الفصل الرابع

80 2 0
                                    

(4)
ذكريات.. ولكن

بسطت أشعة الشمس خيوطها الذهبيةِ على الأراضي الخضراءِ الواسعةِ مانحةً الأجواء الدفءَ والحرارةَ.. تململتْ في فراشها الدافئ، تلتقطُ أناملها المنبهِ الساكنِ بدوره فوق المنضدةِ المجاورةِ لفراشها.. إنها الثامنة صباحًا.. أعادته لموضعه السابقِ، بينما ارتسم على ثغرها بسمةَ سعادةٍ بالغةٍ فاليوم عودة جدتها من عروسِ البحرِ لم يمضِ شهرًا على فراقها إلا أنها افتقدتها كثيرًا..
أخبرتها يوم رحيلها أنها ستغيب فقط لأسبوعٍ واحدٍ، حتى تطمئن على ولديها وأحفادها، لقد أخذتهم جميعًا دوامةُ العملِ وزيارتهم أصبحت ناردةً فقررتْ هي تلك المرة المبادرة بالزيارة لكن بات الأسبوع اثنان وثلاث بلا اقتربت رحلتها الأسبوعيه لإتمامِ الشهرِ.
في بدايةِ الأمرِ عرضت عليها الجدةُ مرافقتها ليقضيا رحلتهما سويًا.. من ناحيتها أغرتها الفكرةُ كثيرًا وتمنت لو تتحقق وما لبثت حتى أعلنت لوالدها عن رغبتها ورغبة جدتها في مصاحبتها، حاولت وحاولت ولم تتوانَ عن أي فرصةٍ تجدها للإقناع.. لكن دون فائدةٍ ذهب إصرارها وغضبها أدراج الرياحِ.. رفضُ الأب كان قاطعًا غير قابلٍ لنقاشٍ متعللًا بعدم احتمالِ فراقها؛ فهي روحه الوحيدة التي تبثُ فيه الحياة كيف تتركه وتغيب لأسبوعٍ كاملٍ.. وما كان منها غير أنْ تذعنَ وتمتثلَ لقرارِ أبيها.. ففي النهاية هو ربُ المنزلِ من يملك القرارات.
نهضت مسرعةً والنشاطُ يدب في أوصالها.. سرعان ما ذهبت واغتسلت، توضأت، أدت فرضها وأخيرًا وقفت أمام خزانةِ ملابسها.. حسنًا يجب أن تختار اليوم ملابسها بعنايةٍ!
ألم أخبركم أنَّ الجدة ستصل قريبًا؟
ويجب أن تكون "جميلة جميلات القرية" في أبهى صورة !
حسنًا.. كل تلك الجلبةِ والنشاطِ الزائدِ ربما لأنَّ الجدةُ لن تأتيَ بمفردها.. فهناك من يصاحبها.
بعد المهاتفةِ المسائيةِ التي تلقتها من "ساندى" كعادتهما اليومية وأخبرتها أن المصاحبَ اليوم مختلفٌ.. فالمتعهدُ والمتكفلُ بتلك الخدمةِ العظيمةِ للجدةِ العجوز غاضبٌ وغيرُ متواجدٍ بالمنزلِ ولا رغبةَ لأحدٍ بالإحتكاك به حاليًا.. ولمن ستذهب المهمة بالطبع؟
نعم بكلِ تأكيدٍ لذاك "الكابتن".
تخبط واعترض.. وحجته ضيق الوقت وأنَّ عطلته الرسمية أوشكت على اﻹنتهاء، كيف له أنْ يذهبَ كل تلك المسافة بالسيارة؟ فقط لأنَّ الجدةُ تخاف ركوب الطائرات.. اللعنة لم صُنعت إذًا؟!
وإصدارُ فرمانٍ مِنْ والده كافٍ ليلجمَ لسانه عن الثرثرةِ الزائدةِ وينصاع رغمًا عنه.
كانت تلك تفاصيل المهاتفةِ.. لكن كل ما يهمها الآن أنه آتٍ، رغمًا عنه أو عن طيبِ خاطرٍ.. هو آتٍ.
وهذا يكفيها الآن.. مرَّ عامٌ كاملٌ وقتما ذهبت مع والدها ليقضيَ بعضَ الأعمالِ هناك، وهي مكثت في منزلِ خالها ليومين رأته حينها مرتين لا أكثرَ وكان دائمًا في عجالةٍ مِن أمره ولم تره من بعد تلك الزيارةِ.
طرقاتٌ على الباب جعلتها تنتبه من شرودها وتظبط تلك البسمة البلهاء المنحوتة فوق ثُغرها الجميل منذ مساء البارحةِ.. فُتح الباب وطلت برأسها امرأة ثلاثينية تحمل ملامحًا هادئةً في كلِ شيءٍ..
عيونٌ ناعسةٌ، بشرةٌ خمريةٌ، وشعرٌ أسودٌ ليس بالمتفحم الماثل أمامه لكن لابأس به.. قالت بإبتسامةٍ هادئةٍ:
- أيه يا بنتي كل الدوشة دي على الصبح؟
نظرت لها فرحة وقد بادلتها نفس الإبتسامة:
- صباحك فل وورد يا أحلى عمتو في الدنيا.
ضحكت الأخرى بدورها وهي تتوسط الغرفة لتجلس بعدها على طرفِ الفراشِ قائلةً:
- امممم لا المزاج عالي قوي النهاردة خير يابنت حسن في إيه مدهولك كده؟!
- طول عمرك لماحة وتفهميها وهي طايرة يا نبيلة.
زمت نبيلة شفتيها ونظرت لها بنصفِ عينٍ:
- بت يا فرحة مالك في إيه؟
تحركت فرحة عن خزانتها حتى قابلتها في وقفتها قائلةً بسعادةٍ:
- إنتِ ناسية إن تيتة طمطم جاية النهاردة ولازم طبعًا استقبلها هلبس وأروح استناها في بيت جدي علشان لما توصل تلاقيني هناك.. أنا مش قولتلك الكلام ده بالليل إنتِ نسيتي يا بلبلة ولا إيه؟
صمتت نبيلة قليلًا تعيد النظر بتمعنٍ في الماثلة أمامها وغالبًا فطنت مايجري فهي ليست ابنة أخيها فقط بل ابنتها التي لم تنجبها يومًا وهي تحفظها عن ظهر قلبٍ:
- امممم لأ مش ناسية إن طمطم جاية بس ماقولتيش مين هيجبها، أكيد إسلام زي كل مرة مش كده؟
عادت لخزانتها تقلب في محتوياتها دون هدفٍ فقد اشتعلت وجنتيها بحمرة الخجل تحت نظرات عمتها المشاكسة وأخيرًا أجابت بنبرةٍ متلعثمةٍ للغاية:
- تؤ مش إسلام لأ.
تعالت ضحكات العمة بينما تطالعها فرحة بغضبٍ وتزوم شفتيها هامسةً بخجلٍ:
- اسكتي يا بلبلة بقى دلوقتي بابا يسمعك تضحكي ويجي يقول بتضحكوا على أيه.
هدأت نبيلة من ضحاتها قسرًا ثم نهضت بدورها تجاورها أمام الخزانةِ التي تبدو ضائعةً مع محتوياتها:
- طيب ما نقول له بنضحك على ايه.. إلا احنا صحيح بنضحك على أيه يافرحة؟
تنهدت في غضبٍ طفوليٍ وهتفت متكتفةً الساعدين:
- ممكن تبطلي تكسفيني ياست نبيلة هانم ولا مش ممكن؟
لفت نبيله ذراعها حول كتفيها و ضمتها إليها ثم أردفت بحنانٍ:
- خلاص ماتزعليش.. يلا نشوف هتلبسي إيه من الدولاب اللي حضرتك بهدلتيه خالص.
أردفت فرحة بحماسٍ وهي تواجه عمتها:
- أيوه يا عمتو عايزة أكون أحلى واحدة النهاردة.. عايزة أكون جميلة في نظره و..
قطعت حديثها وهي تمسك رأسها بكفيها.. تنظر لعينيها قائلةً بنبرةٍ أموميةٍ:
- هشششش.. أولًا إحنا قولنا ايه قبل كده؟ ماينفعش عواطفنا تحركنا.. لما عواطفنا هي تتحكم فينا يبقى العقل لزمته إيه؟ ثانيًا أنتِ زي القمر يا قلب عمتو ومافيش داعي تعملي أي حاجه.. ثالثًا بقى والأهم اللي يحبك لازم يحبك زي ما أنتِ يحبك لأنك كده مش علشان أي حاجه تانية.
ألقت بجسدها بين ذراعيها تضمها.. قائلةً بصوتٍ متهدجٍ:
- أنا بحبك قوي يا عمتو.
لتشد الأخرى على ضمها وتردف:
- وأنا بحبك أكتر يا روح عمتو.
نبيلة إمراة تزوجت وهي ذات العشرين ربيعًا.. لم تحلم بحياةٍ ورديةٍ وقصةِ عشقٍ تتداولها ألسنة نساء القرية ويتبادلن بعدها السخرية ومصمصة الشفاه.. كأن العشق في تلك الحياة غير مباحٍ!
لم يبذل والدها أي جهدٍ آنذاك في محاولةٍ لإقناعها بعدما أخبرها أنها ستسعد أيامها برفقة هذا الرجل.. وماذا تتمنى فتاة ريفية بسيطة غير السعادة؟.. وتزوجت ومرَّ عامٌ وتبعه عامٌ ولا ذرية تريحها من إهانة زوجٍ يطالب بالولدِ ليل نهار.. وبعد ثلاثةِ أعوامٍ، فقد الأمل والموانع غير معروفةٍ وتزوج بأخرى.. مَنْ ستمنحه الولد.. والخيار كان لها؛ تظل حبيسةَ ميثاقٍ يؤمن لها المأوى والمأكل والمشرب أو ترحل.
وهي اختارت الثاني..
فماعاد الزوجُ زوجًا ولا الميثاقُ ميثاقًا.. وعادت لمنزلِ أخيها، فلا مأوى لها غيره وتقبلها بصدرٍ رحبٍ وهي تحمل لقب "مطلقةٍ"
مرت تسعة أعوامٍ على تلك الذكرى..
وخلال تلك المدةِ تكفلت فرحة بزرعِ البسمةِ والإحتواءِ الذي ظلت تبحث عنه العمة دائمًا ولم تجده.. اقحمتها داخل عالمها الخاص واعترفت لها بكل ما تعتمله داخلها شاركتها أحلامها وأمانيها والأخرى استشعرت حالها داخل تلك الجميلة كأنما أعادت لها صباها فلا تشعر بفارقِ العمرِ معها، بل غدت تشاركها أيامها وأحلامها و لم تتهاون في إسداء النصح دائمًا.. هي موقنةٌ أنَّ ابنة أخيها لديها عقلٌ ناضجٌ وتفكيرٌ سليمٌ لن يجعلها تميل عن الصواب.. لكن أحيانًا تختلف الموازين ولا يصبح للعقل القدرة الكافية لمواجهة موجاتِ القلبِ الهائجةِ..
فالجميلةُ عاشقةٌ.. وفي العشقِ تختل الموازين.
* * * * *
ضغط فوق مزود السرعة بقوةٍ أكبر وهو ينطلق في طريقه الريفية الغير ممهدةٍ والجدةُ المسكينةُ، الساكنةُ بالمقعد المجاورِ له داخل سيارته تهمس بين الفينةِ والأخرى بالشهادة؛ فذلك المجنون يقود بسرعةٍ جنونيةٍ.. ولولا أنها متأكدةٌ أنه حفيدها ويحبها كثيرًا لظنت أنه يريد سطر نهايةِ العمرِ بقيادته المتهورة تلك.
تنفست الصعداء حينما رأت المسافات تنطوي وتقترب من بيتها الذي اشتاقت له بكلِ ما تحمل الكلمة من معنى.. أخبرته بغضبٍ واهنٍ فما شعرت به في الساعاتِ الماضيةِ جعل سائرَ جسدِها متعبًا:
- ربنا يسامحك يا باسل.. كده يابني كنت هتودينا في شربة مية.
ثم أردفتْ في تحسرٍ ومصمصةِ شفاهٍ:
- الله يمسيك بالخير يا إسلام حوجتني للمجنون ده.
ضحك باسل بقوةٍ هاتفًا بمرحٍ:
- ماكنتش أعرف إن قلبك خفيف كده يا طمطم.
اعترضت بغضبٍ جللٍ:
- خفيف أيه يابني هو احنا كنا ماشين على الأرض أصلًا!.
تابع بإبتسامةٍ هادئةٍ:
- خلاص يا حاجه وصلتي بيتك بأمان.. حمدالله على السلامة.
ولجت للداخل لمنزلها.. مأواها الدافئ وملاذها الآمن.. أينما ذهبت يظل هذا المنزل هو دفئها، وليس الدفءُ جدرانًا و أثاثًا عتيقًا.. كلا، ذكرياتها هنا هي دفئها التي لا تحتمل الإبتعاد عنها فكلما ابتعدت اشتاقت وعادت..
ما إن دخلت حتى وقع بصرها على فرحتها كانت تنتظرها مع زينب، المرأة التي تقيم معها وتقوم على خدمتها ولا تتركها أبدًا بأمرٍ من أبنائها.. عناقٌ حارٌ طال لدقائق ثم عتاب بحنين.. ورغم اشتياقها لها لم تستطيع أن تبعد بصرها عن الباب تنتظر دخوله.. لكن أين هو؟
سألت جدتها بهدوءٍ:
- هو باسل فين؟ ساندي قالت لي هو اللي هيوصلك مش إسلام.
- اسكتي يافرحه ماعدتش هركب مع المجنون ده خالص كان ناوي يموتنا النهاردة فاكر نفسه راكب طياره على الأرض.
ضحكت فرحه بخفوتٍ بينما أكملت الجدة:
- ماعرفش يا بنتي جاب الشنط من العربيه وخرج تاني روحي شوفيه علشان يتغدى ويرتاح شويه أكتر من سبع ساعات سايق أكيد تعبان.. وأنا هروح أشوف زينب جهزت السفرة ولا لسة..
.....
سحب نفسًا طويلًا يستنشق الهواء النقي ويتطلع حوله.. كبرت الشجيرات الصغيرة بل تغيرت ملامح البلدة ككل فمنذ أكثر من خمسِ سنواتٍ لم يقم بزيارتها.. والمنظرُ الجذابُ حوله يعاتبه، أخذ يدور في المكان كأنه يتعرف عليه لأول مرةٍ.. يتطلع لبساطة البشر حوله ويبتسم، يحسدهم على راحة بالهم وضحكاتهم الصادقة، ربما لا تتوفر لديهم خدمات ولا تفتح في العلم والعلاقات كالمدن رغم ذلك لايرى أمامه غير أيقونةٍ للبساطةِ والجمالِ، تلك الحياة لها رونقها الخاص.. أخذ نفسًا عميقًا من جديدٍ ومن ثم استدار ليعود لجدته لكنه توقف حينما صُدم بزوجٍ من العيون السوداء تحملق فيه وبشدة.
بعدما تركت جدتها وخرجت تبحث عنه خطت بهدوءٍ خارج المنزل تبحث عنه بعينيها تنظر هنا وهناك لا تراه.. دب الخوف في أوصالها دفعةً واحدةً.. يا إلهي هل عاد أدراجه دون أن تراه؟
لكن سرعان ما هدأت عندما رأت سيارته مصفوفةً جوار المنزل.. وقبل أن تدور بعينيها مرةً أخرى تسارعت نبضاتُ خافقها واضطربت أنفاسها وارتباكها من أن يسمعها.. حمدت الله كثيرًا أنه يوليها ظهره، رأته يتنقل بعينيه هنا وهناك تارةً يمسك بعض الزهور الصغيرة التي نبتت بين الشجيرات وأخرى يعبث بأوراق الشجر.
رباه..!
هل هو أمامي، هل أبصر ملامحه دون شاشةِ هاتفٍ أو صورةٍ ورقيةٍ حفظت ملامحه.. لقد تغير قليلًا.. نعم ربما ازدادت وسامته وشعره استطال أيضًا لطالما كره قصه؛ يفضله هكذا طويلًا بعض الشيءِ.. سرواله الأسود وقميصه يحمل نفس اللون.. رباه كم هو وسيمًا!
نهرت نفسها بحدةٍ على أفكارها الجريئة وهي تهمس لحالها:
"تغازلين الشاب دون حياءٍ يا حمقاء"
وقبل أن تسترد رباطةَ جأشها باغتها هو باستدراةٍ، لتقع عيناها السودويتان في أسر عينيه التي أخذت تتفحص ملامحها وتمر ببطئٍ وتمهلٍ على كثبِ شعرها الأسود الطويل وهو يتمتم بداخله
"ماشاء الله"
استمر الحال لثوانٍ معدودةٍ لتهرب بعدها ببصرها في ارتباكٍ بينٍ، تريد استجماع أي كلمةٍ.. ماكان طلب الجدة؟ حقًا لا تتذكر فقط تتلعثم ولا يخرج أي حرفٍ منها..!
وقتها شعر بإرتباكها، تقدم ناحيتها وإبتسامته الجذابة تُزين محياه قائلًا:
- فرحة.. إزيك؟
ابتلعت لعابها وهي تجيب بخفوتٍ:
- الحمد لله.. إنتَ إزيك ؟
أجاب ومازال محتفظًا بإبتسامته التي ستفقدها وعيها عما قريبٍ لا شك:
- الحمد لله تمام.
بادرت هي وكأنها تختلق الأحاديث:
- هو إسلام ماجاش ليه المرة دي؟
رفع حاجبيه في إستنكارٍ:
- و هو أنا مانفعش ولا إيه؟
لامت نفسها سريعًا على ماقالت وأسرعت معتذرةً:
- لا والله ماقصدش كده خالص.
ضحك بمرحٍ مغمغمًا:
- طيب إهدي خلاص ماحصلش حاجه.. أنا بهزر معاك وإسلام ماجاش علشان ظروف شغله.. ها خلصتي دراستك ولا لسة ؟
اغتاظت من أسلوبه.. كأنه يتحدث لطفلةٍ في العاشرة مثلًا.. ألا يدري أن فارق العمر بينهما عامٌ واحدٌ وبعضُ الشهور فقط لا غير، احتفظت بإغاظتها لنفسها وأجابت بهدوءٍ:
- إن شاء الله دي آخر سنة.
هتف بمرحٍ:
- إن شاء الله تتخرجي وتكوني دكتورة بهايم قد الدنيا.
رفع الحاجبين دورها ولم تستطع إخفاء غضبها أكثر.. في البداية عاملها بأسلوب طفلة، ثم جهله بأمورها، والآن يسخر منها..! من يظن نفسه ذلك الأرعن، هتفت بحنقٍ وعيناها تنظر له بغضبٍ قائلةً:
- بهايم !! الملافظ سعد يا كابتن.
ضحك بخفوتٍ لغضبها الظاهر.. هل هناك أسهل من إثارة غضب أنثى؟
حسنًا حتى الآن لا..
اتخذ نبرة جدية قائلًا:
- طيب هشوف طمطم بقى أنا واقع من الجوع، تعالي إتغدي معانا.. أنتِ مكسوفة ولا أيه.. لا لا ماتتكسفيش تعالي يلا.
أنهى حديثه وهو يسرع الخطى لداخل المنزل بينما هي تضرب الأرض بقدمها غاضبةً.. إن لم يفعل هذا لن يكون باسل الذي تعرفه.. خطت هي الأخرى للداخل بينما يهمس لسانها بخفوتٍ:
- غبي.
* * * * *
تمدد بجسده المتعب فوق الأريكةِ الجلديةِ، أنامله تفكك بعض من أزرار قميصه بينما ارتاح اﻵخر على المقعد المجاور؛ يتفرس في ملامحه في صمتٍ لعدة دقائقٍ ليغمغم بعدها:
- وإنتَ ليه تخلي شكلك وحش قدام أبوك؟ كنت قلت الحقيقة هي ماتستهلش تعمل كده علشانها.
مسد رأسه من الجانبين بأصابعه وأجاب بهدوءٍ:
- ماينفعش يابدر.. ماكنش ينفع أبدًا أقول غير كده، حط نفسك مكاني كنت هتعمل كده بالظبط.
ضحك بسخريةٍ قائلًا:
- يابني البنات دول كائنات تافهة بطبعها وإنتَ لسه ماشي وراء الحب والكلام الفاضي ده، وأول نظرة وآخر نظرة وعايش دور شهيد الغرام.
- تشكر ياذوق واتفضل إمشي يلا عايز أنام شوية..
أنهى حديثه وهو يتخذ موضع النوم واضعًا ذراعه فوق جبهته:
- إنتَ مناوبة النهاردة؟
- امممم والأمن مستتب الحمد لله.. هنام شوية.
- طيب خليني معاك ؟
- لا روح إنت عشان تتطمن على الحاجة مايصحش تسيبها لوحدها كل ده.. ومتنساش تسلملي عليها.
خرج بدر مودعًا صديقه بعد ما أنهى الآخر حديثه متخذًا من النوم موضعًا.. أغمض عينينه وطرد أي شيءٍ يمكن أن يعكر صفو ذهنه وماهي إلا دقائق وراح يغط في سباتٍ عميقٍ.
* * * * *
هجرها النعاس.. باتت الدموع رفيقة لياليها، تكورت بجسدها على فراشها تدفن رأسها.. تكتم شهقاتها الخافتة.. العبرات تبلل وجنتيها دون انقطاعٍ، تستشعر برودةً قارصةً تغلفها، لم تكن تلك البرودة بجسدها.. كلا، كانت بداخل قلبها الساكن بين ضلوعها، بل تكاد تجمد روحها.. ببساطة الكون أخبرها أنها لاتعني له شيء ثم تركها ورحل.. هل هكذا يعشق الرجال!
ما إن يوقع الفتاة في حبال عشقه يتركها معلقةً بين ذكرياته تريد الخلاص ولا تدري كيف؟ تعلمت لفظ الحب لأجله حتى استاغته.. نعم هو رحل لكن ذكراه اللعينة تأبى الرحيل لازالت تتذكر كيف أنقذها من بين موجات البحرِ الغادرةِ والتي كادت أن تقضيَّ عليها غريقةً في أعماقه.. بينما هي تصارع الموت بأنفاسٍ لاهثةٍ وقلبٍ يخفق بجنونٍ وهلعٌ، أتى هو ليكون منقذها.. انتشلها بكلِ حرفيةٍ من بين الأمواج، ظلت تتطلع على ملامحه في جمودٍ وخجلٍ وتتسائل.. مِنْ أين أتى هذا؟ وعندما وصل بها لشاطئٍ أنزلها من بين ذراعيه بحذرٍ وهي مازالت شاردةً فيه.. همت أن تنطق بشكرٍ ليبتر هو كلماتها بهمسٍ دافىءٍ:
"هو في حورية تغرق في البحر؟ ينفع كده!"
ثم ودعها بإبتسامةٍ جذابةٍ وغاب وسط همهمات الأهل وقلقهم وهي.. عيناها فقط معلقةٌ بخياله الراحل وعقلها يردد كلماته..
يا إلهي مضت شهورًا على تلك الذكرى الأليمة.. نعم، هي لم تكن كذلك لكن الآن هي أليمة وموجعة بحقٍ.. ظلَّ طيفه من بعدها لا يفارق خيالها لأيامٍ، سكن أحلامها الخيالية دون سابقِ دعوةٍ، اخترق وحدةَ قلبها بسلاسةٍ، وبعد مرور أسابيعٍ همت بطرده خارج عالمها. يكفي ما أخده من حيز تفكيرها وأحلامها في الليالي الماضية.. لكن شاء القدر قبل أن تفعلها عاد من جديدٍ..
لن تنسى تلك الليلة.. حقًا كانت ليلةً لا تُنسى، كانت آنذاك في عرس لإحدى صديقاتها، تتحدث وتضحك معهن بسعادةٍ.. يلوحن لصديقتهن العروس بمشاكسةٍ.. حينها ظهر هو كما ظهر من بين الأمواج أول مرةٍ.. لكن يومها كان مختلفًا يرتدي حلة رسمية بربطة عنق متناسقة.. ويحمل جيتارًا يعزف فوق أوتاره بأناملٍ خبيرة.. سكت الجميع وهي أولهم.. خفتت الأضواء قليلًا وهو يتنقل بين الحضور بمرحٍ.. يرميها بنظرةٍ خاصةً بين الفينةِ والأخرى ليخبرها بصوته العذب أنَّ تلك الكلمات لها وحدها ..
وبقولك ايه تعالي جالي كلمتين في بالي
مش هخبي مش هداري بعترفلك ايه جرالي
متغمضيش عينيكي لما اقولك ع اللي فيها
إنتِ اللي جوا قلبي واللي ياما حلمت بيها
اقترب أكثر وإبتسامته العابثة تزداد جمالًا وتابع يدللها بصوته:
يا أم العيون بريئة ليكي في الكلام طريقة
حيرتني في الحقيقه مش هسيبك لو دقيقة
متغمضيش عينيكي لما اقولك ع اللي فيها
إنتِ اللي جوا قلبي واللي ياما حلمت بيها
علا التصفيق حولها وآهات الإعجابِ تتناقل بين أفواه الفتيات.. أما صدمتها الحقيقيه حين علمت أنه لا يمت للعرس بصلةٍ!
أتى فقط وتغنى أمام الجميع لأجلها.. خصها هي لا غيرها وبعد ما أنهى كلماته أهداها غمزةً خاصةً من عينيه الساحرة ورحل بعدها، وكأن ذلك الأحمق لا يهوى شيئًا سوى الرحيل..
اعتدلت في جلستها وهي تمسح عبراتها بكفها.. تناولت حاسوبها الشخصي وضعته فوق ساقيها.. وأخذت تبحث عن مقطع الفيديو المفضل لديها أو أيقونة حبه كما كانت تتخيل.. هي تذكرت تلك الليلة ودون تفكيرٍ أرادت أن تراها من جديدٍ ضاربةً بكافة شيءٍ في عرض الحائط، رأته أمامها مرةً أخرى خلال شاشة الحاسوب يغني لها و نظراته لا تفارقها، الجميع فطن يومها أن تلك الفتاة تخصه، حتى أنها يومها لم تكمل أمسيتها.. فقط رحلت سريعًا، أرادت أن تعيد تفكيرها و تهدئ نابضها المجنون الذي لا يتوقف عن الخفقان، لتفاجئ به بعد مرور يومين يرسل لها على حسابها الشخصي مقطع الفيديو ذاك لتعيد مشاهدته عشرات المرات دون أن تمل.. تحفظ ملامحه، حركاته، كل شيءٍ.. ليعلن ليلتها قلبها وقوعه أسيرًا لذلك المجنون.
كان دائمًا غامضًا يظهر فجأةً ويختفي بعدها، يغيب لأيامٍ وأخرى أسابيعٍ لا تعلم عنه شيئًا.. ثم يعود يظهر لها في أماكن وجودها.. و بعدها إقترب أكثر أصبح يسأل عن الأحوال ويطمئن فقط !
كل مرةٍ تنتظر فيها أن يعترف بحبه لكن لا فائدة..
هطلت دموعها أكثر وأكثر وهي تؤنب نفسها قائلةً
"ياغبيه كيف تنسينه وأنتِ تفكرين به؟ بل تشاهدين هذا الفيديو اللعين..
لكن أليس هذا اعترافًا بالحب؟ ليست هذه أفعال عشاقٍ؟
ويأتي الآن ليقول فقط أصدقاء!
يهتم بي.. يقلق مضجعي.. يغزو أحلامي.. وفقط أصدقاء؟!
يا الله فقط أريد النسيان.. لاشيءَ غير النسيان"
تنهدت بألمٍ.. أغلقت حاسوبها ثم تمددت من جديدٍ فوق الفرآش تبحث عن النوم الذي جافها منذ يومين، أسبلت أهدابها الدامعة بينما شفتيها تهمس بألمٍ:
- يا وجع القلب يا باسل!

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن