(3)
رحلمازلتُ أعرفُ أنَّ الشوقَ مَعصيتي..
والعشقُ والله ذنبٌ لستُ أُخفيه..
قلبي الذي لمْ يزلْ طفلاً يُعاتبني..
كيف انقضى العيدُ.. وانقضت لياليه..
يا فرحةً لمْ تزلْ كالطيف تُسكرني..
كيف انتهى الحلمُ بالأحزانِ والتيهِ..
حتى إذا ما انقضى كالعيد سامرنا..
عدنا إلى الحزنِ يُدمينا.. ونُدميه..”
"فاروق جويدة"
*****
أسوءُ استهلاكٍ.. استهلاكُ نفسك عاطفيًا
يأتي لنا الحب محملًا بالكثيرِ والكثيرِ بين طياتِه، يأتي بسعادةٍ وربما ألمٍ، وكثيرٌ مِنْ الأحايين يكون محملًا بفراقٍ قبل البداياتِ.
وهو ضَاعَ في دوامةِ عينيها منذ الوهلةِ الأولى، فلمْ يستطعْ أنْ يَرى تلك الدوامات الصغيرة التي توالت في الإتساعِ حتى كَادَ أنْ يغرقَ، وها هو تَعدى مرحلةَ الضياعِ وخطى نحو الألمِ.
كيف لها أنْ تكونَ قاسيةً هكذا؟
بكلِ بساطةِ العالمِ تُخبره أنَّ قلبَها لمْ يعدْ ملكًا لها.. أي أنها عاشقةً على ذمةِ عاشقٍ!
لكن هو..!
ألم تشعر به البتة؟
ألم تشعر بذلك الخافقِ بين أضلعِهِ الذي يهفو لها عن بعدِ أميالٍ؟
هو يجزم في لحظتِه تلك أنها لم ترَ حتى ملامحه.. ألهذه الدرجة خدعت نفسكَ أيها الطبيب؛ لم تفكرْ في نقطةٍ كتلك؟ لمْ يخطرْ ببالك أنْ ترفضَكَ قبل حتى أن تراك؟!
يالثقتكَ العمياء!
حجبتَ بصرك عن رؤيةِ الواقعِ، أجهدتَ مشاعرك في السراب.. نعم أجهدتها!
أنَّ لك بكل ذلك الشغف والعشق وأنتَ لم تعشقْ قبلًا! ويوم رأيتها وأخبرك حدسك أنها هي من تبحث عنها أطلقت لها العنان لتغرق قبل أن تصل بر الأمان بيدها هي لا غيرها، فقدت توازنك وأجهدت مشاعرك حد الألم.
تبسم لحاله ساخرًا؛ لطالما تردد أمه وبعض الزميلات في مشفاه وحتى الممرضات.. تلك الكلمات
"يابخت اللي هتتجوزك يا دكتور إسلام "
وهاهو ذهب لمن أراد تتويجها ملكةً على عرش قلبة لترفض هي ببساطة أن يكون "بختها"
لايدري كم مر من الوقت وهو على حاله، حينما تعبت قدماه من السير قرر تكريمهما بالوقوف على أحد الشواطئ، ينظر نحو الأفق بفراغٍ.. تائهٌ بين عقلٍ يجبره على اﻹفاقة؛ يكفي هوسًا أيها الوسيم.. فالعشقُ والغرامُ ليس إلا مرضًا خبيثًا يتسللك وحينما يتمكن منك يفتك بك بلا رحمةٍ وبكل قسوةٍ كما فعلت.. ويئن القلبُ بخفوتٍ طالبًا اﻹعتراض، ماشعرت به مؤخرًا لم يكن أبدًا مرضًا بل كان بريقًا مِنْ نوعٍ خاصٍ انتشر داخلك مانحك الدفء و إحساس لم تتذوقه قبلًا، عليك بالصبرِ والتشبثِ بذلك البريقِ حتى وإن بات خافتًا..
منذ أن نطقت بكلماتها "قلبي مابقاش ملكي" وهو لا يدري ما الذي أصابه، أولًا تلقى كلماتها بصمتٍ جللٍ لم يطل طويلًا.. وبعد دقائقٍ من إدراك ما سمعه هبَّ واقفًا وشعورٌ باﻹختناقِ يتملكه مِنْ ذلك المنزلِ بمن فيه ويريد الخلاصَ.. وعندما لاحظ الدهشةَ في عيونِ الجميعِ عن تخليه عن رؤيته الشرعيةِ بتلك السرعةِ، لم يكن بوسعه سوى الكذبِ وإخبارهم بصوتٍ جاهدٍ حتى يبقيه صامدًا قويًا كما اعتاد الجميعُ منه.
- اتصلوا بيا من المستشفى أمر طارئ.. أنا آسف مضطر أستأذن.
ترك مفاتيح سيارته فوق المنضدة المجاورة لوالده مردفًا:
- بابا مفاتيح عربيتي.. خليها مع حضرتك أنا هاخذ تاكسي.
ورحل..
تاركًا الجميع تحت إثر الدهشةِ والعروسِ الجميلةِ تمثل الحزن ببراعةٍ من موقف العريس الغير لائق تمامًا.. بينما يتمتم والديه بإعتذاراتٍ واهيةٍ ثم غادروا والحيرة تتمكن منهم.. ماذا أصاب ابنهم المصون بعد كل ما فعل حتى يصل لموعده المرتقب ليرحل هكذا بتلك السرعة؟!
هواءُ البحر البارد يلفح صفحة وجهه، وعتمة الليل تزداد، لا يعلم هل هو غاضبٌ.. حزينٌ.. بائسٌ؟!
نعم هو البؤس ربما ما يتملكه الآن، وهو لن يترك روحه لتلك الحالة والسبب إمرأة..!
أخذ نفسًا عميقًا، كررها عدة مراتٍ، حتى شعر بالإسترخاء قليلًا.. تخلل خصلات شعره بأنامله وهو يغمض عينيه بقوةٍ هامسًا لنفسه
"حسنًا يكفي.. حان وقت الفرآق، تأخرت قليلًا لكن لابأس.. انسَ تلك القاسية لا خيارَ آخر أمامك، ليست امرأةً من تفعل بك ذلك وتقلبك رأسًا على عقبٍ.. هي مجرد امرأة ويوجد مثلها الكثيرات.. من تكون لتفعل بك ذلك! ستنساها عاجلًا أم آجلًا وانتهى"
* * * * *
"حصل أيه يا لمار "
كانت تلك جملة والدها الزاعقة.. أجفلت منها لثوانٍ معدودةٍ ثم أجابت بنبرةٍ متلعثمةٍ:
- والله يا بابا ما أعرف فجأة كده قام وقال الكلام اللي قاله ومشي.. وأنا حتى ماتكلمتش كلمة واحدة.. يظهر البيه لما جه عندنا ماعجبوش مستوانا، طبعًا ماهو أكيد عايز حد من نفس مستواه، بس ده مايسمحلوش إنه يهينا بالطريقة دي.
نظرت نهال لزوجها هاتفةً بنبرةٍ غاضبةٍ بعض الشيء:
- خلاص ياعز الموضوع ده صفحه واتقفلت.. لمار ألف مين يتمناها ولو هما شايفين إننا مش قد مستواهم محدش ضربهم على إيديهم.
تدخلت لمار مسرعةً وقد اختارت مبدأ ضرب الحديد:
- أيوه يا ماما ماشفتيش الست والدته مفيش حتة في البيت إلا وبصت عليها، ناس بتقيم كل حاجه بالفلوس.. هو احنا يعني لازم نسكن في سرايا عابدين علشان نعجب، أنا مستحيل أرتبط ببني آدم تفكيره عقيم كده.
نظر والدها لعينيها بعمقٍ أكثر وسألها مجددًا:
- يعني هو ده بس اللي حصل؟ ما يمكن يكون تفكيرك غلط ويكون فعلًا عنده شغل مهم ماقدرش يأجله.. أنا بقول نستنى ونشوف هيعمل ايه..
ازدردت لعابها بينما عقلها لايكف عن العمل ياإلهي لم تصر يا أبي؟ لم تجبرني على الإستمرار في إختلاق اﻷكاذيب؟ لطالما كرهت الكذب والخداع ولم أعهد نفسي هكذا أبدًا.. لكن الغاية تبرر الوسيلة.. فتابعت بثقةٍ:
- مش هييجي ولا يتصل تاني..
سألتها أمها بإستغرابٍ:
- وليه الثقة دي كلها؟
أجابت وهي مازالت محتفظةً بقناع الثقة:
- علشان ماحدش كلمه أصلًا لا المستشفى ولا غيره دي كانت كذبة عشان يخرج ومايجيش تاني.
واسترسلت بحنقٍ مصطنعٍ:
- أنا ماعرفش ده يبقى قريب دكتور مراد على أي أساس يعني.
تبادل والداها النظرات بينما يتسائل كلٌ منهما بداخله عن تصرفات ذلك الشاب المريبة.. لم أتى من اﻷساس؟!.. لو كان الموضوع متعلقًا بالمستوى المادي كما زعمت ابنتهما الفاضلة لكان بإمكانهم التحري عن المهندس "عز الدين" وسيجدون ألف دليلٍ.. فعز له اسمه بمجاله والمستوى المادي واضحٌ للعيان، هو ليس من الطبقة المخملية لكن أيضًا ليس بالقليل فهو في حد المتوسط وهذا لا يقلل من شأنه أبدًا.. إذًا لم كل ذلك؟!
هتفت نهال بشيءٍ من الهدوء:
- دول شكلهم عيلة مجنونة واحنا مفيش حاجة تجبرنا على الجنان ده.. الله الغني، لو حد منهم كلمك تاني ياعز قوله ماعندناش بنات للجواز.
استأذنت لمار لغرفتها طلبًا للراحة بعد يومٍ طويلٍ أجهدها نفسيًا وجسديًا.. ذهبت تحت نظراتِ أبويها الحائرةِ.. وإبتسامةُ النصرِ تحفر آثارها فوق شفتيها غافلةً عن جرحِ كبرياء رجلٍ كان كل مبتغاه الوصال.
* * * * *
تحرك المفتاحُ داخل المزلاجِ معلنًا عن عودته، متمنيًا من أعماقِ قلبِهِ أنْ يكون الكلُ نيامًا؛ فهو حقًا ليس بمزاجٍ صالحٍ أبدًا لأي نقاشاتٍ، لكن سرعان ما خاب ظنه.. حينما وقع بصره على التجمع العائلي الكريم، حسنًا يعترف أنَّ اليومَ يومُ الخيباتِ.. تعمد التأخر ولكن لا فائدة.. أبوه هو أبوه.
وسرعان ما أتاه صوتُ والده الغاضب:
- إسلااااااااام.
تنهد بهدوءٍ واستدار مواجهًا له راسمًا إبتسامة هادئة:
- أفندم يا بابا؟
هتف عزيز بسخريةٍ لهدوئه:
- كنت فين ؟!
أجاب ببساطةٍ:
- في المستشفى.
ازدادت نبرة والده الغاضبة:
- كذاااب! أنا كلمت المستشفى وكلمت مراد والإتنين أكدو لي إنك ماروحتش، حصل أيه يا إسلام أيه اللي خلاك تخرج كده واخد في وشك وتحرجنا قدام الناس، أيه السبب اللي يخليك تكدب كدبة خايبة زي دي؟
تحدثت الجدة بنبرةٍ قلقةٍ، منذ عودة ابنها وزوجته وعلمها بتفاصيل الزيارة وشب القلق داخلها وتأكد الآن عندما رأته بتلك الهيئة:
- اهدى ياعزيز مش كده.. مش شايف شكله تعبان إزاي؟
هتف عزيز بغضبٍ:
- ماهو أنا عايز أعرف وأفهم أيه سبب كل ده؟
صمت إسلام قليلًا ثم جال بنظره بين الجالسين أمامه وأخبرهم بصوته الأجش:
- خلاص إنسو الموضوع ده .. مش عايزها.
رفع والده حاجبيه في إستغراب سائلًا:
- والسبب؟
تلعثم قليلًا وأجاب بأول شيءٍ خطر بباله عندما وقع نظره على والدته:
- علشان مستواهم ! هم مش من مستوانا.
لتهتفت هنا شاهي مسرعةً:
- عندك حق أنا قلت كده من الأول محدش صدق..
ونظرةٌ غاضبةٌ من زوجها تكفي لتقطع جملتها ويكمل هو بغضبه:
- هو لعب عيال ولا أيه مش دي اللي كنت هتموت علشان تتقدملها.. إسلام بلاش لف ودوران أنا عارف وإنتَ عارف إن ده مش السبب من أمتى بقى تفكيرك كده يادكتور يا محترم ؟
ياإلهي ماذا أفعل؟ وماذا أخبرهم؟ هل أخبر الجميع أنَّ العروسَ التي اختارها ابنكم المعتوه عاشقةٌ؟! هي لم تخجل حينما أخبرتني لكن أنا والله لأخجل من قولِ شيءٍ كهذا..
حديثُ نفسٍ عابرٌ ليردف بعدها بنبرةٍ تلونت رغمًا عنه بالغضب فهو يجاهد من البداية لكن لافائدة:
-بابا الموضوع ده بالنسبالي اتقفل من فضلك ماتضغطش عليَّ أكتر من كده ليا أسبابي اللي هحتفظ بيها لنفسي.. وجواز خلاص مش هتجوز..
هتف والده بتحدٍ:
- خلاص براحتك مش عايز لمار يبقى تتجوز فرحة.. بنت عمتك.. لحمك ودمك وأولى من الغريب!
و بعد هذا العرض آن أن يفقد صبره ليخبره بصوتٍ حانقٍ.. غاضبٍ:
- مش هنخلص من السيرة دي ألف مره أقول لكم فرحة زي أختي.. لا أكتر ولا أقل ارحموني بقى.. وعلشان ترتاحو لا لمار ولا فرحة ولا زفت.. تصبحوا على خير.
أنهى حديثه وعاد للخارج مرةً أخرى.. تاركهم خلفه منهم الغاضب والحائر ..
تقدم باسل المستمع للحوار منذ بدايته مكتفيًا بالصمت نحو والده محاولة منه لتهدئته مغمغمًا بنبرةٍ هادئةٍ:
- معلش يا بابا ماتزعلش منه هو شكله متضايق وإنتَ عارف إسلام أما يتعصب بيزعق في أي حد ويقول أي كلام.
نظر له والده بغضبٍ أكبر وعاد يزعق فيه تلك المرة:
- طيب هو بيقول زي أخته إنتَ حجتك أيه مالها فرحة بقى؟ يعيبها إيه علشان ماتفكرش فيها ؟ ولا فاكرين نفسكم لسه صغيرين؟
تدلى فكه في بلاهةٍ مع جحوظ عينيه.. ليجيب بصدمةٍ مبالغٍ فيها:
- عايزني أتجوز أخت اخويا..! لااااا يادي العار يادي التار.
ليهرب الآخر للطابق العلوي بسرعة البرق.. تاركًا أبيه ضاربًا كفوفه ببعض خائبًا رجائه من رجاله.
* * * * * *
استقبله مراد ببسمته الحنونة.. حمدًا لله على وجودك مراد فأنتَ وبيتك ملاذي الآمن.. دلف شقة عمه بصمتٍ وجلس على أريكته المفضلة.. رافعًا رأسه للأعلى ومازال محتفظًا بصمته.. طامعًا في النوم طالبًا للراحةِ.. جُل ما يتمناه الآن فقط الهدوء حتى يستطيع تصفية ذهنه وطرد كل تفاصيل الليلة منه..
ربت مراد على كتفه متحدثًا:
- هجيب لك بيجامة علشان تعرف تنام.
والإجابة إبتسامة باهتة أضاعت روعتها اليوم.. تناول منامته من عمه بعد ما بادله بعض النظرات هامسًا بخفوتٍ:
-شكرًا.
نظر له مراد بنصف عينٍ قائلًا بمشاكسةٍ:
- لا إوعى تفتكر لما تسبلي بعنيك الحلوة دي هسيبلك الكنبه بتاعتي لااااا دي المفضله يادكتور، هو النهارده بس.. شفقة يعني.
ليجيب الآخر وهو يتبسم لمشاكسة عمه:
- ما أنا عرضت عليك أشتريها وإنتَ رفضت استحمل بقى.
هتف مراد بإبتسامةٍ هادئةٍ:
- ماااشي نام دلوقتي شكلك تعبان ونتكلم بكرة إن شاء الله.
هزة من رأسه ليطفئ الآخر المصابيح حتى ينعم صاحب الوجه الوسيم، الحزين بالنوم.. ويذهب هو لغرفة مكتبه، وكعادته يلتقط كتابه المفضل لكن ليس بغرضِ القراءةِ بل ليُخرج من بين صفحاته الكثيفةِ صورته المفضلة التي تحمل عبق أنثاه.. أو للدقة "ليلاه "
حرك أنامله فوق صفحة وجهها، بداية مع عينيها الكحيلتين، ثم وجنتيها الورديتين،أنفها الصغير، وثغرها الرقيق يحمل أجمل إبتسامةٍ عرفتها البشرية وحجابها الذي يزيدها جمالًا..
عاد برأسه للخلف وأغمض عينيه.. يهمس لحاله:
" آآه يا ابن أخي.. هل سقاك العشقُ كؤوس المرِ والحرمانِ قبل الشهدِ والإكتمالِ.. مهما طال صمتُكَ.. تفضحك عيناك.. وأين لك بمحرومٍ مثلي يستطيع كشف الغطاء عن دواخلك.. هاهو عمك يصارع دوامة الحرمان منذ عشر سنواتٍ وهو لاحول له ولا قوةٍ.. فقط يتخبط بين أمواجِ الذكرى"
منذ رحيل ليلى بسبب ذلك المرضِ اللعينِ الذي أبى أن يتركها لحبيبها، أبى أن يتركها لفستانِ زفافها.. نعم فكل أمانيها كانت فستانَ زفافٍ جوار من اختاره قلبها.. وقبل تحقيقِ الحلمِ بشهرٍ واحدٍ.. فقط شهرٌ.. كُشفت حقيقةُ المرضِ اللعينِ ليقلب الأحلام رأسًا على عقبٍ.. مرت سنوات ولا زالت رائحتها تعبق روحه.. لم تغب صورتها عنه.. يخاف أن ينسى تفاصيلها يومًا..
في أيامها الاخيرة تغيرت ملامحها ليس قليلًا بل كثيرًا، تمكن المرض منها ولم تستطع التمرد عليه، بل تمكن ونجح أن يطفئ كل بصيصِ أملٍ داخلها لتُسلم له وترفع رايات الخنوعِ.. تاركةً خلفها عاشقًا يتقلب على جمراتِ حرمانِ العشقِ.
سقطت دمعةٌ ثقيلةٌ لتخبره أن أحلامه الليلة بقدر واقعيتها بقدر قسوتها.. ليعيد صورته لمكانها الأول.. ونهض يطمئن على ضيفه النائم، التي تعلن قسمات وجهه عن وجود أحلامٍ مزعجةٍ.. تنهد بقوةٍ متمنيًا الهدوء والسكينة لابن أخيه فلا يوجد أكثر وجعًا من قسوة الأحلام .
* * * * * *
- صباح الخير .. كل ده نوم ؟
قالها إسلام وهو يتوسط مطبخ عمه.. يصنع قهوته الصباحيةِ المفضلةِ كتلك الأريكة التي استضافته البارحة بكل ترحابٍ:
- صباح النور.. صحيت أمتى ؟
هتف بصوته الرخيم:
- يعني من شوية.. تشرب قهوة معايا ؟
- ياااريت .. خلص وتعالى نشربها في البلكونة.
وضع إسلام القهوة على المنضدةِ المستديرةِ داخل الشرفة، بينما يسقي مراد زهور القرنفل المفضلة عند الحبيبة الغائبة..
هتف إسلام أثناء تصفحه للجريدة التي يُداوم مراد على قرائتها كل يومٍ:
- تعال اشرب قهوتك هتبرد.
جلس مراد على الكرسي المقابل له بينما تابع إسلام :
- يادوب أشرب القهوة وأطير على البيت أغير هدومي وأطلع على المستشفى؛ بدر حالف يقتلني.
تبسم مراد ضاحكًا:
- كتر خيره من إمبارح وهو شايل كل مرضاه ومرضاك فوق دماغه، غير مشاكل الدكاترة اللي مابتخلصش يعني لو قتلك ماحدش يقدر يلومه.
تبسم ثم هتف وهو ينهي آخر رشفةٍ من قهوته:
- طيب الحق نفسي أنا مش مستغني عن عمري.. إنتَ هتنزل دلوقتي ولا لسة شوية؟
- هتوصل المستشفى تلاقيني هناك.
استقام ..هاتفًا بإستعجالٍ:
- تمام .. عايز حاجة قبل ما أمشي ؟
نظر له بعمقٍ.. مغمغمًا:
- مش هتقول لي حصل إيه إمبارح ؟!
إمتعض وجهه قبل أن يتنهد بضيقٍ هامسًا برجاءٍ:
- مش عايز أتكلم يامراد.. مش عايز أفتكر أي حاجه ممكن نأجل أي كلام بعدين؟
تبسم له وهو يهز رأسه بالإيجاب.. مودعًا اياه لبعض الوقت حتى يلتقيا مرةً أخرى بالمشفى الخاص بهما.. فتلك المشفى هي عالمهما الثاني، كانت هدية عزيز لابنه البكر يوم تخرجه.. صك ملكية لنصف تلك المشفى، والنصف الآخر بالطبع ملكٌ لمراد، ليمارس الطبيب اﻷكبر مجاله الخاص "باﻷطفال " باﻹضافة لإشرافه على باقي المجالات بالطابق الأول.. تاركًا الطابق الثاني للطبيب الأصغر بمجاله النسائي وغرف الجراحة الخاصة به باﻹضافة لحاضنات المواليد.
* * * * *
أسرع يبدل ملابسه بالحجرةِ الخاصةِ بالتبديل عقب وصوله.. يستعد لعمليته الجراحية.. ليفتح الباب ويدلف شابٌ له نفس عمرِ الماثلِ أمامه.. بمنكبين عريضين وقامة طويلة بعض الشيءِ.. يحمل عينين رماديتين وبشرة حنطية مع حاجبين معقودين دلالة غضبه المستعر .. هتف في الواقف قبالته بصياحٍ:
- ممكن أفهم هي المستشفى دي بتاعتك ولا بتاعتي ؟ حضرتك بقالك كام يوم مديها طناش .. شوف بقى لنشتغل بجد يا إما هسيبلك أم الزفته دي خالص ومع نفسك.
أجابه إسلام بهدوءٍ يوازي غضبه المشتعل:
- خلاص يا بدر اعتبرها بتاعتك مش إنتَ دايمًا بتقول إحنا اكتر من إخوات.
هتف بدر بحنقٍ وهو يكز فوق أسنانه:
- لا بلاش أسلوبك ده دلوقتي بالذات، ومش عايز أعتبر أي حاجة متشكرين يا سيدي.. واتفضل روح شوف مدام صافي عاملة مناحة في أوضة العمليات آل إيه.. خايفة من حقنة البينچ ! أنا الست دي مش طايقها و دكتور التخدير هيتشل بسببها وعايز يمشي وعنده حق مش ناقصه قرف يعني.
ضحك إسلام من غضبِ صديق طفولته وشبابه.. شعلة الغضب المتحركة كما يطلق عليه دائمًا .. ليهتف بعدها ضاحكًا:
- هي الوليه دي مش هتتهد بقى دي نمرتها الثالثة على التوالي تقريبًا.. وكل مرة نفس الحوار البايخ ده.
ضحك بدر رغمًا عنه قائلًا:
- ولا جوزها صدعني كل دقيقه تقريبًا عايز يطمن عليها.. خنيق بشكل لا يطاق.
خرج إسلام من غرفة التبديل وهو يردد بإستعجال:
- يلا نلحق دكتور التخدير قبل ما يطفش.
بينما بدر يتبعه ويهتف بشيءٍ غفل عنه بغضبه:
- صحيح ماقولتش عملت أيه إمبارح ؟ اتفقتوا على إيه؟!
ليستدير له الآخر فاتحًا ذراعيه على مصراعيهم مع زفرةٍ قويةٍ بمعنى
"أرجوك اخرس لقد مللت"
ثم يعود لموضعه الأول يكمل طريقة بخطواتٍ أسرع بينما الآخر يحرك رأسه بعدم فهمٍ.
* * * * *
بعد مرور أيام ..
في أحد المقاهي على شاطئ عروس البحر كانت تجلس أمامه.. استحضرت نبرتها المصبوغة بالخجل وأخبرته دون مرواغةٍ:
- في عريس متقدم لي وأهلي موافقين.
- بجد.. ألف مبروك إنتِ تستاهلي كل خير يا لمار..
وأردف متسائلًا:
- هو ده الموضوع المهم اللي عيزاني فيه ولا فيه حاجة تانية ؟
جحظت عيناها ما الذي أصاب ذلك الأبله ألم يسمع ما أخبرته به؟!.. ما كل هذا البرود الذي يتحدث به.. تابعت بوهنٍ:
-مبروك! هو إنتَ مبسوط ؟ هو ده ردك على كلامي؟
ابتسم بعذوبةٍ قائلًا بهدوءٍ:
- أكيد طبعًا مبسوط مش إحنا صحاب .. لازم أفرح لك ومن قلبي كمان.
- صحاب!!
هتفت بها لمار بغضبٍ فعاد يتسائل من جديدٍ:
- مالك يا لمار إنتِ غريبة كده ليه ؟
ياإلهي عن أي غرابةٍ يتحدث! استقامت في تعثرٍ وهي تقاوم تلك العبرات اللعينة التي تهدد بالنزول.. تحركت نحو الشاطئ تتطلع للبحر تبث له حيرتها لعلها تفهم ما يجري.. لكن رائحة عطره النافذة تقتحم أنفاسها وقلبها يهدر بعنفٍ تحاول تهدئته لكنه أبى أن يفعل.
نظرت له بعمقٍ محاولةً سبر أغواره.. تسأله بصوتٍ غلبه الضعف و نبرة شبه مسموعةٍ:
- إنتَ بتحبني ولا لأ ؟
لينظر لها بدهشةٍ رافعًا حاجبيه في إستنكارٍ:
- لمار احنا صحاب وبس !
لتصرخ بدورها وهي تضع يديها فوق أذنيها:
-متقولش صحاب أنا مش صاحبة حد إنتَ فاهم ؟!
ويهتف هو بغضبٍ:
- والله أنا مش مسئول عن أفكارك الغلط دي، أنا عمري ما قلتلك بحبك مثلًا أو عايز أتجوزك ! بتعامل معاكي زي أي واحدة.
نظرت له بعيونٍ غاضبةٍ ودموعها تتقافز على وجنتها رغمًا عنها لتقول من بين شهقاتها الخافتة:
- زي أي واحدة ! فاكر إني هكون رقم.. مجرد رقم في حياتك؟!
أطلقت تنهيدةً متحشرجةً واسترسلت بعدها:
- أنا مش قادرة أصدق إزاي كنت غبية و مخدوعة فيك كده، لعبت بمشاعري وجاي دلوقتي تلبس قناع البراءة والسذاجة، إنتَ إزاي ندل كده !؟
صاح بها وقد وصل به الغضب مبلغه:
- يظهر إنك مش بتفهمي بالذوق فوقي يالمار فوقي.. خيالاتك المريضة دي في دماغك إنتِ وبس.. وبعدين لازم تفهمي إن مفيش راجل بيتجوز واحدة كان مصاحبها قبل كده إنتِ فاكرة نفسك فين ؟!
أنهى حديثه وهي لاتزال على حالها مصدومةً.. تحجرت الدموع داخل مقلتيها بعد جملته الأخيرة.. تنظر لخياله الراحل دون حراكٍ.. ببساطةٍ رحل..
رحل.. كما رحل الأول.
أنت تقرأ
دوامة عشق
Mystery / Thrillerيقع طبيب النساء والتوليد "إسلام الشافعي" في قصة حب من طرف واحد حيث يخبأ له القدر الكثير من المفاجآت الغير سارة.. على صعيد آخر يحلق كابتن الطيران "باسل الشافعي" على متن رحلة من الأسرار يخفيها خلف قناع المسؤولية والسخرية أحيانًا.. فيما تتقدم الآنسة "ت...