(28)
دوامة عشق"بعد مرور ٦ أشهر"
تمضي بنا الأيام والشهور ؛ تطوف بنا كالبرق وقتما تغمرنا السعادة وعلى العكس ؛ تطول كالدهر حينما تتلبسنا الأحزان والآلآم ، نستشعر خذلان الأيام ومن حولنا فتغدو بنا الحياة برمادية مشوشة لا نرتقي فيها للبياض ولا نغرق وننتهي في سوادها ؛ فقط معلقون بين هذا وذاك ..ستة أشهر كاملة بطولها وعرضها وهو على حاله منذ أن غادرت بيته في دجنة الليل دون علمه ؛ كأنما تعاقبه وترد له صاع قسوته بصاعين أفقداه لذة الحياة ، لم يترك مكاناً واحداً يحتمل وجودها فيه إلا وبحث فيه بنفسه ؛ ولا جدوى ؛ تبخرت أختفت عن العالم ولا أثر ، اقتحم منزل أبيها وزوجته ؛ فتشه كل إنش فيه ونفس النتيجه ، هاتف والدها المتجبر وبكل نزق أخبره أنه لا يعلم عنها شئ ، وعلى الرغم من برودة الرجل لم يكتفِ بل قام بزيارته حينما علم بوجوده في البلاد ، تحمل التقريع والإهانة فقط ليحظى ببضع معلومات قد تخص اقارب او أصدقاء حتى يلتقط اول الخيط ولا فائدة ترجي لا أحد يعلم شيئاً ، حتى والدتها فكر فيها قد تكون ذهبت إليها ؛ لكن ضاع الأول حين قابلته صدمة المرأة وقلقها الذي استشرى في صوتها ؛ بل وقلقلها كل يوم وآخر فباتت مكالماتها متصلة دون إنقطاع تبحث وتأمل عن إجابة..هل وجدتها ؟.
وماذا يفعل رجل قيد يديه مجهول ؛ يبحث عن إبرة بين كومة من قش ، حتى صديقتها الوحيدة "لمار" ذهب إليها ، توسلها أن تريح قلبه وباله لكن قابلته حيرة الصديقة والنظرات المشفقة وهتاف تواسيه به ربما.
-أحلف لك بإيه إنها رافضة تقول لي عنوانها ، بتكلمني تطمني على نفسها وعلى البيبي لكن مش بتسمح لي أشوفها أو نتقابل .
صمت بقلب مثقل وأنفاس مهتاجة ؛ متحشرجة ، ألا يكفي فقدانها هي فاكتمل الأمر بوجود طفله ؛ الذي طالما تمناه وحين استجاب ربه له حُرم منها دون وجه حق ..وكلما مضى شهر كلما زاد اليأس وخفت الأمل وتوارى ، كيف حالها يا ترى ؟ كيف تتحمل معاناة حملها ؟ وكيف ستستقبل مولودها بعد أشهر قليلة من الآن ! ولدا كما تمنى أم فتاة فاتنة كأمها ؛ تقسو عليه ويلتاع قلبه لأجلها ؟!
-خلاص كده يادكتور ولا في حاجه تانيه ؟.
قطع شرودة الذي طال مريضته التي تواجهه في جلستها ، نفض رأسه مغمغماً بهدوء:
-لا مافيش إتفضلي وعلى معادنا بعد إسبوعين باذن الله
بعد خروجها استند برأسه للوراء يغمض عيناه بتعب وإرهاق ، فهو لم يجد غير العمل ليغرق به ليل نهار وإلا كان سيجن من كثرة أفكارة المتلاطمه برأسه ، وهتاف أجش قطع خلوته من جديد :
-انت لسه هنا مش مروح ولا ايه ؟
-شوية وهروح
حرك مراد رأسه بينما تقدم بخطواته حتى واجهه في جلسته ؛ سائلاً بتوجس :
-مافيش جديد برضوه؟
نفى بصمت مطبق وعينين قاسيتين مع لمحة سخرية ..أي جديد قد يحدث بعد شهور !
-ماتقلقش طالما مافقدتش الأمل مسيرك تلاقيها .
والصمت حليفه ؛ هو بالأساس يرفض الخوض في ذلك الأمر مع أيٍ كان ؛ والآخر يدرك ذلك جيدا ؛ وعلى الرغم من ذلك يتطفل حتى يدعم ويساند حتى لو ببضع كلمات لا نفع منها ولا ضرار..تبسم له ونهض مغادرا المكان ، فنهض بدوره ، يعود لمنزله حتى يلقي بجسده المنهك فوق الأريكة ، يتعمد انهاك حاله حتى ينال رفاهية النوم ؛ فلا ينالها ولا يستقطع من الراحه جزءاً ، فقط ضحكاتها ونبرتها تخترق وحدته وتدوي داخل أركان روحه ؛ فيغضب ؛ يسب ويلعن ؛ وفي النهاية ككل ليلة يمني حاله بخبر عنها .
* * * * *
خطوة واسعة ؛ هادئه ، أخرى و أخرى ، وأخيراً باب فتح وأغلق خلفه بحذر ، تخلص من سترة تقيده ثم انسل بجسده داخل الفراش ، يحيط خصرها لثوان مع قبلة شغوفه طالت خصلاتها ، من ثم يمسد بطنها المنتفخ بكفه وهمسة خافتة يطلقها بتنهيدة:
-وحشتوني .
والنبرة الناعسة ترد على إشتياقه :
-مش قولت جاي بكرا ؟!
رفع حاجبه الأيسر بتهكم :
-هي دي وإنت كمان بتاعتك !
وضحكة خافتة وازت استدارة جسدها بحركة خاطفة لا تناسب من في وضعها ، تتعلق في عنقه بطفولية وتقبل وجهه أينما كان وفقط تردد بلا توقف :
-وحشتني ..وحشتني ..وحشتني
والأخيرة تصحبها تنهيدة وإلتقاط انفاس:
-وحشتني قوي
وبعد تلك الأخيرة لزمها ختمه الخاص حتى يروي ظمأ غياب شهر كامل ، وبعدها ضمة طالت عن اللازم حتى ظن أنها غفت بين أحضانه :
-لدرجة دي وحشتك ؟
-امممم أكتر ما تتخيل
رفع كفه من جديد نحو بطنها المنتفخ هامسا :
-لسه بتتشاقى ؟
برمت شفتيها وهي تضع كفها فوق كفه :
-يعني شوية ..طالعه لباباها الاتنين مغلبيني
تبسم مشاكساً ثم جذب من جواره دمية محشوة :
-شوفتي جبت لها إيه ؟
ضحكت بقلة حلية وهي تلتقطها منه ، تطالعها ؛مخبره إياه :
-حرام عليك يا باسل دي لسه ماشرفتش وبقى عندها صندوق عرايس ..وبعدين هو مافيش أي العاب تانية بتقابلك غير العرايس !
حرك رأسه بلا فضربته بالدمية في كتفه بغيظ مكتوم فتابع هو مردفا ؛ بعد ما جذبها له عنوة من جديد :
-هما ٤٨ ساعه هنقضيهم في الخناق !
وقبل أن تزمجر او تعترض بدلال كان يقطع عنها انفاسها و...وطرقات متتالية على الباب حتى كاد أن يسقط فوق رؤوسهم جعلته يبتعد بغيظ ؛مزمجرا بحنق:
-مييييين ؟!
والصوت الغاضب يخترق الابواب والجدران:
-باسل اخرج حالاً ..عاوزاك .
خبط جبهته بتذكر.. اللعنة ؛ كيف له أن يعود قرب الفجر ويصعد لغرفته يلتقي بزوجته أولا ويترك لقاء والدته التي ربته وتعبت لأجله أياماً وليالي حتى صباح اليوم التالي ؛ يفضل عليها زوجته بئس الولد أنت باسل..و ..والكثير من تلك الأحاديث ؛فذاك هو الحال منذ أن أصبحت إقامته مع والديه ببيت واحد ؛ وكان عليه تخطي كل ذلك كما يفعل دائما بقبلة وابتسامة يصحبها تثئاوب ..لكن واللعنة عليه قد نسي هذه المرة وعليه الآن مواجهة أمه الغاضبة ، وذلك يعني شيئاً واحداً ؛ تبخر أربعين ساعة من العطلة والثماني الأخرى ستقسم بين الأولى والثانية في محاولات استرضاء مميته .
أذنيه تستمع لنداء والدته الغاضب وعينيه تتابع تكتف ذراعي زوجته وساقيها المتحركين بغيظ مكتوم؛ تنتظر شرارة حتى تنفجر هي الأخرى ..زفر بقوة بينما قدماه يتحركان للباب ؛ فتحه عنوة بغيظ فقابله وجه أمه الغاضب والنبرة ساخطة:
-إيه مافيش سلام ولا حتى كلام ..خلاص بنت آمال أخدتك لحسابها !
زفر بملل وهم أن ينطق فقطعته الأخرى من خلفه:
-بلاش تحشري اسم ماما الله يرحمها في كل حاجه يا مرات خالي .
والشهقة قطعته للمرة ثانية :
-قولت لك الف مرة ما تقوليش مرات خالي دي ..إنتي فاكرة نفسك في البلد وقاعدة على الترعة !
تراخت في جلستها فوق الفراش ومصمصة شفاه ممتعضة يصحبها ضرب كف على آخر:
-دلوقتي البلد بقت وحشة ؛ ما إنتي متجوزه منها ؛ وخالي وعياله دول أصلهم إيه يعني ؟!
-فرحة !
والزعقه كانت باسمها مع النظرة الصارمة فلزمت الصمت ؛ استدار بعدها يواجه أمه من جديد وقد فاض الكيل وزاد ؛ غمغم من بين ضروسه:
-سايبه جوزك يا شاهي وجاية ليه ؟!
طالعته بتوعد ؛ فتكأ بجذعه على الإطار متكتف الساعدين والساقين ؛ يستعد لاستماع إسطوانتها المعتاده :
-بتنصفها على أمك اللي ربتك وتعبت معاك ؛ ده أنا كنت هموت وقت ما كنت في المستشفى ؛ بقى ده جزاتي يا باسل ؟
ونهنهة خافتة معبقة بدمعتين يتيمتين صاحبت كلماتها غرضها استدرار عطفه أكثر ثم رحلت عنه معلنة الخصام عقابا يستحقه ؛ فاستدار بدوره للداخل مغلقاً الباب ؛ عائداً لموضعه السابق ..تراقب اقترابه ناحيتها وابتسامتها تتسع بظفر ؛ اقترب أكثر حتى لفحتها أنفاسه ؛ فأغمضت عينيها ومازالت بسمتها محفورة بين شفتيها ؛ والثوان التالية انقطع عنها خيالاتها إثر سقوطها جانبياً على الفراش بعدما سحب الوسادة عنوة مبتعداً عنها ؛ ثم سحب الشرشف ؛ تاركاً لها الفراش خالياً ، وقبل أن يصل للباب صرخت فيه بغيظ:
-إنت رايح فين ؟!
استدار لها بشبه عاصفة ملوحا بكفه ؛ زاعقاً بسخرية:
-رايح في داهية ..تيجي ؟!
ولا رد آخر على سخطها وغضبها فقط صفع الباب عقب خروجه بعنف مهمهاً لحاله:
-جاتكو الهم .
.......
والصباح يعني سفرة فطور عامرة ؛ مقادة من كلا الطرفين بالغيظ والحنق وفي المنتصف بينهما يقبع ببروده المعتاد ؛ يتناول طعامه بسكينة غير آبه لحرب الضروس الضارية ؛ الواقعه بين أمه وزوجته ، ولمحة عين يمني بها حدقتي فرحة ضائقتين بتوعد ولمحة أخرى من بين القضمات من جهة اليسار يرى بها جلسة شاهي المتحفزة وساقها المهتز برتابة ..وأخيراً نفض كفيه ثم استقام واقفاً وقبل أن ينوي حديثاً كانتا تتعلقان كلتاهما بذراعيه عنوة ؛ كل واحدة من جهة ، والجملتان خرجتا معا في آن واحد :
-أنا عندي معاد مع الدكتورة تعالى معايا.
-باسل وصلني عن خالتك نوجا
وهو لن يضيع المتبقي من العطلة في مجاراة غيرتهما الهوجاء ؛ وكل واحدة تريد الظفر به فقط لتكيد الأخرى ، فقد مل من تلك الحالة البائسة في كل مرة يسترضي هذه وتلك ؛ يأتي على حاله على حساب راحتهما ..رفع ذراعيه ؛ يتخلص من قيدهما بلطافة ؛ ثم نفض عنه غباراً وهمياً وانصرف أمام ناظريهما ملوحاً بكفه مع قبلة فوق السبابه والوسطى نثرها لهما في الهواء و...:
-تقعدوا بالعافية .
* * * * *
في مكان آخر حيث يبعد أميالا ومسافات ؛ حيث اللون الأبيض يلون المدينة ونثرات الثلوج تعبق الأجواء ، بينما قدح القهوة بين كفيه ؛ يرتشف وعيناه شاردة مع شاشة الحاسوب أمامه ؛ صورة ذات لقطة جانبية حيث نصف الابتسامة الصافية والفراشة الذهبيه تحط فوق خصلاتها البنيه ولمعة مقلتيها كانت تخصه ، ونصف الابتسامه تخصه الآن ؛ يدعي النسيان بينما جهازه تتخم ذاكرته بصورها ؛ يوبخ عقله عله يتوقف عن التفكير بها فيهزأ به ، والذنب ليس ذنب جهاز يحفظ صورها ولا عقل ادمن التفكير بها ؛ الذنب ذنب قلب وشم بعشقها ؛ فبات يأبى التوبه والرجوع .
-حبيبتك؟
والنبرة الدخيلة ؛ لطبيبة حديثه التخرج؛ تتدرب على يدي أحد الزملاء داخل المشفى الكبير الذي يعمل به الآن ؛ صغيرة ذات قلب غر ؛ صهباء منمشة بدرجة فتنة ؛ لا تكف عن ملاحقته طيلة الوقت ؛ تتطفل وتثرثر بأحاديث واهية ؛ ونظرة العشق بين مقلتيها لا تخفيها ؛ تظن ستناله بها ؛ وهو فقط يتخذ من التجاهل مسلكاً..والرد حتماً بنية إنهاء حديث يكره الخوض فيه:
-لا
رد مختصر دون مواجهة عيون ؛ وازى ضيق عينيها نحو الشاشه من جديد :
-جميلة جدا وناعمة.
قطع عنها تفحصها بغلق الجهاز وهمهمة خفيضة:
-نعم هي كذلك .
دارت حوله ؛ أزاحت ما أمامه من أوراق وحاجيات وجلست قبالته تتوسد المنضدة بأريحية ؛ وتلح بأسئلتها من جديد :
-ألن تخبرني من تكون إذاً ؟.
والزفرة مع زيغ النظرات عنها تعني يكفي :
-لا أحد ..فقط لا أحد .
وتلك المرة النبرة حانية ضمنت جرأة ؛ أنامل رقيقة تمرر بعبث فوق الوجه:
- لكن عينيك بهما شئ آخر!
أبعد وجهه قليلاً يقطع عنها عبثها والرد جاف حد الملل:
-كما أخبرتك روزالين هي فقط لا أحد .
وهي لا تمل ولن تبتعد بل نهضت واقتربت أكثر تلك المرة تنوي إحراز هدف :
-إذن أخبرني لما دائماً تبدو شارداً ..حزيناً ؟!
ووجهه بات أسير كفيها ؛ عينيها تتيه داخل حلاوة العسل ؛ وتتمنى فقط لو تفك طلاسمهما ، والنظرة انحدرت نحو الشفاه ؛ مع أنفاس لاهثة متبادلة ؛ غريزة رجل تناشد بالتحرر وجوارح تأبى الرضوخ لرغبات لحظية ستؤل بالندم ما إن تنتهي ؛ وحين أوشكت الشفاه على اللقاء حد التلامس ؛ ابتعد للوراء ..من ثم انتفض من جلسته يقطع عنها أي خطط جديدة ، مخبراً إياها بإيجاز:
-لا روز ..لن ينجح الأمر .
ونبرتها خرجت بضيق وهي تتشبث بذراعه قبل أن يتخطاها:
-لماذا ؟ هل أبدو لك سيئة ؟! ألا ترغب في علاقة !
-لستِ بسيئة أبدا ، وانا لا أفضل ذلك النوع من العلاقات ..
صمت ثوانٍ يتابع ملامحها مردفاً بصدق:
-المشكلة تكمن بقلبي ؛ فقدته منذ زمن واعجز عن استرداده .
صمتت بدورها تنظر له بأسى وخيبة أمل بعد ما خطى مبتعداً عنها ببسمة باهتة.. وجمتله الأخيرة كانت تخصها يوما بينما اليوم يعيد هو صياغتها لأجل الهدف نفسه .
* * * * *
حكايا العشاق دائمًا ما تبدأ بإشتياق !
وربما غضب ؛ وتحطيم كل ماهو حولك حتى تدمي أصابعك ويؤلمك قلبك فتنهار على حافة فراش ؛ تطالع من حولك المكان وتتمنى لو تسقطه حطاماً فوق رأسك ..
وهو غضب وحطم وبالأصل كان السبب اشتياق !
اللعنه عليها تلك الرعناء؛ لقد قارب على حافة الجنون وهي السبب ؛ لو فقط يقف بصفه القدر لدقائق ويرسلها له ؛ سيدق عنقها ؛أجل ستنال العذاب ألوان على يديه وبعدها ..! وبعدها سيطمئن قلبه وتقر عينه ..زفر بضيق وهو يفكك ازرار قميصه ..الحمقاء تهاتف أختها وصديقتها تطمئنهم على حالها وصغيرها ..نعم صغيرهما الذي على مشارف الوصول دون أب ؛ فهو على الرغم من غيابهما يحسبها باليوم ؛ ربما الغد أو ما يليه او آخر إن كثر وسيواجهه العالم لأول مرة دون أن يكون بصحبته ..أين هو من كل ذلك ؟! هل يكفيه خبراً عنها من أخت او صديقه ؛ هي تريد ذلك ؛ تصله أخبارها عبر وسيط تخشى المواجهة ؛ أنها تعلم جيدا بجثم خطأها ...جال بنظره في أركان الغرفة ؛صدى ضحكاتها تدوي ؛ هيئتها تنهض مشعثة الشعر هنا ؛ وهناك كانت تهرع له ما إن ينقطع التيار تلتصق فيه ولا تتركه فتغفو على كتفه متشبثة فيه ، ويكاد يقسم أن صوت نهنهتها الخافتة ونحيبها الصامت يدوي الآن بالمكان ...ألم تعد بحاجة لحامٍ الآن ؟! كانت فقط دخيلة على حياته وبعد ما قلبتها رأساً على عقب ولت ظهرها غير آبهة بما خلفته خلفها.
وماذا عنه ؟ أحمق ؛ أرعن ، يستحق كل ذلك ..كيف لم تلحظ حملها ؟! كيف لم تدرك ما تمر به من ظروف لتأتي وتكتمل حياتها البائسة بهجرك وجفائك ! من لها غيرك ياأغبى الرجال ؟ ظنت حالها ثقل وجثم عليك فسلكت طريقاً بعيداً عنك؛ لو تفتق ذهنك حينها لأدركت ما قد تؤول له الأمور..
والكثير الكثير من ذاك الازدحام يتخبط داخل رأسه ؛ حتى كادت أن تنفجر بفعل الصداع وبفعل ذلك الزحام المتعب ..مال برأسه للأسفل يحتويها بين كفيه ؛ يمسح عنه تعبه الداخلي والخارجي ..و
وطرقات متتالية بتناغم سريع ؛ أجفلته بغرابة وتعجب فالساعة قاربت على الفجر ، تحرك بتثاقل مغلقا خلفه باب غرفتها ، وحين فتح قابله وجه الجارة الودودة ؛ اقتنص بسمة هادئة قابلها بها ؛ اختفت ما إن لاحظ تجلجل المرأة وقبل ان يسأل أتاه الجواب :
-مراتك تعبانة ..شكلها بتولد !
وعقب جملتها رفع بصره نحو باب الجارة بغتة ؛ ولا يقسم فقط بل يؤكد ان همهمتا حقيقية ويسمعها بوضوح من خلف ذاك الباب المفتوح ؛ عاد لها ببصره ودون وعي اخذت قدماه تتحرك بآلية بينما يضرب مسامعه كلمات المرأة المردفة خلفه:
-ماتزعلش مني يابني هي لجأت لي وطلبت ماحدش يعرف مكانها ماقدرتش أكسفها أو أكذب عليها بعد ما وعدتها
وكأنه عزل عن العالم الخارجي وأصبع داخل فقاقيع معزولة ؛ كل ما حوله يبدو غير حقيقي ؛ وفقط ضجيج يعث داخل رأسه أكثر وأكثر؛هل كانت طيلة الوقت هنا ؟! على بعد أمتار قليلة منه ! ..صورتها فوق أريكه ببطن منتفخ ؛وثوب فضفاض يكسو جسدها بينما يعلو خصلاتها الذهبية وشاح صغير ؛ تجلس بتململ متألم وملامح متغضنة مصحوبة بتآوه وعضت شفتين قاسية ..يقترب خطوة فيعلو نحيبها أكثر ؛ حتى أشرف عليها من علو يطالعها بجمود بينما عينيه مصوبة عليها وهي تبادله نظراته تلك بأخر مضطربة ..وحين هتف بهسيس خطير كانتا قبضتيه تتكوران بقسوة في جانبية:
-طول الوقت كنتي هنا ! وأنا مابطلتش لف حوالين نفسي لشهور..حلال ده ولا حرام اللي بتعمليه فيا ؟!
والنحيب مع سيل العبرات يعرف طريقه جيدا عبر وجنتيها والهمسة بإسمه تعني الكثير:
-بدر..
ولن يصمت ، فكل ما قام بكبته طيلة شهور الماضية وحبسه بين ضلوعه حتى بات موجع حد الألم ؛فجرته هي بهمستها تلك ، لذا عاد وزعق ..صرخ ورج الجدران:
-بدر إيه وزفت إييييه ! إنتي عاوزه تجننيني !!
وكفيه يطوحان في المكان كيفما شاء ؛ بغضب يتأجج بداخله وحنق يكاد يفتك به ..وصمت ينظر لها من علو بعيون مقادة كجمرتين مشتعلتين وأنفاس لاهثه بفعل حممه الداخلية..
وحين شعرت بأنفاسه الساخنة تلفح بشرتها بقوة ؛ انهارت بالفعل والنحيب تحول لصراخات مكتومة يفلت أغلبها فيدوي في المكان رغما عنها ؛ وتلك المرة غمغمت من بين شفتيها :
-أنا خايفه ؛ ماتزعقش !
والصرخة ترج الحارة بأكملها:
-وهو انا كده بزعق ؟!!
وأكمل مردفاً بهياج وسبابه متوعدة:
-تعملي عملتك وترجعي تقولي خايفة !بس المرة دي عديتي كل الحدود وقسما بال..
وكأن الرؤيا بدأت تعود لطبيعتها بعض الشئ الآن فقط، فقطب جبينه وحاجبيه في استهجان ؛ مستفسراً بصدمة وقد خفضت نبرته تلقائيا:
-إنتي بتولدي ؟!
والهزة كانت "بنعم " مصحوبه بتآوهات مكتومة وهمهمة ينضح منها الألم ؛ وفوق كل ذلك نحيبها المستمر ..الآن فقط استيقظ ووعي لحالتها المروعة ؛ فاقترب أكثر يساعدها على النهوض في عجل مخبراً إياها بإقتضاب :
-لازم نروح المستشفى.
وبعد جملته ومساندته تركت ثقل جسدها عليه ؛ تحاول استجماع قواها فتفرقها آلآمها المستعصية ؛ وهو يتحرك سريعا يتخطى منزل الجارة قاصداً منزله ، يبحث عن شئ ملائم لترتديه حتى يذهبا على وجه السرعه ؛وعاد غضبه وتأجج حين واجهه الصوان الفارغ فتذكر أنها حين رحلت أخذت جميع ملابسها .. أوقفته صرختها القوية مع السائل الدافئ ؛ المتدفق بغزارة بين وركيها ، على أثرها جاءت الجارة تهرول لهم من جديد بعد ما قررت تركهم بمفردهم ظنا منها هناك متسع لتسوية حساب الشهور الماضية ؛ وهو ينهي الأمر بجملة واحدة:
-مافيش وقت هتولد هنا ..تعالي ياست معالي ساعديني
وهي مستلقيه كما امرها تراقب تحركاته السريعة والصرخة تلك المرة خرجت مضطربة بخوف متهدجة بألم:
-بدر أنا خايفة !
وازى نبرتها اقترابه السريع ؛ يمسح جبينها المتعرق بقطعة قماش؛ والدموع محاها بآنامله وهو يهمس لها بطمأنينة:
-ماتخافيش ..انا معاكي مش كده
وهزت رأسها الاخرى جعلته يعود لموضعه يبدأ مهامه وتقترب منها المرأة ؛ تضم وتوصي بتحمل .. وعضة قوية فوق قطعة القماش صحبها دفعة قوية ..وأخرى ..وأخرى
وبعد دقائق بين جدران تلك الحجرة التي تخص والديه ؛ وكما صدحت صرخاته فيها من قبل ثلاثين عاماً ؛ فعلها إبنه من جديد معلنا عن قدومه ..بينما صدحت زغرودة الجارة مع هدوئها وسكونها وثغره المنفرج ببسمة صافية ؛ لف الصغير بمنشفة كانت تجاوره ثم حمله بين ذراعيه ؛ هامسا له كأنما يسمعه ويفهمه:
-مصطفى بدر مصطفى زهران
وحين انتهى من الآذان والإقامة في أذني الصغير ؛ تحركت المرأة تنظف المكان من حولهما بينما هو اقترب نحوها أكثر ؛ يدعمها بذراعه حتى توسدت صدره والآخر كان يحمل به مولوده ؛ طالعته بعيون غائرة بدموع فرح ؛ فوضعه لها برفق بين ذراعيها ؛ تتأمله بعشق يخصه منذ أن كان مجرد نطفة داخل رحمها ، تلك الملامح المنمنمة تخصها ؛ قطعة منها ..طالع دموعها فوجدها عادت تهطل من جديد فمحاها برفق ؛ بينما ذراعه يلتف حول كتفيها يحيطها والصغير معا ؛ رفعت رأسها تنظر له بأسف ؛ عتاب وامتنان في نفس اللحظه ؛فاقترب أكثر حيث ارتكن بجبهته فوق جبهتها وهمسته تلك المرة كانت لها وحدها:
-ماعنديش أغلى منكم ..بحبك يا أم مصطفى
وضحكتها الواهنة امتزجت بضحكته ؛ تدفن رأسها في تجويف عنقه وتهمس له بدورها:
-وحشتني..
والضمة التالية تصرح بإشتياق ؛ والقبلة تصرح بإعتراف ، وعن النظرة فكانت وستظل مرفأ الأمان .
* * * * * *
" بعد مرور عامين "داخل أروقة أحد مراكز التسوق الأكثر شهرة في البلاد ؛ في ركن قصي تحديدا كان يدور نقاش انثوي محتد:
-أنا عايزه أدخل سينما بقالي كتير مادخلتش
-مرة تانية يا لارا دلوقتي معانا تالي أكيد مش هعرف أركز
نفخت الأولى بضيق فضحكت الاخرى لإعتراضها الطفولي؛ فهتفت الثالثة بضجر:
-أنا بقول نروح كفاية كده رجليا ورمت من اللف
طالعت روان صغيرتها ذات الثلاث سنوات داخل عربة التسوق مغمغمة:
-انا بقول كده برضوه ؛ تاليا عايزه تنام
زفرت لارا باحتجاج:
-اووووف أنا أصلا إيه خرجني معاكم ، مملين بشكل لايطاق
لكزتها روان في مرفقها موبخة:
-احنا خرجنا اصلا بعد وصلة زن معتبرة منك ؛ مالها قعدت البيت مع فيلم أبيض وأسود وطبق فشار وتحابيشنا إياها ، طيب والله أحسن من السينما ألف مرة
ضحكت بتهكم فعادت تزجرها من جديد ؛ بينما تلك الاخيرة تطالعهم بملل وعيون تناشد النعاس :
-خليكم إتخانقو ؛ انا وتالي مروحين ، ده فاضل شويه وننام على روحنا يا بشر
وبعد مناوشة صغيرة هممن برحيل قبل أن تخبط أصغرهن جبهتها بتذكر:
-يييي نسيت اللي ماما قالت لي عليه ..هروح أجيبه في السريع
وعقب كلماتها سحبت إبنة خالتها من ذراعها على عجل حتى تصحبها ؛ بينما الاخرى الواقفه تتمتم لهن:
-إنجزو طيب.. وانا حستناكم برا
ومداعبة لأنف الصغيرة الشبه ناعسة داخل العربة قبل أن تدفعها ببطء متحركة بها نحو الخارج ..وشرود مع عروض تخص منتجات جيدة نتج عنه تصادم سريع..واستدارة مباغتة لكلا الطرفين مع إعتذار سريع لكلاهما:
-آسف.
-آسفه
لم يتوقف الزمن في لحظتها ؛ أو ربما هو لم يمضِ من الأساس ، فالنظرة هي ؛ واللمعه هي ؛ والخصلات مجمعة في عقدة عالية لكنها هي بذاتها لا يمكن ان تتيه عنه ..وعنها ..صوته هو ؛ دفء العينين هو ؛ وتلك الهالة المحيطه به أينما ذهب مازالت كما هي ..وعودا حميدا لزمن التصادف الجميل ..
وبعد دقائق لم تطول حاول الخروج من حالة التيه المسيطرة على كليهما فكان هو المتحدث أولا:
-إزيك؟!
وتذبذب حدقتيها كادتا ان تفضحاها
فأخفضت بصرها تلقائيا متنحنحه بخجل ؛ مردفه بهمس:
-الحمد لله على كل حال ..إزيك إنت يادكتور؟
ولفظ "دكتور" تعني أن الشهور والسنوات الماضية تركت بصمتها على كلاهما مهما أنكر لقاء المقل ذلك..فهمهم بدوره:
-الحمد لله
والنظرات التالية تمر فوق تلك التي بصحبته ؛ وبين عينيها سؤال يخصها فضح رغما عنها ؛ ولم يخفى عليه كل ذلك ؛ وحتى يريحها قدم لها الجواب؛ دون سؤال بإختصار سريع:
- غزل.
أنت تقرأ
دوامة عشق
Mystery / Thrillerيقع طبيب النساء والتوليد "إسلام الشافعي" في قصة حب من طرف واحد حيث يخبأ له القدر الكثير من المفاجآت الغير سارة.. على صعيد آخر يحلق كابتن الطيران "باسل الشافعي" على متن رحلة من الأسرار يخفيها خلف قناع المسؤولية والسخرية أحيانًا.. فيما تتقدم الآنسة "ت...