ولا إجابة غير أنها  ستكون أسدلت ستار النهاية بيديها..
وحينها ستكون قاتلة بحق.
*  *  *  *  *
تختلف النساء في الأذواق وربما يتعمدن الاختلاف في كثير من الأحايين، فالأنثى بطبعها تعشق التميز وتكره تشبيهها ببنات جنسها..
فالنساء هن النساء مهما تغيرت العصور..
ورغم ذلك يوجد ما يجتمعن عليه.. وأولى بالذكر
" الزهور"
لا توجد أنثى لا تعشقها بل هنالك لغة بين الأنثى والزهورلا يفهما سوى الإناث وفقط الإناث..
وهي أنثى تتلقى كل يوم باقة من الزهور.. لكن من صاحب مجهول!
وانقلبت الآية حين قرر الدون جوان الظهور مع دعوة عشاء فوق أحد الشواطئ.. وحيرة بين القبول والرفض
ونهاية الحديث..
ارتدت ثوبًا قصيرًا ينافس لون البحر في زرقته لتشكل لوحة أنثوية جميلة بخصلات شعرها القصير.. تقف حائره تفرك كفيها في توتر، تنظر يمنة ويسرة تبحث عن صاحب الدعوة المجهول.. فيجفلها بنبرته القوية وهو يمد يده مع ابتسامة لم تفهم كنهها:
- شادي.. شادي شكري.
ابتسامة مجاملة صاحبها مصافحة سريعة وعشاء متوتر على ضوء الشموع.. وسؤال يلح كان هو سبب قبول تلك الدعوة:
-أستاذ شادي بقالك ساعة تحكي لي عن نفسك وعن شغلك مع والدك رجل الأعمال العظيم ولحد دلوقتي ماجبتش سيرة سبب الدعوة دي و..
صمتت هنيئة قبل أن تردف بتلعثم:
- و ليه تبعت لي كل يوم ورد؟!
والإجابة صريحة واضحة كالشمس:
- معجب.. إيه بلاش.
ارتعدت جوانحها لثوان قليلة إثر جرأته.. تطالعه في صمت وتعجب لأمر ذلك الوقح.. نعم وقح فجلسته لم تخلُ من النظرات الماكرة وكلام الغزل الصريح..وقبل الرحيل إصرار على تبادل أرقام الهواتف.. رفضت و أصر أكثر.. ولم يترك لها خيارًا آخر.
مضى أسبوع على تلك الحادثة ولم يتخلَّ بعد عن الباقة اليومية  ومهاتفات لا تنتهي تحمل دعوات لمقابلات أخرى وهي فقط تعتذر بحرج.. حتى فاجأها  اليوم وقتما خرجت من مبنى الإذاعة و رأته يتكئ على سيارتها.. عتاب سريع على تهربها منه واعتراف آخر يصرح باشتياق!
وهي فقط تجهل ما يجب عليها فعله هل يستحق أن تمنح فرصة وتعطي حالها من قبله أم ما تفعله هو الخطأ عينه.. ولكي تتخلص من موقفها الحرج أعطته وعدًا بقبول إحدى دعواته في القريب العاجل.
-أنتِ  يابنتي رحتي فين والله لو سرحتي تاني هقفل بجد.
صراخ أنثوي خارج من شاشة حاسوبها اخترق طبلة أذنها  أجفلها من قوته.. فهتفت بغيظ:
- يهدك يا شيخه إيه الصوت ده.. وبعدين مش تخلي عندك دم شوية الموضوع مش بسيط .. ده عايز يقابلني تاني  يا فرحة, أنا مش عارفة أعمل إيه؟
نفخت الأخرى التي تماثلها في جلستها.. تعتلي كلتاهما فراشها عاقدة الساقين, أمامها حاسوبها الخاص والمهاتفة اليومية على أحد برامج التواصل الاجتماعية التي بفضلها يستطيع الأحباب رؤية بعضهم رغم بعد المسافات، عادت فرحة تهتف بغضب:
-أنتِ اتجننت يا ساندي لا طبعا مش محتاجة تفكير يعني .. أنتِ عارفة لو إسلام أو باسل عرفوا أنك قابلتي واحد وكمان عشاء رومانسي وشموع والمصيبة بيعاكس عيني عينك.. عارفه رد فعلهم إيه؟ هيولعوا فيك يا قلبي.
غمغمت ساندي بتأفف:
-أوف منك بقى وهما هيعرفوا منين بس؟ شوفي أنا عايزه أتعرف عليه مش أكتر ولو لقيته مش تمام أكيد هبعد وهقطع أي حاجة ممكن توصله بيا.. ده بيبعت لي كل يوم  ورد يا فرحه.. يعني هيييييييح.
لتكمل فرحه بحالميه:
-هييييييح بقى عقبال اللي في بالي..
لتسأل الأخرى بغباء:
-هو مين ده؟
وتجيب فرحه بحنق من بين صرير ضروسها:
-هو في غيره.. المنيل أخوك.
وساندي تعترض برفع سبابة في وجهها:
-لو سمحت أخويا مش نيله.
لتهمهم ساخرة :
- لما يعاكس كل بنات البلد والبلدان المجاورة ويجي عندي ويقلب بطه بلدي يبقى نيلة ولا مش نيلة؟
هتفت ساندي بمكر لتزيد من غضب المسكينة:
- مش عارفه بصراحة انا خايفة يكون بيفكر في حد تاني..
والجواب شهقة عالية ونظرات قاتلة:
-لاااا أنا أروح فيكم في داهيه!
وزادت قهقهات الأولى والثانية ترمقها من خلف الشاشة بغيظ.. بعد حين هدأت ساندي من نوبة ضحكاتها و آثرت السلامة:
-أنتِ  شدي حيلك بس وخلصي السنه دي على خير وهتلاقيه لابس اللي على الحبل وساحب خالك ومراته في إيده ورايح البلد يطلب إيدك ويكسب فيك ثواب.
- باسل مطنشني خالص.. أنا زهقت يا ساندي زهقت ومش فاهمه هو ليه بيعمل كدة.
- يا روحي ضغط شغل مش أكتر و أنتِ عارفة طبيعة شغله صعبة قد إيه.. وبعدين باسل ماينفعش يكون غير لفرحة وفرحة ماتنفعش غير لباسل.
تبسمت بوهن فساندي دائما تسعى لتطيب خاطرها.. ودعتها لتكمل دراستها فالاختبارات على الأبواب بينما راحت الأخرى تفكر في ذاك المجهول الذي اقتحم وحدتها علّها تصل لحلٍّ ما.. هي لا تشعر بشيء ما تجاهه لكن هناك ما يدفعها للتقدم واكتشافه أكثر لربما وجدت ما تبحث عنه فيه.
*  *  *   *   *
يمر داخل الرواق الطويل ومشهد من أكثر المشاهد السمجة في نظره.. فهو يراه يتكرر كلما اجتمعت مجموعة من الإناث وتصيبه تلك الهالة بالحنق والتمتمة الساخطة.. هو يكره " السهوكة " باللغة الدارجة وفي نظره معظم أفعال فتيات جيل اليوم تنطبق تحت هذا الشعار..
وما يشاهده الآن يعني ما يكره بالشكل الحرفي والفعلي..
صراخ أنثوي عالٍ نسبياً غير لائق بين أروقة مشفى.. عناق حار يكاد يخنقه وعبارات اشتياق متمايعة تشعره بالغثيان..
الأولى هي طبيبة زميلة وهي نفسها حبيبة صديقه الصدوق والأخرى ذات خصال ذهبية وقوام ممشوق مع عيون زرقاء أقل ما يقال عنها أنها غاية في الحسن تشكل بهيئتها لوحة كاملة لحورية خرجت من محيط ما..
أو ربما "مزة أوروبية" لا يعلم من أي قارة هبطت!
نفض رأسه ساخطا.. ما بالك يا ابن زهران هل جننت لتفكر هكذا بتلك الوقاحة!
وصوت ضحكات رنانة خرجت من تلك الحورية جعلته يجلي حنجرته ويتقدم نحوهما.. يتحدث بنبرة جادة وجّهها لزميلته:
- دكتورة لمار احنا هنا في مستشفى ولا إيه؟ الصوت بعد إذنك كده ماينفعش في مرضى.
والإجابة معتذرة :
-آسفه جداً  يا دكتور.. أوعدك مش هتتكرر تاني.
ابتسامة عملية وبعدها رحيل دون تعارف حتى.. جذبت بعدها لمار صديقتها من كفها تكملا طريقهما في توبيخ :
- تالا قولت لك وطي صوتك عجبك كده فضحتيني من أولها.
هتفت باستنكار وملامح ممتعضة:
- وده مين ده اللي مش طايق نفسه؟
- ده دكتور بدر هو حمقي حبتين وعصبي ومش طايق نفسه طول الوقت بس بجد حد محترم جداً.
- مش عارفه ليه حساه طالع من فيلم قديم.
ضحكت لمار بخفوت قبل أن تجيبها:
-شكلك هتطردي من قبل ما تشتغلي وتاخديني معاك.. بسلامته اللي مش عاجب حضرتك ده وشغالة تريقة عليه.. يبقى أنتيم صاحب المستشفى ياهانم يعني اتلمي وبلاش طولة لسان خلينا ناكل عيش.
هتفت تالا بمرح وحماس:
- بجد مبسوطة قوي يا لومي.. كنت هموت من الزهق وربنا بعتك ليا.. والأحلى بقى هشوفك كل يوم ونرجع سوا أيام الجامعة.
- وأنا مبسوطة علشان أنتِ  مبسوطة.. بس ماقولتيش هو كريم وافق كده على طول؟
- لا على طول إيه ما أنتِ عارفه كريم غيور جدًا.. بس يعني بعد وصلة زن طويلة، كوكي حبيبي وافق أكيد مش هيرفض لي طلب أنا صممت عليه.
قلدتها ساخرة :
-كوكي!
وعادت الأخرى تضحك:
-آه كوكي عندك مانع!.. المهم فين اللي اسمه إسلام ده عندي فضول هموت وأشوفه!
عقدت لمار حاجبيها وزمجرت غاضبة:
- تالا بلاش هزار من النوع ده مابحبش كده.. بلاش تخليني أندم إني حكيت لك.
أحاطت تالا كتفيها مغمغمة بالقرب منها:
-أنتِ  مجنونة أنا هشوفه بس.. أكيد يعني مش هروح اقول له أنت ليه مضايق صاحبتي الهبلة بنظراتك الوقحة أو ابتساماتك اللي مش بتخلص.. ليه تصبح عليها كل يوم..
وتابعت :
-أكيد مش هقول له بلاش ترمي شباكك على الغلبانة لمار علشان هي مش فاضية دلوقتي اصلها منهارة على الأطلال علشان واحد حقير مايستهلش دمعة من عينيها.. مش هقول له خليك في حالك يابني صاحبتي غبية لدرجة مش عارفه تفرق بين الحاجة اللي تستاهل تزعل عليها بجد وبين وهم صدقته ولسه عايشة فيه.
فغرت لمار فمها من حديث تالا الجدي.. تلومها على كل ما حدث كأنما الأمر بيدها.. رمقتها بصمت قبل أن تهمس بفتور:
- تالا مش وقته الكلام ده دكتور مراد مستنينا.. يلا.
وتحركت لمار أمامها من ثم تبعتها الأخرى تهز رأسها حانقة،غاضبة وأيضًا مشفقة على رفيقتها.. ربما اجتمعتا تحت مسمى الصداقة لكن شتان بينهما، تختلف الأولى تماماً عن الثانية وتلك كانت..
تالا عاصم رسلان..
جمالها نابع من عروق والدها الشامية، ابنة رجل الأعمال "المزواج " نعم فأبوها لقب المزواج يجاور كنيته تماما، والدتها ربما كانت رقم اثنان في حياته قبل الانفصال، فقد انفصلا وهي في سن الثامنة ليسلك بعدها كل منهما طريقه.. والدتها السيدة الفاضلة تنازلت عنها مقابل خلاصها من ذاك المزواج, وتزوجت هي الأخرى مرة ثانية ومن وقتها وهي تقيم في إحدى البلدان الخليجية مع زوجها وابنتيها, وتتكرم بزيارتها كل عامين أو ثلاثة أو ربما خمسة لا داعي لحسابات لأجل ساعات تقضيها مع امرأة تدعى أمها تحت مسمى الواجب..
أما عنه، والدها العزيز تزوج بعد والدتها عدة مرات فهي باتت لا تحصي،  أكثر ما تتذكر إحداهن طلبت الخلاص كحال والدتها وحصلت عليه بسهولة لأنها بكل شرف تحمل لقب " نكدية" والأخرى فارقت الحياة وربما هذا من حسن حظها.. وعن الثالثة فهي" حيزبون" كبيرة تعشق المال والثروة ونالت ما لم تحلم به يوما، ومن أجل ذلك مازالت تحافظ على ميثاقها مع أبيها الذي تزوج عليها  بالرابعه وتلك المرة غير المصدر  وتزوج بأمريكية وأنجب منها ولدًا واحدًا والله وحده يعلم إن كانت ابنة بلاد الفرنجة ستكون آخر مطاف أبيها أم هناك من مزيد.
تقيم هي مع الحيزبون الكبيرة و أختها من أبيها الحيزبون الصغيرة المدعوة" لينا" ورغم السنوات الطويلة التي قضياها معا لكن لم يكونا على وفاق ولو ليوم واحد..
لحظة.. ليس كل من بحياة تلك الجميلة يحملون الجينات الشريرة فهناك مربيتها "كريمة" أحن وأجمل امرأة على الأرض تكفلت برعايتها بعد رحيل والدتها عنها منذ الصغر حتى الصبا.. لكن لسوء حظها العثر رحلت عن عالم الأحياء منذ عام مضى..
والآن لديها " كريم " أو " كوكي " كما تحب أن تدعوه.. خطيبها الغيور، يقولون أن الغيرة من علامات الحب إذًا لا بأس.
ورغم ذلك عاشت حياتها بكل ترف والحق يقال أبوها لا يبخل.. معاذ الله البخل ليس من سماته بل البزخ ربما يلائمه..
رفاهية..
لا حسيب..
لا رقيب..
وتعيش تالا وتتمتع لأجل تالا ...وفقط.
*  *   *   *   *
بعد مرور شهر..
مقهى..
شاطئ..
جلسات حميمية..
يجذب كفها بإصرار عنيد.. يقترب أكثر ربما يطمع هذه المرة في قبلة!
تريد هي الخلاص دون إثارة فضيحة تكون حديث الموسم.. تحاول التملص وهو يزيد في التملك إلى أن خرجت نبرتها تحمل الرجاء:
- شادي أرجوك سيب إيدي.. مايصحش كده أرجوك لازم أمشي..
ويزيد في الإقتراب وأنفاسه الخبيثه تقترب منها أكثر..و
لكمة قوية تردي به بعيدًا عنها..
يشرف عليها من الأعلى يرمقها بعينيه الرمادتيتن اللتين أصبحتا تشبهان الدخان المتصاعد من حريق للتو وهي مذعورة تهمس باسمه:
-بدر أنا.. أنا..
ولن تتحدث..
فقط سحبها  من مقعدها يحيط رسغها بقوة دون أن يأبه لألمها وبعد خطوتين كان الآخر  قد استعاد وعيه وأسرع يسدد ضربة من الخلف.. صرخت فاستدار له من جديد بعد أن حماها خلف ظهره..
و لكمة.. فأخرى.. ركلة وأخرى.. واحدة أخيرة لينتهي أمر الحقير..
وعاد يسحبها  خلفه من جديد والغضب يكاد يفتك به.. الغبية كيف تسمح لحقير كهذا يتطاول عليها بتلك القذارة! لطالما كانت في نظره مختلفة.. لطالما كان مسئولًا وحاميًا ثالثًا لها.. لم إذً تشوه صورتها الجميلة بهكذا أفعال؟
وقبل أن يزج بها داخل سيارته رغما عنها نفضت ذراعها من بين أصابعه وهي تصرخ فيه:
- كفايه بقى.. كفايه فضايح لحد كده.
عاد يتملك من ذراعيها.. يرجها بغضب ويهدر بعنف:
- فضايحي أنا ولا فضايحك أنتِ.. إيه القرف اللي شفته ده؟
- وأنت مالك ماهو كل واحد يعمل اللي هو عاوزه.. أنا مش صغيرة ياريت تخليك في حالك ومالكش دعوه بيا خالص أنت فاهم!
ولا علاج لصراخها الهستيري سوى صفعه فوق وجنتها علها تصحو من هالة الغباء والحماقة المحيطه بها.. والصفعة الواحدة كانت أكثر من كافية لإطلاق نوبات الجنون لتصرخ هذه المرة بحرقة وعينيها تطلقان الشرر:
-أنت نسيت نفسك.. لأ فوق وافتكر أنت إيه ومين و أنا أبقى مين وبنت مين..  ولا علشان عايش وسطنا افتكرت نفسك واحد مننا!
وقصفت ابنة الشافعي جبهة الرجل وأصابته في أغلى مايملك.. كرامته.

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن