الفصل الحادي عشر

107 5 0
                                    

(11)
التصادف.. قدرهما

قبل الشهر..
انتهت استراحة الأطباء وهي مازالت مع ملائكتها.. سيفضح أمرها وحينها ستحرم من صعود الطابق الثاني للأبد, فلا يوجد سبب لوجودها هنا؛ فالطبيبة المسئولة عن قسم الحاضنات باشرت عملها منذ خمسة أيام, والعمل يسير برتابة وانتظام ولا سبب مقنع لوجودها..
والآن ماذا إن رآها أحد ما و أخبر دكتور مراد؟.. لا, ستتدارك الأمر ولن تخسر متعة خلوتها برفقة صغارها.. أسرعت تركض للخارج بتعثر وسوء الحظ يصاحبها في أوقاتها الحرجه كالعادة.. طبيبان في مواجهتها.. انتهى أمرك لمار..
لا ليس بهذه السرعة.. الاختباء أفضل الحلول في تلك الأزمات و أسرعت للرواق الجانبي.. اقتحمت أول حجرة قابلتها وما إن دلفت حتى أغلقت الباب من  خلفها.. ترفرف بأهدابها وكفها يعتلي قلبها تتنفس الصعداء..
دقائق قليلة وتخرج بعدها وكأن شيئًا لم يكن.. أخذت تتجول داخل الغرفة ببطء الغرفة مليئة بزجاجات المطهر وأدوات أخرى تخص التعقيم وعلب بيضاء مصطفة بتجاور فوق أحد الأرفف.. طاولة متوسطة الحجم بأحد الأركان يعتيلها ملابس رجالية! ربما هي لأحد العاملين هكذا فكرت..
والآن عليها العودة.. لكن ما إن إقتربت خطوتين للباب حتى تناهى لمسامعها أصوات رجالية وضحكات.. تبعثرت خلجاتها يالها من ورطة... يبدو أن الاختباء كان قدر وليس اختيار من البداية.. أخذت تتجول بسرعة أكبر وأخيرا تذكرت أحد الأفلام العربية حيث البطلة  تختبأ خلف الستار وفي غضون ثوان كانت هي مختبئة خلف الستار الثقيل..
وإقتحام آخر للحجرة..
-تمام هاخد شاور بس وجاي على طول.
أغلق الباب عقب كلماته و استدار..
شهقت دون صوت..
رباه.. إنه هو, لم يضعه القدر دائمًا في طريقي؟
لحظة..
لحظة..
ماذا يفعل ذلك الوقح..  لم ينزع عنه ملابسه!!
جحظت عيناها من خلف الستار بحذر حتى لا يراها ولا تصدق فيما هي عالقة.. حجرة موصدة عليها مع رجل غريب ولا يكفي هذا بل عاري الصدر!
أغلقت جفنيها بقوة ترفض تلك الفكرة المخزيه.. تناهى لمسامعها وقع أقدام تخطو داخل الغرفة.. فعادت تفتح عينيها ببطء وأناملها متشبثة بقماش الستار تعتصره بين كفيها.. تنفست الصعداء حين تحرك ناحية المنضدة الجانبية متناولًا ما عليها من ثياب, ذهب بعدها لركن آخر وفتح بابًا صغيرًا كان موصدًا لم تتنبه لوجوده غير الآن وماهي إلا ثوان حتى أتاها صوت رشاش الماء..
ضربت رأسها بكفها علامة للغباء ..
طبيب يرتدي ملابس خاصة بغرف العمليات حتما انتهى لتوه من إحدى عملياته الجراحية وهو هنا حتى يبدل ملابسه.. وذاك القميص الأزرق مع البنطال الأبيض هما له..
رباااه.. أي أزرق و أبيض الآن! تحركي قبل أن يجدك أمامه يا حمقاء.. خطت سريعا نحو الباب تدير المقبض و لا فائدة.. تأكدت بعد دقائق أن الباب موصد من الخارج!
الآن بات الأمر ورطة حقيقية بما تعني الكلمة من معنى..
حين اختفى صوت الماء عادت من جديد  خلف الستار تاركة ثقبًا صغيرًا حتى تتمكن من المراقبة دون أن يراها..
لترى ما ذا سيفعل هذا الإسلام  في حل تلك المعضلة, مؤكد سيخرج لن يظل عالقًا هنا للأبد..
خرج أخيراً عاري الصدر كما دخل يقابلها في وقفته أثناء ارتداء قميصه.. حدقت فيه و أنفاسها تزداد, لأول مرة ترى مشهد كهذا خارج شاشة تلفاز و بعيدًا عن شواطئ البحر وبذلك القرب..
ضخم البنية بمنكبين عريضين لديه عضلات تكفي لهزم كائن هلامي.. توقف بصرها عند ندب خط طريقه طوليًا فوق موضع قلبه بقليل.. عقدت حاجبيها في تفكير,  موضع الندب ينبئ عن جرح قديم لم يكن هين!
أخذت تفكر.. فلا يبدو عليه من نوعية الشباب التي تهوى الشجار وفرد العضلات.. بل العكس يبدو هادئًا ومتعقلًا..
نهرت نفسها مؤنبة.."مابالك اليوم تغوصين بتفكيرك في أشياء غريبة, ما شأنك في ألوان ملابسه وندوبه"
قطع عنها شرودها حين تحرك ناحية الباب وما إن تيقن أنه موصد من الخارج نفخ بسأم وعاد يجلس على مقعد مجاور للطاولة.. وفقط!
وكأنه قرر إمضاء بقية اليوم هنا..
مرت نصف ساعة كاملة ولا جديد, قدميها تؤلمانها بشدة وذلك الستار الثقيل بات يخنقها,  وجهها وشعرها تعرق بطريقة مريبة والأخ لا حراك لا أي فعل.. نكست رأسها للأسفل تنتظر وتمني نفسها بفرج قريب..
ولتكتمل الحكاية..
إحدى الحشرات عديمة الرحمة تقترب منها دون رأفة أو ضمير يردعها.. تقترب وتقترب و...
- ااااااااااااااه.
انتفض من فوق مقعده مذعور ينظر بارتياب لخلف الستار.. أحدهم أو للدقة إحداهن _فصوت الصراخ أنثوي_ تختبئ خلف الستار وتركل الأرض بقدميها مع صراخ متقطع كأنما أحد ما يهاجمها!
تقدم في ثوان وأزاح الستار بغتة وهتافه المتعجب يقابل عينيها المذعورتين:
- أنتِ!
صرخت ومازال الذعر يتملكها:
-حشراااات في حشرااات..
جذبها من مرفقها وأصبح هو مكانها يتفقد ويبحث.. جال ببصره ثم عقد حاجبيه ودار برأسه يواجهها وسبابته تشير نحو الأسفل باستنكار:
-ده !!
هزت رأسها عدة مرات بالإيجاب فعاد هو للمسكين داهسًا إياه بحذائه حتى يهدئ من روع تلك المذعورة مردفًا بتهكم:
- ده صغير خالص, أكيد دخل من الشباك المفتوح ده.. ألف مرة أقول اتأكدو ا منه مافيش فايدة فيهم خالص.
أغلق النافذة المواربة وجسدها مازال يرتعد فرفع لها حاجبيه متعجبًا:
- اهدي.. الوحش في عداد الموتى خلاص.
الحرج يكتنفها, تحركت حذرة حتى توسطت الغرفة لا تجرؤ على رفع بصرها وتهمس بخفوت:
- الباب ده مش هيتفتح بقى؟
تحرك بدوره  بضع خطوات, ارتكز على الطاولة بجسده نصف جالس مشبكًا ساقيه وكفيه داخل جيبي بنطاله.. فالوضع يبدو مسليًا, مال برأسه وهمس بمكر:
- يعني ممكن بعد ساعة, اتنين.. أنتِ ونصيبك.
بذهول وشفاه مفغرة:
-إيه!
والإجابة مؤكدة:
- وقت ما يحتاجوا حاجة من هنا أكيد هيفتحوها.
هزت رأسها بعدم فهم وضيق يزداد بداخلها فهتفت حانقة:
- طيب  كلم أي حد يجي يفتح لنا بسرعة.. أنا مش فاهمة حاجة, هو مين قفلها وليه؟!
اقترب بحذر يفصل بينهما خطوة واحدة.. و إجابته ماكره تدّعي البراءة, وتتزامن مع يده الممتدة لجيبه عنوه, تضغط على زر القفل الخاص بهاتفه وانتهى الأمر.. كذبة بيضاء لن توقع ضرر كبير:
- للأسف هنا مفيش إرسال نهائي وبيقفلوها علشان فيه حرامي بيسرق الديتول والشوز بتاع الدكاتره..
وأردف بأسف مصطنع:
-الدنيا مابقاش فيها أمان خااالص.
تستمع له ببلاهه وتفكيرها ذهب لذاك اللص المسكين, ياترى بأي مصيبة واقع هو حتى اضطر لسرقة تلك الأشياء!.. بينما هو يتابع شرودها ومؤشر المتعة يكاد يضرب السقف.. عاد يرسم الجدية فلا بأس بقليل من المشاكسة مع تلك الحلوة.. رفع أحد حاجبيه يسألها بتوجس ويرمقها بنظرة جانبية:
-لا مش ممكن! معقول أنتِ.. تؤ تؤ.
وعادت تنظر لعينيه بقوة وقد فغرت فمها, عقدت حاجبيها وتزوم بشفتيها، ذلك الأرعن يتهمها بالسرقة.. وماذا!!
وإجابتها ساخطه توازي تكتف ذراعيها, ونبرتها متهكمة:
- أكيد لأ طبعا ده منظر حراميه.. وبعدين  لما أنوي أسرق مش هسرق ديتول و شوز بلاستك يعني!
إبتسم بمكر:
- يعني النية موجودة؟
رمقته بغضب ولفت بوجهها بعيدًا عنه..
إن قبلها الآن هل من مشكلة؟
تنحنح ليطرد تلك الأفكار حتى لا يفقد سيطرته وتابع بجدية:
-ماتزعليش كنت بهزر, نتكلم جد شوية.. كنت بتعملي إيه هنا؟
دارت ببصرها في أنحاء الغرفة تبحث عن جواب.. هل تخبره عن الحقيقة لكن ماذا إن منعها؟ لا لن يفعل بتأكيد.. ولم لا هو صاحب المشفى ولن يسمح لأيّ كان بتجاوز القوانين.. حسنا فلنجرب طريقة اللف والدوران:
- أنا كنت هنا صدفة.. أقصد يعني كنت جاية أشوف تالا.. آه تالا صاحبتي وكده.
يستمع لها تتلعثم تبحث عن مخرج, تفرك كفيها تارة وأخرى تعبث بخصلاتها صاحبة لون الكاكاو.. وللحقيقة ليست بارعه في التمثيل أبدا.. ظل صامتًا يتابعها بعينيه وثغره يرسم أجمل بسمة جمعت بين المكر والروعة, وحينما طال صمته عادت له بعينيها تسأله إن كان يصدقها أم لا.. وأتاها الجواب:
- بس إيه هيجيب تالا هنا.. غريبه! هنا ماحدش بيجي غير الدكاترة الخاصة بقسم الكانسر أو للاستعداد للعمليات.. يعني إللي هيجي هنا لازم يكون قاصد هنا؟
صمتت ونكست برأسها أرضًا فاقترب أكثر يهمس بجانب أذنها:
- أو ممكن حد  كل يوم وقت بريك الدكاترة يدخل عند الأطفال ويفضل معاهم وبعدين يخرج بسرعة قبل ما حد يشوفه, علشان عارف أن ده غلط ومش مسموح بيه..
ارتعدت فرائصها عنوة من قربه الخطير وما إن ابتعد حتى رفعت رأسها ببطء.. لقد كشف أمرها ومن البداية.. بادلته نظراته بحرج, بنبرة خفيضة أقرب لتهدج قالت:
-أنا عارفة إنه مش مسموح بس صدقني والله بخاف عليهم ومستحيل أأذيهم.. أنا ماعرفش اتعلقت بيهم ازاي في وقت قصير كده..وجودهم بقى مهم قوي في حياتي.. أرجوك اسمح لي.
تتوسله بعينيها, وما أنتِ بحاجة لتوسل يا حمقاء.. فقط انظري في عينيّ وأخبريني..
تنهد بقلة حيلة  وأكمل دور البراءة :
- الموضوع ده مش بإيدي, ده يخص دكتور مراد وأنتِ عارفه هو قد إيه شديد في  حاجة زي كده ومستحيل يسمح لاي حد.
ستفعل المحال لا يمكنها التخلي عن صغارها بهذه السهولة:
- لو أنت ماقولتش له مش هيعرف..
وتابعت بصوت متحشرج :
- أنا بس بحاول أخفف عنهم وأحسن من حالتهم النفسية شوية.. ده هيساعدهم يتعالجوا أسرع.. أرجوك فكر قبل ما ترفض.
وسكتت ترفض أن تتخاذل دمعاتها أمامه..
فاقترب يلامس وجنتها الناعمة, تتسارع نبضاته, يرنو أكثر يقبل عيناها برقة واحدة تلو الأخرى ثم يقربها لصدره ويشدد من ضمها, يهديها أمانه وحمايته، يستنشق عبقها المحلى وما أروعه فيعود يحتضن رأسها بين كفيه ينظر لعمق عينيها ويغرق فيهما حد الضياع.. يقترب أكثر وأكثر.. و..
وتلوح أمام صفحة وجهه بكفها, فتخترق سباته بنبرتها القلقة:
- دكتور إسلام أنت سامعني؟
استدار للخلف يخطو نحو الطاولة بخطوات سريعة، يتنفس بقوة..
رباه.. هل كان يحلم في صحوه!
استجمع شتات نفسه وعاد لها يحمل محرمة ورقيه بعد ما التقط لمعة عبراتها, يناولها إياها دون أن ينظر لعينيها وإلا سيضيع في عالم الأحلام من جديد وهذه المرة النتيجة غير مضمونة.. تناولتها منه وعادت تسأل بتوجس:
- هتقول له؟
عاد يتشرب ملامحها الهادئة ويعطي ما تمنت:
- لو أنتِ مش عايزة خلاص.. مش هقول.
وأخيرًا عادت شمسه تبسط نورها.. أخيرًا منحته ابتسامتها الرائعة فرأى غمازتيها حبيبتيه.. وتهمس براحة امتزجت بالسعادة:
- يعني أعتبر ده سر ماحدش هيعرفه؟
اومأ برأسه متبسما بحنو وهمس بدوره:
- ماتخافيش.. ده سرنا.
تبسمت له في امتنان وبعد برهة تململت في وقفتها بعد ما طالعت ساعتها:
- وبعدين هنفضل محبوسين.. اتأخرت قوي أنا عندي كشوفات دلوقت.
- طيب أنا هخبط على الباب يمكن حد يسمعنا.. بس أنتِ روحي استخبي وراء الستاره, بلاش حد يشوفك هنا.
فهمت مقصده فاكتنفها حرج شديد, وتحركت تفعل ما طلب منها دون حديث, لكن ما إن خطت خطوتين حتى عادت له قائلة بتوتر:
-أنا هستخبى في التواليت أحسن.. ممكن يكون في حشرات تاني.
هز رأسه بالإيجاب متبسمًا من جبنها وحين أدركت ذلك وضحت سريعًا بتلعثم:
- مش خايفه على فكره.. أنا بس بقرف منهم, عادي يعني.
ثم أسرعت تختبئ, وما إن رفع كفه وقبل أن تصل للباب أوقفته ثانيةً:
- استنى..
رفع حاجبه بمعنى ماذا الآن؟
فتابعت وقد رسمت على شفتيها أعذب ابتسامة وهي تهمس بخفوت, كأنما يوجد غيره من يسمعها :
- لما تخبط , خبط بشويش علشان الأطفال نايمين دلوقتي.. بلاش نعمل دوشه ونقلقهم.. حرام  مش كده؟
هز رأسه يمنة ويسرة ببطء و وجوم, متعجبا من تلك المخلوقة.. وعاد يطرق "بشويش" كما أمرت قطعة السكاكر حتى أتى الفرج بعد ثلث الساعة..
وكم تمنى أن تبقى أسيرته وهو سجانها.
*  *  *  *  *
"خاين, حيواااان وحقير كمان"
رددتها "تالا " مرارًا وتكرارًا وهي تشهق بقوة بين ذراعي "لمار"..
- اهدي يا تالا علشان أفهم..  كنت فين بقالك يومين وموبايلك مقفول كمان, حصل إيه مزعلك قوي كده؟ طيب بطلي عياط وفهميني, ولا أقولك تعالي نخرج من المستشفى أحسن.
لم تلقِ لأسئلتها بالًا و زادت من بكائها ونحيبها مما أثار البلبلة بين الممرضات وبدأن يتجمّعن واحدة تلو أخرى بينما لمار عاجزة عن تهدئتها أو سحبها بعيدًا.. قطع توسلها صوت إحدى الممرضات وهي تنظر لتالا بتعجب:
- في حاجة يا دكتورة لمار.. محتاجة مساعدة ولا حاجة؟
رددت لمار بحرج :
-ميرسي يا فاطمة تالا تعبانه شوية بس مش أكتر.
- تعبانه تاخد إجازة يومين كمان زي ما اخدت اليومين اللي فاتوا بمزاجها, بدل المناحه اللي عملاها دي ولا كأننا واقفين في مستشفى محترمه.
توترت لمار أكثر من حديث بدر الساخط وعينيه الغاضبة وهمت بالرد والاعتذار إلا أن تلك المنتحبة رفعت رأسها كالملسوعة وهتفت بزعيق:
- وأنت مضايق نفسك ليه وكمان جاي تزعق وتشخط.. مين سمح لك أصلا تكلمني بالطريقة دي ولا تكلمني ليه من الأساس!
ازدردت لمار ريقها للمرة العاشرة فهي تعرف صديقتها وتحفظها عن ظهر قلب متسرعة, تقذف كلماتها كالرصاص وتعود بعدها للندم, اكتسبت سلاطة اللسان من زوجة أبيها المقيمة بصحبتها..
تسب نفسها سرًا أين كان عقلها حين فكرت فيها كزميلة لها هنا مع بدر المتذمر على الدوام.. يا الله ومن سيوقفهم الآن..
-أنا مش هرد عليك علشان أنتِ ست وأنا مابردش على ستات.
قالها متهكما فشهقت تالا بقوة ونسيت تماما أمر حزنها وفضلت التفرغ لذلك الأرعن:
-يعني إيه مش بترد على ستات.. لو عندك رد قول واجهني, بلاش تهرب.. عايزة أعرف مشكلتك إيه معايا من أول ما جيت هنا  وأنت مش طايق لي كلمة ممكن افهم ليه؟
نفخ بملل ودمدم بحنق:
- اللهم طولك ياروح.
- إيه إللي بيحصل هنا بالظبط؟
كانت تلك جملة إسلام الصارمة بعد ما اقتحم الشجار القائم عقب ما أخبره أحد العاملين بوقوعه.. لم يأته جواب الكل صامت, بدر وجهه يكتنفه الغضب, تالاتستعد لقتال شرس فقط تنتظر شراره, والمسكينه لمار ضائعه بينهما وتستنجد به بنظراتها حتى يخلص الموقف..
تحدث إسلام بلهجه قاطعة وعالية لفض الجموع الذي ينتظر نتيجة المعركه بين الطبيب الغاضب والطبيبة الشرسة:
- الكل على شغله, خلاص خلصت مستنين إيه..
انتفض الجميع من مكانه منهم من يلتهم الدرج وآخر نحو المصعد ولم يبقى غير الأربعة.. تابع إسلام بحزم وهو يجذب بدر من ذراعه:
- تعالى معايا يا بدر.. وأنتِ يا دكتورة تالا أنا بعتذرلك ولو تعبانه تقدري تأخدي النهاردة إجازة.
وتحرك ساحبا بدر لغرفته أما لمار فضلت أخذ رفيقتها لخارج المشفى.
........
رمى بجسده فوق صوفا جلدية في محاولة لطرد الغضب الذي اكتنفه منذ أن أثارت تلك التالا حنقه بأفعالها غير المبالية.. وإسلام يقف أمامه ضاربًا كفًّا بآخر:
- أفهم بقى إيه اللي أنت عملته ده.. في حد يزعق كده!
والرد ينبض غيظًا:
-إسلام ماتعملش فيها عبيط لو أنت مستحمل علشان حبيبة القلب أنت حر لكن أنا مافيش حاجة تجبرني على حرقة الأعصاب دي كل يوم والتاني.. مرة الآقيها ترغي في الموبايل ومرة تظبط ميك أب و تالته ورابعة, ماعرفش إحنا هنا في مستشفى ولا في كوافير؟ ولا المصيبة الكبيرة تأخد سيلفي مع المواليد في الحضانه وتشير الصور!  سهوكة بنات ومياعه وآخر قرف.. وفي الآخر غايبه بقالها يومين ولما شرفت حضرتها قلبت الدور كله مناحة..
تابع بحنق أكبر ونبره أعلى:
- ياعم دي واحدة فيوزاتها ضاربه خالص..!
جاهد إسلام لكتمان ضحكاته لكنه عجز عن ذلك وانفجر ضاحكًا رغما عنه بينما الآخر يكاد يتميز من الغيظ.. حاول تهدئته حين هتف من بين ضحكاته :
-طيب وأنت زعلان ليه.. دي لذيذة خالص, شخصية اجتماعية ومرحه ده حتى كل الدكاتره تعرفوا عليها وحبوها.
دمدم متهكمًا:
-مش حرماهم من حاجة, ضحك ورغي, قهوة وشاي مايحبوهاش ليه.
نهره إسلام بجدية:
-بدر إحنا  لينا شغلنا وبس .. مالناش حكم عليها وأنا شايف أنها بتتعامل بعفويه, ده طبعها مش إللي في دماغك بلاش سوء الظن يا أخي.
تغضن جبينه وغمغم مدافعًا:
-انا ماقصدتش حاجة وحشه.. على كل حال أنا وهي مش على إتفاق, قربنا على الشهر مع بعض و أنا غصب عني بفقد أعصابي وعلشان اللي حصل ده مايتكررش بخلي مسؤوليتي من الحضانات, شوف دكتور غيري يتابع هناك معاها.
أذعن لرغبته دون نقاش فهو أكثر من يعرف طبيعة صديقه:
-خلاص ولا يهمك سيب الحضانات خالص أنا هتصرف.. المهم ماتزعلش.
*  *   *   *  *
مازالت في حالة البكاء والنحيب والأخرى تسأل عن الأسباب حتى تملكها الغيظ ولا جواب.. فهتفت حانقة:
-كفايه يا تالا حرام عليك, جبتي لي صداع يابنتي.. شربتي لترين ليمون  ولسه بتعيطي!
كفكفت تالا دمعاتها وتحدثت بنبرة متهدجة:
-طيب  إقفلي الباب كويس مش عايزة مامتك تسمعنا أو لارا.
أحكمت غلق الباب وعادت لها تجاورها فوق الفراش:
-هااا.. إنطقي بقى.
- كوكي!
-ماله سي كوكي..
تنهدت تالا وهتفت بحنق:
- الحيوان بيخوني.
فغرت لمار فمها وهتفت بضيق:
- ده حيوان ومايستهلش تعملي كل ده علشانه.
وضحت أكثر:
- الندل بيخوني مع الحيزبونه لينا!
شهقت لمار بقوة:
- أختك!
هزت تالا رأسها في أسى هامسة:
-شوفت قد إيه هما حيوانات.
حركت لمار رأسها بعجب من حال البشر المثير للاشمئزاز:
- وأنتِ تعيطي ليه, حيزبون ولقى حيزبونه شبهه في داهيه.
عقدت تالا حاجبيها في إستنكار وهتفت بنفاذ صبر:
- أنتِ  هبلة يا لومي.. أكيد يعني مش بعيط عليهم يغوروا الاتنين ما أنتِ عارفه أن خطوبتي تمت علشان أخلص من زن بابى مش أكتر.
جحظت بعينيها وتساءلت بعدم فهم:
- طيب المناحه إللي من الصبح دي كانت ليه؟
اكتسى وجهها بالحزن والضيق قائلة بقلة حيلة:
- ماهو أنا والحيزبونه الكبيرة مرات بابى اتخانقنا جامد قوي.. وهي قالت له كل حاجة وهو نازل مصر الأسبوع الجاي ومصمم يأخدني معاه أمريكا علشان أعيش هناك مع  مراته الأمريكية, حاولت أفهمه مافيش فايدة وأنا مش عايزه أسافر.
شعرت لمار بالضيق لحال صديقتها, ربتت على كفها وهتفت بعد تفكير:
- ما يمكن هناك أحسن من هنا يا تالا.
حركت رأسها برفض قاطع:
- لا مش عايزه أعيش معاه في مكان واحد.. طول الوقت نتخانق وهو كل همه يفرض أوامر وخلاص.
- طيب نامي دلوقت وما تشغليش بالك كل مشكلة ولها حل.. لما يرجع اتكلمي معاه وحاولي تقنعيه.
تبسمت لها في امتنان:
- ميرسي علشان هتخليني أنام في سريرك, أنتِ جدعه قوي يا لومي.
اقتربت منها لمار ودست نفسها داخل الفراش تجاورها:
- ومش بس في سريري أنا هنيمك في حضني كمان.
*  *  *  *  *
تدوي صدى كلماتها داخل أذنيه دون هواده..
"أنت نسيت نفسك.. لأ فوق وافتكر أنت إيه ومين و أنا أبقى مين وبنت مين..  ولا علشان عايش وسطنا افتكرت نفسك واحد مننا"
أغمض عينيه بقوة, يعتصر كفيه حتى ابيضت مفاصلهما.. هل تعايره ابنة الجراح, تخبره أنه مهما درس واجتهد وأصبح طبيبا يشيد الجميع بمهارته سيظل في نظر الجميع ابن الأحياء الشعبية, لا ينتمي لمجتمعهم الراقي!..
لا يزعجه ذلك هو راضٍ بما هو عليه والرزق من الله لا من غيره وعالمهم ذاك هو لا يحبذه من الأساس, مزيف كالقشرة نظيفة من الخارج ومن الداخل يحمل عفونهةلا يتحملها.. عاش طفولته وشبابه بينهم, خالطهم لأنه أحبهم فقط.. اتخذ إسلام  أخًا لا صديقًا وإخوته بمثابة أخوة له.. وهي كان يدللها دائمًا, لطالما كره دلال الفتيات الزائف لكن هي كانت غير الجميع.. لم إذن تؤذيه بتلك الكلمات, توجعه في كرامته وتقلل من شأنه وتشعره بالدونية.. لأنه خائف عليها؟ أم لأنه يريد حمايتها من نفسها؟ هو فقط فعل ما يجب أن يفعل أي أخ يرى أخته في وضع كهذا..  يالها من حمقاء بدلا من أن تصفع ذاك الحقير تطلق عبارات الترجي, ماذا إن لم يكن مارًا هناك صدفة ورأى سيارتها مصفوفة أمام ذلك المقهى المشبوه.. لأي حال كان سيتمادى معها..
تخلل خصلاته بأنامله, يزفر بضيق, أرهقه كثرة التفكيرو يبدو أن ليلته  ستكون طويله للغاية..
- دكتور بدر ممكن أتكلم معاك شويه؟
رفع رأسه بغتة يواجه الصوت الأنثوي, تعجب من وجودها وبما تريد محادثته, فهما لم يتحادثا منذ ذلك الشجار الحاد الذي قام بينهما منذ أيام.. مد كفه للمقعد المواجه له كدعوة للجلوس..
جلست في تردد وكلمة واحدة فقط هتفت بها دون مقدمات, وهي أكثر من كافيه لجعل الجالس أمامها يحدق فيها حتى كاد أن يقتلع  حدقتيه من محجرهما:
- تتجوزني؟

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن