الفصل التاسع عشر

69 2 0
                                    

(19)
زواج مبارك

أين كنتَ ذلك المساء
حين شاهدتُ آخر عودِ ثقابٍ في العالم ينطفيء
وكنتُ وحدي؟
"غادة السمان"
***
عدةُ طرقاتٍ خفيفةٍ تبعها بدخولٍ، ليراها جالسةً على طرف الفراش وبين أصابعها طلاءُ الأظافر تتلاعب به وتطلي في هدوءٍ وسكينةٍ.. اقترب حتى جاورها وبعد هنيهة جذب علبة الطلاء عنوةً؛ كي يقطع انشغالها المصطنع، طالعته بهدوءٍ فبادلها بأخرى أكثر قوةً.. تناول كفها ليقربها أكثر ، وهو فعل المثل حتى باتا متواجهين في جلستهما في بقعتهما منتصف الفراش.. رفع رأسها المنكسة بأنامله وهتف بصوته الرخيم:
- احكي لي عنك..
صمتت تالا قليلًا وبدت كأنها تفكر حتى همست:
- ما أنا قولتلك كل حاجة.
تبسم بحنوٍ مردفًا بهدوءٍ:
- عن طفولتك، عن حياتك عمومًا قبل ما أعرفك.. عايز تفاصيل.
عادت  تهمس وثغرها يحمل بسمةً مشوهةً:
- طفولتي كانت مختلفة شوية عن باقي الأطفال.. يعني من أول ما بدأت أفهم و وعيت على الدنيا زي ما بيقولوا فهمت حاجة واحدة بس، أن بابا الراعي الرسمي لمقولة (امرأة واحدة لا تكفي).
ضحكت بسخريةٍ وأكملت:
- وماما زي ستات كتير مش بتحب الشريك، كانت فاكرة إنها هتقدر تغيره أو هو أقنعها بكده وعلى مر السنين زهقت من نزواته وجوزاته وطلبت الطلاق وهو رفض.. أصل عاصم بيه مابيعملش حاجة غير بمزاجه  وبعد خناقات وحرب طويلة وصلوا لحل وسط، تتنازل عني مقابل الطلاق ..
أخفضت بصرها نحو الفراش وأناملها تتلاعب، وتلتف حول الشرشف وبعد صمتٍ دام لثوانٍ عادت بصوتٍ متهدجٍ:
- وتنازلت.. وبعد ما عدتها خلصت إتجوزت وسافرت الكويت مع جوزها وخلفت بنتين شفتهم كام مرة مش كتير، وأنا ربنا بعت لي أحن وأجمل ست في الدنيا "دادة كريمة" ست سكره زي مامتك بالظبط، بس من سنة سابتني.. الله يرحمها.
وصمتت لم تزد حرفًا.. فسأل هو:
- وبابا ؟
رفعت له عينيها وما لبثت حتى انفجرت ضاحكةً:
- بابا ده عسل، إتجوز حرباية مصرية أصيلة علشان يأمن ليا جو أسري مميز ويسافر بقى ويتجوز وهو مطمن، وفعلا كنا أسرة مميزة جداً ماكنش يعدي يوم إلا والجيران تشتكي من الصوت العالي والإزعاج، وحضرته كان يتكرم ويجي كل شهر تقريباً ويسكتنا بالفلوس والهدايا، وآخر محطاته  لحد علمي يعني كانت أمريكية، إنما الحاجات السريعة دي على رأي دادة كريمة العدد في الليمون..
توقفت ضحكاتها وتبدلت نبرتها لأخرى أكثر شجنًا:
- غصب عليا أدرس الطب وكل حاجة بالفلوس كانت تتظبط و بعدين عرض ابن صاحبه، رفضت وصمم وعرفت أنه مش هيزهق من الموضوع ده وعلشان أريح دماغي وافقت وقلت أتصرف بعدين بطريقتي.. ودخل كريم حياتي، حسيت في أوقات أنه شخص كويس ونويت أكمل معاه بعدين إكتشفت ببساطة أنه خاين وحقير بس مش ده اللي وجعني، موافقة بابا وإصراره أن أكمل في الجوازه دي بعد كل اللي عرفه كان بالنسبالي جرح جديد وكانت النتيجة طلبت منك تتجوزني.. أنا كنت عايزه ابعد عنه بأي طريقة وأي شكل ومش مهم العواقب.
عضت فوق شفتها، وأخفضت بصرها من جديد وعادت تتلاعب بالشرشف لكن تلك المرة كانت العبرات تتسابق وتتقافز من بين زرقة عينيها منتهيةً بإستقرارٍ فوق الفراش، وهو يراقب من البداية همسها الضائع وضحكاتها المتألمة، لم يكن سهلًا عليها أن تعري روحها أمامه بل سمحت لدمعاتها بالهطول دون أن تردعها أو ربما وقت الردع قد فات..
زاد نشيجها، ولاحظ إهتزاز جسدها ببطئٍ بينما ارتفعت يدها تلقائيًا فوق عينيها ترتاح عليها بظهرها فتحجب عنها الرؤية كطفلةٍ تخبأ دموعها المنسابة..
ونبرتها المتحشرجة في ألم أصابته في الصميم:
- كنت لوحدي.. عشت عمري كله لوحدي، ملقتش حد يقول لي على الغلط غلط والصح صح،  حضن أعيط فيه كل يوم وأشكي له، ولما دادة كريمة ماتت حسيت باليتم وبردو ملقتش حد يواسيني..
ضاعت باقي كلماتها بين انتفاض جسدها إثر شهقاتها القوية، ونحيبها المتألم  فزرعها بين ضلوعه عنوةً.. يضمها فتتشبث فيه أكثر، يمسد بحنوٍ فتزداد شهقاتها..
- هشششش إهدي.. أنا معاكي.
رفعت رأسها له لتهمس بألمٍ ورجاءٍ من بين بكائها:
- أنا بكرههم يا بدر زي ما هم بيكرهوني.. مش عايزه أرجع لهم تاني.
أبعدها عنه قليلًا ليحتضن رأسها بين كفيه وعيناه لا تحيد عن عينيها بينما نبرته الأجشه خرجت بتملكٍ:
- ماحدش يقدر يخرجك من هنا طالما مش عايزه كدة.. أنتِ مراتي.
لم تكن لتنتظر حتى يعاود ضمها، قفزت هي تتعلق بعنقه وتدفن رأسها في تجويفه فسقط بها على الفراش بفعل ارتطامها الجسدي به.. وفي النهاية هو ممدٌ يحيطها بذراعيه وهي متشبثةٌ فيه.. طفلته المشاغبة بدأت ليلتها بضحكاتٍ صاخبةٍ، ومائدةُ عشاءٍ ذات مذاقٍ خاصٍ وأنهتها بكلماتٍ خرجت من أعماقها البعيدة لتمزق بها نياط قلبه.. لو فقط يعود بهما الزمن لكان آنس وحدتها، ملأ فراغات روحها ولملم جراحها، لكان لها الأهل والسند لكان وكان..
أخفض بصره إليها فتبسم، غفت و مازالت متشبثةً فيه بقوةٍ..
ولن تتركه ما حيت أبدًا؛ فالغريق يتعلق بقشة.. وهي نالت على طوق نجاةٍ لا قشة.
*  *  *  *  *
"مبارك لكما ومبارك عليكما وجمع الله بينكما على خير"
نطق بها المأذون الشرعي أثناء اختطاف المنديل الأبيض من فوق كف حسن الجارحي المعانق لكف ابن الشافعي
بعرض زواجٍ عبر شبكات الهاتف..
مع بذلةٍ سوداءٍ أنيقةٍ..
و ثوبِ زفافٍ فاخرٍ..
] نال الباسلُ فرحته [
وأفضل ما قام به أن عرضه تم عبر الهاتف؛ فالعروس أصابتها شبه حالة إغماء من هول الصدمة..
ماذا لو كان العرض بثًا مباشرًا إذًا؟!
وعقب أسبوعٍ بالتمام، كان يقف أمام منزلها في بلدتهم الريفية بحلته السوداء ينتظرها بعد ما تم عقد القرآن بالمسجد المجاور بحضور والده والعم مراد وبعضٍ من الأهل والأقارب؛ فمراسم العرس تنتهي بعقد القرآن.. عارضت العروس رغبةً منها في إقامة حفل عرس يخصها، ماذا ينقصها حتى تحرم من أجمل لحظات العمر لفتاةٍ بعمرها؟ والجواب كان هامسًا بأذنها هي فقط عبر شبكات الهاتف أيضًا.. يخبرها أنها ستنال على ما هو أجمل وأروع من حفلة زفاف تنتهي بعد سويعات، ومن هي لتعترض وتقاوم نبرته العابثة التي تتلاعب بها وتعزف ألحانًا ورديةً ستجمعها قريبًا مع خليل الروح..
وفي غضون أيامٍ كانت قد انتهت من أمر الثوب الأبيض الهفهاف بطبقاتٍ من التل والدانتيل، وها هي ترفل به أمامه من أعلى الدرج الداخلي للمنزل وهو بالأسفل.. يراقب ضحكتها النابعة من القلب، خصلاتها الحالكة تتراقص حولها تشاركها فرحًا وسعادةً.. قطع تأمله بقبلة فوق الجبين ووداع للأهل يصاحبه توصية دامعة من الأب الحنون على جميلته الراحلة.. والرد وعدٌ بالحماية والسعادة حتى لفظ آخر أنفاس الحياة ..
ضغط على مزود السرعة وتحرك بالسيارة حذرًا؛ حتى لا تنغمس إطاراتها بوحلٍ طينيٍ أو ما شابه، وهي بثوبها المنفوش تعيق حركة يده كلما وجهها هنا أو هناك.. نظر لها فوجدها تبادله النظرات العاشقة فتبسم بحنوٍ قبل أن يشرد في كلمات أخيه الغاضبة..
"أنت مجنون! فاكر جوازك من فرحة هيحل المشكلة"
ليجيبه آنذاك بنبرةٍ واثقةٍ:
"جايز مش هيحل مشكلتك، بس على الأقل هتطرد أي أفكار سوداء من دماغك ممكن تجمع بيني و بينها "
وبعدها أتى الأمر الصارم:
"متتجوزهاش يا باسل.. فرحه متستاهلش إنك تلعب بيها وتدخلها في متاهاتك"
وجوابه كان صادقًا تلك المرة موازيًا لكفه الممدودة نحو جيب أخيه يعيد له ملكه الذي تخلى عنه  في فورة غضبٍ:
"جايز التوقيت علشانك.. لكن أنا هتجوز فرحة علشان بحبها يا إسلام، ودي حقيقة مش قابله للشك"
والنبرة كانت ساخرةً:
"أما أنت أمرك عجيب يا أخي، مش دي اللي قولت عليها من كام شهر بس أنها بطلة الطفولة والمراهقة  وخلاص كبرنا والزمن تغير وماعرفش إيه!.. ما ترسى على بر يا كابتن يمكن نفهمك."
لينصرف عقب كلماته عائدًا لغرفته، ولم يتقابلا إلا ليلة ما قبل الأمس حين ذهب إليه طالبًا منه الحضور، وكان الرفض التام ردًا عن طلبه ودون كلمةٍ أخرى استدار خارجًا، فأتاه صوته الصارم بغضبٍ مكبوتٍ..
"لو آذيت فرحة كمان يا باسل.. صدقني وقتها مش هرحمك."
ليجيب عليه ومازال مواليًا له ظهره:
"قولت لك قبل كده هتجوزها علشان بحبها.. يعني لو حد فكر يمس شعرة منها أنا اللي مش هرحمه، ومع ذلك متأكد أنك هتكون لها الحامي في وجودي أو غيابي"
ليغادر بعدها دون كلمةٍ أخرى من أيٍ منها..
عاد من شروده على سؤالها الخجول:
- بتبصلي كده ليه؟
همس بحرارةٍ، ويده تجذب كفها عنوةً؛ ليطبع قبلةً طويلةً داخل باطنه:
- أنتِ حلوه قوي يا فرحة.
ضحكت بخفوتٍ وهمست بعتابٍ:
- بأمارة ما كنت عاوزني  أشوف نصيبي بعيد عنك  مش كده؟
ترك كفها ليتحكم في قيادته وضحكاته تعلو بعبثٍ:
- ما أنتِ اللي باعته ممثلة فاشلة تقول كلام مايتصدقش أصلًا.. كنت مستنية إيه؟ كويس أنها جات على كده بس ومانزلتش البلد وقتها مخصوص علشان أكسرلك دماغك.
زمجرت بغيظٍ:
- ما أنت اللي استفزتني  بإهمالك وبرودك لدرجة قولت نسيتني!
هدأ سرعته تمامًا واقترب بغتةً مقتنصًا قبلةً سريعةً من شفتيها المضمومتين بغضبٍ مصطنعٍ جعله يفقد صوابه، ويطبع ختامه الخاص جدًا فوقهما، وهمسه الأجش خرج دافئًا، قريبًا منها حد الإرباك:
- أنا عمري ما نسيتك.. أنتِ فرحتي.
وطمع بأخرى يختم بها جملته الدافئة، وكان الدفع نصيبه بعد ما صبغ وجهها بحمرة الخجل، تهمس ورأسها يتحرك يمينًا ويسارًا بتوجسٍ:
- احنا في الشارع يا باسل إيه اللي بتعمله ده!
حرك كتفيه بلآمبالاةٍ وعاد يتنبه لأمر الطريق:
- براحتك العرض ساري حتى نفاذ الكمية.
أنهى كلماته بغمزةٍ ماكرةٍ، فضحكت واستدارت برأسها إلى النافذة بعيداً عن مرمى عينيه العابثة.. فصمت بدوره وشرد مرةً أخرى نحو البعيد.. فاليوم سيكون له وحده، يحق له ببعض من الأنانية حيث يطرد إسلام وخطيبته السابقة ربما، وحيرته بسؤال يخصه؛ هل سيعود لحبه الأوحد ويصفح عن ماضٍ سُطر دون إرادة أحدٍ، و رغمًا عن الجميع؟ هل ستنتهي تلك الزوبعة ويعود مع أخيه كما كان من قبل.. أم ما بينهما تصدع ولن يعود كما كان؟
زفر بضيقٍ وهو يرخي ربطة عنقه.. حسنًا هو كان أنانيًا من البداية، وليست رغبةٌ وليدةَ اللحظة حين اقحم فرحه بعالمه منذ أن عرض عليها الزواج، لم يكن ذلك في سبيل إقناع أخيه وطرد أفكاره السوداء كما أخبره.. بل كان لأجله.. لأجل باسل قبل كل شيءٍ.. تلك الجميلة هي حبيبته منذ الصغر وبعمر الشباب ومازالت، لطالما كانت هي ولم تحتل غيرها إنش واحد من قلبه، لكن التوقيت غير مناسب بالمرة، يعلم أنه ارتكب أكبر خطأٍ بزواجه منها في الوقت الراهن، وجب عليه الإنتظار، كان عليه التخلص من كل العثرات والأشواك التي تملأ طريقه حتى لا تؤذيها.. لكن الضعف والهوان أصاباه بعد ما حدث بينه و أخيه وفي لحظة تهور معدومة التفكير نال محبوبته.
لكن بعد نظرة العشق تلك المنبعثة من بين عينيها ورؤيتها ترفل إليه بثوب الزفاف.. فليكن أنانيًا!
هتفت بخفوتٍ لتكسر صمته وشروده الذي طال عن ذي قبل:
- باسل..
- هممممم..
اقتربت منه لتهمس بضيقٍ:
- بابا هيوحشني قوي.
وبنبرةٍ متأنيةٍ، سمجة.. غمغم:
- نلف ونرجع؟
ضربته فوق كتفه بقبضتها المكورة هاتفةً بحنقٍ:
- تصدق أنك رخم.. بس بردو قاعدة على قلبك.
والإجابة تتزامن مع حاجبين يتلاعبان بمشاكسةٍ:
-خليك على قلبي زي العسل.
استكانت بصمتِ في مقعدها، متكتفة الذراعين، وخافقها المجنون يبعث بأجمل البسمات الهادئة لتزين مفترق شفتيها رغمًا عنها.. لم يرحل حبكِ فرحه ولم ينتهي بل تورد وازدهر أكثر وقلبُ الباسل لك وحدكِ.. فعيناه مرآتك السحرية تعكس لك ما يحمله بين جناباته ودائمًا ترين بهما ما تتمنين وأكثر.. جذبها من ذراعها لتستريح بين أحضانه وكأنه فهم ما يدور بخلدها، عيناه وعيناها على الطريق المطوية أمامهم بصمتٍ.. وبعد برهةٍ رفعت رأسها ببطءٍ تنظر لوجهه القريب وتهمس:
-باسل إحنا إتجوزنا بجد.. خايفه أكون بحلم!
تبسم ببطءٍ وبينما عيناه تتابع الطريق نال على ماتبقي من حمرة شفتيها في قبلةٍ متملكةٍ تلك المرة، وحينما انتهى خرجت همسته أمام شفتيها وعينيها المغمضتين:
- صدقتي؟ ولا نعمل حادثة ونخلص!
ضحكت بخجلٍ دون ما تفتح عينيها، عائدةً لوضعها السابق.. رأسها تستريح فوق صدره، ذراعه الأيمن يضمها ويقربها أكثر، بينما الأيسر وعيناه يتوليان أمر القيادة.
*  *  *  *  *
لماذا أراك وملء عيوني
دموع الوداع؟
لماذا أراك وقد صرت شيئا
بعيدًا.. بعيدًا..
توارى.. وضاع؟
تطوفين في العمر مثل الشعاع
أحسك نبضًا
وألقاك دفئًا
وأشعر بعدك.. أني الضياع
"فاروق جويدة"
***
متمددٌ فوق الفراش عاقدٌ ذراعه الأيمن خلف رأسه، بينما الآخر مرفوعٌ أمام عينيه، وبين السبابة والإبهام حلقة ذهبية ينظر لها بعيونٍ جامدةٍ، مثل اليوم أتت إليه.. إلى حجرته بمشفاه.. بعد أسبوعٍ قضاه بعيدًا عنها وعن الجميع، وكأنما كانت تنتظر عودته لتأتي وتظهر أمامه  بعيونٍ خجلةٍ، وقدمان تسيرآن ببطءٍ حتى جاورته في وقفته، وحينها لم ترفع رأسها المنكسة.. بل خلعت حلقتها وامتدت يدها لكفه تبسطها وتضع فيه مابحوزتها.. ثم ابتعدت قليلًا وعيناها ترتفع لعينيه تصاحبهما همستها المتحشرجة..
"بلاش تحتار.. أنا مش هخليك تختار بيني وبينه، أصلًا ماينفعش تختار.. هو في النهاية أخوك وأنا مابعملش حاجة غير إني أجرحك كل مرة.. وأنت ماتستاهلش كده"
كان يقف مواجهًا للنافذة الكبيرة يستمع لحديثها بصمتٍ وقبضته تزداد على تلك الأشبه بجمرةٍ مستريحةٍ داخل كفه.. استدارت عنه بعد ما أنهت كل شيءٍ.. هكذا ببساطة!
وقبل أن تختفي عادت وحينها استدار بدوره، ولمح طيف الدمعات بمقلتيها.. والنبرة متهدجه للغاية:
"على فكرة ولا مرة  قال لي بحبك"
واختفت من أمامه..
لكنها لم تختفِ من حياته، ويا ليتها فعلتها وانتهى.. اختارت مبدأ التعذيب الصامت، تأتي للمشفى كل يومٍ تتجنب رؤيته، بل لا تمر جوار زاوية يحتمل وجوده فيها، وحينما يقدر لهما بتصادفٍ قدريٍ توجعه عيناها الذابلة وضحكتها الباهتة.. عبراتها المودعة لملائكتها يراها تمحوها فتعود وتتقافز من جديد، لا يعلم هل تواسيهم بها أم تواسي حالها..
كاد أن يصرخ بها يومًا طالبًا منها الرحيل..
لترحم قلبَ رجلٍ أضناه الحب والكره حتى بات لا يميز بينهما..
قلبه يصرخ ويخبره دون موارةٍ أنها تخصه، أنها ملك رجلها الأوحد وماهو أحد غيرك يا أحمق، فيتدخل العقل بخيلاته البغيضة وأسئلته الغير منتهية.. هل أحبت باسل بصدقٍ؟ تشتاقه؟ ربما كنتَ تذكرها به لذا تقبلتك داخل عالمها؟! لم تتفوه بحبك لمرةٍ واحدة وأنتَ من كنت تمطرها بغزلك وحديثك المنمق لها خصيصًا، ماذا تفعلين لمار.. أي لعنةِ عشقٍ أنتِ!
قبض على المحبس وتحرك بذراعه واضعًا إياه فوق عينيه.. يزفر بقوةٍ.. فيستغفر ربه عدة مراتٍ عله يتخلص من ذاك الثقل الذي يكاد أن يطبق على أنفاسه متمنيًا أن ترحل منه كما رحلت عنه.
فتح الباب على مصراعيه عنوةً  لتدلف ساندي بشبه عاصفةٍ رمليةٍ، فاعتدل  مخبئًا ما في قبضته داخل جيبه سريعًا.. وقفت أمامه متخصرةً بينما قدمها تطرق الأرض بحنقٍ.. فبادر هو بنبرةٍ باردةٍ:
- رجعتوا بسرعة يعني.
توقفت عن طرقها للأرض وتكتفت هاتفةً بحنقٍ:
- ممكن أفهم إزاي حضرتك ماتحضرش فرح أخوك؟ أنا كنت فاكرة أنك بتهزر وقت ما قولت مش رايح!
تخلل خصلاته بضيقٍ هاتفًا بغضبٍ مكبوتٍ:
- هيفرق قوي وجودي من عدمه؟
تخلت عن حنقها وجاورته فوق الفراش تسأل بهدوءٍ:
- طيب ممكن تحكي لي حصل إيه بينك وبينه.. من يوم خناقتكم وأنتم تقريبًا مبتكلموش بعض خالص.. إيه هي المشكلة الخطيرة اللي منعتك تحضر فرح أخوك وكمان تسأل إذا كان وجودك هيفرق!
صمتت قليلًا حين لم تجد منه رد، ثم تابعت بعتابٍ:
- كل شوية كان يبص في ساعته.. اتحجج بكلام فاضي وأخر ميعاد كتب الكتاب.. كان مستنيك أنا حسيت بكده.
رفع بصره وسألها بنبرةٍ فارغةٍ لا تحمل شيئًا:
- كان مبسوط؟
- حاول يعمل فيها الواد التقيل بس عينيه فضحته.. أما فرحه لو وصلت عش الزوجية بقلب سليم تبقى  معجزة..
ضحكت بقوةٍ، فتبسم لها بهدوءٍ لتكمل ثرثرتها:
- طمطم وبابا وماما كانوا فرحانين قوي، ده حتى ماما عينيها دمعت وهي بتسلم عليه وفضلت تتحايل عليه علشان يرجعوا معانا إسكندرية يومين على الأقل بس باسل رفض وقال مش عايز حد غير عروستي، فماما زعلت منه بس هو نمس عرف يصالحها في ثوان.. بعدين ودعنا العرسان وبما ان بابا ومراد عندهم شغل مقدرناش نقعد أكتر من كده وطلعنا بعدهم بساعة.. بصراحة فرحنا وإنبسطنا قوي ماكنش ناقصنا غيرك.
هز رأسه ببطءٍ، وبسمةٌ باهتةٌ تعلو ثغره بينما هي تتابعه بصمتٍ.. من ثم امتدت يدها عنوةً تسحب يمناه وتسأل بتوجسٍ:
- فين دبلتك؟
بادلها النظرات الصامتة بحيرةٍ، فأردفت هي سريعًا تتحدث دون مواربةٍ:
- بدر كلمني يسأل عن حكايتك أنت ولمار وقال لي أنها كمان مش لابسه دبلتها، هو سأل مراته بس رفضت تتكلم في أي حاجة تخص الموضوع ده.. إسلام هو أنت ولمار فسختوا الخطوبة؟
- كل شئ نصيب.. إحنا  مش مكتوب لنا نكون لبعض.
كتمت شهقتها بكفها وهتفت قائلةً:
- ماتقولش كده مافيش مشكلة ومالهاش حل، وبعدين لمار بنت كويسة وطيبة مش هتلاقي زيها.. والأهم أنت بتحبها يبقى إزاي تسمح لأي سبب كان يفرق بينكم بسهولة كده؟
تعالى صوت الحق ينادي الصاحي والنائم، ينبئ عن ركعتي خير من الدنيا وما فيها.. ولأنها تعلم أنه لن يتحدث ولن يفضي بما يحمله في جوفه لأيٍ كان، طالما لم يرد ذلك ربتت فوق ساقه ونهضت تهتف قبل رحيل:
- هسيبك تصلي الفجر وتنام بس الأول أوعدني أنك تحل المشكلة اللي بينكم.. تخيل بقى رد فعل بابا أما تقول له مش عايزها زي ماعملت قبل كده وبعدين ترجع تزن زي النحلة علشان تخطبها تالت.. والله الحاج ممكن يولع فيك وقتها.
قابل مشاكستها بهمسٍ خفيضٍ:
- اللي ربنا عايزه هيكون.
*  *  *  *  *
بين هدوء الليل وصوت الرياح العابث بأغصان الشجر كانت منزويةً بغرفتها، تعتلي فراشها و تضم ساقيها بذراعيها لصدرها و بين أصابعها تحمل صورته التي حصلت عليها سرًا من شقيقته.. أناملها تتبع ملامحه بينما عيناها مثبتةٌ فوق ثغره الباسم فتبادله ضحكته بأخرى توازيها دمعةً ثقيلةً تهطل دون إرادتها.. لكم تشتاق حديثه ومرحه التي اعتادت عليهما في يومها، اشتاقت لفطورهما بذاك الركن الخاص بهما والذي بات مهجورًا منذ أسبوعين؛ فبعد آخر شطيرة ناولها إياها بيده لم تستسغ من بعدها أي طعام.
وعدتِ خاوية الروح أكثر من ذي قبلٍ لمار، والفرآق تلك المرة موجعٌ، ومؤلمٌ، ولن تتغلبي عليه لو عشتِ عمرك كله تقاتلين لأجل ذلك.. فذاك الطبيب سكن روحك، تلبس كينونتك وانتهى..
لو لم يأمرها مراد بأن تعيد له محبسه.. والله ما كانت لتزيله من بنصرها إلا بطلبٍ منه، كانت ستتحمل بعده وثورة غضبه، حتى لو قرر معاقبتها بشتى الألوان كانت ستتحمل بصدرٍ رحبٍ، كانت ستفعل المحال وألا تتخذ هي أول خطوةٍ بالهجر.. لكن غيابه لأسبوعٍ كاملٍ كان كافٍ لتذهب إلى مراد وتقص له ما يخفيانه في الآونة الأخيرة، والذي  يثير دهشةَ وفضولً الجميع..
أخذت تسرد كل شيءٍ منذ البداية
باسل
بحرٌ وغرقٌ
زفافٌ بعرضٍ خاصٍ
وخضوعٌ لدقات قلبٍ
عاشقٌ يعرض خطبة
وقتالٌ لأجل دقات القلب
فرحيلٌ أول.. تبعه ثانٍ
وجعُ قلبٍ
فعودٌ أحمد للعاشق الولهان
وخضوعٌ كاملٌ للقلب.. لا مجرد دقات
فخطبةٌ محملةٌ بصدماتٍ
وباتت الأحلام الوردية مجرد سرابٍ راحلٍ من بين أناملها
عقب جملة مراد القاسية..
"رجعي له دبلته"
رفعت بصرها بغتةً تنظر له في تحديقٍ و تعاتبه بوهنٍ.. جئت إليك أيها الرائع لأجل مساندتي، جئت متشبثةً بآخر خيوط الأمل، وأنت  تخبرني أن أحل آخر قيد يربطني فيه!
لم تقوَ على الحديث فحركت رأسها برفضٍ يوازي بريقًا دامعًا سكن عينيها..
فزفر و اقترب بجذعه منها..
"إفهمي يا لمار .. إسلام في وضع صعب أي راجل مايقبلوش على نفسه وأنتِ خبيتي عنه وده خلاك في موضع إتهام، ياريتك قولت له صدقيني وقتها كان الوضع هيكون أحسن، على الأقل ماكنش عرف من غيرك، أنت وباسل غلطتوا لما سكتوا ومتكلمتوش"
نكست رأسها تمحي عبراتها المنسابة وتهمس بخفوت
"والله حاولت.. بس كل مرة ماكنتش بقدر.. كان صعب عليا قوي"
يستشعر نبرتها المتألمة كما يستشعر ألام ابن أخيه.. ربت على كفها بحنوٍ متابعاً:
"رجعي له دبلته وسيبيه يختار بلاش تخلي حبك نقطة ضعف ليه.. لو قدر ينسى ويسامح يبقى رجع بإرادته ولو مرجعش لازم تعرفي أنه عمل المستحيل بس ماقدرش، كان هيأذيك ويأذي نفسه فقرر البعد.."
وهمستها المتحشرجة أوجعته:
"مش هقدر أسيب المستشفى.. مش هقدر أبعد أكتر من كده"
فتبسم حينها هامسًا بدوره:
"مين قال لك سيبيها.. مش هسمح لك أصلًا"
محت دمعاتها وغادرته بعد ما طمأنها أنه آمنٌ بين أحضان جدته وسيعود حينما يقرر هو ذلك..
وعاد..
وأخذت بنصيحة مراد وخلصته من قيدها مانحةً إياه حرية الإختيار تاركة له قلبها الغر مع حلقتها المنزوعة.. ولم تكن تعلم أن القادم أشد علقمًا من الراحل، عيناه تحكي لها مجلدات خط سطورها بحبر من العتاب والألم.. يسألها بهما عن رحيلٍ؟
فتجيب..
موتٌ أرحم من فرآقٍ يا طبيبي..
لن أصنع بيدي فرصة تعتاد فيها غيابي..
سأظل معبقةً روحك وقلبك ولا خلاص مني..
أعلم أنك تتألم، أعيق صفاء ذهنك وأسرق منك راحتك
ولست أفضل منك حالًا..
أنت من جذبني لخضم أمواجك المتلآطمة حتى غرقت بك..
والآن.. لا نجاة من دوامة عشقك.
*  *  *  *  *
وصل إلى شقته المستأجرة بعد رحلةٍ طويلةٍ غير مملةٍ بالتأكيد.. كيف يمل ومعه جميلة جميلات القرية!
عفوًا..
كيف يمل وقد تزوج من جميلة الجميلات.. والجميلة تبدو كالساحرة الشريرة بوقفتها المتحفزة..
نظرة عينيها المخيفة توازي نبرتها العنيفة:
- مش هدخل غير لم تشيلني يا باسل، يعني مش هدخل غير لم تشيلني!
وباسل يقذف الحقائب بثقلهم أرضاً.. ألا يكفي ثوب زفافها المنفوش ذاك، أمرها بتبديله لشيءٍ آخرٍ أكثر راحةً حتى لا تكون عرضةً للغادي والرائح وألا يكون عائقًا له أثناء القيادة، لكن هل ستسمع له؟!
ومن ظن أنها اكتفت بذلك فهو أحمق.. أرغمته على الوقوف جانب الطريق الصحراوي؛ فالجميلة جائعة ولا تحبذ الأكل داخل العربة بل هددته بإفراغ كل ما تحويه معدتها منذ عامٍ مضى لو أرغمها على ذلك.. نهاية الحديث افترشت الطريق بقطعة قماشٍ؛ لتخرج علبة طعام من صندوق السيارة لا يعلم من وضعه هناك من الأساس.. لتقدم ما بها من طعامٍ أقل ما يقال عنه شهي..
لكن هنا وسط الصحراء بين السيارات المارة وهي.. هي بثوبِ زفافٍ منفوشٍ على الأرض تتناول الطعام بنهمٍ، غير آبهةٍ للأحمق الذي يُدعى زوجها، والذي جلس بدوره مرغمًا؛ فرائحة الطعام هدمت كل حصونه..
أصابع ورق العنب المحشي المنمقة بعنايةٍ وقد زينتها شرائح الليمون مع زوجين من الحمام المحمر بالسمن البلدي.. من هو ليقاوم كل ذلك؟!
وبينما هوغارقٌ بتلذذٍ مع الطعام، كان يرمقها بطرف عينيه بإمتعاضٍ.. فتقابله شفتاها المتبسمة بعبثٍ.. وأكتمل المشهد الكارثي حينما امتدت يدها لفمه وقبل أن تتمتم بصحة وهناء على قلب الباسل.. مرت بالجوار سيارة محملة بعددٍ من الشباب، هدأت سرعتها تمامًا حتى توقفت قبالتهما ليصدح من داخلها صفير عالٍ اخترق الصحراء قبل مسامعهما ورؤوس بشرية خرجت من النوافذ تهتف بجملٍ عديدةٍ..
"أيوه بقى عااااش يا سطاااا"
"الله يسهلووو، يلزمك مساعدة يا باشا "
"لا بس المزة تستاهل تتشرد عشانها "
ورحلوا بضحكاتٍ صاخبةٍ بعد ما أفقدوه شهيته فنهض بغضبٍ، والجميلة تعض فوق شفتها بأسفٍ، فحملها عنوةً، وقام بحشرها داخل السيارة وعاد يكمل طريقه ونظراته المتوعدة لا تفارقها وبدورها ترفع رأسها بنزقٍ كأنها تخبره
"إن لم يأتِ أولئك المزعجين لكنت التهمتني بالخطأ في وسط مجاعتك، فلا تخبرني أنك كنت مرغمًا على ذلك أو تنازلت لأجلي".
والآن بعد صعود تسع طوابق عبر الدرج حاملًا حقيبتين من الوزن الثقيل  -فعلى وجه العروس تعطل المصعد- و قبل أن يلتقط أنفاسه تأمر بحملها!
زمجر بعنادٍ حانقٍ:
- مش كفاية فضايحك في الطريق.. لمي الليلة بقى علشان أنا مش هشيل حد.
حركت كتفيها بلآمبالاةٍ وارتكزت بجذعها على إطار الباب، إبهامها يتلاعب ويلتف حول خصلةٍ من شعرها، وشفتاها تدندن بهمسٍ لنفسها.. رمقها بنصف عينٍ ومن ثم لوح بكفه بمعنى:
"خليكِ عندك للصبح"
وبعد دقائقٍ قليلةٍ، جال بخاطره فضيحةٌ أخرى بين جيران البناية تلك المرة  فنهض على مضضٍ؛ حتى جاورها رافعًا ذراعها فوق كتفه بغضبٍ، ونزل بذراعه حتى منتصف ظهرها، والآخر أسفل ساقيها، وأخيراً رفعها بين ذراعيه ودلف بها عش الزوجية مغلقًا بقدمه الباب من خلفه.. فتتعلق بعنقه وقدماها يتأرجحان بإنتصارٍ.. فيبتسم رغمًا عنه.
وداخل حجرة نومه أنزلها برفقٍ على قدميها وعيناها تعانق الأرض، يقطب لها جبينه متعجبًا من نفحة الخجل التي هبطت عليها فجأةً لايعلم من أين!   فتتقدم يده نحو خصلاتها المنسابة على قدها يقربها من أنفه يشتم عبقها بقوةٍ.. واقترابٌ آخرٌ فيه نية إقتناص أول قبلة داخل قاهرة المعز، فتدفعه بعيدًا هاتفةً بإمتعاضٍ:
- عايزه أغير هدومي.. اطلع برا.
فيرفع حاجبه ساخرًا:
- وأطلع ليه؟
ويردف غامزًا:
-ما يمكن تحتاجيني، سوستة هنا.. سوستة هناك.
فتدفعه بقوةٍ لخارج الغرفة وأسنانها تكز باسمه... فيتحرك مرغمًا وهتافه الساخر بعبث يصلها:
- قال يعني وش كسوف قوي.
وبابٌ موصدٌ في وجهه جوابٌ كافٍ لسخريته.. تحرك نحو الخارج حتى تنتهي الكونتيسة وتمنحه تصريحَ المكوث داخل حجرته بين أحضانها.
و رنينُ هاتفه ينبئ  عن وصول رسالة تقطع عنه خيالاته السافرة بشأن عروسه..
"حلوة "
عقد حاجبيه من محتوى الرسالة وهم بإعادة الهاتف لموضعه السابق فقطعه رنين بوصول أخرى..
"عروستك.. حلوة"
ازدرد لعابه وأصابعه تطبق على الهاتف حتى كادت تهشمه بينما عيناه زاد تذبذبهما وأنفاسه اللآهثة بإضطراب باتت مسموعةً مع وصول الثالثة..
"خد بالك منها كويس.. وحقك تخاف عليها"

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن