الفصل الرابع والعشرون

60 1 0
                                    

(24)
تمهل قليلًا

يومًا ما سيأتي الفراق
ويومًا ما سنتألم
ويومًا ما سيتفرع الطريق
ويمضي كل منا في طريقه
"فاروق جويده"
*****
فوق أسفلت الطريق السريع كانت تهرول إطارات سيارته، يضغط أكثر على مزود الوقود فتعدو ويتقدم بقلب راجٍ أن تلك المكالمة الغريبة التي تلقاها من تلك المرأة غريبة اللهجة منذ وقت قصير ما هي إلا خدعة.. ويعود الوسواس ينفث نيران قلقه ويخبره إن كانت خدعة لم لا يجب على هاتفه !
-يا إسلام خلي بالك ،لو مش عارف تركز إنزل وهات أسوق أنا
للمرة العاشرة ربما ينبهه أنه يشرد ، يغوص مع وساوس شيطانه وينسى أمر القيادة فتكاد تنحدر بهم السيارة..هتف بدوره بنبرة مضطربة ..زاعقة:
-جرب تاني يمكن يرد المرة دي
رفع بدر الهاتف من جديد وبعد وقت ..عاد بنفس الجواب كالمرات السابقه:
-جرس وماحدش بيرد...
ضرب المقود بقوة ، فكلما مر الوقت زادت مخاوفه وإضطرب عقله بابشع الخيالات..عاد الآخر يهتف من جديد:
-هي الست اللي كلمتك دي مقالتش جابت الكلام ده منين ؟
والجواب حائر متخبط:
-ماعرفش يا بدر كل إللي قالته إلحق أخوك في ناس عاوزة تأذيه والموضوع ممكن يوصل لقتل وكلام كتير كده ده اللي فهمته منها ..قولت دي وحده بتهرج بس بعد ما قالت إن مراته معاه وإنه في الساحل قلقت ، بعدها  كلمت جدتي وعرفت منها إن باسل كان عندهم وأخد فرحة فعلا ومشي  فتأكدت إن الموضوع مش هزار..دي عارفاه وعارفه مراته وعارفه إن عندنا شاليه في الساحل ...بس إللي هيجنني رجع إمتى ؟آخر مرة قال عنده شغل وماكنش عارف هيخلصه إمتى ، وراح الساحل إمتى وليه مقالش لحد؟!
حاول تهدئته على الرغم من القلق الذي بات ينهش دواخله هو الآخر:
-إن شاء الله خير .قربنا نوصل أهو والحكايه كلها هتطلع مقلب سخيف من باسل ما إنت عارفه بيحب يهرج وبيزودهم ساعات.
وصراخ الآخر خرج بقهر وضيق:
-قسماً بالله لو طلع مقلب من مقالبه السخيفه لأكون خانقه بإيديا عشان مش إسلوب ده .
تركه بدر ينفث نيرانه وعاد يكرر الأتصال من جديد فيقابله الرد نفسه..بينما الآخر يهمس من أعماقه البعيدة :
-إستر يارب
*  *  *  *
إذا ما جاء الفراق يوما
وهُتكت بعد الفراق
تركة الحب المقتول
فخذ معك
الضحكات
فليس لي بها
بعد الفراق حاجة
واحمل
الرسائل والكلمات والأحلام
وأبق لي
الصور والذكريات
وبعضا من الأوهام
"فاروق جويده"
عند وصولهم كانت قد تخطت الثانية صباحاً ، بينما الظلام الدامس يغلف الأجواء إلا من أصوات الأمواج المتلاطمة ، وحين لمح الأضواء المنبعثة من الشاليه الخاص بهم هدر قلبه بعنف ، إذاً هما هنا بالفعل !.. الشاليه بمنطقة نائية تكاد تخلو من البشر في الوقت الحالي ..توقف أخيراً ثم ترجل سريعاً وتبعه الآخر ..وباب مفتوح تعبث به الرياح كيفما تشاء مصدراً أزيزاً يعلن عن سكون مخيف...هلع استوطن قلبه مع قبضة اعتصرته بقوة مهولة كادت تفتك به في الحال بينما توقفت قدماه بعدما وقع بصره على ذاك الساكن غارقاً في بركة دمائه وإبنة العمة تجاوره في جلستها، تهتز بجسدها دون وعي مع سكون مثقل يغلف المكان إلا من شهقاتها الخافتة التي تصدر عنها كل فينة وأخرى ..تخطاه "بدر" حين سد عليه الطريق ، شلت حركة الآخر لثوان وأنفاسه المتحشرجة تكاد تخنقه ، وبعد برهة كان قد إستعاد بعض من وعي يخبره أن يتحرك وألا يقف هكذا وحينها فقط تحركت قدماه نحو ذاك الساكن ..يقترب ويهتف فيه بإسمه ..يستشعر عرقه النابض بعنقه ويعود برأسه نحو نابضه يتوسل بضع نبضات تخبره أنهما لم يتأخرا ..ينظر إلى تلك الزوجة المكلومة في لوع وأخيه الذي شلت حركته منذ وقوع بصره حتى الآن ...نهض سريعاً نحو ذاك الجامد يهزه ويصرخ فيه بقوة حتى يفيق:
-إسلاااااام ...فوق وركز معايا لو نقلناه المستشفى يمكن نلحقه ..فوق وخليك معايا بدال ما يموت بين إيدينا
وعلى ذكر الموت والفقدان عادت حواسه تعمل دفعة واحدة كأنما ضخ الأدرينالين داخل عروق جسده من جديد ..فحرك رأسه برفض وزعق بأنفاس متحشرجة بينما يتخطاه ليصل لأخيه:
-مش هيموت يا بدر ماتجبش سيرة الموت على لسانك
واقترب ، رفع جسده المتراخي ، ضمه لصدره وعيناه تحوم حول طعانته الغارقة بين الدماء فكادت لا تميز ، هدر نبض قلبه بعنف متألم ، بينما دموعه تخاذلت وتساقطت دون إرادة فوق وجه المطعون ، إرتفعت يده التي باتت ملوثة بالدماء تربت على وجهه ويهتف فيه ، يستجديه ، يرجوه ويتوسله الرد كأنما يسمعه:
-باسل إنت سامعني مش كده ...باسل خليك معايا هوديك المستشفى ومش هيحصلك حاجه ..إوعى تضعف يا باسل إنت راجل ..إسمع كلامي واتحمل عشان خاطري
وحين طال صمته ولم يجد رداً ، طالعه بعيون جامدة وكل خليه في جسده تنتفض رغما عنه ،  ثم رنا منه أكثر يلثم مقدمة رأسه بأنفاس متقطعه ، يطمئنه أنه هنا ، وربما يطمئن حاله أنه لن يتذوق مرارة الفقد على يديه ....والدقائق التالية كانا يحملاه صوب السيارة ، تاركين إياه برفق على الأريكه الخلفية ، ثم عاد من جديد نحو فرحة ، نصف أخيه الآخر وحبيبته منذ الصغر ، سيعتني بها ريثما يعود لها ، فلن يسامحه إن أهملها ..جثا على ركبتيه يواجهها، يحاول فك قيد ذراعيها التي تقيد به نفسها حتى تنهض معه :
-فرحة ..قومي معايا لازم نمشي .
وفرحة غائبة عن دنيا الوعي ، تائهة مع ضحكات عذبة لطالما أصابتها في مقتل تصحبها ضحكة عيناه المتغضنة ، صوته العذب مازال يهمس بأذنيها ..وحين لم يجد منها رد غير التيه في اللاوعي حملها بين يديه وخرج من جديد ، وضعها في المقعد الأمامي وهي ما زالت على حالها عيناها محدقة نحو فراغ لا يمت للأحياء بصلة بينما جسدها متصلب دون حراك ..تحرك بدر يشق بهم الطرقات نحو أقرب مشفى ..وعنه كان يجاور أخاه ولم يكف عن الحديث معه ، يخبره أن الرحيل غير مسموح به الآن  ، ما زال الوقت باكرا حتى يتركهم ، يذكره أن.. هناك حديث مطول بيننا لم تتمه بعد يا شقيقي..لذا عليك بالتشبث بأعتاب الحياة وأنا هنا سأدعمك ومحال أن أتركك فقط تمهل قليلاً.
*   *   *   *   *
إذا ما جاء الفراق يوما
وجمعني بك بعد الفراق طريق
وكانت تمسك ذراعيك
وكنت أتعكز ذراعيه
فلا تقل لها كنا
ولن أقول له كنا
فوحدنا
نعلم ياسيدي
بأنا...وبرغم الفراق مازلنا ..ومازلنا..ومازلنا
" فاروق جويدة "
وبين شقي رحى التيه واللاوعي غائبة هي ، تتشبث بأحلامها وأمانيها الصغيرة فتتسرب من بين اناملها عنوة فينتفض جسدها دون إرادة ..افتراق جفنيها ومع اختراق اللون الأبيض لعينيها ؛ذاك اللون المقبض للروح بين جدران ذلك المكان حولها؛ نهضت بقلب واجف وجسد متراخٍ ، والرخام البارد أسفل قدميها زاد من قشعريرة جسدها فلفحت نفسها بذراعيها ، نظرت حولها بتيه ثم تحركت بخطى مثقلة نحو ذاك الباب الموصد ، خطت نحو الخارج تنظر حولها علها تعي ...
والآن فقط عاد الوعي ليخبرها أن كل ما فات لم يكن كابوساً في أشد لياليها قسوة ، بل واقع تعايشت معه ورأته روئ العين..تقدمت أكثر وكل خطوة توازي قبضة مصوبة لقلبها الضعيف والذي كاد يفقد نبضاته وينتهي صريعاً في التو واللحظه.. قلبت بصرها بين الجموع أمامها ، خالها الأكبر جالس منحني الكتفين وكأن ذاك الجراح الشديد، القوي  زاد عمرة أضعافاً وأصابته كهولة مفاجئة ، بصره ملقى على الأرض وكأنه فقد الحياة بينما تجاوره زوجته التي بدورها فقدت كل ذرة صلابة وألقت بجسدها ورأسها على كتف زوجها وجهها تسقيه العبرات وشفتيها تجزع بكلمات لا تعيها..زاغ بصرها من جديد وألقت به على صديقتها التي يضمها أخيها وتشهق بعلو وتنتحب بحرقة بينما هو الآخر شارد الملامح زائغ النظرات ..اللعنة ..لمَ يبكون وينتحبون هكذا ! ..لمَ الجميع ..
لم تكتمل أسئلتها حين أخترق عتمة ذاكرتها أشباح ملثمة ، يتشحون بالسواد .والطعنة وازت الشهقة ، والشهقة الأخيرة صحبتها الدمعة ..والشهقة تلك المرة من نصيبها..هوت بعدها أرضا تسقط فوق الأرض الصلبة على ركبتيها ، تصم أذنيها بكفيها بينما رأسها يتحرك برفض قاطع ..للألم ..الوجع والفراق..
كان مراد أول من تنبه لأمرها ، هرول ناحيتها ، جثا على إحدى ركبتيه يواجهها ، يمسك بكفيها ورأسها التي ترفض بشدة، وشلت حركته ومن حوله حين صرخت من أعماق روحها البعيده تجزع وتشهق بألم :
-قتلوه.. قتلوه..
تعيد وتكرر وتدوي أحرف الكلمه في الأرجاء وتحط بقلوبهم جميعا ؛ بينما جسدها ينتفض ويرتعد ، فيضمها مراد  ، يربت ، ويطمئن :
-إهدي يا فرحة .. إدعي له وإن شاء الله هيعدي الأزمة دي ويقوم لنا بالسلامة
رفعت رأسها نحوه ترجوه بعيون تائهة أن يضمن حديثه ، وهو يحثها على تصديق  بطرفة عين وهزة رأس:
-تعالي معايا هاخليكي تشوفيه
ساعدها حتى تنهض بينما بصرها معلق به ، سار بها ضاماً إياها برفق يدعمها حتى لا تخور قواها من جديد ..وما إن لمحته قابعاً خلف الزجاج العريض حتى ابتعدت عن مراد بخطى سريعه ، ارتكزت على الزجاج بكفيها وجبهتها ؛ تنظر نحو ذاك الساكن فوق الفراش الأبيض ، عاري الصدر إلا من بضع أسلاك لأجهزة لعينة تتوسد صدره كي تخبرنا أنه ما زال ينبض بالحياة بينما هو راقد بصمت ، لا حركة ولا حتى طرفة عين ..تفجر سيل الدموع من جديد وأخذ يشق طريقه عبر وجنتيها ..لا تعلم هل تبكي صديقاً ، حبيباً أم زوجاً ..اختصرت فيك الجميع يا باسلي ..أفرق جفناك وأخبرني أنك هنا يا صديقي .. أخبرني أنك باقٍ على الوعد أيُّها الحبيب.. ما زلنا في بداية الدرب يا رفيق ..ألم تعدْ بسعادة طويلة الأمد؟ لا تحنث بوعدك الآن فلن أسامحك إن فعلتها.. ألم تطلبْ غفرانا ! سأهديه لك عن طيب خاطري فقط أفرق جفناك وأخبرني أنك هنا..انتظر وتمهل قليلا ، أتسمع دقات نابضي كلها تجزع بأسمك ، تناجيك سراً ، تسألك عن رحيل أتى بغير معاد ؟! لأجل خاطري أفرق جفناك وأنثر بها زخات عشقك حتى ترسو بي على مرفأ الأمان بصحبتك .
*  *   *   *   *
إذا ما جاء الفراق يوما
وجاء بعد الفراق العيد
فلا تنسَ أن تفرحَ
ولا تنسَ أن تضحكَ
ولا تنسَ أن تلبسَ الجديد
ولا تنسَ أن تزورَ
ارض ذكرياتنا
وتقف فوق قبر الحب باطمئنان
وتقرأ عليه شيئا من شعرك
ولا تنسَ نصيبي
من ذكرياتك الحزينة
في ليلة العيد
"فاروق جويده "
عاد مراد من جديد بعد ما تركها بصحبته ، تحدثه ، تطمئنها نبضاته أنه ما زال هنا ، يقوى بها وتقوى به ..اقترب من أخيه يربت على كتفه بمؤازه:
- عزيز لازم تاخد الدواء بتاعك وكمان تريح شويه بقالك ساعات على الحال ده وقعدتنا كده مش هتقدم ولا هتأخر إنت تعبان ولازم ترتاح .
رفع له الآخر بصره وعيناه غائرة بدموع حبيسة:
-انا كنت فين يامراد وكل المصايب دي بتحوم حوالين إبني..كنت فين وهما بيحاولوا يأخدوا منه روحه ؟!
وصمت ينظر لأخيه يستجديه أن يجيبه ، وربما يخبره أن ظهره لن يكسر ويقصم بفقدان حبيبه الصغير ، ربما صغيره ذو رأس يابس يماثله ، ونعم أتعبه كثيراً منذ الصغر ، لكنه يبقى الأكثر حناناً بينهم ، حين أُصيب بوعكة صحية شديده أودت لتواجده تحت سقف المشفى لأيام ، لن ينسى لهفته  حين أقتحم الحجره الكامن بها على حين غره ودون مقدمات يقبل رأسه تارة وكفه أخرى وعيناه تلتمع بعبرات خائفه تفجرت حين ضمه لقلبه فهتف بين ذراعيه :
"إوعى تسبني يا بابا "
يتشبث به كطفل صغير يخاف فقدان حاميه ، والآن ماذا يا صغيري بعدما اشتد عودك وأصبحت رجلي الثاني ، عكازي الآخر الذي أدعم به كهولتي يضمك فراش الموت لا ذراعي ؟!
بادله مراد نظراته المتألمة بأخرى توازيها ألما ، ولا جواب لديه لسؤالهم جميعا ..أين كانوا جميعا وهو يغوص داخل متاهات الحياة السوداء وحيداً ، هل كل ما قام بسرده ذاك الشرطي منذ وقت قصير حدث بالفعل ؟ هل كان إبن أخيه معلقاً بخيوط الماريونيت يحركة حثالة البشر لأجل أغراضهم الدنيئة واضعين حد السيف على عنقه إما هذا أو ذاك ، مانعين عنه رفاهية الخيار ، وهو يغوص ويلوث يديه لأجل حماية من يهمه أمرهم..وحين عاد للطريق الصحيح واضعا حول أعناقهم أحبال المشانق زلفت قدمه داخل الهاوية والله وحده يعلم إن كان سينجو منها أم ...
قطع أفكاره بصرامة ، رافضاً لأي خيارات أخرى ، أكتفى فقط بغمغمة خفيضة:
-اللهم لا نسألك رد القضاء لكن نسألك اللطف فيه.
جزعت بعد حديث زوجها وعادت تعلو شهقاتها ونحيبها من جديد  ، وحشرجت انفاسها تخنقها:
- إبني يا عزيز ..أنا عاوزة إبني .. عاوزة باسل.
والكثير من النحيب والهذيان حتى فقدت وعيها وانتهى بها الامر طريحة فراش بفعل المهدئ ، فمنذ أن تلقيا الاتصال المشؤم فجر اليوم يخبرهم أنه بالمشفى ينازع الموت وهي على حالها تهذي مرة وتتيه في عالم الرفض وعدم التصديق مرة وبين الأولى والثانيه  يكاد ينفطر قلبها ، تعاتبه بصمت ووهن ..هكذا إذن يا صغيري تنوي فراقاً ؟ يعلم ربي  كنت أشعر همك وضيقك وفي كل مرة كنت أخمد قلقي ببسمة تنزعها من بين شفتي عنوة كعادتك يا طفلي ، العمر كله فداء لك يا نور العين لأجل ضمة حانية منك ، لأجل ضحكة من بين ثغرك الباسم دائما ، ولا يهم بعدها إن وارى جسدي الثرى ما يهم حقاً رؤياك سالماً يا نبض القلب .
*  *  *   *  *
إذا ما جاء الفراق يوما
وجاء بعد الفراق الحنين ندما
فلا تنس أن تغمس
فرشاة الذكرى
في ماء جرحك الملون
وترسم
وجه الحنين ضاحكا
ولا تحزن
ولا تجزع
إذا ما بدا لك الوجه
برغم الضحكة هزيلا
"فاروق جويده "
" إسلام الدكتور بيقول تعمل الفحوصات اللي طلبها عشان في اقرب وقت هيعمل العملية "
تنبه إسلام لصوت بدر مخترقاً شروده ، أبعد ساندي التي تركن بين ضلوعه منذ أن خرج الطبيب وألقى بجملته المقتضبة بعد طول انتظار أهلكهم جميعا .
"محتاج زرع كلى في أقرب وقت ، خسر الأتنين للأسف ..حاليا الحالة مش مستقرة إدعوله تستقر عشان نقدر نعمل العملية إن وجد متبرع طبعا "
وقبل أن يختفي من أمامهم ربت على كتف صديقه الجراح يشد من أزره ويسأله الصبر والدعاء ..
وكانت ساندي أول من صرخت تخبر الجميع أنها هي من ستكون المانحة، ستتقاسم معه جزءاً من جسدها حتى يعود لها شقيقها ونصفها الآخر ، ألم يتقاسما سوياً بداية الخليقة وخلقا داخل رحم واحد سوياً ، بوقت واحد ، يكبرها بعدة دقائق فقط كما أخبرتها والدتها ، شاركها مدرستها وألعابها ، فقد كان آنذاك يترك ذاك الأحمق ألعابه الصبيانية ويأتي لها سراً يلهو ويمرح  بالدمى المحشوة ، يطهو طعاما بأوانيها الصغيرة ثم يطعمها والدمى بيديه ، وحين يعنفه أبوه بأنه رجل ولا يجب على الرجال مشاركة الفتيات ألعابهن ، فيجيب وقتها ببراءة أنها وحيدة ويفعل ذلك لأجلها حتى يؤنسها ..وأخرى حين نالت درجات غير مشرفة بأحد الفحوصات المدرسيه عاقبها والدها بالحرمان من مصروفها اليومي ؛ لأسبوعين كاملين ظل يتقاسم معها مصروفه طيلة أيام العقاب ، شاكسها كثيراً واغضبها أكثر لكنه كان دائماً هنا ، ما إن تبحث عنه تجده ..كما كانت تجد الدعم والسند في الأكبر كانت تجد به الصحبة والحياة التي يبثها في روح المنزل ما إن يتواجد ويتحول لراكد برحيله ..ماذا إذن إن منحته جزءاً منها حتى يعود لهم بالحياة بدلاً من ذاك الركود المؤلم  ..
لكن الشقيق الأكبر أنهى حديثها بعد ما ذكرها بفحوصات الشهر الماضي خاصتها التي تدل على نسب فقر دم ليست هينة وذلك يجعلها غير مهيئة لأمر كهذا ..وعن الوالدين فقد صمتا ومعهم العم مراد ؛ فثلاثتهم على يقين بأنهم لا يصلحون لذلك ، وإن كانو أصحاء تماما من أمراض العصر ويمكنهم ذلك ، كانت ستكون أيضاً الكلمة العليا والأخيرة للأخ الأكبر ينهي بها الحوار مخبراً الجميع أن المنح من حقه هو لا غيره .
وقبل أن يغادر إسلام بعد ما ابتعد عنها يستمع لصديقه وغمغم بأمل:
-الدكتور قال حالته إيه دلوقتي؟
-مقالش حاجه لسه الوضع زي ما هو ..بس هو بيقول الأفضل نكون مستعدين
هز رأسه برفق وسار متحركاً يفعل كما طلب الطبيب المعالج ..بينما لوح بدر بيده نحو زوجته التي قام بطلبها منذ الصباح حتى تكون برفقة الزوجة ، الأم والأخت فجميعهم يحتاجون للمساندة والدعم وهي لم تتأخر وأتت على الفور ، وها هي برفقة الأم الغائبة عن الوعي بعد ما تعب قلبها المفطور من انتظار كلمة واحدة تطمئنها فكلما سألت أتاها الجواب مطالباً بالدعاء حتى فقدت آخر ذرات التحمل وخارت قواها ..اتبعت تالا إشارة زوجها واتجهت نحو ساندي المنتحبة بصمت ، تهتم ، تضم وتربت بحنو .
*  *  *   *   *
إذا ما جاء الفراق يوما
وجاء بعدالفراق
ليل مظلم
أضاع قمرة
فلا تنس
أن تبحث
عن القمر في ارض الضلوع
فإن كانت الجروح
هناك أشد وضوحًا
فأعلم أن القمر
هناك في حنايا القلب
مختبئ
"فاروق جويده"
بعد منتصف الليل كان عائداً من مشفاه بعد يوم طويل متعب ينشد راحه وكل ذلك تبخر حين أوقفته على حين غرة سيارة قاطعة عليه الطريق عرضياً، توقف على أثرها وترجل منها ولا يعلم متى ولا كيف قام ذاك الشجار العنيف بينه وبين ثلاثة رجال ، ما هو سبب الشجار ولا ماذا يريدون لا يفهم شيئاً سوى أنه مضطر للدفاع عن نفسه ضد هؤلاء ، على الرغم من أن النتيجة كانت محسومة فثلاثة ضد واحد وإن غلبت الشجاعة الكثرة كما يقولون يبقى هو واحداً وهم ثلاثة والواحد فيهم يزيده أضعافاً ، لكن كما قام الشجار فجأة انتهى فجأة تاركين له ندباً ليست بالهينة تماماً وليست بالبليغة ، شق طريقه طولياً أعلى موضع قلبه بفعل مدية أحدهم ، وأنتهى الأمر  بعد ما سلبوه هاتفه ؛ حاسوبه المحمول وبضع أوراق لا تهمهم في شئ ..قام بعدها بتقديم بلاغ ولم يتوصل لشئ وانتهى المحضر مقيداً ضد مجهول ..واقعة سرقة تمت بنظافة وهكذا قضي الأمر بل يجب أن يحمد الله أن روحه لم تسلب أيضا .
تحسس بأنامله موضع الندب شارداً ثم رفع بصره ينظر نحو شقيقه من خلف الزجاج ..كان قد نسي تلك الحادثة الواقعة منذ شهور طويلة ، فلم يكن يعلم آنذاك أنه على الطرف الآخر كان أخوه يقدم حاله ومستقبله قرباناً ، حتى يتركوه يهنأ بحياته ويغوص هو بين الأوحال..
رباه ! متى كبر باسل الصغير وأضحى رجلاً يحمل فوق عاتقه حملاً ثقيلاً كهذا ؟ كيف تمكن من ذلك ! متى ابتعدت عنك وبقيت وحدك تصارع أشباحاً فاسدة بمفردك..أين كنت أنا يا شقيقي حين كنت أنت  تجابه شياطين الأنس وهم يحاولون سلبك آخر أنفاس الحياة ! لو فقط أخبرتني ما كنت لأتركك تناضل بمفردك ذاك الأعصار حتى كسرك ، أما كنت حاميك منذ الصغر ؟ أتذكر حين كنا صغاراً وكسر ساقك أحد أبناء الجيران ألم تطالبني حينها بحقك الضائع ، وكان لك ما أردت ولم يقربك بعدها فقد ثأرت لك حينها ، وحين انتقلنا للحي الجديد وسلبوك كرتك ألم اعيدها لك بعد ما جئتني باكيا ..إلى أي مدى قصرت في حقك بعد ما كبرنا  ؟ متى تبدلت الأدوار وأصبحت أنت الحامي ؟!
-باسل مش هيسبني مش كده يا إسلام ؟
انتشلته فرحة من دوامة شروده بسؤالها المباغت ، التفت لها برأسه ، عيناها المنتحبة لم تجف بعد وسؤالها خرج بوهن ..ضائع الأمل ..بقلب كسير أوجعه ..تقف هنا منذ ساعات طويلة مل من إحصائها ؛ تنتظر فقط إشارة منه ..وحين يسألها أحدٌ الراحة تخبرهم أن راحتها هنا بجواره ، يجب أن تكون هي اول ما يفتح عليه عينيه ..فيصمت الجميع .
إمتدت أنامله تمحي عبراتها المنسابه على وجنتيها ويجيبها بخفوت:
-مش هيسيبك يا فرحة .
*  *   *   *  *
كم كنت أحلم أن أعود إليك
أن أقتل الأحزان بين يديك
لكنني لا أستطيع
شبح الزحام يشدني
و رأيت قلبي في الحنايا.. يحترق
بيني و بينك خطوتان و نفترق
"فاروق جويده "
"بعد ساعات "
في إحدى الحجرات داخل حصون المشفى ؛ كان يستعد لدخول العمليات ،أخبره الطبيب المعالج بإمكانية إجراء زراعة الكلى الآن بعد ما تأكد من تطابق نسيج المانح مع المريض..وعلى بعد خطوات منه كانت تتقدم نحوه بخطوات وئيدة مترددة ، وحين استشعر وجودها رفع رأسه نحوها ، عيناها الذابلة ، وجهها المنطفىء وكأن الحياة غابت عنه ..تقدمت بخطواتها حتى واجهته في وقفتها، نظرت لعينيه بحيرة وهمستها المتحشرجه خرجت تقطر من الألم أطنان:
-سألت عليك وعرفت إنك هنا ..وإن باسل..
مسح وجهه بكفيه زافراً ببطء وحشرجة ، فاقتربت هي الخطوة الباقية ، تحرك كتفيها بقلة حيلة وضياع بصوت متهدج مثقل :
-في ناس كتير جم عندنا البيت عساكر وضباط وأخدوا بابا ، محجوز في النيابه من أيام وأنا مش عارفة أوصل له ولا أفهم إيه اللي بيحصل..
هدأت تلتقط أنفاسها وعادت له مردفة بتيه مع عبرات متعلقة بأهدابها:
-بيقولوا تجارة أعضاء ومخدرات و ..بس إزاي بابا يكون واحد من الناس دي ! إزاي يعمل كده ؟ والمفروض انا أصدق او لا ؟
وصمتت منتحبة بكتفين محنيين تغطي عبراتها بكفيها ، فقط اهتزاز جسدها يخبره كم تعاني.. يعلم أنها تائهة وبحاجة من يضمها ويساندها ..له وحده هتفت بما تخشى الإعتراف به منذ أن تأكدت من صحته.
رفعت رأسها ، تنظر لعينيه وتسأل بضياع من جديد :
-قول لي يا إسلام أصدق ولا لا !
يطالعها بصمت ولا يعلم بماذا يجيب؟ هل يصرخ فيها دون رحمة مخبراً إياها أن أباها أحد هؤلاء الملاعين والذي بسببهم يرقد أخيه على فراش الموت ..هي فقط وعينيها التائهة من تكبل لسانه..غمغم بعد برهة:
-باسل تعبان قوي وهو محتاجني دلوقتي ..
حركت رأسها بتفهم دون أن ترفعها ، وهمست بعد ثوان قليلة بتهدج:
-إنت أكيد عارف إن عملية زي دي مش سهلة ..واحتمال كبير تكون لها مضاعفات يعني جايز هو يخف وإنت...
ودمعتها الساقطة من محجرها أتمت الحديث ، بينما همسه الخافت ..المتألم أصابها في صميم نابضها:
-ولو حصل له حاجة ؛ ما فيش غير الحزن هيعشش في  قلوبنا.
وكما هو يستشعر ضياعها تستشعر هي حزنه ،نعم تحتاجه الآن أكثر من ذي قبل ، تريد دعمه ومساندته ، لكن لا يمكنها أن تكون بتلك الأنانية ..اقتربت وكانت هي صاحبة الضمة  ، تواسيه أم يواسيها لا يهم ، وربما كانت تنعي قلبيهما اللذان يجتمعان فقط وقت الألم ..ابتعدت ببطء كما اقتربت ، تهمس له من جديد وتضغط على كفه بمؤازره:
-مش هيحصل له حاجه مادام إنت معاه.
-إدعي له.
تبسمت له بخفوت وهمست قبل رحيلها  :
-وهدعي لك.

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن