الفصل الثاني

174 9 1
                                    

(2)
خيبةُ أملٍ

استنشقت الهواءَ العليلَ النقيَ، أعادت الكرة ثانيةً وثالثةً، حتى امتلأت رئتيها بهواءِ الصباحِ الباردِ المختلطِ بنكهةِ العشبِ الخضراءِ والزهورِ العطرةِ بينما انفرجت شفتيها الورديتين بإبتسامةٍ رائعةٍ وهي تراقب ببهجةٍ تلك المناظرَ الممتدةَ أمامها على مدادِ البصر ِ  رغم اعتيادها لمشاهدتِها يوميًا عبر نافذتِها الخاصةِ..
سماءٌ صافيةٌ،  أصواتُ خريرِ الماءِ الجاري يسقي  أشجار  متنوعه لأنواعٍ عدةٍ، تبللت أوراقها بقطراتٍ مِنْ ندى الصباح.. بينما هناك أشخاصٌ يفترشون الحشائش الخضراء الندية  بجلستهم الصباحية ليتناولو ا فطورهم تحت ظلالِ تلك  الأشجارِ، ليذهبَ بعدها كلٌ لعمله، منهم مَنْ يسقيَّ أرضَه أو  يقطفُ ثمره  و آخر يرعى قطيعٌ بكل نشاطٍ.
وأين لنا أن نجد مثل ذلك المشهد الخلاب بغيرِ  قرى صعيد مصر!
حياةٌ ريفيةٌ تنمُ عن البساطةِ والجمالِ والهدوءِ تختلفُ تمامًا عن صخبِ المدنِ، أناسٌ يعيشون بسعادةٍ وحبٌ يجتمعون ﻷقلِ مناسبةٍ، فرحتهم واحدةٌ وحزنهم واحدٌ، الحياةُ البسيطةُ جعلتهم يتمسكون ببعض أكثر  ويفتقدون الغائبَ منهم، حياةٌ بعيدةٌ عن التكلفِ والترفِ وذلك سبب نفوسهم الطيبة الكريمة، طعامهم اللبنُ والتمرُ .. ثمارٌ طازجةٌ.. وخبزٌ  يُعدُّ من الدقيقِ الخالصِ، لذلك تجدهم نشيطون ويعملون الأعمال الشاقة بدون كللٍ أو مللٍ.
رباه ما أجملها من حياةٍ!
هبت نسماتُ الهواءِ الباردةِ بقوةٍ أكبر لتتخلل خصلات شعرها الطويل الفحمي، لملمت خصلاتها المتناثرة لتجمعها فوق كتفها الأيسر أثناء جلوسها فوق أريكتها المنجدة، اتكأت بمرفقها على حافةِ النافذةِ ويدها الأخرى تمتد خارجًا  تروي ورودها الحمراءِ البلديةِ، وما إنْ انتهت منهم حتى امتدت أناملها  تداعب وتطعم  تلك العصافيرَ  بداخلِ ذلك القفصِ المعلقِ خارج نافذتها.. لتُسر نفسها بما ترى وتسمع.. استندت برأسِها فوق ذراعِها وأغمضت عينيها السوداويتين ببطئٍ بينما أناملها تحركت تلك المرة تُداعب أوراقَ ورودِها حتى بدت كأنها تغطُ في سُباتٍ عميقٍ، لتخترقَ عزلتها و مازالت مغمضة العينين.. تهمس لنفسها بصوتٍ شجيٍ تطرب الروح لسماعه:
لولا الملامة يا هوى لولا الملامة
لأفرد جناحي عالهوا زي اليمامة
وأطير  وأرفرف في الفضا
وأهرب من الدنيا الفضا
وكفايه عمري .. كفايه عمري اللي انقضى
- ست فرحة.. ست فرحة.
انتشلها من حالةِ الشجنِ صوتُ ذاك الجار السمين المزعج الواقف أسفل نافذتها، لتنهضَ هي بدورها.. تميل بجذعها وتنظر له متبسمةً:
- صباح الورد ياعم فرج.. خير حصل أيه ؟!
- صباح الفل ياست البنات.. خير إن شاء الله بس الجاموسة لامؤاخذة يعني  بتاعة الحجة أم إبراهيم بعافية شوية وعيزاكي تطلي عليها إن أمكن يعني؟
ابتسمت فرحة للرجلِ الطيبِ وأجابت بدورها:
-حاضر ياعم فرج من عينيا.. اسبقني إنتَ وأنا جاية على طول.
- تسلم عينيك ياغالية يابنت الغالي.. باﻹذن أنا.
أسرعت فرحة تُجدل شعرها الطويل لتذهب للجارة ملبيةً طلبها عن طيب خاطر.
فتلك هي " فرحة " وكأنها أخذت نصيبها مِنْ إسمِها لتتقاسمه مع مَنْ حولها بنفسٍ راضيةٍ.. كم تسعد برسم بسمةٍ على شفاه أحدهم، أو معاونة آخر، لها مكانة خاصة في قلوبِ الجميعِ.. يحترمها الكبيرُ  والصغيرُ  رغم صغرِ سنها.. لم تمارسْ عملها كطبيبة بيطرية فهي لم تتخرجْ بعد.. ستبدأ رحلتها الدراسية لعامِها الأخير بعد فترةٍ قريبةٍ.. ومع ذلك يستشيرونها في كلِ كبيرةٍ وصغيرةٍ.. وهي لا تبخل أبدًا عليهم.. كيف تبخل وهي مَنْ اختارت ذلك المجال بمحض إرادتِها لتنفعَ بلدتَها  التي تفخر بكونها جزءًا منها.. كم  تشبعت تلك الفتاة بطيبةِ وأصالةِ تلك الأرض كأمها وجدتها.. تتورد وجنتيها عندما تتعمد النساء بمناداتها  بـِ
"جميلة جميلات القرية"
وهن لم يكذبن أبدًا فتلك العيون السوداء الواسعة وتلك الخصلات الكثيفة، تسابق الحريرَ في نعومتِه والفحمَ في سوادِه لتنتهيَ أسفل ظهرِها، تحيط كلَ هذا الجمالِ الهادئِ بشرة صافية لايشوبها شائبة ربما اكتسبت بشرتها بعضَ السمارِ بفعلِ الشمسِ الحارقةِ وهذا لم يزدْها اﻹ جمالًا.. والأكثرُ جاذبية صوتها العذب.. يتعمدُ كلُ مِنْ يمرُ أسفل نافذتها اﻹنصاتَ ليُطربَ نفسه فهي  لاتكلُ ولا تملُ من الغناء لورودِها.. لتصبحَ تلك "الفرحة" مرسى لأحلامِ معظمِ الشبابِ في بلدتِها..
ولكن نفسٌ كتلك محملةٌ بكلِ ذلك الشجنِ.. هل مِنْ الممكن  أنْ تكونَ خاويةً مِنْ العشقِ!
أنهت تصفيفَ شعرها وانطلقت مسرعةً تجذبُ  مقبض الباب وتخرج على عجالة.. لتصدم بأحد سكان منزلها
- إيه يافرحه مش تفتحي يابنتي !؟
هتفت معتذرةً:
- آسفة يا بابا ماخدتش بالي.
تابع هو بامتعاضٍ:
- هتاخدي بالك ازاي وإنتِ واخدة في وشك.. وبعدين رايحة فين بدري كده؟
أجابت متبسمةً:
- مفيش يا بابا دي الست أم إبراهيم جارتنا محتاجة لي..  شوية وراجعة مش هتأخر
- طيب متتأخريش.. فطرتِ ولا لسة ؟
- لا لسه أول ما أرجع هفطر على طول ماتقلقش.
- طيب أنا رايح المحل عايزة حاجة ؟
- عايزه سلامتك يا غالي.. عمومًا هعدي عليك كمان شوية في المحل نتسلى سوا.
غمغم باقتضاب :
-محل تاني يافرحة ! هتعملي أيه في محل عطارة.. أيه التسلية في كده مش فاهم، ماتجيش أحسن.
لوت شفتيها متصنعة الحزن:
- كده ياعم حسن تقول ماتجيش أحسن.
أحاطها بذراعه مهمهمًا  بحنوٍ:
- وأنا ماقدرش على زعل فرحة.. المشكله الزباين بتفضل تبصبصلك وأنا بضايق يافرحة.
ضحكت وهي تمسك بأحد وجنتيه بأناملها قائلة بمشاكسة:
- ماتخفش مفيش غيرك في القلب.
لم تكمل كلماتها حتى شهقت بصوتٍ أعلى وهي تركض للخارج قائلة بصياحٍ:
- ياخبر اتاخرت على أم إبراهيم.. ينفع كده ياحسن !
ضحك الأب وذهب ليؤدي صلاة الضحى قبل ذهابه لمحله الخاص بالعطارة والطب البديل.. فقد امتهن  "حسن الجارحي " مهنة أبيه وجده بالوراثة.. وابنته العنيدة تصر على الذهاب من وقتٍ لآخر  لتعاونه وهو يرفض رغم كثرة الزبائن في وجودها.. خصوصًا الرجال! يتعللون بأتفه الأسبابِ و أحاديثٍ لاقيمة لها.. والعنيدة  فقط لاتبالي.
ولكن أين لها بكل هذا العند فهي ابنة أمِها ..
زفر حسن بضيقٍ وهو يعود بذاكرته للماضي  يتذكر زوجته الراحلة.. كم يشتاقها لا يمر يومٌ إلا وتذكرها.. رغم زواجه بأخرى بعد خمسِ سنواتٍ من فراقها، لقد كان بحاجةٍ لزوجةٍ تعتني بالمنزلِ وتعتني بابنته.. ظنَّ في البدايةِ أنه يمكنه الاعتناء بكل شيءٍ وأهم تلك الأشياء طفلة بعمرِ العاشرةِ، لكن بعد مرورِ خمسِ سنواتٍ كان لابدَّ من الزواجِ لتأتيَ مِنْ تعاونه وتحمل عنه بعض الأعباءِ.. لولا هذا ماكان فكر بذلك أبدًا  فبعد فقدان حبيبته  لا توجد مَنْ تُعوضه.. نفض عنه ذكرياتَ الماضي ونهض يؤدي صلاته طالبًا لمن تذكرها الرحمةَ وجناتَ النعيمِ.
*****
كان ممددًا فوق فراشه يتكأ بظهره على أحدِ الوسائدِ و بين يديه أحد الكتب ولكن ربما لايرى من بين صفحاته غير البياض!
اخترق عزلته ذلك الأحمق كعادته دائمًا.. تمدد مستلقيًا على جانبه، رافعًا ذراعه ليتكأَ برأسه على باطن كفه قائلًا بمللٍ:
- بتعمل أيه ؟
زفر إسلام بحنقٍ وهو يردد:
- كنت صايع فين  لحد دلوقتي ؟ شايف الساعة كام.. مش ناوي ترحم نفسك يابني؟
تمدد باسل بكامل جسده على الفراش وأكمل بعدم مبالاةٍ لما قاله:
- سيبك إنت من الأسطوانه دي.. أنا جايبلك زبونة.
رفع إسلام حاجبيه بدهشة:
- زبونه ! إنتَ بتكلم ميكانيكي ؟
قهقه وعاد لوضعه الأول وأردف مِنْ بين ضحكاته:
- ياعم مش ميكانيكي إنتَ ضااااكتور قد الدنيا أنا قلت حاجة، أنا بقولك جايبلك زبونة هو مش شغلك كله زبونات.. ماتقنعنيش إنه فيه زباين رجالة.
وعاد يقهقه مرةً أخرى بقوةٍ.. فضرب الآخر كف بكف وقد بدأ يفقد صبره:
- اللهم طولك ياروح.. وبعدين  في الأهبل ده.
استعاد باسل  جديته وتحدث وكأنه يخبره بأمرٍ  هامٍ:
- خلاص ماتتعصبش، نتكلم جد بقى.. شوف ياسيدي في صديقة قديمة، لا  يعني مش قديمة قوي المهم هي حامل وعايزة تتخلص من البيبي، وهي قصدتني أحل لها المشكله دي.. أنا قلتلها بس مفيش غيره رجل المهام الصعبة.. هااا قلت إيه، آخد لها معاد؟
جحظت عينا الأكبرِ بذهولٍ قائلًا بغضبٍ يحاول جاهدًا التحكم فيه:
- حامل وصديقة قديمة، لا مش قديمة قوي وعايزة تتخلص من البيبي !
ثم استرسل بغضبٍ أكبرٍ :
-باااااااسل في أيه ؟ ومين دي ؟ وإنتَ أيه يخصك أصلًا بالموضوع ده ! اوعى تكون ...
قطع حديثه بصمتٍ في انتظارِ جوابٍ من الآخر.. تطلع إليه باسل في دهشةٍ قائلًا بنبرةٍ ساخرةٍ.. رافعًا أحد حاجبيه:
- أيه الفيلم العربي اللي إنتَ عامله ده ؟!
حاول إسلام استعادة هدوئه وعاد يسأله مرةً أخرى وهو يكز من بين أسنانه:
- طيب ممكن تتكرم حضرتك و تفهمني ؟
أجاب باسل بكل هدوءٍ:
- زي ما قلتلك صديقة قديمة.. وربنا كرمها وستر عليها، أقصد اتجوزت يعني بس جوزها "هيثم " طلع ابن ستين في سبعين وياعيني عليكي يا سهر  يصبحها ويمسيها بعلقه ولسوء حظها حبت تخلعه طلعت حامل، وهي مش عايزة عيال من  هيثم وحوارات.
صفق بكفيه مردفًا بجذلٍ:
- أوووم أيه ياسيدي لجأت لأبو قلب كبير وياحبة عيني سبتها مفلوقة من العياط صعبت عليَّ قلتلها متخافيش أخويا حبيبي هيحلهالك... هااا فهمت؟!
حرك إسلام رأسه يمنةً ويسرةً ثم رفعها للأعلى بزفرةٍ غاضبةٍ وأخيرًا صوب إليه نظره:
- وأنا مالي ومال الهرتلة دي كلها.. إنت أهبل صح ؟!
صمت قليلًا ثم أردف بنبرةٍ جادةٍ:
- أقولك احنا نطلع على الحاج ونحكي له الحكاية دي وهو جراح برضو، قلب من سهر مافرقتش كتير ونشوف بقى يقول أيه ؟!
تنحنح باسل ونهض واقفًا يتحدث بجديةٍ تامةٍ:
- إياكش تولع سهر على هيثم على البيبي في يوم واحد .. أنا مال أهلي بالليلة السودا دي.. تصبح على خير يا دوك.
وذهب فارًا من الغرفة تحت ضحكات شقيقه الأكبر :
- رايح فين يا أبو قلب كبير مالسه بدري.
*****
"ممكن تهدي يا لمار ومفيش داعي للقلق ده كله"
هتفت روان بتلك الكلماتِ محاولةً منها لتهدئةِ تلك التي تجاورها فوق الأريكةِ خاصتها.. تهز ساقيها بطريقةٍ تثير توترَ أي شخصٍ، عيناها ذابلةٌ والصداعُ يفتكُ برأسِها منذ أنْ زَفَّ لها والدها ذلك الخبر المشؤوم، نظرت لها قليلًا بصمتٍ وأردفت بنبرةٍ خافتةٍ:
- خايفة ياروان خايفة، ماما وبابا طايرين للسما  بعريس الغفلة ده وكأن مفيش غيره، مفيش على لسانهم غير كلمة لقطة لقطة، وأنا كأني مشلولة قدامهم.
ربتت روان على كتفها بحنانٍ وسألتها بتوجسٍ:
- لسه ماردش عليك برضو؟
هزت رأسها نفيًا  بوهنٍ وهي تجاهد حتى لاتظهر دموعها وأجابت بنبرةٍ حائرةٍ:
- لا ماردش، وبعدين تفتكري لو رد يعني هقدر أقول له تعالَ اطلبني من بابا ! هطلب منه يتجوزني عشان في عريس متقدم لي وأهلي موافقين حتى من قبل ما يشوفوه !
- معرفش تقولي أيه بس اللي أعرفه إنه بيحبك والمفروض وقت زي ده يكون جمبك مش قافل موبايله ومكبر دماغه.
نهضت لتقف أمام النافذة.. تستنشق بعض الهواءِ الباردِ لتطلقَ بعدها تنهيدة حارقة:
- مش لما يصرح بحبه الأول بطريقة مباشرة.. كل أفعاله تقول إنه بيحبني بس مقالهاش ياروان، يمكن لو صارحني كنت قدرت أتكلم معاه.. لكن كده صعب قوي.. هو المفروض  اللي ياخد الخطوة دي مش أنا.
نهضت روان بدورها لتجاورها وهي تكتف ذراعيها وأردفت بعدم رضا:
- مش فاهمة، إنتِ ناويه متقابليش العريس بكرة  ولا إيه ؟ كده خالتو وأنكل عز هيزعلوا وكمان هتحرجيهم قوي.. لمار إنتِ لازم تحطي النقط على الحروف بقى.
استدارت لها بقوة وأجابت مسرعةً:
- لا طبعًا هقابلهم إنتِ عايزه ماما وبابا يدخلوني في سين وجيم، بس..
وأعادت النظر للفراغِ وهي تتبسم وقد لمعت مقلتيها بتحدٍ.. فهتفت روان
- بس أيه .. هااااي رحتي فين ؟!
همست تلك المرة بهدوءٍ ومازالت محتفظةً بإبتسامتها:
- هحط النقط فوق الحروف ياروني، بس الأول مع عريس الغفلة طبعًا.
*****
أعاد النظر لبذلته حتى يتأكد من مظهره ربما للمرة العاشرة.. تبسَّم لنفسه ببلاهةٍ وهو يردد داخله:
"حتمًا ستفقدك لب عقلك.. هذا إنْ لم تكن فعلت.. كيف إذا حدثتها لدقائقٍ معدودةٍ، أو نظرت لعينيها، من المؤكد أنك ستغرق داخلهما وربما لنْ تفيقَ إلا بسببِ صفعةٍ قويةٍ لجرأتك تلك"
عاد يُهدئ نفسه ويحثها بالتعقل:
"اهدأ إسلام ماذا ستقول عنك؟
مجنونٌ؟
ربما أحمقٌ تليقُ بكَ أكثر"
نفض تلك الأفكار الغريبة عن رأسِه وعاد يتبسم ثانيةً، فهو بعد سويعاتٍ قليلةٍ سوف يقابلها.. يتحدث معها سيروي ظمأَ عينيه برؤيتها سيرى "لماره" ..
كانت حقًا بريقًا كإسمها ظهرت له من اللاشئ لتبددَ يَّ ظلامٍ يحيط به ولا يرى سوى بريقها، كان يومها ذاهبًا للجامعة  لعمه "مراد" ليخبره بأمرٍ جللٍ لا يحتمل الإنتظار، بينما يسير ويتمتم بحنقٍ:
" مش فاهم بيقفل موبايله ليه ؟ عشان مايشتتش تركيز طلابه الأغبياء أضرب أنا المشوار ده كله.. زودتها قوي يامراد"
فقط صدامٌ عابرٌ.. مشهدٌ يتكرر كثيرًا أحيانًا بقصدٍ وأحيانًا بدون، لتلملمَ تلك الجنية أغراضها المبعثرة وترحل مع غضبها في الفراغ وكأنها تبخرت.. وهو حتى لم ينبسْ ببنت شفة وكأنها أخذته لعالمٍ آخرٍ ، توقف الزمنُ حوله لعدةِ دقائقٍ، استعاد بعدها بعضًا من وعيه ليكملَ ما قدم لأجله، وأخيرًا عثر عليه، ولكن مهلًا.. إنها هي.. جنيته !
بصحبةِ عمه ليس هذا فقط إنها تبتسم وتضحك.. ربااه..  كيف لها أن  تفعل ذلك؟!
لم ينسْ تلك النظرة التي خصته بها عندما تلاقت نظراتها بعينيه، كانت مزيجًا من الدهشةِ والغضبِ معًا، ولم لا تغضب وقد أفسد ملابسها الجميلة بمشروبها حينما اصطدم  بها، ألقت بعدها التحية وذهبت متعذرةً بعملٍ ما، وذلك التائه نسى تمامًا سبب حضوره!
فقط انفرد بعمه و تقمص دور المحقق وأخذ ينهال على المسكين باﻷسئلة
ما اسمها؟
مجال دراستها ماهو ؟
عمرها ؟
وهل هي ترتبط بشخصٍ ما؟!
وخرج سؤاله الأخير بوهنٍ وأملٍ ب "لأ".
وكان ردُ العمِ مراد مغلفًا بالدهشةِ، ونعته بالجنونِ.. وسرعان ما أتاه الجوابُ على لسانِ المجنونِ:
- هي دي اللي بدور عليها.. أخيرًا لقيتها.. أنا عايز أتجوزها يامراد.. بس إنتَ ماقولتليش اسمها أيه؟!
لتعلو ضحكاتُ مراد.. والواقفُ أمامه يكاد يتميز من الغيظِ.. وأخيرًا تخلص مِنْ نوبةِ الضحكِ تلك وتشبث بآخر بقايا عقل لابنِ أخيه ليخبره أنَّ عامها الدراسي الأخير أوشك على الانتهاء ليدعها تنتهي أولًا ولا يشغلها  عن حلمها وهي قد أوشكت على تحقيقه.. بعدها يمكنه فعل ما يريد، يخبرها عن مشاعره المجنونة تلك، أو حتى يتزوجها ثم يخبرها.
وافق الآخر على مضضٍ، ولم يستطع منع نفسه من الذهاب والتلصص عليها عن بعدٍ فقط ليراها ويُطمئن نبضات فؤادِه العاصفة بعشقِ تلك الفتاة .
أعاده لحاضره طرقاتٌ متتاليةٌ فوق بابِ الحجرةِ ليهمسَ لحاله بمللٍ
"من المستحيل أن أنعم ببعض الهدوء والسكينة في ذلك المنزل، قسمًا 'لماري' حين تصبحين ملكي سأهرب بكِ بعيدًا عن هؤلاء المزعجين"
وقبل أن يصل للباب ويفتحه كانا قد توسطا الغرفة، بحفلٍ من نوعٍ خاصٍ يعلوه التصفيق والصفير :
يا نجف بنور يا سيد العرسان
يا قمر ومنور ع الخلان
آه يا نجف حلو يا نجف آآآه
حلو ومدلع من يومك
اسم الله عليك ملو هدومك
وآآآآآآآآآآآآآآه ياااا نجف
أنهت ساندي دورَ الراقصةِ بطبعِ قبلاتٍ متفرقةٍ فوق وجنتيه ليبعدها هو ضاحكًا:
- أيه يا بنتي الأوفر ده.. هو أنا رايح أحارب أنا رايح أخطب ياجدعان.
أردفت ساندي بسعادةٍ بالغة:
- أخيرًا عقدتنا اتفكت وحد هيتجوز فينا.
أكملت حديثها وهي تشير بسبابتها نحو الآخر:
- الدور الجاي عليك ياكابتن.
ليتلقى باسل سبابتها وكأنها رصاصة خارقة لتوقع به فوق فراش أخيه ممثلًا دور المقتولِ ببراعةِ لاهثًا بين أنفاسه الأخيرة:
- فال الله ولا فالك ياشيخة.
ثم استعاد كامل وعيه ليخبرها بمشاكسةٍ:
- طيب ادعي لنفسك يا عانس اللي زيك معاهم عيل واتنين.
لتشهقَ بعدها ساندي بقوةٍ وتهتف من بين أسنانها:
- أنا عانس يا حيوان، عجبك كلامه يا إسلام ؟
زفر إسلام بحنقٍ وهو يتأبط ذراعها ذاهبًا بها نحو المرآة:
- بذمتكم ده وقت مناسب للكلامِ الفاضي ده، ها أيه رأيك حلو، يعني أعجب ؟!
ضحكت ساندي.. بينما أجاب باسل بسخريةٍ:
- يعني بقالي ساعة بصفر وأغنيلك يا نجف ومدلع من يومك.. طبعًا تعجب ونص.
تبادلا الضحكات بينهم.. ثم أخبرتهم ساندى:
- خالتو نجوى وياسمينا تحت.. تعالَ سلم عليهم قبل ما تمشي .
هبطا الدرج وذهبا حيث تجلس والدتهم بصحبة شقيقتها وابنتها، وبعد تبادل السلام والتحيات.. أردفت الخالة بامتعاضٍ:
- مبروك يا إسلام، ربنا يتمم بخير.
- الله يبارك فيك ياخالتو ، عقبال ياسمينا.
بينما نهضت ياسمينا ببطئٍ تجاوره.. قائلة بحزنٍ وهي تعدل من وضع نظارتها الكبيرة :
- خلاث يا إثلام هتتجوز وتثبنا ؟
ليجيبها باسل سريعًا كعادته دائمًا:
- آه يا ياثمينا هيتجوز  ويثبنا بث إنتِ زعلانة ليه ياثكر ؟
نظرت له ياسمينا بغضبٍ لسخريته تلك وأردفت بحنقٍ شديدٍ:
- بااااااثل إخرث ! وإنتَ مالك  أثلا هو إنتَ العريث ولا كنت إنتَ العريث يعني ؟!
ليكتم الإخوه الثلاث ضحكاتهم بصعوبةٍ تحت نظرات والدتهم المليئة بالوعيد، ليقول إسلام بعدها :
- طيب مش تجهزي يا ماما كده هنتأخر على ميعادنا ؟
لتجيب شاهي بمللٍ:
- يابني مستعجل على أيه لسه بدري، هي العروسة هتطير؟
- ماااااامااا !
- خلاص هسكت.. إما أشوف آخرة دماغك الناشفة دي أيه ؟
لتتدخل الخالة بفضولٍ:
- ليه يا شاهي هي العروسة مش قد المقام ولا أيه.. ده أنا قلت عروسة إسلام الشافعي هتكون على الفرازة.
تنهي شاهي الحديث تحت نظرات ابنها الغاضبة:
- لسه يانوجا هنروح ونتعرف عليهم، بس أكيد إسلام مش هيتجوز أي واحده يعني.
لتودعهم  بعدها نجوى وابنتها، ليتخذ كل منهم طريقه، بينما عقلها  يفكر في مشاريعٍ جديدةٍ ربما تنفع مع الابنِ الأصغرِ بعد فشلٍ ذريعٍ لمخطاطاتِ وقوعِ اﻷكبرِ .. فهي لايشغلُ بالها سوى الخلاص من تلك الياسمينا الحمقاء !
*****
ترحابٌ شديدٌ من أهلِ العروسِ
يليه تناول بعض النقاشاتِ المختلفةِ
ليفصحَ بعدها  عن سببِ الزيارةِ
ومطالبةٌ شخصيةٌ  من العريسِ برؤيته الشرعيةِ
ليتبع بعدها أمر من والدِ العروسِ بحضورها لترى ذلك الأمير الوسيم الذي جاء خصيصًا ﻷجلها وداخل مقلتيه بريقٌ لا ينطفئ بل يكاد يبصره الأعمى.
ربما دقائقٌ أو ربما توقف الزمنُ مع الجنيةِ الجالسةِ أمامه وتحرمه من النظرِ لعينيها بالنظرِ لتلك السجادةِ اللعينةِ.
وبدلًا من أن يُفصح هو عن مكنوناتِ خافقه المجنونِ تُلجمُ هي لسانه بل  تُشل حركته كليًا بكلماتها القاسيةِ:
"إنتَ شخص كويس وأي بنت تتمناك بس أنا آسفة قلبي مبقاش ملكي! "

يتبع..

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن