الفصل الخامس

115 2 1
                                    

(5)
أنثى حالمة

الإنتظار.. كم هي قاتلةٌ لحظاتُ اﻹنتظارِ، مملةٌ، مريرةٌ.. ولا يوجد أمرَّ من إنتظارِ عاشقةٍ، ولا سيما إن كانت هي فقط من يلعب دوره في تلك العلاقةِ.. تُصاب مشاعرها بالفتورِ بين الفينةِ والأخرى يتوغل الضعفُ والهوانُ ثناياها، وهي وحدها تجاهد للبقاءِ متأملةً يومًا من الطرفِ الآخر أن يستفيقَ ليبدأَ ويؤديَّ دوره.. لكن هيهات، في عالم الرجال هم وحدهم من لهم الحق في تأسيس العلاقات.
وهي "روان الزيان" أنثى حالمة من الدرجةِ الأولى تعشق الخيال ربما لأنه أكثرُ رحابةً من الواقع، تقتبس أحلامها من روايةٍ قضت معها أمسية البارحةِ، تتخيل أبطالها ثم تحتال على أدوارهم لتصبحَ هي البطلة بلا منازعٍ، وبعدها تجسد بطلها أمامها، بنظراته، عنفوانه، حتى صوته يطرق مسامعها وتعود تتنهد بمرارةٍ.. إلى متى؟
نعم هي ليست جذابةً ولا جميلةً كبطلاتِ رواياتها، ولا هي أميرةٌ أتت من أسطورةٍ ما، هي مجرد فتاةٍ عاديةٍ بملامحها الشرقيةِ البحتةِ، عيونها الواسعة وشعرها المموج بلونه الداكنِ، وجهها المستدير ببشرته المنمشة بعض الشيءِ، و قلبها الحنونِ صاحبِ العشق الهادئ كالبلسمِ في رطوبته، وابن العم أعمى ولا يتحرك له ساكن!
أنهت دراستها الجامعية منذ عامٍ مضى، هي رفيقةُ لمار منذ الصغرِ، لكن لم تكن بإجتهادها وطموحها، لذا رضيت بما أتاها من نصيبٍ.. جُمَّ أحلامها صبت على ابن العم، كحالِ كثيرٍ من الفتيات المراهقات، يشغلن حديثهن بالثرثرة عن فارسِ الأحلام والحبيب الخفي وحينما وجهت إحدى صديقاتها سؤالًا عن هوية الحبيب الخفي لتجيب وتتفاخر كلًا منهن في دورها بحبيبٍ يشغل بالها يشاركها أحلامها ليلًا وعندما أتى دورها هتفت باسمه دون تفكيرٍ؛ فقط لتشاركهن الحديث الشيق.. وكثرت الجلسات وازدادت الأحاديث الشيقة وتمادى الحال إلى أن اصبح الحبيبُ الخفيُ يحتل جزءًا كبيرًا داخل كينونتها، وهي كأي مراهقةٍ أعجبتها اللعبة حين تذوقت طعم المغازلة وإن كانت كذبًا، نسجت أحلامًا ووعودًا كاذبةً وهي أول من خُدعت، فبمرور الوقت سلم القلب لسلطان اللسان ليريه ما حال عليه بسبب لعبةٍ سخيفةٍ ظن أنها ستنتهي يومًا.. ليصرخ بعدها معلنًا أنه مشتاقٌ لحديثٍ كان.
والحبيبُ الخفيُ يتجاهلها بطريقةٍ غريبةٍ، وزادت وتيرة التجاهل في الفترة الأخيرةِ وهي لاتعلم السبب أم ربما لم يكن مهتمًا من البداية.. كيف تعلم وهي حبيسة تلك الغرفة في بيت الزيان.. فبناتُ الزيانِ لا يعملن، لا حاجة لهن بالعمل وكأن العمل يقاس فقط بقدر الحاجة للمال!
بنات الزيان لايخرجن، بنات الزيان خلقن للبيوت وطاعة الأزواج وتربية الأطفال فقط لا غير.. وهل حالمية ابنة الزيان تناسب تلك القوانين؟!
وخليلُ الروحِ يشبهها تمامًا، وربما هذا التشابه هو سبب ذاك العشق.. فهو تمرد على قوانين عائلة الزيان وأصبح يمارس ما يهوى ويعيش كما يحب "عمر" أن يعيش، درس الهندسة وعمل بأحد المكاتب، استقل بشخصيته وعمله دون حواجز أو تحكمات بالية بعرف العادات والتقاليد.. أما هي تتمرد ولا تستطيع الخلاص.. وهل للإناث خلاصٌ!
أغلقت روايتها تاركةً إياها فوق منضدةٍ قريبةٍه من الفراش.. قسطٌ من الراحة وتعود لتكملها، وكعادتها دائمًا بعد كل روايةٍ حالمةٍ جديدةٍ تجمع كفيها فوق موضع قلبها، تغمض عينيها، ترسم أجمل بسمةٍ وتهمس:
"ياااارب.. قرب بيني وبين عمر بقدر حبنا ليك "
أنهت دعائها سريعًا، لم تعدد ما تريد فهي دائمًا تهتم بالتفاصيل الصغيرة حتى في الدعاء حينما سمعت صوت همهمات بالخارج، أسرعت خارج الغرفة لتصل للمصدر، تهللت أساريرها وهي ترى شقيقتها.. هتفت بسعادةٍ :
- يامرحبا، ست ريهام عندنا وأنا أقول الشارع منور ليه.
ضحكت ريهام وهتفت وهي تغمز بعينها اليسرى:
- والله إنتِ المنورة.
جلست روان على المقعد المجاور بينما تضيق في حدقتيها.. مردفةً بتوجسٍ:
- والله بعد الغمزه دي والإجتماع المغلق اللي بينك أنتِ والحاجة أنا مش متفائل.
وجهت ريهام نظرها لوالدتها هذه المرة بينما تهتف بحماسٍ:
- خلاص قولي لها ياماما يلا.. ولا أقول أنا ؟!
تبسمت الأم ضاحكةً وأخبرت الجالسة أمامها دون مرواغةٍ:
- فاكره ياروني من كام يوم لما قولتي إشمعنى لمار جالها عريس وأنا لأ ؟
خفتت البسمة وأجابت بقلقٍ واضحٍ :
- أيوه ياماما وقتها أنا كنت بهزر مش أكتر.
صاحت الأم بسعادةٍ بالغةٍ:
- ربنا استجاب لدعايا يا حبيبتي.. ابن عمك اتقدم لك!
هل فعلها أخيرًا ؟!
وتيرة تنفسها تزداد ونبت فوق جبينها بعض من حبات العرق، وجنتاها تكاد تنفث النيران من شدة الحرارة والخجل، تلعثمت مرتبكةً فنهضت مسرعةً عائدةً لغرفتها ولم تستطع منع إبتسامةٍ حالمةٍ زينت بها مفترق شفتيها.. وما إن دلفت غرفتها أخذت تجول دون تركيز تبحث عن هاتفها تريد محادثة توأم الروح لتزف لها خبرها السعيد ..
بينما تكمل الأم وابنتها مجلسهم المغلق بحماسٍ:
- تفتكري ياريهام أختك فرحانة بجد ولا أنا متهيألي ؟
ضحكت ريهام وأجابت بتأكيدٍ:
- طبعًا يا ماما مش شايفة الهانم ضحكتها واصلة لفين ربنا يتمملها على خير.
- يارب ياحبيبتي ويخلف عليك بالعوض الصالح.. ده أبوكِ هيفرح قوي استتي أما أقوم أبشره.
- طيب إستتي لم يجي على الغدا.
- يابنتي خير البر عاجله.
* * * *
وتبكين حبًّا طواه الخريف ..
وكل الذي بيننا للزوال ..
فمن قال بالعُمر شيء يدوم ..
تذوب الأماني ويبقى السؤال..
"فاروق جويدة"
تشاهد التلفاز بمللٍ، تمسك جهاز التحكم تقلب بقنواته دون هدفٍ، عادت برأسها للوراء علها تنال الراحة، لكن عيناه تطاردها.. رائحته تشق أنفاسها.. وما زاد غضبها شقيقتها الصغيرة التي اغتنمت فرصة ذهابِ والديها لمناسبة عائلية.. لتترك جدولها الدراسي وتنهال على هاتفها الحديث كما تنهال نملة صغيرة على قطعة من السكر ونقرات تتبعها نقرات على شاشة ذلك الهاتف اللعين.. بسمات رقيقة ترتسم على وجهها الصغير بين الفينة والأخرى.. شعرت لمار بالغضب يكتنفها وساقها تتحرك بسرعة أكبر كعادتها حينما تغضب.. هتفت من بين غضبها:
- لارا.. بتعملي ايه ؟ قومي كملي مذاكرتك يلا.. أنت عاوزه ماما ترجع تبهدلك ؟
لم تجبها لارا.. ربما لم تسمعها من الأساس فهي لم تحد ببصرها عن الهاتف بينما أصابعها تتابع النقر!
وما كان من الأخرى إلا أن نهضت بغضبٍ أكبر، اقتربت وجذبته منها بقوةٍ قائلةً بحنقٍ:
- طبعًا مش مركزة مشغولة مع سي رامي مش كده!؟
خفق قلب الصغيرة وقالت بوهنٍ وهي تنهض واقفةً تواجه شقيقتها:
- دي واحدة صاحبتي.
- كذاااااابه.
انتقل الغضب للصغيرة فأجابت وهي تكز على أسنانها:
- طيب طالما عارفة هاتي الموبايل ومالكيش دعوه.
صرخت بوجهها دون تفكيرٍ:
- غبية يا لارا غبية لو كنتِ فاكره إن رامي بيحبك.. ده كله كلام فاضي هو عمره ما هيفكر يرتبط بيكِ عارفة ليه؟
طالعتها لارا بتوجسٍ بينما تكمل الأخرى وقد خانتها عبراتها للمرة الألف وتساقطت واحدة تلو الأخرى:
- لأن مفيش واحد بيتجوز واحدة كان مصاحبها قبل كده فهمتي يعني إيه؟ يعني هو بيضيع وقت ولما يحس إنه زهق هيخترع أي حجة علشان يبعد.
تبادلتا النظرات بصمتٍ مطبقٍ، ولارا لا تدري ما أصاب شقيقتها لم يكن هذا رأيها أبدًا.. ولم كل تلك الدموع؟!
بينما تهتف لمار بدواخلها
"لا أحد غبي سواكِ ياغبية"
قطع طولُ النظراتِ رنينَ هاتفها.. تناولته من فوق الأريكةِ موقع جلوسها قبل قليلٍ تاركةً هاتف شقيقتها بمحله؛ وسارت نحو غرفتها تضغط زر الرد بهدوءٍ فهاجمها صراخُ الطرف الآخر من الهاتف:
- بتصرخي ليه يا روان مش فاهمة حاجة؟
هتفت روان بحماسٍ شديدٍ:
"عمر يالمار.. عمر أخيييرًا نطق.. أبو الهول نطق يا لومي"
غمغمت بسذاجةٍ:
- يعني إيه مش فاهمة بردو؟
زجرتها روان بمللٍ:
- يابت أنتِ غبية بقولك نطق يعني اتقدم لي.. يعني عمر عايز يتجوزني.. أنا قلبي خلاص هيقف.. مش مصدقة.
وأغلقت الهاتف..
وتكاد تُجزم لمار أنها الآن تعتلي فراشها وتهلكه بقفزاتٍ متتاليةٍ حتى تنقطع أنفاسها فترتمي فوقه لاهثةً.. وكان ما تفكره به صائبًا.. أنهت قفزاتها وأنهت مكالمتها ثم استلقت لاهثةً، تحمد الله بدواخلها على إستجابة دعائها تلك المرة.
* * * * *
يجلسان كعادتهما في إستراحة المشفى يرتشفان قهوتهما بتلذذٍ، متجاذيان أطراف الحديث.. تحدث بدر بهدوءٍ:
- دكتور مراد راجع أمتى من دبي؟
- يومين تقريبًا.
صمت بدر قليلًا ليغمغم بعدها بنبرةٍ إستغراب:
- يا أخي عمك ده عجيب بصراحة.
نظر له رافعًا أحد حاجبيه مستفسرًا:
- اشمعنى؟
- يعني واحد في سنه ومش متجوز لحد دلوقتي وعايش على ذكرى حب قديم.. ده الراجل من دول مراته تودع من هنا وقبل الأربعين يكون دور على غيرها.
ارتسم على جانب شفتيه بسمةً ساخرةً قائلًا بعدها:
- وإيه الغريب في كده؟ هو ملقاش اللي تعوضه وتاخد مكانها، وبعدين مراد مشكلته إنه بيحب بجد، عارف يعني أيه بجد؟ يعني الروح هي اللي بتحب قبل القلب والعين، ليلى الله يرحمها كانت أكبر حب وأكبر وجع لمراد ومش فكرة الجواز هي اللي هتنسيه.. في حاجات لما تحصل لنا في حياتنا تكون من المستحيل نسيانها.
مال بدر بجذعه للأمام ناظرًا له بعمقٍ:
- زي ما ابن أخوه مش عارف ينسى الجنية اللي قلبت حاله من أول مرةٍ شافها؟
ارتشف بعض من قهوته وبادله نظرته بأخرى ثاقبة:
- ومين قالك إني بفكر فيها أصلًا؟
هز كتفيه بلامبالاةٍ وضحكة ساخرة تعني
"واضح"
ليتحدث الآخر بمرحٍ مغيرًا دفة الحديث:
- وإنتَ بقى لسة الحاجة بتدور على ست الحسن اللي تعجب الشاطر حسن؟
ضحك بدر قائلًا بقلةِ حيلةٍ:
- أنا شكلي مش هتجوز وهنضم لفريقك إنت وعمك.. كل مرة الحاجة تعملي البحر طحينة وأدب أيه وأخلاق أيه، هي دي اللي عليها العين يا ابني.. وبعدين تطلع زي غيرها..
أكمل وهو يضرب كفوفه بعجبٍ:
- يا مؤمن دي آخر واحدة شفتها بعد ما أبوها خرج وسابنا راحت غمزت لي!
قهقه إسلام بقوه قائلا من بين ضحكاته:
- والله حلوة.. على الأقل خبرة.
وأهداه بعدها غمزةً ليجيب بدر بتفاخرٍ وجديةٍ:
- الحلوة دي هتكون من نصيبك بس متقاطعش وقول يارب.. يا ابني مرات بدر زهران لازم تكون بتتكسف!
وأردف بتأكيدٍ:
- أيوة الكسوف دليل إنها متربية كويس..على سبيل المثال أقول لها ازيك وشها يجيب ألوان.
عاد إسلام يقهقه من جديدٍ:
- ودي لما تحب تبوسها تأخد ساتر ولا إيه؟
- ولاد العز إللي زيك مايفهموش في الحاجات دي.
قطع صوت ضحكاتهما الصاخبة إحدى ملائكة الرحمة، تخبرهما بوجهٍ بشوشٍ:
- دكتور إسلام حضرتك اتأخرت.. الكشوفات مستنية حضرتك.
هما اﻹثنان بالوقوف سريعًا وتحدث إسلام بديناميكية:
- محستش بالوقت خالص.. بلغيهم يا نانسي دقايق وهكون جاهز لإستقبال أول حالة.
اقتربت نانسي من الآخر وتنهدت بحرارةٍ قائلةً:
- دكتور بدر إنتَ لسه قدامك وقت.. لو تحب أجيب لك قهوة تاني؟
أهداها بسمةً لزجةً مع نظره تنبأ عن الغضب:
- شكرًا يا آنسة.. اتفضلي على شغلك.
لتبتعد مرتبكةً تخطو أمامهما بينما يتبعاها بالخلف.. لكزه إسلام بمشاكسةٍ وهو يغمزه للمرة الثانية هامسًا بأذنه:
- واسمها نانسي كمان .. لاااا ده إنت ماشية معاك حلاوة.
ليهمس الآخر بدوره:
- اسكت ياعم دي ضاربة كشري.
* * * * *
تزرع الغرفة ذهابًا وإيابًا، تتخبط بغيظٍ شديدٍ، وتكز فوق أسنانها وأخيرًا هتفت بحنقٍ شديدٍ:
- أنا يا بلبلة يقول لي بتاعة بهايم! لا وكمان طول الوقت يعاملني كأني طفلة.. وآل إيه خلصتي دراستك ولا لسه؟ على أساس مش عارف يعني.. بذمتك يرضي مين ده.
سحبتها عمتها من ذراعها وأجلستها على الفراش بقربها قائلةً:
- يعني هو ده اللي مزعلك قوي ومعصبك من وقت ما رجعتي؟ ولا زعلانة علشان مشي بسرعة!
هتفت مسرعةً وهي تنظر لعينيها بغضبٍ:
- مايمشي ولا يقعد أنا مالي.. ده.. ده.. دمه يلطش أصلًا.
تبسمت العمة وقربتها منها تحتضنها وتمسد شعرها بكفها هامسةً:
- خلاص يافرحة إهدي.. وبعدين هو أكيد كان بيهزر يعني وماكنش يقصد.
أطبقت رموشها بوهنٍ بينما دواخلها تحترق لا تعلم هل هي غاضبةٌ منه أم حزينةٌ لرحيله؟ تبسمت ساخرةً لحالها.. وما الفرق إن كنتُ غاصبةً أم حزينةً.. لقد رحل وانتهى.
طرقت ذكراها أيامٌ طواها الزمن منذ وقتٍ بعيدٍ.. أيامٌ تحن للعودة لها رغم صعوبتها.. تذكرت يوم حفلتها المدرسية، كانت ابنة العاشرة قبل وفاة والدتها بمدةٍ قصيرةٍ.. وبما أنها وباسلها ورثا عذوبة الصوت من الجدة "طمطم" تم اختيارها لتؤدي إحدى الأغنيات لعمالقة زمن الفن الجميل.. وكان هو ابن الحادية عشر وقتها أو ربما أكبر بقليلٍ، لكنه تقمص دور المعلم ببراعةٍ.. أمضت يومين وهي تتدرب على يديه.. تُخطئ.. فتُعنف.. فتُتقن بعدها، يمشيان تارةً بين الزرع وتارةً يجلسان تحت إحدى الشجيرات.. ويومُ الحفلِ تألقت كأميرةٍ بفستانٍ أبيضٍ قصيرٍ يصل حد ركبتيها وشعرها الأسود ينسدل مغطيًا كامل ظهرها.. تترقب بقلقٍ وهم يهتفون باسمها لتعتليَ المسرح بينما هي تبحث بعينيها عن معلمها و لا تجده.. استدارت ذاهبةً وقبل أن تخطو عادت تترنح مستديرةً لمن جذبها من مرفقها.. ليتوج رأسها بطوقٍ من الورد الأحمر معشوق الصغيرة، أمضى نهاره في صنعه لها، أخذت تدور وتدور سعيدةً بفستانها وطوقها الجديد.. حثها سريعًا على التقدم.. ليرى نتيجة تدريباته.. تردد الكلمات وعيناها لاتفارق عينيه وكأنها تستمد الشجاعة للإستمرار منه.. وما إن انتهت تعالى التصفيق في المكان وهو يبادلها نظراتها كعاشقٍ صغيرٍ يتفاخر بحبيبته أمام الجميع.
لم تنس تلك الذكرى يومًا.. كما لم تنس صباح اليوم التالي وقتما انقضَّ عليها كثورٍ هائجٍ يشد خصلات شعرها بقوةٍ وهي تتأوه بألمٍ وهو كالأعمى يتمتم بكلماتٍ غاضبةٍ لم تعِها وقتها، لكنها علمت فيما بعد أنَّ يومها ابن أحد الجيران الذي يماثلها بالعمر وبالصف أيضًا، تغنى أمامه في وسط الطريق ببهائها وأخذ يصف جمال شعرها كم هو جذابٌ، وكم كانت رائعةً في الحفل، وبعد ما أهداه لكمةً جعلت أنفه ينزف على إثرها، ذهب إليها بغضبه وهو يزعق ويأمرها أنَّ شعرها من الآن سيجدل وألا تجعله عرضًا للآخرين، وأمرٌ ثانٍ فيه نهيٌ قاطعٌ عن الغناء خارج المنزل.. والدتها هي مَن خلَّصت خصلاتها المسكينة من بين قبضته.. ليقول بعدها جملته بغضبٍ طفوليٍ محببٍ:
"عمتو أنا قررت أتجوز فرحة ولو ماسمعتش كل كلامي هضربها"
فتضحك العمة وتقبله فوق وجنتيه.. وبدورها غاضبة منه وتهتف بحنقٍ
"بكرهك أنا بكرهك"
ليرميها بنظرةٍ غاضبةٍ قبل رحيله.. وعقابُ الخصامِ هو الحل وهو يعرف حق المعرفة أنها لن تتحمل، ولم تمرْ ساعات حتى تذهب له متأسفةً! وبعد عدة محاولاتٍ لا بأس بها تنازل هارون الرشيد وقبل الصلح لتأتي بعدها ساندي و تشاركهما ألعابهما وأحاديثهما الغير منتهية.
والكثيرُ.. الكثيرُ من الذكريات، ربما لا تتذكر كل تلك الأشياء؛ فذاكرتها وقتها كأي طفلةٍ لم تكن تعي كل تلك التفاصيل، لكن هوايتها المفضلة هي سماع مغامراتها الشيقة مع أعز أصدقائها على لسان والدتها ومن بعدها جدتها.. حتى ترسخت بعقلها وماسقط منها بفعل الزمن أعادته هي بخيالها.. لكن هو ابتعد الآن يغيب لأيامٍ وشهورٍ طويلةٍ، باتت سنونًا ويقترب يومٌ واحدٌ فقط ليعود بعدها للغياب.. وربما هو ابتعد منذ زمنٍ و هي فقط لا تدرك.
عادت من رحلة الماضي على همس العمة:
- أحسن دلوقتي؟
رفعت رأسها من فوق صدرها لتخبرها بعيونٍ دامعةٍ:
- ماما وحشتني قوي يا عمتو.
لتقبلها العمة قبلةً حنونةً فوق رأسها ثم تضمها مرةً أخرى لقلبها.. لو فقط يمكنها بث السعادة داخل روحها الحزينة!
* * * * *
مستلقيًا فوق الفراش بإنهاكٍ.. جسده حقًا متعبٌ بعد قضاء ساعاتٍ طويلةٍ في قيادةِ السيارةِ عائدًا، منذ وصوله ارتمى بجسده يطالع سقف الغرفة بعيونٍ ثابتةٍ.. تتخبط في عقله الأفكار وهو تائهٌ.. يرى حوريةً ينقذها من بين الموجات الغادرة، من ثم يحتال على خافقها وهو يتغنى لها أمام الجميع.. بعدها يبتعد بقسوةٍ وكلماتها لا تفارقه بل تضرب مسامعه كمطارقٍ من حديدٍ
"إنتَ إزاي ندل كده"
ويهمس هو بخفوتٍ وكأنه يحادثها:
"أنا آسف يالمار."
وسريعًا تستحوذ عليه عينان سوداويتان تنظر له بغضبٍ ثم دامعةٍ.. مودعةٍ!
يغمض عينيه بقوةٍ.. يطلق بعدها من أعماقِ جوفه تنهيدةً حارقةً ويخترق عزلته شعاعٌ عسليٌ يطالعه باستغرابٍ، متكتفُ الذراعين مرتكزٌ بجذعه فوق إطار الباب.. ليعتدل باسل جالسًا ويشير له بيديه للتقدم.. ليحرك الآخر رأسه متعجبًا ويضرب كفه بالآخر قائلًا بسخريةٍ:
- بقالك ساعة هيمان مع السقف ومرة تكلم نفسك ومرة تسبل لي عينيك.. والله بدر كان عنده حق لما قال علينا عيلة أوفر.
غمغم باسل ضاحكًا:
- طبعًا حضرتك فايق للهزار وأنا شغال سواق من إمبارح والمفروض أطلع على المطار بعد كام ساعة.. قولي بقى أطلع إزاي وأنا جسمي كله مكسر كده.
- معلش بقى يا بيسو تترد لك في الأفراح.. صحيح طمطم مازعلتش علشان وصلتها بدالي؟
رفع باسل حاجبيه في استنكارٍ هاتفًا:
- في أيه ياعم، هو أنا موصلها بتوكتوك دي عربية آخر موديل ومشغلها الست لحد ما دماغي ورمت.. يعني توصيلة خمس نجوم ومن وقت ما رجعت مافيش حد عبرني وقال لي حمدالله على السلامه، مافيش على لسانكم غير طمطم زعلت!
ضحك إسلام قائلًا:
- روق ياجدع ماتعملش كده.. الله، ها كمل بعد ما وصلت هناك عملت ايه؟
- مافيش إتغديت وبعدين نمت شويه وبعدين صحيت إتعشيت وجيت على طول.
طالعه بدهشةٍ:
- رايح هناك علشان تأكل؟! طيب بلاش عملت أيه قول لي قابلت مين؟
بدا كأنه يفكر قليلًا ثم أجاب بهدوءٍ مستفزٍ:
- امممم زينب الشغاله وعم فرج جوزها و...
قطعت ساندي مجلسهما بغتةً لتتربع فوق الفراش جوار باسل.. قائلةً بصوتٍ مرتفعٍ وهي تطالعه بحنقٍ مكملةً:
- وقابل فرحه وحرق دمها بكلامه السخيف كالعادة.
حرك لها حاجبيه بهدف إغاظتها وهي تضربه على كتفه بينما نهض الثالث وتمدد على الفراش جوار ساندي تحت نظرات باسل المحدقة:
- أيه ده أنتم هتنامو؟ يلا ياشطار أنا عايز أناااام عندي سفر الصبح خلو عندكم شوية دم.
تحدثت ساندي ببرودٍ وهي ترمش بأهدابها:
- لا غلاستك وحشتنا هنقضي الليله معاك.. لازم نشبع منك قبل ما تسافر مش كده يا إسلام ؟
ويهز إسلام رأسه ببراءةٍ مؤكدًا على حديثها.. ليتنهد باسل متحسرًا على ساعاتٍ ضاعت كان يمني نفسه بنيل الراحة فيهم.
* * * * *
منذ أن أخبرتها والدتها ليلة ما قبل البارحة عن رغبة ابن العم في الزواج وهي لاتعلم من أين أتى وحط عليها كل ذلك الخجل، فقط تصمت وتوزع الإبتسامات البلهاء، وتنفرد بغرفتها خجلًا وبطلبٍ من أبيها شاركتهم اليوم سفرة الفطور، تتناول طعامها والحمرة تغزوه.. لكزها رامي -أخوها الأصغر- قائلًا:
- ياريت تفضلي مؤدبة ومكسوفة كده على طول ياروني والله أشرف هيفرح قوي بعد الجواز.
صاحت فيه بحدةٍ وسذاجةٍ:
-رامي إيه اللي إنت بتقوله ده؟!
لتقول الأم بشيءٍ من السعادة:
- ومالو يابنتي إنتِ وأشرف دلوقتي في حكم المخطوبين.
لينهض بعدها الأب قائلًا في شيءٍ من الاستعجال قبل أن يغادر:
- إعملي حسابك يا أم رامي أشرف والست والدته هيعدو عليكم كمان شوية تروحي معاهم أنت وروان وتختاروا الشبكة اللي تعجبها.
ليغادر الأب وينشغل الأخ بإلتهام طعامه، بينما الأم تطلق زغاريد الفرح لتضوي في أركان المنزل بل الحي بأكمله.. والعروسُ الحالمةُ مازالت تسأل بسذاجةٍ ومقلتاها تكاد تنفجر من التحديق:
- أشرف مين يا ماما؟!
لتهتف الأم من بين زغاريدها:
- جاتك إيه ياروان.. يابت أشرف ابن عمك وخطيبك!

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن