(23)
فراق أم عودةأنهت مهامها اليوميه سريعا وتركت "ماما راوية " بأمانة الجارة الطيبه ..لن تنسى نظرته الحانيه، الدافئه التي شملها بها حين سمع منها كلمة ماما تلقب بها والدته..ذهبت لزيارة رفيقتها المسكينه ذات الحظ العثر، تألمت لأجلها، عبراتها لم تجف بعد ..تبكي فقدان الصغيرة وتبكي عشقاً وظل رجل تشتاقه حد الظمأ ..تنهدت بيأس وهي تترجل من السيارة بخطوات وئيدة وبينما كانت تمر بين اروقة المشفى، تحي تلك وتلوح لأخرى باشتياق فرغم مدة عملها القصيرة هنا إلا أنها كونت عدة صداقات لا بأس بها، لاح على ثغرها بسمة هادئة، لطالما كرهت الطب والمشفيات، لكن هي ممتنة فقط لكونهم سبب في جمعها مع حبيبها .. فور خروجها من منزل "لمار" قررت أن تأتي إليه ويعودان للمنزل سوياً بدلاً من أن يشقى في المواصلات العامة..تذكرت غزله الصريح الصباحي فتخضبت وجنتيها وعضت على شفتيها تكتم ضحكة منفلتة رغما عنها ..وصلت وجهتها أخيرا ..عدة طرقات على باب الحجرة ولم تنتظر إذناً للدخول على زوجها ..واربته وأطلت بوجهها الباسم :
-مساء الورد
رفع القابع خلف مكتبه عينيه وحاجبيه في استنكار صائحا:
-بتعملي إيه هنا ؟!
عقدت حاجبيها في ضيق لذيذ بعدما دلفت وأغلقت من خلفها الباب ..اقتربت بخطواتها تتهادى بخيلاء..وعلى جانب المكتب كانت تميل بجذعها نحوه، ونبرتها ناعمه حد الإغواء:
-قولت نروح سوا
وقد لاح بخاطرها نصيحة أماني الثاني
" من الآخر على قد ما تقدري إتمايصي"
عادت تعدل من وضعها "بمياصة" كما تفضلت جارتها المصون وقدمت لها ما تملك من نصح، أسرعت ترتكز بساعديها على سطح المكتب بينما رأسها تستريح بين كفيها، مردفة بشفاه متبرمة بغنج:
-فيها حاجه دي ؟!
مال برأسه قليلا يتابع منحنيات جسدها أمامه ..وحين عاد بنظره إلى بحر عينيها تنحنح يجلي حنجرته، ويهتف بصرامة:
-زرتي صحبتك ؟ وبعدين ماقولتيش ليه إنك جايه ؟!
أنهى جملته واستقام يجذب بضع أوراق من رف مجاور ، فاعتدلت بدورها تتخصر في وقفتها وأجابت بسخط بين:
-لمار صعبانه عليا ..وصاحبك قاسي قوي
واللحظه التالية لجملتها كان جسدها أسير بين الجدار وذراعيه، فعلى ما يبدو النصائح أتت بنتائجها وبشكل فوري .. تلفحها أنفاسه الهادره، ويهمس بخشونه بنصف عين:
-صاحبي ماله ؟
ولم تكن لتفوت فرصة ثمينة كتلك وتقف كالبلهاء كما الصباح، طوقت عنقه بذراعيها وأنفاسهما المتبادلة أشعلت نيرانه مع همستها الخفيضة من بين شفاه وردية مغوية:
-قاسي
ارتفع له حاجبٌ واحد وإقترب أكثر وأمام شفتيها همس هو بعبث:
-قاسي قوي ، قوي..ولا نص ونص
وضحكتها الخافته أثارت زوابع سافره بداخله، وقبل أن يتعمق أكثر نفضها فجأة بعيداً عنه حتى أن رأسها المسكين ضرب الحائط بعد ما فتح الباب من جديد مباغتة وطلت الملاك الأبيض بضحكة سمجة، ونبرة ممتعضة :
- اتأخرت يا دكتور ومارنتش الجرس هااا أدخل المدام ولا حضرتك مش فاضي؟!
كانت المرأه تتحدث وعينيها تلتهم تالا بنظرات متفحصة، أخرجها من تفحصها هتاف بدر الجاد :
-دخليها طبعا ..بس حولي باقي الحالات على دكتور وائل أنا هاخد دي بس وهروح بعد كده
خرجت المرأة بمصمصة شفاه واضحة فعاد لها بوجه يكتنفه الحنق:
-إقعدي هنا ماتتحركيش هخلص آخر كشف خلينا نروح بدل الفضايح دي
تبسمت لخجله الممزوج بحرج وقد إرتسم على ملامحه بشده ، فلزمت الصمت حتى لا تغضبه أكثر ..إتجهت بعدها نحو صوفا جانبية، جلست بهدوء تتابع بصمت.
......................
ولج لداخل الحجرة سيدتان الأولى في منتصف العشرينات ربما والأخرى تبدو في عقدها الخامس وتشبه الأولى لحد كبير..رحب بهم بعملية، ثم تحركوا جميعاً نحو جانب آخر بالحجرة حيث جهاز الأشعه رباعي الأبعاد...قطع صمتهم أصوات عجيبة مصدرها هاتف الأم ونبرة الأخرى خرجت بحبور:
-ممكن يادكتور أشغل سكايب وجوزي يحضر السونار، نفسه يشوف البيبي ويطمن عليه معانا
وتابعت الأخرى:
-آه والنبي يا دكتور أصله مسافر ونفسه يشوف إبنه
هتف بدر وما زال محتفظا بنبرته العملية:
-من عينيا، إطلعي على السونار..وإنت يا حجه شايفه الشاشه إللي قدامك دي ؛هنشوف فيها البيبي ..بس ده لسه أسابيع يعني حاجه صغيرة جدا ..بس لازم نفرحة طالما في غربة.
وبعد دقائق ..تحدث بدر موضحا:
-زي ما إنت شايفه يا مدام دي إيدين البيبي حاططها على وشه
رددت المرأه المسنة خلفه:
-إيدين البيبي على وشه ياعصام
تابع بدر:
-والحمد لله العمود الفقري سليم
-الحمد لله عموده الفقري سليم يا عصام
تنهد بضيق وعاد يكمل :
-وتكوين المخ المبدأي كويس
-والمخ كويس يا حبيبي
وهنا صدح صوت الزوج عبر الشبكات:
"ماتتكلميش إنت يا ماما أنا سامع الدكتور "
هتف بدر سريعًا :
-آه يا حجه ياريت لأحسن حاسس إنك بتعلقي على ماتش أهلي وزمالك زي محمود بكر
عاد يهتف الزوج بنبرة ضجرة:
"انا مش شايف البيبي أصلًا"
إستدار بدر برأسه نحو المرأة وطالع الهاتف بين أصابعها هاتفا بنفاذ صبر:
-إيه يا حجه ده بتصوري المكتب ! حطي الموبايل قدام الشاشه الله لا يسيئك
ضربته على كتفه بود وهتفت من بين ضحكاتها:
-يوه يا بني معلش ماخدتش بالي
هتف الزوج بفرحة:
"أنا شايفه أهو ، ده بيشاور بإيديه "
-امممم بيشاور يإيديه، المهم، ده القلب ونبضاته كويسه الحمد لله
سألت المرأة بلهفة:
-هو ولد يا دكتور؟
وقبل أن يجيب صدح صوت الزوج بسؤال عبر الهاتف من جديد:
"هو إحنا ممكن نعرف عنده كام عظمه في صدره ؟!"
قلب بدر بصره بين الهاتف والمرأتين وهتف بحنق من بين أسنانه :
- إيه يا جماعه بقول شهرين ، شهرين لسه ..تقولوا ولد وكام عظمه !
وهنا صدحت ضحكات تالا تدوي وتخترق السكون والشبكات بعدما فشلت في كبحها أكثر من ذلك ..فعاد يصدح صوت الزوج عبر الهاتف بعبث:
"الله!..هو البيبي صوته حلو كده "
جذب الهاتف من كف المرأه عنوة وزعق في الزوج بغضب بعدما نفذت آخر ذرات صبره :
-جرى إيه يا أستاذ عصام ما تحترم نفسك وتخليك في حالك
أنهى جملته الغاضبة وأنهى معها تلك المكالمة قبل أن يسمع صوت الرجل من جديد دقائق قليلة وغادرت المرأتان بتمتمة ساخطة خفيضة مع وجوه ممتعضة ..بينما تالا تكتم ضحكاتها بكفها ..إقترب منها بتأفف وملامح غاضبة:
- مش قادره تمسكي نفسك يعني...عجبك كده ؟!
نهضت مسرعة دون تفكير تضمه إليها ، محيطة خصره بذراعيها وترتكز بذقنها على صدره ، تنظر لعينيه بهيام وتهمس بصدق ودفء :
-إنت إزاي حلو كده ؟
تبسم رغما عنه وهز رأسه يمنة ويسرة في يأس ، مع هتاف أجش:
-أنا إللي مش عارف إزاي صابر عليكي كل ده
صمتت لم تنبس ببنت شفه ولم تتحرك ، فاردف هو بجدية بعد ما تحرك يخلع عنه معطفه ويتناول متعلقاته من على سطح المكتب:
-يلا لحسن أنا واقع من الجوع
عضت شفتيها بأسف وهتفت بخجل:
-ما هو أنا خرجت وماعملتش أكل النهاردة
حرك رأسه بإمتعاض مغمغما بسخرية :
-ده على أساس إن أكلك كان هينفع ..
كتفت ساعديها وعقدت حاجبيها بحنق وليد ..فجذبها سريعا متحركا بها للخارج:
-إنت لسه هاتتقمصي بقولك جعاااااان
وما بعد ذلك أمسية ولا أروع ..جلسة هادئة على الشاطئ ..فقط تصحبهم سندوتشات الكبدة الإسكندراني المميزة ..مع مشروب الشاي المضبوط ..حديث متبادل بنظرات دافئة من كلا الطرفين ..وفي النهاية هي بين أحضانه يبثها دفئاً لطالما كانت تبحث عنه ، ومشاعر أخرى أصبحت تصاحبه في آونته الأخيرة ، تجتاحه ويعجز عن صدها ، بل يغرق بين أمواجها المتلاطمة أكثر وأكثر ، وقبل أن ينغلق جفنيها وتذهب في سباتها همست له بصوت ناعس:
-انا عاوزه بيبي عنده إيدين على وشه زي إللي شفته النهارده
تبسم بخفوت وطال صمته لدقائق بعدها لثم جبينها بقبلة طويلة مغمغما بصوت خفيض:
-قولي يارب
ومع آخر حروفه كانت قد غرقت في عالم الأحلام حيث هي وفارسها ومولودها الصغير صاحب العيون الرمادية كأبيه... وفراش بارد في الصباح أخبرها أنه غادر باكراً اليوم ، نهضت تتماطئ بتكاسل وذكرى البارحة تلوح بذاكرتها.. ورنين جرس الباب يقطع عنها أفكارها السعيدة ، سترت جسدها بمئزر حريري وما إن فتحت الباب حتى حملقت في ذهول ..تنظر لتلك الزائرة بدهشة.. زيارة غير متوقعه من أختها المصون أو الحيزبون الصغيرة كما كانت تدعوها دائماً.. هتف لسانها باسمها دون وعيٍ متعجبًا:
-لينا !
* * * * *
تركها منذ ساعات مغرورقة العينين وعاد أدراجه لكن إلى مشفى أخيه أولًا، يحتاج للحديث معه، لا يهم بما سيثرثر ولا بم سيعلل سبب الزيارة، هو فقط يحتاج أن يراه.. متمنياً من قلبه ألا يصادف أيًا من مراد أو بدر فالإثنان يترقبان لقاءه على وجه السرعه والغرض بيَّن، الكل يظن به السوء، خائن أم نذل لا يهم، في النهاية هو من قضى على فرحة أخيه قبل إتمامها بأسابيعٍ قليلة.. وكأنه لا يعلم ذلك ويحتاج لمن يخبره!
ألا يكفيه ما به.. بالأصح يكفيه طلب الطلاق الذي تلقاه عن لسان فرحته.. لتلك الدرجة؛ أوجعتك يا جميلة ؟!
زفر بقوةٍ عل روحه المثقله تهدأ... وعدة طرقات على باب الغرفة، تبعها هتاف داخلي يأذن للطارق بالدخول.. ومن تمنى عدم مصادفته منذ قليل وجده بصحبة أخيه.. وكان بدر صاحب الزعقه الأولى بعد ما واجهه سريعاً :
-أهو البيه شرف.. إنت مابتردش ليه على إتصالاتي يا كابتن؟!
وكأنه لم يسمعه ظل بصره مثبتاً على أخيه والذي بدوره بادله صمته بآخر متعجب.. وبعد برهة هتف باسل في الواقف أمامه بنبرة جامدة:
-مش وقته الكلام ده يابدر... بعدين.
وقبل أن يزيد ويكيل له من الأحاديث أطناناً، قاطعه إسلام بنبرة حادة:
-خلاص يا بدر قالك بعدين.. والأحسن بلاش كلام خالص لا دلوقتي ولا بعدين في الموضوع ده.
وحين طال صمت الإثنين بعدها خرج الصديق من بينهم تاركاً للأخوة مجالاً لهدم ما قام بينهم ربما ينجح الأمر تلك المرة، ويعودان كما كانا من قبل.. كان الأكبر أول من تحرك وجلس على الأريكة الكامنة بزاوية الحجرة، تبعه الآخر وجاوره دون دعوةٍ.. وهو يعلم أنه لن يتحدث لذا هتف بجديةٍ وصرامةٍ:
- وبعدين يا إسلام حتفظل لإمتى مش عاوز تكلمني ؟!
زجره بنظرات حادة وقبل أن يعلو مؤشر غضبه عاد باسل يهتف من جديد:
-والله عارف إني غلطت في حقك بس لازم تعرف أن كل ده كان من غير قصد و ...
وحينها هتف إسلام بإنفعال رغماً عنه مقاطعا اياه بزمجرة :
-خلصنا يا باسل مش حنفضل نفتح كل شوية في السيرة دي.. زي ما قولت لمار لا تنفعني ولا تنفعك.. خلاص خلصنا.
صمت لثوانٍ يتابع عرقه النابض بعنقه، فتنهد بقلة حيلة والآخر ما زال على عناده يرفض حتى النظر إليه، يجلس بتحفز وكأنه مجبر لمجالسته.. ربت باسل فوق ساقه وغمغم بهدوء:
-لا ماخلصناش.. لينا قعدة مع بعض، قعدة طويلة، نتكلم.. نتخانق.. مش مهم، المهم أنك هتسمعني للآخر.. بس مش دلوقتي.. عندي رحلة طارئة ولازم أمشي حالًا..
نهض إسلام من جلسته واكتفى بضحكة ساخرة خرجت من بين شفتيه، أردف على أثرها من جديدٍ متجاهلًا سخريته :
-أنا وصلت فرحة عند عم حسن علشان ما ينفعش تقعد لوحدها وانا مش عارف هقدر انزل أجازة تاني إمتى بالظبط ..وحبيت أسلم عليك قبل ما أسافر.
وعلى طارئ زوجته تنبأ الآخر لأمر ما وسأل دون مواربة وإن كانت نبرته تلونت ببعض السخرية:
-على ذكر فرحة.. فتق إيه وبتاع إيه ؟ ولا إنت قصرت رقبتنا وبتحور على البت الغلبانة؟!
انفلتت ضحكة خافتة رغمًا عنه ثم حك مؤخرة رأسه في حرج مخبرًا إياه:
- والله هي ماقصرتش قوي يا أوس..بس أوعدك بعد ما أرجع؛ هرفعهالكم في العلالي.
حرك إسلام رأسه يمنةً ويسرةً في يأسٍ وعاد يلقي ببصره على مايحمل بين يديه من أوراق.. بينما اقترب باسل منهيًا ما بينهم من خطوات حتى أجبره أن يرتفع له بنظراته من جديد.. ثم هتف في وجهه بنبرة نادمة.. صادقة:
-حقك عليا.. إنت ماتعرفش زعلك ده صعب عليا أد إيه.
ولم ينتظر رداً بل اقترب منه ضامًا إياه، ولم يجد الآخر بُداً من أن يرتفع بكفه مربتا بها فوق ظهره، وحينها فقط ابتعد عنه وغادره متبسمًا على وعد بلقاء قريب.. بينما هو ظل قابعًا مكانه ينظر نحو أثر الراحل في شرود وحدسه يخبره أن أخاه يعاني خطبا ما وهناك ما يقلقه.
* * * * *
"إنتحار رجل الأعمال اللبناني سعيد الغازي "
خبر كالصاعقة تلقاه ما إن ترك النائب العام بساعات قليلة، بعد ما قدم له ما بحوزته من أوراقٍ، أو أحبال المشانق حول أعناق بضع من رؤوس الفساد.. مطالبًا بعدة ضمانات أهمها عائلته، عمله.. وما هي إلا ساعات أخرى وبدأت تظهر النتائج.. يسقطون واحدًا تلو آخر وكم تمنى أن رأس الأفعى سعيد الغازي يتحطم أمام عينيه وعلى يديه، لكنه اختار الطريق الأسهل وانتهى أمره منتحراً برصاصةٍ في رأسه.. والصديق الخائن سيتعفن بين جدران السجون، لن يرى ضوء شمس منذ اليوم، يستحق ذلك ..
وفي اليوم التالي ليلًا، تلقى إتصال "لاتويا" تطلب حضوره على الفور في أحد الفنادق الشهيرة داخل البلاد حيث إقامتها، منذ مغادرة أبيها لعالم الأحياء ليلة أمس.. ما إن وصل وجهته هاله ما يرى أمامه، تلك المتغنجة، الفاتنة، أصبحت كتلة مشعثة بعيون غائرة، ملابس غير مهندمة وحالة يرثى لها.. وما إن رأته أمامها حتى ارتمت بين ذراعيه، تنتحب وتشهق بجسدٍ مرتعدٍ.. وبعد دقائق نجح في تهدئتها، ابتعدت عنه وخطت بتثاقل نحو الأريكة الكامنة أسفل النافذة الكبيرة.. جلست وحل صمتها وشرودها.. فهتف هو بغضب عجز على إخفائه:
-بعد كل إللي عمله في خلق الله زعلانة عليه ؟
لم تجبْ على سؤاله فاقترب يجاورها متأففًا بينما هي ظلت على حالها، بل حلقت بعيدًا بذاكرتها..
نحو عروس كانت تتهادى بثوب زفافها الأبيض، تخطو أولى خطواتها داخل عش الزوجية بسعادة، يومان فقط عاصرت فيهما السعادة بين أحضان زوجها وحبيبها ومع فجر الثالث لا تعلم متى ولا كيف انقلب المكان حولها وتحول لفوضى، وعن الحبيب فقد أُصيب برصاصة غادرة في منتصف رأسه أردته جثة هامدة في لحظتها، بين أذرعتها سالت دمائه؛ قميصها زين بدماء رجل حاربت الجميع لأجله.. وبعد وقت لا تعلم مدته كانت هناك تحت قدميه وما زالت بثوبها المشبع بالدماء، لم يرأف بها لو للحظة يشرف عليها من علو ويهمس بأذنها وكأنه يخاطب أحدًا ما غير إبنته
"هيك بيصير مع إللي يوقف ضد سعيد الغازي، حتى لو كان إنتِ لاتويا "
وبعدها ظلت حبيسة غرفتها بأمر منه، حتى تقر بخطئها، كيف لها أن تتزوج بأحد المتسولين ! فذاك هو عرف الغازي يدرج كل بسيط لا يملك سطوة ولا مال تحت بند المتسولين.. بل يستحق السحق وتنظيف العالم من تلك الحثالة، وطعن قلب ابنته بسكين ثالم يوم أن اختارت أحد هؤلاء ليكون حبيباً وزوجاً رغماً عنه.. واكتملت الفاجعة حين أخفت حملها بطفل منه لشهور حتى برزت الدلالات وفضح أمرها وكما حاربت لأجل والده بقلب عاشقة دافعت عنه بقلب أم، تتمنى طيفه.. وكان لها طفل يخطف الألباب لكن بقلبٍ عليلٍ، فتلك تدابير القدر أم سخرية الزمان لا فارق، المحصلة: صغيرها ذو الثلاث سنوات يرقد فوق فراش الموت يحتاج لقلب آخر غير ذاك العليل والحل فقط بين يدي أبيها؛ اليست تلك بالأساس مهنته؟!
و لم تقر بخطئها وفقط بل قدمت روحها قربانَ طاعة لأبيها حتى تتمكن من الحصول على مرادها وهي لا يهمها سوى نجاة صغيرها والبقية لاتهم.. نعم لا تهم بعد ما فارق الحياة بين ذراعيها كما فعل والده قبل سنوات.. سخر منها وأخبرها أنها لو طافت العالم ولم تجد دواء لابن ذاك الصعلوك غير بين يديه لن يقدمه لها مهما طال الزمان أو قصر، وطفلها لم يكن ليعاصر طول الأزمان بقلب عليل. عاد لخالقه وفقدت هي آخر ذرات الحياة برحيله.. ولا يكفي ذلك بل يأتيها خبرٌ منذ مدة قصيرة يؤكد لها أنه من كان وراء وفاة والدتها، لم يكن حادث سيارة عابر كما أخبروها بل كان عن قصد مع سبق الإصرار والترصد بعد ما رمى أحدهم بقلبه بذرة شك نحو إخلاص زوجته، لينهي حياتها بطرقعة إصبع وبعدها بعام أتى دور زوجها، ثم بشكلٍ أو بآخر نال من صغيرها.
ورؤيته البارحة سابحًا في دمائه عاد لها بذكرى مفجعة تجاهد لمحوها ولا تستطيع.. اللعنة عليه أي الآباء كان؟ أي الازواج ذاك الذي يقتل زوجته دون رفة جفن.. بل أي نوع من البشر هو !
كان باسل يتابع شرودها وتغضن ملامحها بألم، وبعدها تهطل دموعها وكأنها تعجز عن كبحها.. ومن بين التيه الذي تحياه خرجت له همستها المتحشرجة بوجعٍ:
-أخد مني كل ياللي بحبن باسل.. ماما.. تيم.. ابني.. كلن.. ما ترك لي حدا أبدًا.
قطب حاجبيه في إستفهام..فعادت له ونظراتها قست فجأة :
-الموت راحه إله ..كان بدي شوفه عم يتعذب قدام عيوني حتى طفي ها النار ياللي جواتي..قتلن بدون ما ترف له عين .. العمى ! لك هاد أي نوع من البشر ؟!
واسترسلت في حديثها، تسب وتلعن.. تقص عليه ما لم تقوَ بعد على حبسه بين أضلعها.. فتبكي وكلما صمتت عادت تنوح وتولول.. فرماد الماضي عاد واشتعل من جديدٍ ويأبى أن يخمد حتى بعد ما انتهى وأصبح وجوده مجرد كنية تحملها.
* * * * *
"بعد أسبوع"
انطلق بسيارته من جديد عائداً لبلدته الريفية، حيث تسكن مهجة القلب، على ملامحه ارتسمت خطوط السعادة وبالأصل منبعها قلبه الذي يتغنى طرباً للقاء فرحته، انتهى الكابوس حبيبتي.. الآن فقط عاد لك باسلك.. الآن فقط يمكننا البدء من بداية السطر.. بدأ أولى خطواته بإستعادة جميلته، لم يذهب لأحدٍ قبلها، سيصطحبها، يمسك بكفها ويتخلل أصابعها ويعود بها حيث والديه وأخواته سيجتمع بهم جميعاً، يشتاقهم بغرابة، كأنه هجرهم منذ سنين.. لكن عليه البدء أولًا حيث الجرح الغائر، زوجته ذات الفؤاد الكسير .. بعدها سوف يصلح بقية ما أفسده.. لكن وهي معه.. سيقدم إعتذارات وإن لم تقبل، سيتذلل لينال الغفران، وسيناله رغماً عنها.. وستعود معه شاءت أم أبت سيعيدها لكنفه وبين أحضانه..
وبعد ساعات كان يتوسط منزلها يحتسي قدحاً من الشاي الصعيدي المميز بعد ما تناول وجبة غذاء مفتخرة أصابته بالتخمة، وبعد حين طلب من الرجل المسن بخجل رؤية زوجته التي لم تظهر منذ قدومه، تبسم له الرجل وربت على ساقه هاتفًا ببساطة:
-فرحة ما رضيتش تقول حصل إيه بينكم.. وبيني وبينك أنا ماحبتش أعرف علشان كنت عارف إنك هتيجي..أنا يوم ما حطيت إيدي في إيدك يا إبن عزيز كنت متأكد إن سعادة بنتي معاك وكنت عارف إنك هتصونها.. لكن يوم ما رجعت لي ودمعتها على خدها من إسبوع فات، مانكرش إن غضبت وقتها وكنت هحلف إنها ما ترجع لك تاني.. بس ليلتها زارتني عمتك في المنام، والعجيب إنها وصتني عليك مش على بنتها.. ومن يومها وأنا مستنيك تيجي، علشان أقولك خد مراتك يابني بس لازم تكون عارف إن لو جات لبيت أبوها تاني غضبانة وقتها مش هترجع لك طول ما أنا عايش.
استمع للرجل حتى أنهى حديثه ثم مال نحو كفه المتغضن ولثمه في تبجيل، وهتافه الاجش صادق:
-وأنا أوعدك إن عمرها ما هتجيلك زعلانة تاني طول ما أنا عايش
ربت الرجل على كتفه بحنو متبسمًا
و ..
إقتحام كالأعصار من صاحبة الخصلات الحالكه يقطع عنهم مجلسهما، ونبرتها الزاعقة أخرستهما:
- وأنا مش عايزة أرجع معاه يا بابا.. ولا إنت كمان عايز تخلص مني ؟
هتف الرجل معنفاً إياها بحنو:
-ما يصحش كده يا فرحة.. البنت مالهاش غير بيت جوزها يابنتي.. وابن خالك عرف غلطته وجاي يصالحك ويرجعك لبيتك.
تحرك باسل إليها حتى قابلها، تقف أمامه بتحفز متكتفة الساعدين والنيران تنفث من بين سواد مقلتيها، وقبل أن يتحدث أو يبدأ وصلة الصلح على صوتها من جديد محدثة أبيها بحنق:
- اللي فرط أول يفرط تاني ياعم حسن.. وابن خالي فرط وبالرخيص كمان.
كلماتها الأخيره تزامنت مع نظراتها المصوبة نحوه بعتاب وغضب، رمقته بها وبعدها اختفت من أمامه فجأة كما ظهرت.. فعاد إلى الرجل ببصره يرجو مساعدته.. فحرك له كتفيه بقلة حيلة مخبراً إياه بإيجاز:
-أنا عملت إللي عليا وقولت لك خدها.. اهي مراتك قدامك خدها بالطريقة إللي تعجبك ، راسها حجر صوان يابني وأنا راجل كبير مابقاش فيا حيل للمناهدة
تبسم له باسل وهو يحك ذقنه،ويهمس لحاله في تفكير :
-ريح نفسك إنت يا عم حسن .
* * * *
ألقت بجملتها في وجهه من ثم أسرعت نحو حجرتها، موصدة بابها خلفها جيدًا.. الآن عاد.. يلهو ويمرح مع تلك الساقطة ويعود لها ما إن ينتهي ويمل منها.. ماذا يظن بها ذاك الأحمق، ستبكي على الأطلال تنتظره.. اللعنة عليه أحمق مغرور ..
ذلك وأكثر كان يجول بخاطرها، فتستعر روحها بالغضب والغيظ يكاد يفتك بها، لو فقط تدق عنقه الآن أو تطوقه بكفيها لربما هدأت قليلاً و...
أصوات غريبة انتشلتها من نزعة الشر المسيطرة عليها، مصدرها عند نافذتها الخشبية المواربة تقدمت بخطوات متوجسة وقبل أن تصلها كانت النافذة تفتح على مصراعيها عنوةً حتى ارتطم جانبيها بالجدار محدثة ضجيجاً عالياً، فشهقت بقوة لكنها قطعتها سريعًا، حين طل ذاك الأرعن الذي كانت تتخيل انتزاع روحه بين يديها منذ ثوانٍ.. مال بجذعه للداخل يدعم ثقل جسده بوضع قدمه ذات الحذاء المتسخ فوق أريكتها الأثيرة، والأخرى جاورتها..نظر لها متبسمًا، ملوحًا بكفه في سماجة حقيقية، وهي تطالعه كالبلهاء.. اللعنة هربت منه بباب موصد، فجاءها من الشباك !
بينما هو انتهى ونفض يديه ثم عاد بنظره لأسفل النافذة، واضعاً كفه جانب رأسه بتحيةٍ هاتفًا بعلو:
-متشكرين يا رجاله ..
طالع رحيلهم وبصحبتهم السلم الخشبي الطويل الذي ساعده على التسلل نحو نافذة الجميلة بعدما نفذت كل الطرق بفتح بابها له.. استدار عائداً لها بنفس بسمته السمجة، فاتحًا ذراعيه متقدمًا نحوها بجرأةٍ.. ينوي احتضان ربما !
لكنها استعادت تركيزها وأوقفته قبل أن يفعلها بكفٍ ممدد أمامها بصرامة.. نظر لها بتوجسٍ، فبادلته بأخرى غاضبة مع هتاف لا يقبل جدال:
-اخرج بره أوضتي يا باسل.. ولو بره البيت يكون أحسن.. طلبك مرفوض
وما إن أتمت حديثها حتى كانت خصلاتها بين أصابعه، يجذبهم برفقٍ ويهتف بحنق حقيقي:
-إلا إنتِ نافشة ريشك علينا ليه يا بنت الجارحي !
دفعته بعيدًا بحنقٍ فاستجاب لها متأففاً بفروغ صبر، هاتفاً ببسمة مصطنعة ملوحاً بكفه في أمر:
-يلا علشان هترجعي معايا.. انجزي بس مش عاوز لكاعة.
رفعت حاجباً لبجاحته، ثم وضعت كفيها في خصرها، وجابهته متخصرةً بعناد متمهل:
-نجوم السما أقرب لك مني يا ابن الشافعي
رفع بدوره حاجبه الأيسر، وسأل بهدوءٍ غير معتادٍ :
-ده آخر كلام ؟
والجواب يلازمه بسمة صفراء بلزوجة :
-وماعنديش غيره.
ربت على وجنتها بالسبابه والوسطى ونبرته أكثر لزوجة مغمغماً بسخرية:
-براحتك يا دميل.
واختفى من أمامها بعد ما فتح الباب وخرج صافقاً إياه خلفه بقوة انتفضت لها فرائصها، وسرعان ما تغضنت ملامحها بضيق وهي تتسائل بداخلها هل غادر الأحمق هكذا ببساطة !
وكانت حمقاء بالفعل، لم تعلم أنه ذهب إلى جدته يقبل اليدين والوجنتين بإشتياق حتى بعد ما عنفته لفعلته الشنعاء بحق زوجته، وهو أقسم لها أن فرحتها وفرحته ستعود الليله معه شاءت أم أبت.. وهي أبت.
والخلاصة.. بضع قطرات منومة دست بأمر منه في شراب عُدَّ لها خصيصاً من صنع يد عمتها حتى تهدأ الجميلة.. وارتشفته بأمر منها وما هي دقائق حتى غادرت عالم الأحياء لعالم الأحلام، فحملها بين ذراعيه متبسمًا بإنتصار واضعًا إياها داخل سيارته برفق، مودعًا الأب والعمة مع سيل من الدعوات أولها راحة بال واستقرار الحياة فيما بينهم وأهمها تحمل عقاب الجميلة بعد إفاقتها .
مسبلة الجفنين، هادئة، مستكينة، يداعب نسيم الليل خصلاتها فتتطاير هنا وهناك بعبثٍ، فيخفق نابضه بين ضلوعه، وتمتد أنامله حتى يعود بهم لموضعهم فيتبسم برضا ثم يجذب كفها ويلثم باطنه بقبلة قوية، فيعود يتركها متابعًا طريقه في تركيز ، يلتهم الطرقات، يبتعد أميالاً وأميال مختطفاً إياها قسراً.. يومان في الساحل، حيث الهواء والبحر والوجه الحسن بصحبته، سيغتنم كل الفرص وحينها فقط سينال صك غفران طويل الأمد ويعوض ما فاته من زفافه السعيد.. وبعد ساعات طويلة حين وصل إلى وجهته كان الصباح قد شق عتمة الليل معلناً عن بلوج يوم جديد.. حتماً مختلف..
حملها بلطف من جديد وولج بها لداخل الشاليه الخاص بهم، أنزلها برفق على أريكة داخلية.. وأخذ يفتح الأبواب والنوافذ يجدد الهواء بالمكان.. تماطىء بإرهاق جسدي وقرقعة معدته الفارغة أزعجته.. يحتاج للقوت، يسد به رمق جوعه وحتى يتمكن من الصمود أمام تلك العنيدة الغاضبة ما إن تصحو من غفوتها، وهي بالتأكيد تحتاج للطعام منذ ثماني ساعات وهي نائمة تقريبا.. والمكان المتسخ أثار ضيقه..حسنًا جولة نظافة سريعة وبعدها يأتي دور الطعام.. وبعد مضي ساعتين كان قد انتهى من بضع أعمال التنظيف التي لا بأس بها، ومن ثم ذهب بعدها لأقرب متجر وإبتاع بعض المتطلبات اللازمه والضرورية.. وحينما كان يتوسط المطبخ ذا الطابع الأوربي، كانت هي تتململ في نومتها، وهو يتابعها بنظرات عاشقة، عابثة..
افترق جفناها بصعوبة ثم أخذت تتحرك وتنهض من موضعها بتثاقل، رؤية مشوشة.. ثم أوضح.. فأوضح.. ومع عيون محدقة استدارت من حولها بذعر تنظر في المكان بهلع وما إن وقع بصرها عليه وعلى ضحكاته العابثة حتى حل عنها كل شعور واكتنفها الغضب من جديد وهتافها الغاضب يدوي بين الجدران:
-أنا فين ؟.. وجيت هنا إزاي !!
وعقب ما انتهت من سؤالها الغاضب بتعجب كانت ترتفع للأعلى، يطوقها من خصرها ويدور بها ؛ فتلفحه خصلاتها الفاحمة الطويله فيجن جنونه أكثر ويتغنى لها وحدها.. يتغنى بعشقها كما كانت تتمنى منذ الصغر، مجيبًا على سؤالها بصوته العذب
"جن الهوى ورماني طيرني أنا وياك.. قلبك بعده بيهواني وقلبي بعده بيهواك"
يعيد ويكرر صائحًا بعلو، وحين شعر بها تفقد توازنها إثر دورانه السريع أنزلها على قدميها وثبت حركة جسدها المختل بين ذراعيه، بينما هي ابتعدت عن جسده بدفعة واهنة ما إن سيطرت على حالها وعادت ترفع له عينيها وتعيد سؤالها بخفوت:
-جيت هنا إزاي؟
بادلها نظراتها قليلًا ثم مال نحو جيدها يقبلها هناك بشغف ويهمس لها بخشونه:
-خطفتك.
تحركت مبتعدة ؛ تخطو نحو الاريكة بهدوء عقد له الحاجبين ، فأقترب مرة أخرى يجاورها ، يتملك من كفيها بين كفيه يلثمهم عدة مرات وهي منكسة الرأس بصمت ، فيتحدث هو محاولاً تلطيف الأجواء:
-مش جعانه ؟
وهزت رأسها النافية بصمت جعلت أنامله تمتد أسفل ذقنها، يرفعه ويواجهه عينيها الدامعة.. بينما همسها المتهدج أوجع قلبه:
-مش بمزاجك يا باسل.. مش بمزاجك تقرب وقت ما تحب وتبعد وقت ما تحب.. والمفروض إن أقعد أستناك ودمعتي على خدي مستنيه حضرتك تحن عليا بكلمة ولا سؤال.
وجوابه منبعه قلبه، والنبرة صادقة غير قابلة للشك:
-مش هبعد تاني..وعد
حركت كتفيها بيأس وهتافها المتحشرج يزامنه دمعة خائنة:
- كنت فاكراك بتحبني بجد.. زي ما بحبك!
عاد وتملك من ذقنها بقوة ، يجبرها على النظر لعينيه ونبرته القوية تخترق روحها:
-لسه فاكرة تسألي دلوقتي؟ بعد السنين دي كلها لسه فاكرة تعرفي إذا كنت بحبك أو لأ؟!.. طيب بلاش دي.. إسألي قلبك كده وهو يقولك إن إللي هنا أكبر من الحب بكتير .
وجملته الأخيرة توازي سبابته المشيرة نحو نابضة.. فعاتبته من جديد بهمس خافت:
أنت تقرأ
دوامة عشق
Mystery / Thrillerيقع طبيب النساء والتوليد "إسلام الشافعي" في قصة حب من طرف واحد حيث يخبأ له القدر الكثير من المفاجآت الغير سارة.. على صعيد آخر يحلق كابتن الطيران "باسل الشافعي" على متن رحلة من الأسرار يخفيها خلف قناع المسؤولية والسخرية أحيانًا.. فيما تتقدم الآنسة "ت...