الفصل الثاني والعشرون

75 2 0
                                    

(22)
غيرة واجبة

قالوا من قبل أنَّ المرأة أشقى بغيرتها من الرجل، وإنَّ الغيرة هي الطاغية في مملكة الحب كما أجزموا أن الغيرة هي اللغة الوحيدة التي تجيدها المرأة، وعلى قدر ذاك الحب تكون غيرتها.. تضبط إيقاع مشاعرها ومؤشر إحساسها يعمل بدقة وما إن تشعر بخطر يقترب من أسوار مملكتها تنطلق أبواق الحروب وتدق الطبول بعنف وشدة.. وهي ليست بخطر وكفى هي شقراء متمايعه بجسد مغوي وسيقان متناسقة الإنحناءات مع بحة صوت ساحرة، لا تكف عن مهاتفة زوجها ليل نهار، تحاول إلقاء شباكها حوله حتى يقع صريع فخها المغوي.. ليلة الأمس قطعت جلستهم الحميمية مرتين وذاك الأرعن يمثل دور البراءة وكأن شيئاً لم يكن، الرجال كما هم مهما تغير وتبدل الزمان ذو أعين فارغة يلهثون خلف كل حسناء فما بالكم بشقراءٍ فاتنة!
لكن إن كانت تظن أنها بلهاء ساذجة، تتركها تلهو وتمرح وتقف هي في صفوف المتفرجين فنجوم السماء أقرب.
ما إن فتح الباب حتى تيبست قدماه في الأرض، ثبت بصره أمامه بينما لسانه يعجز عن الحركة وعقله يجاهد لفهم ما يرى واستيعابه، كأن خلايا عقله توقفت كلياً فقط يحدق بعيون متسعة.. جاحظة
هناك أمامه تجسدت صورة حية لامرأة بأكثر الأثواب غواية ذي لون أحمر قانٍ، يكاد يبتلع جلدها لشدة ضيقه وقصره، بينما كثبها الأسود، ليله وعشقه الأزلي اختفى!
وحل محله آخر يحمل شقرة لعينة لا يعلم كيف جاءت.. تركها منذ سويعات فقط ولو علم أنه سيخرج تاركاً زوجته وحين يعود يجد أمامه تلك الحمقاء لكان قتلها قبل الذهاب، ولا يكفيها كل ذلك بل تتمايل أمامه بدلال وسبابتها ترتفع بدعوة مغوية بينما شفتيها تتخذ وضع القبلة بهمس فاتن مقلدة بصوتها الشجي مطربة ما نسى إسمها وتفاصيلها من هول ما يرى:
- ما تيجي هنا وأنا أحبك.
نسيت أن أخبركم أن مؤشر الأحساس لديهن حين يعمل بدقة عالية عن المطلوب يتفجَّر ويتحوَّل لشظايا وحينها يهبط ويتدنى لمرحلة الغباء الأنثوي.. وهمسها المغناج فك قيد قدميه ليخطو إليها وما زالت عينيه جاحظة وعقله يرفض استيعاب تلك الصورة التي جسدت أمامه بكل حماقة الكون.. أخذ يدور حولها ببطء متوجس وهي توزع بسماتها بنزق فبعد مجهودها الجبار ذاك ربما تتنازل الليلة عن نصائح إسلام الغالية ويحصل الحبيب على مراده، وتتمم تلك الزيجة، فزوجها المبجل يفوقها صحة وعافية هذا ما أختبرته على مدار ثلاثة أيام فائتة عمر زواجها السعيد وليلة حمراء لن تخلف ضرراً كبيراً.. واختفت الليلة الحمراء بجميع درجات ألوانها حين شعرت بقبضته تعتصر خصلاتها الكثيفة حديثة الشقرة حتى كاد أن يقتلعها من منابتها ونبرته الهامسة بدرجة خطيرة تخترق أذنيها:
-إيه الهباب ده!
وتاوئها المتألم لم يؤثر فيه حتى لثوان فقد تحولت عيناه المحدقة بجحوظ لأخرى غاضبة، مشتعلة وكأن هذا ما كان ينقصه! زوجته المصون تتلاعب بها رياح الغيرة فتقدم على فعلتها الشنعاء وتحول ليله الحالك لشقرة تكاد تلتاع معدته بمجرد إطالة النظر إليها..
حين فقدت إستعطافه بتاوهات خفيضة خرجت نبرتها بتوسل واضح:
- شعري يا باسل.. سيب بقى.. آآه حرام عليك.
اقترب أكثر بوجهه الغاضب وأنفاسه الحارة تلفح بشرتها بينما صوته خرج  كفحيح ملتهب:
-معاك لحد بكره يا فرحة لو القرف ده ما تشلش ورجع شعرك زي ما كان قسما بالله لأكون مقطعه بإيديا.
نفض يده عنها بقوة مخلصاً خصلاتها من بين أصابعه ثم رمقها شذرا وخطى نحو الخارج وقبل أن يبتعد إستدار نحوها من جديد رافعاً سبابته نحوها بلهجة تحذيرية يتحداها أن تكسرها:
-وإياكِ تطلعي من الأوضه مش عاوز ألمح طيفك الليلة.. خااااالص.. لحد ما يطلع النهار وتصلحي القرف ده، بعدين يبقى لنا كلام تاني.
صفق الباب خلفه بقوة جعلتها تشهق بفزع، لأول مرة يزعق بها بتلك القسوة بل لأول مرة يقسو عليها ولا يتقبل جنونها المعتاد في حضرته، تراجعت بخطوات متخاذلة حتى جلست على طرف الفراش، يتخبط عقلها بين أن تستمع له وتظل حبيسة غرفتها كما أمر حتى صباح الغد لتذهب بعدها نحو صالون التجميل وعلى إستعداد أن تدفع أضعاف ما دفعت حتى تسترد صورتها القديمة، تعيد هيئتها كما يفضلها، وقلبها الأحمق يؤنبها بأن تنهض، تذهب له تمتص غضبه وحنقه حتى لا يبيت ليلته بحممه البركانية تلك، لكن صورته الغاضبة عادت تحتل عينيها فتقهقرت بخوف وفقدت آخر ذرات الجرأة في مواجهته.. حانت منها إلتفاته نحو المرآة التي تجاورها فعقدت حاجبيها بأسى، الآن فقط أمكنها رؤية بشاعة صورتها المعكوسة أمامها.
....
زفر عشرات المرات حتى كاد أن ينهي على آخر ذرات أكسجين يحملها جسده.. حمقاء وستظل حمقاء، إن كانت شقراء او غيرها تجذب أنظاره لِمَ إذن ورط نفسه بالزواج منها!
ترك حماقتها مع غضبه والتقط من أعلى منضدة تقبع في زاوية الردهة مغلفاً ورقياً كان عائداً به من الخارج، ألقاه بإهمال غير آبه بما يحمله بين ثناياه  من كوارث في موجة قلقله عليها وقتما قابله السكون.. توسد الأريكة على عجل وعاد يقرأ من جديد، يقلب ويرى ما يحوي بين طياته وقبضتيه تتكوران بغضب..
فمنذ الساعتين حين هاتفته "لاتويا" ذهب من فوره وتقابلا على أطراف المدينة كما طلبت.. كانت بحالة يرثى لها لا يعلم سببها وما إن رأته حتى عادت على مسامعه سؤالها العجيب..
-بدك تخلص من سعيد الغازي؟
طالعها بدهشة ولا يدري بما يجيب وهي تسأله إن كان يريد القضاء على أبيها بل محوه من فوق الأرض إن امكن، حين طال صمته وشروده عادت تسأل من جديد:
-خبرني باسل بدك تخلص وترتاح بقى ولا بدك إظل هيك عالق بين أصابيع سعيد بيك يحرك فيك متل ما بده؟
تحدث أخيراً وسؤاله خرج مُتردداً بإستهجان:
-إزاي؟!
سحبت نفساً عميقاً ثم تناولت من حقيبتها اليدوية مغلفاً ورقياً وضعته له بين كفيه وهسيسها تحول لشرس، قاسٍ:
-هون وبهاد الملف فيك تبعته لسعيد الغازي وكل رجاله وياللي معه متل ما بتقولوا بالمصري.. وراء الشمس.
ظل يطالع المغلف بين يديه بصمت ثم أخذ يتصفح، يقلب، ومع كل ورقة يقع بصره عليها ينقبض قلبه أكثر.. أسماء عديدة لرجال أعمال، أرقام قياسية بصفقات مشبوهة وتجارات غير نظيفة.. أوراق كافيه لإخفاء من حوت اسماءهم من على الكون أجمع وليس فقط إرسالهم وراء الشمس.. ومن بين تلك الأسماء وقع بصره على شخص، لا هو صديق مقرب او هكذا ظن..
رفع بصره إليها في صدمة ولسانه يهتف بإسمه:
-أحمد!
وضحكتها الساخرة توازي كلماتها الصادمة:
-أحمد رفيقك أهم أضلع سعيد الغازي او فيك تقول الصياد تبعه، بيعرف يختار الفريسة وبجداره، عيون بتوصل أخبار المطار أول بأول.. وبالمناسبة كل الرسائل الحقيرة اللي عم توصلك هو المسؤل عنا، لأنه ببساطة رجوعك للغازي راح يكون لصالحه.
وبعد صمت طال أم قصر لا يهم.. بصوت ميت عاد يسأل:
-عارف من البداية إن علاقتك بسعيد الغازي مش تمام لكن مش لدرجة وراء الشمس.. وأضمن منين أن ده مش مقلب مثلا وتكون أنتِ كمان معاهم ويطلع كلامك ده كله مجرد مصيبة جديدة وبعدين إشمعنا أنا تقدمي لي الخدمة العظيمة دي؟
تدور عينيها في اللاشئ وهمستها صاحبها شرود نحو ماضٍ بغيض:
-بلا باسل  اللي بيني وبين البابا أكبر بكتير من ما تتخيل.. فيك تقول تار قديم وهلا إجى وقت الحساب.. والأكيد كل هاد ما يخصك.
ضحكت بسخرية مريرة مردفه بهمس:
-وبعدين أنت بتعرف إن متلك ما كنت راضية عن أعماله البشعه، بس ما كان فيني إحكي  قبل ما يكون معي دليل.. ولا بتعرف أديش كان صعب ومحال أوصل لورقة من هدول، بس ليك صار وهلا بين إيديك مفتاح خلاصك.
-بردو ما قولتيش إشمعنا انا!
حركت رأسها يمنة ويسرة وعادت تهتف فيه بزمجرة وفروغ صبر:
-لأنه بعرف عملت هيك غصب عنك، هن إستغلوك وما كان في قدامك خيار، ولأنك شخص منيح يحق لك فرصة تصلح فيها كل شيء وترجع لحياتك متل ما كنت.. على كل حال ماعندي دليل يأكد لك كلامي إذا بدك فيك تاخد الملف وتنتقم لحالك وإذا ما بدك عندي مليون طريقة غيرك، بس وقتا ما بضمن لك إسمك ما يروح معن لأنه أكيد راح يخبروا عنك ولو صار هيك شيء كل سلطة وظيفتك ما راح تحميك.
تخلل خصلاته بقوة وهتافه خرج بزعقة وحيرة تكاد تفتك به:
-أخويا، أختي، مراتي وأهلي.. ما قدرش أخاطر!  يوم ما قررت أقف في وشهم كانت حياة أخويا هتكون التمن، انا بالورق ده وحتى من غيره بحتة بلاغ للجهات المختصة قادر أقلب عليهم الدنيا، لكن هيرجعوا يردو القلم بكل خسة وندالة بيعرفوا يختاروا الوجع فين وينشنو بالظبط وأنا ماقدرش أخاطر بيهم.
ونبرة لاتويا الزاعقة جعلته يصمت:
-لك أنت دخلت وسط النار يا بني آدم من وقت عشاء لبنان، من وقت ما كشف قدام عيونك كل الحقايق.. ياغبي سكوتن ما راح يطول، بتكون غبي لو مفكر راح يخلوك هيك عايش حياتك على كيفك وأنت بتعرف كل شيء، متل ما أنت قادر تقلب الدنيا عليهن هن كمان قادرين برفة جفن يمحوك من على وش الأرض.. هن بس واثقين أنك راح ترجع متل ما رجعت أول مرة، أنت مجرد كارت رابح وما بدن يخسروك منشان هيك مطولين بالهن عليك.
صمتت لثوان تتابع ملامح وجهه التي باتت مكفهرة ضائعةٌ، ثم أردفت من جديد:
-أنا سمعت البابا عم يحكي لرجاله يقلن كل ما ضغطتوا عليه أكتر كل ما رجع أسرع، سكوتن مقابل رجوعك.. فيق بقى قبل ما تحرقك النار وأنت واقف مكانك.. فكر منيح باسل وراح كون ناطره منك تلفون حتى أعرف شو قررت.
وعودة للحاضر المرير.. إعتصر المغلف بين قبضتيه والنيران تتأجج بداخله أكثر، تشتعل وتضرم بضراوة، أغمض عينيه يبتهل في داخله يطلب العون والسند من رب العباد والا يتركه بمفرده يواجه ذاك الإعصار هو أضعف من ذلك.
وحركة خفيفة صدرت من خلفه انبأته أنها كسرت أوامرة وخرجت من غرفتها، ومع همسها الخافت بإسمه لملم ما بين يديه سريعا ونهض على الفور، تحرك وتخطاها دون أن ينظر لها.. وداخل الحجرة الأخرى المجاورة لحجرتهما معا دلف صافقاً من خلفه الباب تاركا إياها خلفه بعيون دامعة لإنقطاع آخر خيوط الأمل في إسترضائه.
*  *  *  *  *
وأظل وحدي أخنق الأشواق
في صدري فينقذها الحنين
و هناك آلاف من الأميال تفصل بيننا
و هناك أقدار أرادت أن تفرق شملنا
ثم انتهى.. ما بيننا
و بقيت وحدي
أجمع الذكرى خيوطا واهية
و رأيت أيامي تضيع
و لست أعرف ما هيه
و تركت يا دنياي جرحا لن تداويه السنين
فطويت بالأعماق قلبا كان ينبض.. بالحنين
"فاروق جويدة"
***
رحيلها الصامت أمام عينيه بمثابة ألم جديد حط عليه.. حقا لا يعلم لم يفتقر للحظ! كأن الحياة تستكثر عليه بضع نفحات من السعادة.. متأرجح هو بين قرب وبعد، جنة ونار، لا هو حلق نحو السماء وقبض على نجوم السعادة ولا بقي على الأرض ينظر لأحلامه وآمانيه المتبخرة.. فقط ذبذبات عشق تسكن فؤاده تضرب فيه دون رحمة.
عدة طرقات على الباب انتشلته من شروده وقبل أن يأذن لطارق كان بالفعل فتح الباب وطلت بوجهها الباسم، تهمس بحنو:
-أدخل ولا هتنام؟
إعتدل في جلسته هاتفا بسرعة:
-إتفضلي طبعاً يا ماما.
ولجت بخطوات هادئة حتى جاورته فوق الفراش، طالعته متبسمة في صمت فرفع حاجباً في توجس مع هتاف أكثر توجس:
-خير ياشاهي مش مطمن لك!
ضربته فوق كتفه بغضب مصطنع مع نبرة معنفة من ثم لينة:
-الحق علىّ وحشتني.. من زمان ماقعدناش قعدت الأم وإبنها.
ضحك بخفوت وعاد يتمدد من جديد، يحط برأسه فوق فخذيها ويهمس:
-أنا كمان واحشني حضن الأم لإبنها.. ويمكن محتاجه أكتر.
وهي تشعر به مهما كبر ومرت السنون سيظل هو بكريها فرحة قلبها الأولى، تستشعر حزنه وضيقه يهرب من الجميع داخل دوامات العمل كما يفعل "مراد" يغادر البيت من بكورة صباحه ويعود آخر الليل وفي أحايين كثيرة يبيت لياليه داخل مشفاه، يبتعد عن الجميع، ينطوي ويصمت هي تلك عادته منذ الصغر، وحينما ينهكه التعب يأتي إليها يضع رأسه بين أحضانها ويفضي بمخزون ضيقه، لكن تلك المرة لم يفعلها وذلك ما أثار قلقها فجاءته لم تنتظر منه المبادرة.. مسدت خصلات شعره ثم تخللتها بين أناملها وهمسها الدافئ يشق مسامعه:
-إحكي لي.
تنهيدة حارة مصدرها جوفه المشتعل مع نبرة متعبة حد الألم:
-تعبان يا أمي.. ومش لاقي بر أرسى عليه.
ضمت رأسه لصدرها أكثر وكفها يمسد وجنته بذقنه النامية، تهدهد روحه المتعبة:
-طيب قولي إيه تاعبك.. لمار والمشاكل اللي بينكم اللي كلنا تقريبا عرفنا بيها ومافيش داعي تخبو أكتر من كده ولا حكايتك مع باسل وخصامكم اللي طال و مانعرفش  ليه سبب؟ ولا حاجة تالته ماعرفهاش؟
تبسم داخله بسخرية فالأولى تتبع الأخرى أماه.. الأولى طعنتني بقلبي والآخر بظهري ليمضي كل منهما في طريق وبقيت أنا في المنتصف أصارع طعناتهم.. حين طال صمته أيقنت أنه لن يبوح بأكثر من ذلك لذا هتفت من جديد بقلب أم ملتاع على ولديها ويضيق صدرها لأجلهم:
-كلم أخوك يا إسلام بلاش تكون قاسي كده، عمر ما كان الجفا بيريح بالعكس.. وإن كان غلط في حقك هتفضل أنت الكبير عرفه غلطه بس ماتبعدش وتقسى، أنتم في النهاية مالكمش غير بعض.
جذب كفها المحيط بذقنه يلثم باطنه وهمسة خافتة لم يجد غيرها يهمس بها:
-حاضر.
لتعود تحنو من جديد:
-وريح قلبك، شوف إيه اللي تاعبه وريحه او ابدأ صفحة جديدة على بياض وإرمي كل اللي تاعبك وراء ظهرك.
تنهد في يأس وأغمض جفنيه ينشد راحة، أذعنت لرغبته ولم تزد في الحديث، قبلت جبينه وعادت تمسد خصلاته من جديد.. بطلها الصغير هو منذ الطفولة وحتى بعد ما أضحى ينضح برجولة وعنفوان، يريح قلبها ويفعل دائما ما يطمئنها، تثق فيه ولا تخشى عليه من شيء ربما يحنيه التيار لكنه سرعان ما يعود ويستقيم بل يشتد عوده أكثر من ذي قبل.. من يشغل بالها بحق ويخبرها حدسها أنه ليس على ما يرام صغيرها الآخر، صوته الحزين يثر قلقها، حتى زواجه من فرحته حبيبة الصغر لم يعد له روحه المرحة والتي تميزها جيدا عن تلك المزيفة، هو من يوجع قلبها ويستحوذ على خوفها.. حركت رأسها يمنة ويسرة تطرد وساوس الشياطين داعية لولديها براحة بال وحماية من كل شر.
*  *  *  *
صباح جديد يشع بهجة ومرح، تغرد عصافير الغرام وتشدو بأعذب الألحان خارج نافذة مطبخها، وصوت مذياع يصدح بأغاني الست قادم من نافذة شقة مجاوره، بثوب قطني قصير تدور بين خزائن مطبخها تأخذ هذه وتترك تلك، تعد وجبة فطور مفتخرة حتى تليق بالسيد المبجل..
ولم تكن تعلم أن السيد إنتهى من إرتداء ملابسه ويقف منذ قرابة ثلث ساعة يراقب تمايل خصرها مع صوت المذياع، تشرد قليلا وتضيق بحدقتيها محاولة منها لتذكر بضع مقادير تخص ربما طبق البيض الذي تعده بحرص، لتتبسم بعدها في ظفر ويعود خصرها يتمايل ببطء من جديد.. تقدم بضع خطوات نحو منضدة قريبة حملتها بعدة أنواع من الجبن يجاورها حبات الزيتون مع شرائح الخيار والبندورة الطازجة..
إلتقط أول ما طالته يده وبدأ يدسه بفمه مع تساؤل هادئ:
-بتعملي إيه؟
تتشبث أصابعها بيد المقلاة الساخنة بينما تدور له برأسها مع إبتسامة واسعة ملأت وجهها الصبوح:
- بيض عيون.. بتحبه صح؟
همهم بخفوت فعادت تهتف به دون أن تلتف له تلك المرة فقد إستحوذ إعداد البيض على كامل تركيزها:
-بدر أنا هروح النهاردة عند لمار، لازم أشوفها طنط نهال بتقول حالتها وحشة وطول الوقت بتعيط.
تسائل بضيق:
-وهتروحي إزاي؟
تعلم أن ذلك يغضبه لكن صديقتها تحتاجها لذا هتفت سريعاً دون تردد:
-تاكسي.. وبليز يا بدر مش تقول لأ انا لازم أشوفها.
حرك رأسه برفض قاطع ونبرته لا تقبل نقاش:
-تاكسي مستحيل.
عادت تلح وتتوسل من جديد وعلى ما يبدو لن تكل ولا تمل من الثرثرة والإلحاح.. ونهاية المطاف رضخ لرغبتها لكن كما يريد هو:
-خلاص خدي عربيتي وأنا هقضيها مواصلات النهاردة وأمري لله.
تهللت أساريرها في سعادة وهي تحمل طبق البيض نحو المنضدة وما إن وقع بصرها على سفرتها التي أعدتها بعناية فائقة منذ دقائق فقط إجتاحها الحنق فقد أصبح كل طبق عليها في حالة يرثى لها بعد ما سد رمق جوعه من بينهم.. تركت ما بين يديها بقسمات متحسره ونبرتها خرجت حانقة بضيق:
-إيه اللي أنت عملته ده.. كده بهدلت الطريق!
عقد حاجبيه في عدم فهم فاستدركت حالها وتسرعها، زمت بشفتيها وعقدت ساعديها وأخذت ترمقه شذراً وهي تتذكر كلمات الجارة "أماني"
"يابنتي أقرب طريق لقلب الراجل معدته.. معروفه دي"
عادت ببصرها المتحسر نحو طريقها الذي مهدته وتفننت فيه وأتى هو في دقائق وقضى عليه قبل أن يكتمل حتى.. ولا تعلم متى تملك من خصرها وإقترب منها بتلك الدرجة الخطيرة إلا حينما أتاها صوته الأجش يهمس بجانب أذنها بحرارة:
-أقول لك انا إيه أقرب طريق لقلب الراجل؟
إرتخى جسدها بين يديه ما إن لمحت رمادية عينيه تخترق عينيها وأمام شفتيها أتم جملته بهمس أكثر دفء:
-عينيكِ.
فغرت فاهها في بلاهه ورفرفت بأهدابها عدة مرات، علها تتأكد أن ذلك الغزل الصريح يخصها! وقبل أن تفقد الوعي بين يديه سارع بدس إحدى شرائح الخيار داخل فمها، ولأنها سافرت إلى عالم آخر تركتها عالقة بين شفتيها وأكتفت بالتحملق فيه فعاد وإلتقطها من جديد كما دسها لكن بشفتيه تلك المرة، أخذ يمضغها وضحكته اللعوب تتسع رغما عنه وقبل أن يغادر ويتركها ضائعة، ساهمة في عالم وردي مليء بالفراشات هتف وغمز بمكر:
- طعم الخيار مع الجلوس.. يجنن!
*  *  *  *  *
وبين شقي رحى الفراق والألم تتهشم هي، تذبل وينطفيء نورها، تعاندها الأيام وتقف لها بالضد، الجميع يقترب منها يحنو، يحتل مكاناً بالقلب وحيزاً داخل الروح وبعدها يرحلون دون النظر لقلبها المفطور المتألم بفراقهم، تاركين إياها بين ثنايا الفراق والآلآم تتآكلها بصمت حتى بات نابضها كالخرقة المهترئة لايقوى على إقتراب أحدهم أو رحيل آخر.. حتى من ظنت أنه الأوفى بينهم يقسو ويبتعد.. دائما كان هناك خيط رفيع يصلها به، يخبرها أنه سيعود عاجلا أم آجلا سيعود.. لكنه ببساطة لم يفعل، إحتوى وقدم مواساته ورحل كغيره.. تنضب دموعها فتعود تولد من جديد تشق طريقها عبر وجنتيها ثم تموت عند شفتيها وملوحتها لا تمحي مرارة الفراق.. لن تعود له ولن تعود لصغارها، سترحل هي تلك المرة لن تظل في مقاعد الانتظار تترقب ظلهم الراحل، بل لم يعد هناك داع للانتظار فالجميع على علم أنها وخطيبها على غير وفاق لذا إنتهى ما بينهما لأجل غير مسمى.. حين فقدت الوعي بين يديه حين لمس ألمها وضعفها، ظنت أنه إكتفى من الهجر وسيعودان من جديد هو يداوي ويطيب وهي بالمثل، لكن وقتما إفترق جفنيها وقابلها الفراغ إلا من ذرات عطره في الأجواء تخبرتها أنه كان هنا، كان بفعل ماضٍ لن يعود..
وعن صغارها لن تنساهم في غفوها وصحوها ستدعو وتبتهل من قلبها بشفاء وسعادة تملئ قلوبهم الصغيرة، أما عنها فمحال عليها تجرع ألم فراقهم من جديد، فراق الصغيرة هدم آخر حصونها الواهية، ومن كان يدعمها لم يعد يساندها ولن تلومه تعلم ما يمر به، ترى حيرة تفتك به وحزناً يفيض من بين عينيه، آلمته دون قصد وها هي تدفع الثمن بحزن غلف قلبها وظلام شاع بين ثنياها.. ستبقى على ذكراه وتخلدها بروحها، ستتذكر دائما أنه يوماً ما كان هناك عشق دافئ اجتاحها عنوة، بسط أشعته الذهبية وتغلغلها بسلاسة وحين رفعت له ريات الإستسلام.. غادرها صاحبه مع طعنة أهدتها له دون قصد.
زادت عبراتها وعادت تعلو شهقاتها ونحيبها بألم، فضمتها "روان" بين ضلوعها، تهدهدها برفق كما تفعل مع صغيرتها وتخبرها أنه سيعود لها طبيبها وحينها فقط ستطيب كل جراحها.
*  *  *  *  *
هل تسمحين
بأن ينام على جفونك لحظة
طفل يطارده الخطر..
هل تسمحين
لمن أضاع العمر أسفاراً
بأن يرتاح يوماً ..
بين أحضان الزهر
"فاروق جويده"
***
قضت ليلتها ساهرة تترقب خروجه من محبسه الذي فرضه على حاله، لكنه لم يفعلها تركها وحيدة تقضم أظفارها تارة وتتخبط بغيظ بين الجدران تارة أخرى، ومع إشراقة الصباح كانت ترتدي ملابسها، ستفعل كما أمرةا وتعود له بفرحته وحينها ينتهي خصامه الذي طال وتعدى طاقة الإحتمال.. وقبل أن تنتهي كان يدلف للغرفة بعاصفة باردة يأمرةا بجفاء أن تنتظره فهو من سيقلها لوجهتها، أخبرته أن مقصدها يبعد فقط بضعة أمتار عن المنزل ولا داعي لذهابه، فلم يأبه لحديثها وأكتفى بتكرار أمرة.. أقلها في صمت دون أن يتفوه بكلمة وهي لا جرأة لها بحديث، وبعد سويعات قليلة كانت قد إنتهت وعادت لسابق عهدها، تتبسم براحة وتلعن نفسها وموجة الغباء التي اجتاحتها بالأمس لترتكب جرم كهذا، وكان بانتظارها وتكاد تقسم أنها رأت في عينيه بسمتها الخاصة ممزوجة بعشق خالص يخصها وحدها، لكنه يخفي ذلك ويزيد من جفائه وقسوته، عاد بها حيث مسكنهم وأمام الشقة غادر من جديد بكلمات مقتضبة تخبرها أنه سيعود ما إن ينهي بعض الأمور.. وحل الغروب وبعده ساعتان وباتوا أربع وقبل منتصف الليل بقليل كان يدلف للغرفة بهدوء لا يمت ما يعتمل في داخله بصلة.. جاورها فوق الفراش ليحين دورها في الخصام، ليس من حقه أن يعاقب ويبتعد كل ذلك وتتقبله هي بصدر رحب، إنتوت هجره والإنطواء بالغرفة المجاورة كمان فعل هو بالأمس، وقبل أن تأخذ خطتها قيد التنفيذ كان يتملك من خصرها، يقربها منه ويغرق بوجه داخل خصلاتها الحالكة فيتبسم بشغف، إبتعدت عنه بضيق فعاد وتملك من جديد وصوته محمل بإعتذار هامس:
-آسف.
ثم علا بكفه يمسد مؤخرة رأسها ونبرته خرجت بندم:
-وجعك جامد؟
عاتبته بعينيها، تخبره بهما أن جذبه لخصلاتها لم يؤلمها بقدر ما أوجعتها قسوته وإبتعاده ليلة الأمس وطيلة نهار اليوم.. سار بأنامله فوق وجنتيها وغاص في سواد مقلتيها ليهمس بحرارة:
-بحبك.
دست بنفسها عنوة بين ذراعيه تبثه عشقها وعبارات حب تخصه وحده منذ الأزل.. استرخى بها في جلسته حتى بات شبه ممد وهي بين ذراعيه، يمسد ذراعها ويتخلل خصلاتها بأنامله وهي مغمضة العينين تنعم بدفء بين ضلوع حبيبها، تستمع لدقات قلبه الهادرة فسيمفونية عشقها الخاصة تعزف هنا بقيادة نابضه.
-فرحة.. هتسافري عند عم حسن، جهزي نفسك.
ألجمتها جملته المفاجئة لثوان، إرتفعت بعدها بجسدها مجعدة ما بين حاجبيها وسؤالها خرج بإستفهام وضيق:
-هترجعني لبابا ليه يا باسل وانا لسه ما كملتش إسبوع في بيتك؟ كل ده عشان اللي عملته إمبارح؟ إعتبرها لحظة جنون وعدت، شعري رجع زي ماكان.. زي ما بتحبه.
اعتدل في جلسته من جديد يزفر ببطء ويجذب كفيها المتشابكين ليحتجزهم بين كفيه:
- لأ الموضوع مش كده، انا بس عندي شغل مفاجئ ومضطر أقطع الأجازة.. لازم أسافر وأنتِ ما ينفعش تقعدي لوحدك علشان كده هوصلك عند عم حسن خليك عنده لحد ما أرجع.
تسائلت بضيق:
-هتغيب قد إيه؟
ومع سؤالها إحتبس الهواء عن رئتيه وظل يتابعها بصمت، ملامحها الحزينة، ضيقها النابع من داخلها.. وأخيرا تحدث بهمس مشتت:
- جايز إسبوع، إتنين، شهر.. أكتر او أقل مش عارف.
حركت رأسها برفض حاسم وإعتراض:
-بس أنا مش عايزه كل مرة أسيب بيتنا يا باسل، دي طبيعة شغلك وأنا لازم أتعود عليها، سافر ووقت ما ترجع هتلاقيني مستنياك.. هنا في بيتنا.
أغمض عينيه في قهر، هذا ليس بمنزلنا حبيبتي هو منزل ذاك الخائن من اتخذته يوماً صديقاً، عليك بالرحيل حتى أتمكن من العوده إليك من جديد.. هدر وكل ذرة داخله تشتعل:
-ما ينفعش تستنيني وأنا مش عارف هرجع إمتى جايز  تتعبي من كتر الإنتظار.. ولا مين عارف مش يمكن مارجعش خالص.
ضربته بقبضتها المكوره فوق كتفه بقوة ثم زجرته بهتاف حاد بعد ما خانتها دمعة يتيمة سقطت من محجرها دون إرادة:
-إياك تقول كده تاني، هتسافر وهتروح وهتيجي وأنا هفضل مستنياك، إياك تنطق بالكلام السخيف دهمرةتانية أنت فاهم؟
ولم يتحدث فقط جذبها لصدره  يخرس كلماتها ويلتقط دمعتها بشفتيه، يمحي قلقها بكلمات غزل من بين صفحات قاموسه الخاص المحفور بين ضلوعه وقد حظر اللمس والإقتراب لغيرها، يبدل كل لياليها الفائتة بليلة خاصة تصبح بعدها زوجته قلباً وقالباً، يدمغ صك ملكيتها للأبد ويدفن بين ذراعيها قلقه وخوفه الذي بات رعباً من القادم، عقب ما اتخذ خطته مع الشقراء المدلله قيد التنفيذ، فالحياة على صفيح ساخن لا تناسبه، فإما جنة وإما نار الأثنان محال.. كانت بالأمس حبيبة وغدت اليوم زوجة ورفيقة درب، ووحده الله يعلم إن كان دربهم سيمهد بسعادة وصغار تختم بهم حكايا العشاق، أم زرع من البداية بأشواك ستدمي القلوب قبل الأجساد.
*   *   *   *   *
بعد أيام..
تدور إطارات السيارة في سرعة مهوله تلتهم الطرقات الريفية تطيها طيا، بينما أصابعه تقبض على عجلة القيادة بقوة أظهرت عروقه النابضة بقهر، نعم يريد إبعادها لكن ليس بتلك الطريقة أبداً.. اللعنة على الشقراء لاتويا واللعنة على أبيها، لعنة الله عليهم جميعا ألا يذهبون للجحيم عله يرتاح..
تجاوره في المقعد الأمامي تحط برأسها فوق زجاج النافذة وخيط من العبرات المنسابة يشق طريقه عبر وجنتيها، تبكي حباً توارى، تبكي رجلاً ظنته هو كونها أجمع بينما هو تخلى عنها ببساطة.. أغمضت عينيها في أسى والذكرى تلوح بخاطرها.. لا تصدق أن ذاك الرجل الذي ذابت بين أحضانه واجتاحها بطوفان عشقه منذ أيام هو نفسه ذلك الخائن الذي يجاورها!
تعالى رنين هاتفه فترك جسدها تلفحه البرودة ونهض حاملاً الهاتف بين أصابعه، ظناً منه أنها تغط في سباتها، لم يكن يعلم أنها نهضت بدورها وحين قادتها خطواتها ناحية الشرفة تتبعه خلسة كان ينهي مهاتفته بكلمات أثارت في نفسها الشك من جديد..
"قولت لك لما فرحة تمشي الأول غير كده لأ "
وفرحة إبتعدت من فورها تنسل داخل فراشها قبل أن يراها وفي قلبها لن تفوت ما سمعت مرور الكرام .. أكد لها الظنون إصراره في الصباح على رحيلها السريع كأنه بات لا يطيق صبراً على وجودها، وهي لن تتركه بين يدي تلك الشقراء.. تتشبث بقميصه وتخبره أنها لن تغادر بيته مهما كلفها الأمر، ستبقى في انتظاره ريثما يعود ستكون هي هنا، فيهديها نظرة صامتة ولا يقوى على حديث بعدها، ولا تمر ساعة حتى يعود على إلحاحه من جديد وظل الحال ليومين كاملين هو يطلب تارة ويزعق أخرى وهي تبكي تارة وتغضب أخرى، تطالب بحقها في زوجها وبيتها، وليلة البارحة كانت تنتظره خلف زجاج النافذة تمني نفسها بأمسية سعيدة ربما يعوضان بها جدال وغضب اليومين الماضيين.. لكن كل ذلك تبخر حين رأته بعينها يقبل تلك الوضيعة بشغف، هناك أسفل البناية في العلن وأمام عينيها.
ولم تكن تعلم أنه أهون عليه عذابه الذي يحياه وألا يطعنها بقلبها كما فعل.. حين ترجل من سيارته كانت هناك هي الأخرى داخل سيارتها تنتظر عودته، تحرك إليها ولم تنتظر بل هتفت في وجهه بسخط:
"شو يا بيك راح إنظل هيك ناطرين فرحة خانم لترضى وتروح تنتحرك! "
وقبل أن يتحدث عادت تقر من جديد بغضب:
"ما راح تروح، أنا عم ئلك ماراح تروح وتتركك، إلا إذا تركتها أنت"
وقتها لم يتمالك نفسه وهدر فيها من بين أسنانه:
"وأنا مستحيل أخاطر وهي معايا لازم تبعد علشان لو حصل أي حاجة تكون بعيد"
صمتت لاتويا لدقائق تبادلوا فيها النظرات المشتعلة، تطلعت بعدها نحو البناية وحين تقابلت عينيها مع عيني الأخرى المصوبة عليهما كالصقر لم تتردد لثوان، جذبته من ياقة قميصه على حين غرة واقتربت من شفتيه تلثمهم بقبلة شغوفة لمن يراها، بينما هي مجرد سكين ثالم غرس في قلب الفرحة وعنه فقد الحركة واحتبست أنفاسه، وحينما ابتعدت كما اقتربت همست بإقرار قبل رحيل
"هلا راح تروح .. ناطره تلفونك بس ترجع"
ورحلت بضحكة ساخرة زينة جانب شفتيها بينما هو دار برأسه نحو النافذة أعلاه وكانت هناك.. تحركت خطواته بآلية وأمامه خياران لا ثالث لهما.. الأول؛ يحمل إعتذاراً وطلب غفران لما رأت وببضع كلمات منمقة سيناله، والله ستهديه صك غفران عن طيب خاطر، ستصدقه وتمنحه العفو والسماح ما إن يعدها أنها لن تعاد وستبقى بقربه.. والثاني؛ فيه تأكيد لما رأت وحينها سيفطر قلبها ويشطر روحها العاشقة له حد النخاع وربما روحه هو من ستنشطر دون رحمة لكنها سترحل ببساطة كما يريد.
رباااه .. أي خيارات تلك التي يسقط بها مرة تلو أخرى، لم يسلخ روحه عن جسده كل حين بيديه!
لم تصرخ او تزعق كما ظن فقط طالبت بمعنى لمَ رأت بعينيها وحينما قابلها صمته عادت تطالب بحقها في عشق أمضت عمرةا كله في انتظاره، فطال صمته وطال عتاب الأعين، هكذا إذن فرحة من تغنيت بعشقه سراً وجهراً لم يكلف نفسه ليتمسك بك من باب القرابة لا المحبة، طعنك هكذا ببساطة ولأجلها، لم يتخذ وضع دفاع ولم يكذب بل أكد بصمته وأثبت إدانته..
وحينها فقط كانت هي صاحبة طلب الرحيل
"عاوزه أروح لبابا.. عاوزه أمشي من هنا"
وحينها فقط خرج صوته جامد بلا حياة
"جهزي نفسك "
انفلتت منها شهقة خافتة على إثرها حرك رأسه إليها، أغمض عينيه بعجز وعاد ينظر أمامه نحو الطريق.. وما هي إلا سويعات قليلة أنقضت حتى أصبح أمام منزلها، منذ أيام حملها منه وهي عروس مع وعد بسعادة طويلة المدى والآن عاد بها وهي كسيرة الفؤاد..
بئس العاشق أنت باسل..
ما إن توقفت السيارة حتى فتحت بابها تنوي ترجلاً سريعاً يكفي ضعفاً ودموعاً تهطل مدراراً  وهو كحجر صوان لا يتحرك له ساكن، وقبل أن تتحرك أمسك برسغها عنوة، لم تلتفت ظلت على حالها تواليه ظهرها وهو يقيدها بأصابعه وهمسه المبحوح بالكاد يصلها:
-بعد ما أرجع من السفر هجيلك ونتكلم.. خلي بالك من نفسك.
سواد عينيها أصبح كجمرتين مشتعلتين بحرقه فؤادها ونبرتها خرجت بمرارة ألمها توازي استدارتها القوية نحوه:
-طلقني يا باسل.

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن