الفصل السادس عشر

71 1 1
                                    

(16)
لقاء بعد رحيل

لماذا؟
لماذا طريقنا طويل ملئٌ بالأشواك؟
لماذا بين يدي ويديك سربٌ من الأسلاك؟
لماذا حين أكون أنا هنا تكون أنتَ هناك؟
"نزار قباني"
***
صرخت وذرفت دموعًا.. مرةً تتوسل وأخرى تستعطف.. وأبوها رأسه كحجرٍ من الصوانِ، رفض وغضب.. ولتضرب رأسها في أعرض حائط.. والواقع الآن، تحتل أريكتها المنجده تحت النافذة ترفع ساقيها تضمهما لصدرها بذراعيها.. لا غناء اليوم  كعادتها.. اليوم تنتحب وتنشج بصمتٍ فقد تعبت من كثرة الصراخ والعتاب منذ الصباح.. ولا تعلم هل كل تلك الدموع المتدفقة بحرقةٍ على وجنتيها  لأجل رفض أبيها أن تذهب لخطبة ابن خالها أم أنها تشتاق الآخر وتفتقده حد الألم؟! أم ربما السبب هاجسٌ يطاردها صباح مساء بأنها أصبحت لا تعني له شيئًا؛ فقد انتهت من اختباراتها النهائيه منذ ثلاثة أسابيعٍ لو كانت الدراسة حجته، ما المانع إذًا حتى يتقدم لها ويريحها من كل تلك الهواجس.. هل ضاع حبك وعشقك فرحة مع قرص الشمس الراحل؟ هل كنت له حبَ مراهقٍ يخرج به كل هوس تلك المرحلة وحينما كبر، ونضج، وأصبح رجلًا.. أصبحتِ مجرد بطلةٍ لذكرياتٍ من ماضٍ؟.. لو فقط تراه لمرةٍ واحدةٍ! تنظر لعينيه؛ وهما ستخبرانها بالحقيقة.. وهنا ازدادت دموعها أنهارًا. اقتربت منها عمتها تربت على شعرها بحنوٍ.. فدارت برأسها بعيدًا تنظر نحو النافذة، تلاحق قرص الشمس الراحل، لكنه اختفى ولم يبق سوى الغسق الذي يلزمه هو الآخر عدة دقائق ليختفي تمامًا.. و سؤالها البغيض يعود و يدور في خلدها من جديد..
هل غاب حبك وانتهى؟!
*  *  *  *  *
وفي مكانٍ آخرٍ.. جالسة وبين يديها تحمل طفلتها الصغيرة، ترفض أن تتنازل عنها حتى في وقتٍ كهذا.. فأصبح حملها بين ذراعيها واستنشاق عبقها إدمانها اليومي.. تراقب "لمار" من البعيد، وتتذكر حين أخبرتها ذات يومٍ أنها لن تتزوج إن لم تكن عاشقةً لرجلٍ يعشقها.. وهاهي اليوم تخطو أولى خطواتها نحو عاشقها، وتلك الغبية عاشقةٌ له، لكن يلزمها بعض الوقت حتى تكتشف قوة ذاك العشق الكامن بين ضلوعها، ربما تخاف من الإعتراف به لأنها ببساطةٍ تخاف فقدانه.. حدثتها بقلبها وكأنها تسمعها:
"لا تخافي يا حمقاء، انطلقي واسعدي بعشق رجلٍ يكاد أن يبتلعك بعينيه العاشقة"
رفعت رأسها على زمجراتِ أخيها الغاضبة، فهو منذ نصفِ الساعةِ تقريبًا يصرخ بكبتٍ مغتاظٍ في تلك "اللارا" المسكينة، والسبب بضع أصباغ لطخت بها وجهها لأجل حفل خطبة أختها الوحيدة، وسبعُ الرجال يغار على حبيبته من نظرات الشباب هنا وهناك..
- أنا مش نبهت عليكِ ماتحطيش الزفت ده على وشك؟!
كتفت لارا ذراعيها بغضبٍ، مغمغمةً بحنقٍ:
- دي خطوبة أختي ماتخنقنيش بقى يا رامي.
لم يتحدث، لكن قبضته المكورة وشفتاه المتحركة بتمتمةٍ هامسةٍ تعني وعودًا قاسيةً.. هنا هتفت روان لتهدئ من الوضع:
- خلاص  يا رامي ماتكبرش الموضوع.
ورامي يهتف بنزعةٍ ذكوريةٍ بحتةٍ:
- أنا نبهت عليها وهي مصرة تعاندني.
تنهدت روان ودارت برأسها بعيدًا عنهم في يأسٍ.. فعلى ما يبدو أن أخاها قد نال على بعضٍ من جينات رجال الزيان ولو القليل.. ألقت نظرةً على هاتفها المستريح أمامها فوق المنضدة.. وتسأل حالها.. هل  تنتظرين رسالة رابعة؟! بعد وصول ثلاث رسائلٍ على مدار ثلاثة أيامٍ ماضيةٍ، وجميعهم يرافقهم نفس المضمون
"اكتبِ"
بغير زيادةٍ أو نقصانٍ.. من هو ذاك الغريب.. وماهو مقصده؟ وهل يقصدها هي بالتحديد؟! ألا يوجد مجال للخطأ بعد ثلاثة مرات؟!
وعلى بعد أمتارٍ قليلةٍ.. جدًا
لا مجال للخطأ يا ابنة الزيان؛ فالغريب مجهول الهوية.. قريبٌ منكِ الآن لدرجةٍ تتعدى خيالك الحالم.. يقف بجوار أحد الأعمدة.. يرتكز عليه بجزعه، متكتف الساعدين.. يراقب تلك الجميلة الهادئة بثوبها الأزرق، ووشاحها يماثله في اللون.. رقيقة.. ناعمة.. وحنونة.. فرغم انكسار قلبها الواضح، وعينيها التي أسرت حزن العالم داخلهما.. ثغرها الرقيق مزينٌ ببسمةٍ.. يشوبها الحزن نعم، لكنها ساحرة.. والسبب يعود لتلك الملاك الصغير.. ابنتها..
ولكن قلبه يحدثه أن تلك البسمة ستتخلص من كل تلك الشوائب الحزينة وتعود تصدح بصفاءٍ يلائم صاحبتها.. وهو رجل يؤمن بما يحدثه به قلبه الصادق.
*  *  *   *  *
وفي ركنٍ قصيٍ من تلك الخطبة.. قابعةٌ في أحد الأركان تنظر للجميع ببسمةٍ هادئةٍ، امتدت يدها عنوةً على وشاحها حول كتفيها.. فعضت على شفتيها وأفلتت منها ضحكةٌ خافتةٌ، فرفعت رأسها تلقائيًا تبحث عنه.. وكان هناك يقف مع أحدهم يتحدث برزانةٍ وشموخٍ مع بسمةٍ هادئةٍ تزين ثغره وعينيه الرمادية وآآآه من رمادية عينيه.. لازالت تتذكر كيف تعلقت بعنقه كطفلةٍ مذعورةٍ لتحتمي من بطش غضبه، احتمت منه بين أحضانه!.. لم تره بقية اليوم، لكنها فوجئت به يطرق بابها صباحًا، يخبرها بكل جمودٍ أن تستعد لحفل الخطبة في المساء.. وما إن أتى المساء حتى طرق بابها للمرة الثانية يتعجلها بنفاذ صبرٍ، وخرجت بعد دقائقٍ متأنقةً بثوبٍ أسودٍ كلاسيكيٍ، وللعجب كان طويلًا حد كاحليها.. بينما هو ارتدى حلة أنيقة بلون عينيه بقميصٍ أسود دون ربطة عنقٍ، فتلك القيود لا تناسب أمثاله..
رمشت بعينيها عدة مراتٍ كأنها تراه للمرة الأولى.. خصلاته القصيرة، ذقنه الناميه بعض الشيء.. رائحة عطره المسكرة التي مازالت عالقةً بين أنفاسها منذ ما احتضنته عنوةً.. أخذت نفسًا عميقًا وهي تراه عاقدًا حاجبيه في صمتٍ وعيناه تتجول على ذراعيها المكشوفين.. يا إلهي لقد اختارت أكثر أثوابها احتشامًا حتى لا ترى تلك النظرة بين عينيه.. بل انتظرت كلمة إطراءٍ ولو على سبيل المجاملة! يا له من أحمقٍ لا يجيد معاملة النساءِ بل لايفقه عنهن شيئًا.. ولأجل ذلك هتفت بحنقٍ قبل أن يفكر في إصدار أيٍ من أوامره الفذة الآن:
- ده أطول فستان عندي.
خرجا بعدها بصمتٍ بعد أن ترك والدته تحت وصاية الجارة السمينة وابنتها.. جاورته بالمقعد داخل سيارته، وللحماقه مازالت تنتظر كلمة الإطراء.. واحدة فقط يا أعمى النظر!
لكنه توقف في منتصف الطريق بغتةً حتى كادت أن تصطدم في الزجاج الأمامي، ترجل سريعًا وعاد بعد دقائقٍ معدودةٍ، يحمل بين يديه لفافةً ورقيةً وضعها بين يديها بصمتٍ، ولم يتحرك.. بل نظر لها يدعوها لتفتحها.. وبالفعل ابتعدت بعينيها المندهشة عنه وفتحتها بأصابعٍ مترددةٍ لترى وشاحًا بلونٍ صارخٍ تجهل اسمه! نظرت له بغتةً بحاجبين معقودين، ليشير لها بعينيه نحو ذراعيها.. فغرت فاهها، وكزت من بين أسنانها:
- مستحيل ألبسه !! ده لونه وحش قوي ومش مناسب خالص مع فستاني.
وبصمتٍ.. لا ليس صمتًا تمامًا.. بشبه عاصفةٍ حانقةٍ جذب الوشاح من بين يديها، وبعدها ترجل مرةً أخرى صافقًا الباب بقوةٍ وحنقٍ؛ ليعود بعدها بآخر وردي.. وهذه المرة لبت رغبته الغير قابلة للرفض أو ربما خوفًا على الأمسية اليتيمة التي نالتها منذ أن تزوجت به؛ فإن اعترضت.. ستحرم. وما إن وضعته حتى لمحت طيف إبتسامةٍ أفلتت منه أثناء عودته للقيادة وحينها لم تفكر سوى بشيءٍ واحدٍ.. لو كان أهداها تلك البسمة مع ذاك الأول ذي اللون الصارخ ربما كانت قبلت به! .. وسرعان ما عاد مرةً أخرى وأدهشها حينما احتضن كفها بين أصابعه القوية فور ترجلهما من السياره ولم يتركها، حتى  قام أحدهم بندائه.. تركها جالسةً هنا بوشاحها الوردي مع أمرٍ صارمٍ بعدم الحركة حتى يعود.. تدور برأسها بمللٍ؛ فالجميع حولها غرباء لا يوجد سوى العروس صديقتها والتي لم تكتفِ من إرسال عشرات القبل المهنئة لها عبر الهواء؛ فهي حقًا سعيدة لأجلها. فذاك الذي يجاورها يذوب بها عشقًا.. أجفلت على ظله المشرف عليها بغتةً.. دار حول المنضدة المستديرة ليجلس بجوارها.. ويهمس بالقرب من أذنها بخشونةٍ:
-مش كفايه بوس! الناس بدأت تاخد بالها.. نلم نفسنا شوية بقى.
أفلتت منها ضحكةٌ خافتةٌ فرمقها بنظرةٍ جانبيةٍ.. صمتت ولم ترحل عن شفتيها بسمتها الجذابة، لكنها اختفت مع ظهور تلك التي تتقدم نحوه، ولم تكتفِ بل وضعت كفها على كتفه هاتفةً بمرحٍ:
- مش تعرفنا يا بدر؟
تهتف باسمه مجردًا وهو يبتسم بألفةٍ.. وأيضًا يتحدث بهدوءٍ:
- تالا، ساندي.. ساندي، تالا.
وتحيةٌ جافةٌ صاحبتها ملامسة أطرافٍ باردةٍ من كلا الطرفين.. لترنو بعدها وتهمس له بجانب أذنه، وتعود لتضحك وهو يشاركها ضحكاتها! ومنذ متى وهو يضحك بتلك الطريقة؟! بل يضحك من الأساس؟! أم عقد الحاجبين والصراخ لها وحدها؟!  تلك الحمقاء ذات الثوب الأبيض القصير بدت كفراشةٍ سخيفةٍ بخصلاتها القصيرة تلك.. هكذا فكرت تالا بحنقٍ.. وما إن رحلت تلك الفراشة سألته ببرودٍ وهي تمط شفتيها باشمئزار:
- مين الرخمة دي ؟!
والجواب مختصرٌ.. هادئٌ تمامًا:
- أخت إسلام.
تنظر له بصمت تنتظر أن يكمل.. لكنه كتف ذراعيه وصمت..!
ذلك الأرعن.. يبدو أن التهذيب لا يليق معه، حسنًا.. لنا عودة للمنزل ولنرى حينها. هدأت من فورة غضبها التي اجتاحتها دون سببٍ واضحٍ.. لكنها تركت هذين الأحمقين على جنبٍ.. لتزداد عيناها في التحملق حتى باتت محدقةً بذهولٍ.. تنظر إليه وعيناها تتجول على حلته الرسمية والتي بدت شاذةً بين الجميع.. وبداخلها تهتف بصدمةٍ:
"طيار!!..يا إلهي ماذا يفعل ذاك الحقير هنا!"
نعم هي تعرفه وتلك الملامح لن تخطأ بها، هو بذاته صاحب ذاك الفيديو اللعين التي شاهدته بدورها عدة مراتٍ بصحبة لمار من قبل، لكن ما الذي أتى به؟ وعلى ماذا ينوي ذاك المخادع ؟! تركت أسئلتها المتخبطة و رفعت ذراعها تشير نحوه وتسأل بدر دون مواراةٍ:
- مين ده؟!
ضيق عينيه وهو يصوب بصره نحو المشار إليه.. وأجاب متوجسًا بحنقٍ محاولًا فهم تعابير وجهها الغامضة:
- باسل.. أخو إسلام.
هبوط كتفين.. ارتخاء حاجبين.. و تنهيدة تزامنت مع استدارة نحو صديقتها العروس.. عروس!.. وهل بعد تلك الكارثة ستظل عروسًا؟!
*  *  *   *  *
"في المسافة بين غيابك وحضورك انكسر شيءٌ ما، لن يعود كما كان أبدًا"
"غادة السمان"
***
ومع كل خطوةٍ يتقدمها كانت بسمته تصبح.. فاترةً .. خافتةً.. حتى أصبح على بعد خطوتين.. فتلاشت تمامًا مع استدارة عروس أخيه..
وإن كان الفراقُ مؤلمًا ذات يومٍ.. فاللقاءُ في تلك اللحظةِ قاتلٌ!
انتفض جسدها لثوانٍ معدودةٍ.. أطرافها ترتعد رغمًا عنها.. بينما عيناها محدقةٌ توازي خافقها الذي بات يضرب بين جنباتها بقوةٍ مؤلمةٍ، وسؤالٌ واحدٌ يكاد يفتك برأسها.. ماذا يفعل هنا؟! في حفل خطبتها على آخر!
بينما هو لم يكن أفضل حالٍ.. تنفسه بات كمتسابقِ ماراثون.. عيناه تدور بين أخيه وبين تلك التي تجاوره..
رباه!
من بين كل النساء اختارها أخوه.. هي لا غيرها!
واقترب وانتهت الخطوات، وبات اللقاء حتميًا لا يحتمل هروبًا أو رحيلًا.
ازدرد لعابه بارتباكٍ، وجلب بسمةً مصطنعةً مصوبًا إياها نحو أخيه.. الذي بدوره لم ينتظر، قام باحتضانه عنوةً.. يلومه على تأخيرٍ.. بينما هو لا يقوى على شيءٍ غير ابتسامته المصطنعة تلك.. قطعها إسلام بتعارفٍ سعيدٍ:
- لمار خطيبتي.. باسل أخويا.
ومع لفظ كلمة "أخويا" سقط الخافق بين قدميها.. قبضت على كفيها وكورت أصابع قدميها داخل حذائها، تقطع عن أطرافها انتفاضهم الفاضح.. وإيماءة صامتة خرجت منها لتنهي ذاك التعارف..الغير سعيد بتاتًا.
بينما الآخر يبتلع لعابه للمرة الألف ربما.. و حبات العرق تنبت على جبينه.. ليلقي لها بمباركةٍ خافتة.. بينما أخوه يميل نحوه يهمس له بعبثٍ غامزًا:
- الجنية.
ربت باسل على كتفه مع ابتسامة جانبية خرجت بتهنئةٍ خافتةٍ، باردةٍ.. وما إن استدار العريس نحو عروسه الجامدة.. ابتعد هو بخطواته سريعًا.. يبتعد، ويبتعد عن مرمى أعين الجميع.. حتى بات قابعًا وحيدًا في أحد الزوايا المظلمة.. أنآمله تتخل خصلاته الطويلة، أغلق بعدها عينيه بقوةٍ، وعقله رافض التصديق.. من المحال أن الفتاة التي عشقته يومًا.. تكون اليوم عروسَ أخيه.. لا ليست عروسه؛ هي حبيبته التي تمناها، وجنيته التي تسحره يومًا بعد يومٍ.. بحق الله أي هراءٍ يحدث!
*  *  *  *  *
انتهت الخطبة..
وعاد بها لمنزلها للمرة الرابعة.. ولكنها بالتأكيد مختلفة عن كل المرات السابقة.. هتف بمرحٍ بعد ما أوقف السيارة دون أن يترجلا:
- وصلنا يا ست هانم وياريت العشرين جنية المرة دي تكون ناشفة لحسن بتاعة المرة اللي فاتت غلبتني.
تبسمت رغمًا عنها وذكرى تلك الليلة تلوح أمامها.. نظرت له وتساءلت بهمسٍ:
- لسة فاكر؟
ليجيب هو بهمسٍ مماثلٍ:
- أنا مابنساش أي تفاصيل تجمعنا.
وتلك المرة التمعت عيناها وابتعدت عن مرمى عينيه، تنظر أمامها. ولم تمر ثوانٍ حتى استجمعت قوتها وعادت له بجسدها دفعةً واحدةً.. تهتف بشجاعةٍ وليدةِ اللحظة:
- إسلام إنتَ ليه ماسألتنيش عن الشخص اللي كان في حياتي؟! مش عايز تعرف هو مين؟ طيب مش عايز تعرف ماكملناش ليه؟!
نكست رأسها بضيقٍ، وتابعت بصوتٍ خفيضٍ:
-مش عاوز تعرف حاجة.. أي حاجة؟
انتظر حتى تنتهي تمامًا.. فهو لم يفته نظراتها الضائعة، وجسدها المرتبك طيلة الوقت، وحين سألها اكتفت بقول لا شيء.. وهو يعلم أنها خائفة، متأرجحة بين طوفان عشقه الذي اكتسحها عنوةً وبين ماضٍ لا يعلم عنه شيء سوى أن هناك شخص ما خذلها، وترك قلبها متصدعًا بعدة شروخٍ وقبل أن تضمده، ظهر هو ليقوم بتلك المهمة رغمًا عنها. اقترب.. أمسك بكفها ولثم باطنه بقبلةٍ طويلةٍ.. زفر بعدها وعاد ببصره لعينيها.. مغمغمًا بحنوٍ صادقٍ:
- كل اللي فات مايهمنيش.. لو عايزه تتكلمي أنا سامعك.. لو مش حابه بلاش.. صدقيني ما يهمنيش.. كل اللي يهمني بجد هو الجاي، المستقبل كله ملكي وبتاعي، وأنا مش ناوي أضيعك مني.
بالله عليكم أخبروني.. أيُّ قلبٍ هذا يمكنه اغتيال تلك الفرحة النابعة من بين مقلتي العسل؟.. أيُّ قلبٍ هذا يمكنه خذلان رجلٍ رائعٍ كهذا؟.. رجلٌ يحمل دفء الكون بأكمله؛ فالنظرة منه بمثابة شمسٍ دافئةٍ في أشد أيام ديسمبر برودةً..! هطلت دمعتان وحيدتان، وهي تهمس بصوتٍ مختنقٍ:
- بس ده حقك.
صعد بكفيه نحو وجهها ليحيط به.. وقطع دمعتيها بإبهامه.. يجيب بهدوءٍ وثغره يرسم أجمل بسمة:
- أنا حقي أخدته يوم ما حبيتك.. وباخده في كل مرة عينيكي تبصلي، وأشوف نفسي فيهم.
صمت لثوانٍ ثم هتف بإمتعاضٍ جديٍ.. عاقدًا حاجبيه:
- صحيح ليه كل ما تشوفيني تعيطي.. هو أنا كئيب للدرجة دي، ولا فقر ده ولا إيه بالظبط؟!
أفلتت ضحكتها رغمًا عنها، وهي تمحي آثار دموعها، محركةً كتفيها بجهلٍ.. هاتفةً بحيرةٍ:
- حقيقي ماعرفش ليه كل ما أشوفك أحس إني عاوزة أعيط!
- تقصدي إني نكدي؟!
لفظها بتهكمٍ محركًا رأسه باعتراضٍ لذيذٍ.. هاتفًا بنصف عينٍ:
- ربنا يسامحك يا أستاذة.. طالما كده ابقي شوفي لك تاكسي تاني  مرمطيه معاكِ.
ترجلت من السيارة بهدوءٍ.. محركةً كتفيها بلامبالاةٍ تحت أنظاره المتابعة:
- براحتك يا أوسطى.
*  *  *  *  *
مر أسبوعان من السعادة الحقيقة، وكأنما تعلمت على يديه معنى أبجديات العشق، وتذوقت نكهة الغرام الخاصة، اجتاحها بعشقه، وهي تائهة ضائعة بين دهاليزه.. لا تعلم كيف ولا متى، كل ما يهم أنها سعيدة بحقٍ.. سعيدة كما لم تسعد من قبل، امتزج بين أدق تفاصيل حياتها حتى أنه خالط أنفاسها وبات يعدها..!
حين قال أن المستقبل له وحده لم يكن يكذب أبدًا بل كان يعني ما قال فعلًا لا مجازًا.. والغريب أنها تشعر بالأمان لقربه بتلك الدرجة.. بعد ما لون حياتها، ومن اعتاد الألوان لا يمكنه العودة لسابق عهده حيث الأبيض والأسود فقط.. أخذت نفسًا طويلًا وهي تتناول الورقة الصغيرة بحرجٍ من بين أصابع إحدى الممرضات بالمشفى.. فتحتها ببطءٍ وعيناها تتبسم ضاحكةً مع حروفه المخطوطة بيده
"مستنيكي في الجونينه...متتأخريش عندي ولادة ( "
رباه!
كم يهوى الفضائح ذاك الإسلام..! طوت الورقة من جديد ثم وضعتها بجيب معطفها.. تحركت بعدها نحو الخارج حيث خطيبها المنتظر.. والنظرات حولها تكاد تلتهمها، ومصمصة شفاه الممرضات صاحبات السن الأكبر  التي اعتادتها.. بينما الهمسات تلازمها أينما ذهبت؛ فالجميع على يقينٍ الآن أنها ذاهبة نحو حديقة المشفى الأمامية لتناول فطورها أو للدقة فطورهما؛ فهو يصر على تناول الفطور سويًا.. وبما أن الوقت لديه لا يسمح لخارج المشفى.. أصبح الركن الأيمن من الحديقة خاصًا بهما، حيث منضدة بلاستيكية الصنع مربعة الشكل ويماثلها الصنع مقعدين دون ظهر.. وفطائر ساخنة بحشوات مختلفة ذات مذاق شهي.. مع قدحين من الشاي الساخن يأتى بوصاية خاصة من داخل المشفى.. وأهم من كل ماسبق.. زهرة صغيرة صفراء اللون بأوراق متفرقة قُطعت من أزهار الحديقة المهملة، مستريحة فوق المنضدة تنتظرها..
وها قد وصلت تختال أمامه، استقبلها ببسمته المعتادة.. وما إن جلست حتى امتدت يده لزهرته، ومالت هي للأمام قليلًا حتى ثبتها بجانب شعرها ككل يومٍ.. ربما يكون المنظر رائعًا للبعض ورديئًا للآخر.. لكنه ببساطةٍ يبهجها. نظرت حولها ثم هتفت بجديةٍ:
- إنت شطبت على الورد في أسبوعين.. وأصلاً الجنينة محتاجة حد يهتم بيها حرام سايبنها كده ليه؟
قدم لها إحدى الفطائر متبسمًا.. وقال:
- كلمت واحد ومن بكرا هيبدأ فيها ويظبطها أحلى تظبيط عشان نفطر بمزاج بعد كده.
رفعت حاجبيها وهتفت باستنكارٍ:
- هو إحنا هنفطر هنا كل يوم؟!.. إنتَ شكلك مش واخد بالك من نظرات الدكاتره والممرضات.. أنا بتكسف منهم قوي يا إسلام.
مال بجذعه للأمام حتى اقترب منها وهمس بعبثٍ مقلدًا صوتها في جملتها:
- أهو بعد "أنا بتكسف منهم قوي يا إسلام دي"، مستعد أخليها غداء وعشاء كمان.
هزت رأسها بيأسٍ، مع من تتحدث؟!.. أخذت نفسًا عميقًا وتركت مابيدها.. نفضت كفيها.. نظرت له قليلًا.. وتحدثت بنبرةٍ مترددةٍ بعض الشيء:
- إسلام..ممكن بقى نتكلم جد شوية، الفرح قرب.. وتقريبًا ماتكلمناش كلمتين جد على بعض.. لازم نتكلم عن حياتنا الجاية.. يعني في حاجات كتير لازم تعرفها عني.. وأنا كمان محتاجة أعرف عنك تفاصيل كتير.. إنت طول الوقت مشغول هما يادوب العشر دقايق بتوع الفطار وبالليل بتروح هلكان.. أنا مش بلومك؛ أنا عارفة أنه غصب عنك.. بس.. بس.. بجد احنا محتاجين نقعد قعدة طويلة ونتكلم فيها جد بعيدًا عن هزارك والذي منه.
نظر لها بمكرٍ وعاد يهتف بعبثٍ:
- بعيدًا عن الهزار ماشي، لكن الذي منه ماوعدكيش.
زفرت بحنقٍ، متكتفة الساعدين بصمتٍ مغتاظٍ.. فتحدث هو تلك المرة وبجدية تامة:
- خلاص  جد اهه.. النهاردة هخلص بدري ونروح نتعشى في أي حتة تختاريها وهنتكلم للصبح لو تحبي.. تمام؟
هزت رأسها بإيجابٍ، فتبسم لها وقبل أن يعود لدعاباته السمجة، علا رنين هاتفه فوق المنضدة، فزفر بامتعاضٍ وهو يقطع الرنين بالرفض.. فسألت بتوجس:
- مين؟
والرد حانق:
- مرات أبويا !
ارتفع كفها يكتم شهقتها الخافتة.. وهتفت متسعة العينين:
- هو أنكل اتجوز ؟!
قهقه بقوةٍ من مظهرها المصدوم، وأردف من بين ضحكاته موضحًا:
- أقصد بدر.. أرخم من مرات الأب الزنانة.
شاركته ضحكاته.. بينما نهض هو مغتاظًا.. ألا يستطيع الجلوس مع خطيبته لنصف ساعةٍ فقط دون مقاطعة؟.. نظر لساعة معصمه مغمغمًا:
- معلش عندي عملية ولازم أطلع دلوقتي.. أوعدك هنعوضها بالليل.
تبسمت بتفهمٍ.. واستدار هو مغادرًا بتثاقلٍ.. أدخلت يدها في جيبها فتذكرت.. لحقت به سريعًا هاتفةً باسمه.. وما إن استدار لها حتى أخرجت ما بحوزتها وقدمته بخجلٍ:
- اتفضل جبتلك معايا شيكولاتة، وكنت هنسى أديهالك.
التهم المسافه بينهما، وبعد ما قابلها في وقفتها تناول قطعة الشيكولا وهو يضحك بصفاءٍ:
- أهو أنتِ اللي بتشديني للذي منه.. بعدين ترجعي تزعلي.
تخضبت وجنتيها خجلًا..فاقترب منها يهمس بدفءٍ:
- لو سألتيني دلوقتي بتكره إيه؟ هقولك مابكرهش في حياتي قد الطب...
علا رنين الهاتف مجددًا.. فأردف بحنقٍ زاعقٍ:
- وبدر.
ليختفي بعدها من أمامها.. وهي مازالت تطالع أثره الراحل، وبسمتها تختفي شيئًا فشيئًا.. حتى باتت معدومة..
إلى متى لمار ؟ إلى متى ستظلين مأسورة بين نظراته وكلماته؟.. إلى متى ستظلين ضعيفةً؟.. مجرد اعترافٍ.. هو ماضٍ لا أكثر.. ارمي بثقلك له حتى يرتاح قلبك وتسعدي من أعماقك.. تخلصي من تلك الشوكة التي تنغز بكِ دون رحمةٍ.. أخبريه أنه كان عشقًا ضعيفًا للغاية اختاره قلبكِ حينها، فتغاضى عن أبسط حقوقه كمهنته التي عرفتها بالصدفة من حلته!..
أخبريه أنكِ أحببته لصورته لاغير؛ فأقصى معلوماتكِ عنه كان اسمه..
أخبريه أنه كان بالضعف الشديد، ونسيته بمجرد ظهور عشقٍ حقيقيٍ تملك منكِ فتخلصتي من ذاك المزيف..
أخبريه.. فقط أخبريه.
رفعت كفها ووضعتها فوق خافقها وتردد بذهنها.. رباه! أي جنةٍ وأي نارٍ اللتين أحيا بينهما.. هل أخفي الأمر كما تفضلت "تالا" قائلةً؟
هل سيدير ظهره ويتركني ما إن يعلم؟!
أم أعترف له كما نصحت "روان" وأترك له حرية الخيار؟
لكن ماذا إن تركني؟!
زفرت بضيقٍ وهي تفرد ذراعيها بقلة حيلةٍ.. ألهذه الدرجة تخافين فقدانه؟.. كم هي غريبةٌ عجلة الأيام، لقد جاء لمنزلكِ منذ شهورٍ طالبًا الوصال، ورفضته لأجل أخيه! 
والآن أنتِ من تخافين فقدانه.. لا تكوني ضعيفةً.. اقتنصِ الفرصة وأخبريه..
كم من الفرص ضيعتها والزفاف يقترب.. وأنتِ لن تكوني زوجته قبل أن تخبرينه.. لن تخدعيه؛ فهو لا يستحق... أبدًا لا يستحق.
أنهت حوارها مع نفسها، وعادت لعملها تمارسه بتكاسلٍ وخمولٍ على غير عادتها.. تحضر بذهنها وتنمق اعترافها الذي ستدلي  به الليلة.. لا مجال.. ستخبره وانتهى.
*  *  *   *   *
في المساء وفى بوعده واصطحبها لعشاءٍ هادئٍ في أحد المطاعم على الشاطئ حيث هواء البحر المنعش ورائحته الخاصة.. تناولوا عشائهم بصمتٍ إلا من بعض كلماته الغزلية التي كان يلقيها من وقتٍ لآخرٍ.. وهي صامتةٌ تدخر آخر لحظات السعادة؛ لا تعلم هل ستعيشها من جديدٍ بعد ما تدلي باعترافها الآن كالمذنبين.. طالعت وجهه الباسم للحظاتٍ بصمتٍ بينما هو يطالع نظراتها الغريبة تلك بتوجسٍ.. ولا يعلم مما هي خائفة على الدوام، لم لا تستشعر معه الأمان وتستكين بين قلبه وتريحه، لقد تغير لشخصٍ آخرٍ يفعل أشياءً لم يكن يومًا ليفعلها لولا وجودها هي، غادره تعقله ورزانته وأصبح يتصرف كمراهقٍ لا رجلٍ على أبواب الثلاثين.
فتحت فمها تنوي حديثًا، و تلك المره لا رادع سيوقفها.. وقبل أن تصل حروفها  للخارج.. علا رنين هاتفه اللعين مرةً أخرى.. وفي غضون دقائقٍ انقلب العشاء لحالة طوارئ، الهاتف لا يكف عن الرنين..
رجل يزعق بأن زوجته تلد، ومهاتفة من المشفى يطالبون بحضوره على عجل.. ويعود الزوج مرةً أخرى.. وهو يتنهد بضيقٍ، ويصدر أوامرًا بتجهيز حجرة العمليات ومن ثمَّ يهدئ ذاك الزوج بأن كل شيءٍ سيكون على مايرام.. وهي فقط تطالع نظراته الغاضبة بصمتٍ، وما إن هدأ هاتفه حتى نظر لها بأسى.. فقطعت هي تلك النظرات هامسةً بضيقٍ:
-مفيش مشكلة.. نكمل كلامنا بعدين.
نهض من مكانه غاب لدقائقٍ وعاد بعدها.. وما إن نهضت بدورها حتى ترحل؛ فطريق المشفى ومنزلها مختلفان تمامًا، قطعها هو بصوته الأجش:
- استني رايحه فين؟ أنا كلمت باسل.. عشر دقايق وهيكون هنا؛ هيوصلك للبيت.
ازدردت لعابها، وحركت رأسها بوجومٍ رافضٍ ثم همست بتحشرجٍ مرتبكٍ:
- لا.. لا.. أنا هروح بتاكسي مافيش داعي.
والرد مع رفع الحاجبين:
- تاكسي إيه ! شايفة الساعه كام؟ لا طبعًا مينفعش.
وأردف بهمسٍ حانٍ.. دافئٍ:
- أخاف عليكِ.
تجاهلت همسته الحانية، تجاهلت بسمته التي احتوتها كلها.. فقط رفعت عينيها تستجديه أن يتركها ترحل وكفى:
- يا إسلام بجد ما...
قاطعها هو بكفه المرفوعة تجاه فمها حتى تصمت.. وبالفعل صمتت بعد جملته ونظرة عينيه من فوق كتفها:
- خلاص أهو باسل وصل.
وببساطة غادر بعد أن تركها.. بأمانة أخيه.

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن