الفصل الثامن عشر

41 1 0
                                    

(18)
مواجهة

الترياقُ الأفضلُ للقارئِ العليلِ.. هو الكتابةُ
"غابرييل وسير ريكو"
***
مهما بلغت الأسطرُ والحروفُ قد لاتبوح إلا بقليلٍ مما في دواخلنا إنما جعلت الكتابة متنفسًا للقليلِ مع كثيرٍ من الكتمان.. فبها نفرغ ما بداخلنا لربما نرتاح قليلًا، رغم أن الحروف حُفرت على الورق، ولكن يظل الألمُ الحقيقيُ محفورًا داخل القلوب.
فوق مقعدها الوثير تترنح  ببطئٍ كعادتها المكتسبة مؤخرًا، وبين يديها تلك المرة دفترُ مذكراتها منذ كانت ابنة السادسة عشر.. تُقلب بين صفحاته وتلوح ذكرى أيامٍ مرَّ عليها الزمانُ فتضحك تارةً، وتدمع مآقيها في أخرى، كان يلازمها طيلة الوقت تخط فيه خواطرها وأشعارها الحالمة.. وصلتها اليوم رسالةٌ نصيةٌ جديدةٌ بمضمونٍ مختلفٍ، فحواها بريد إلكتروني لإحدى صفحات "الفيس بوك" تحمل عنوان "همسات حواء"،  وما إن فتحتها حتى وجدت أشعارها الحالمة مبعثرةً هنا وهناك وبعد دقائقٍ من التصفح وصلتها رسالةً أخرى بمضمونٍ مختلفٍ..
"اهمسي حواء.. تخلصي من قيدك الصدئ.. انبذي ضعفك"
عزفت تلك الكلمات ألحانها على وترها المهمل بفعل الزمن ولم تستطع إلا أن تقوم بإجراء اتصالٍ لصاحبها.. صدح الرنين وطال، ولم يكن هناك مجيبًا.. وحين أعادت الكرة، قابلتها تلك الرسالة السمجة التي تخبرها أنه خارجُ النطاقِ أو ربما يكون مغلقًا، وحينها لم تترد وقامت بفعل المثل وخطت بيدها رسالةً نصيةً ثم أرسلتها، كأنها تفرغ ما بجعبتها لصديقةٍ قديمةٍ وقد كان مضمونها..
"ابتعدتُ عن عالم الكتابة منذ زمنٍ، وأنا الآن لم أعد قادرةً على ترتيب حروفٍ مفهومةٍ.. ربما أحتاج مساحةً أكبر كي أبوح دون أن يقرأني أحدٌ."
وانتظرت ساعةً وإثنين حتى باتو ثلاثًا ولا رد.. لذا قررت إزالة الغبار عن مذكراتها تسترجع معها حلاوةَ الذكرى.. وسؤالٌ واحدٌ يدور بخلدها، كيف وصل ذاك الغريب لكلماتها تلك؟ صحيح لم تكن تخفي ما تكتب بل كانت تقوم بمشاركة صديقاتها آنذاك من داخل العائلة و خارجها حتى تنال التشجيع منهن وتكمل مسيرتها بروحٍ عاليةٍ.. لكن مع مرور السنوات وإنقلابات حياتها نسيت أحلامها ونسيت روحها معها..
قطع شرودها وصول رسالةٍ جديدةٍ، جذبت الهاتف سريعاً لتقرأ ما وصلها..
"كوني حواءً كما يجب أن تكون.. لأجل صغيرتك."
وبسمةٌ لا تعلم منبعها شقت الطريق بين شفتيها فانفرجتا ببسمةٍ عذبةٍ وهي تدور برأسها تنظر خلفها لطفلتها النائمة.. ملاكها الصغير، هديتها من القدر.. ودون تفكيرٍ سحبت قلمًا، وفتحت دفترها العتيق على إحدى صفحاته الفارغة وبسمتها تزداد عذوبةً بينما يدها تخط في المنتصف..
[حواء كما يجب أن تكون]
*  *  *  *  *
داعبت خيوطُ الشمس رموشها الكثيفة، مرفرفةً بخجلٍ وهي تتماطئ بتكاسلٍ.. امتدت يدها عنوةً للفراش فوجدته خاليًا.. نهضت بتثاقلٍ بعد ما ارتدت ملابسًا مناسبةً.. خطت نحو الخارج متيقنةً أنه مازال هنا حين أتاها صوته القوي المنبعث من حجرة والدته.. يطعمها فطورها ويناولها دوائها بنفسه كل يومٍ في نفس التوقيت ليرحل بعدها للمشفى .. كان قد أنهى مهامه حين ارتكزت بجذعها على إطار الباب تراقبه بصمتٍ.. ودع والدته ببسمةٍ وقبلةٍ حانيةٍ، من ثم غادرها..
لتصدم عيناه بها.. ترتدي منامةً فضفاضةً، وشعرها الذهبي مشعثٌ، كانت كطفلةٍ مدللةٍ قضت ليلتها في العقاب بحق!
وحين جاورها عند الباب تحدث بصوته الرخيم:
- صباح الخير.
وتهمس هي متبسمةً:
- صباح الورد.
تأكد من هندامه سريعاً ثم حمل حقيبته الصغيرة ينوي ذهابًا.. كانت تراقبه بصمتٍ وقلبها يسألها ما به اليوم مختلفٌ ليبدو جذابًا هكذا بتلك الخطورة؟ ماذا يفعل بكِ تالا! بحق الله ماذا يفعل بكِ هذا الرجل، وكيف تبدلت بتلك السهولة، بتُ لا أعرفكِ هل هذه أنتِ تالا؟!
وأجابت على حالها حين هتفت باسمه دون وعيٍ، وما إن استدار لها حتى اقتربت دون خجلٍ.. ترتفع على أصابع قدميها حتى تصل لوجهتها بينما كفاها يتشابكان من الخلف.. اقتربت أكثر حتى لامست وجنته بشفتيها وطبعت قبلةً دافئةً لتبتعد بعدها هامسةً برقةٍ:
- خد بالك من نفسك.
عضت فوق شفتها خجلًا، وهي ترى نظراته المتعجبة والتي شملتها من رأسها حتى أخمص قدميها ومع ذلك تقدم بدوره طابعًا قبلته فوق جبينها ليبتعد بعدها متبسمًا بحنوٍ:
- وأنتِ كمان.
وصل للباب فعاد لها برأسه يتحدث تلك المرة بجديةٍ:
- وماما يا تالا مش عايز جنان خلي بالك منها.. ماشي؟
هزت رأسها برفقٍ ليرحل بعدها وتأخذ هي نفسًا عميقًا، تقلب بصرها يميناً و يسارًا مفكرةً في بداية يومها المختلف هذا.. كيف ستكون؟
* *  *  *  *
وقتما تجسد خيالاتنا وجوهًا مجهولةً تكون الصورة مبهمةً، مشوشةً ومع مرور الوقت تتوارى وتختفي في أغلب الأحايين وتصبح شيئًا لا يُذكر، والعكس صحيح حين تكون الوجوهُ مألوفةً وقتها يتجسد الخيال كفيلمٍ وثائقيٍ يعاد ويكرر وبعدها تترك لخيالك البراح ليكمل ما ترفض رؤيته..
وهو على حاله منذ ليلة أمسٍ، قابعٌ خلف مكتبه بصمتٍ، يضم وجهه بين كفيه بينما مرفقاه مرتكزان على المكتب، عيناه تنظر بجمودٍ نحو حاسوبه المستريح أمامه كأنما توقف الزمن.. لم يشعر حين فتح أحدهم الباب ودلف للداخل إلا حينما أتاه الصوتُ الأنثوي يخترق عزلته:
- دكتور إسلام.. يادكتور حضرتك سامعني؟
انتفض إثر نبرتها القوية، ظل يطالعها بصمتٍ زاويًا ما بين حاجبيه حتى عادت تثرثر:
- أوضه العمليات جاهزة يادكتور ومدام هالة وصلت.. مستنيين حضرتك بس.
هز رأسه ببطئٍ صامتٍ لتذهب بعدها مساعدته ونهض هو بعد ما أغلق الحاسوب وكأنه هكذا ينهي الأمر.. تحرك بعدها لغرفة التبديل بآليةٍ، وحينما انتهى توجه منها إلى حجرة العمليات.. أعطى إشارةً لطبيب التخدير ليبدأ مهامه وما إن انتهى حتى جاء دوره ليباشر عملية استئصال ورمٍ ليفيٍ لامرأةٍ أربعينيةٍ، بدأ خطواته بتمهلٍ مستعيذًا من الشيطان الرجيم وخياله اللعين لا يتركه لحال سبيله، بل يتجسد ويضرب ناقوس خيالاته رغمًا عنه، فيتجسدان أمامه بفعل عقله الباطن وتتوالى الأسئلة دون هوادةٍ.. هل أمسك بكفها وسحبها من بين الزفاف لتقضيَّ ليلتها تستمع لكلامه الغزلي المعسول الذي يعرفه حق المعرفة؟ وربما زادت الحميمية بينهما فاجتاحهم الشغف، وفعل -كما فعل هو- وتذوق رحيق شفتيها!.. وهنا وفي تلك اللحظة انتفضت يده، ولأولِ مرةٍ منذ أن بدأ يمارس الطب، فسقط ما بيده.. مسح جبينه المتعرق بظهر كفه والتقط آخرًا من يد إحدى مساعديه وعاد يكمل..
واللعنة!
يده لا تكف عن الارتجاف مع كل حركةٍ، في حين نظرت له إحدى الممرضات التي تجاوره بتوجسٍ وهمست باسمه عدة مراتٍ وكأنه لايسمع..! وبعد دقائقٍ قليلةٍ كان الصديقُ يقتحم الغرفة بعد ما أرسلوا في طلبه على الفور..
ليتقدم هاتفًا بقلقٍ:
- إسلام أنتَ كويس؟
وما إن خرج سؤالُ الآخر حتى نظر له بحدةٍ صامتةٍ، وعاد يكمل ما يفعل، ولم تمر ثوانٍ حتى قبض بدر على يده المنتفضة وقبل أن يتكلم دفع به بقوةٍ وهو يهتف بحدةٍ صارمةٍ:
- أنا كويس.. أخرج أنتَ.
وبعد برهةٍ قصيرةٍ كان يجذبه من تلابيبه يدفع به بقوةِ كفيه معًا في صدره لينتهي به الأمر خارج الحجرةِ وهتاف بدر الزاعق يفوق هتافه:
- في إييييه أنت إتجننت.. الست هتموت في إيدك!
ولم يزد بعدها حرفًا؛ ليعود للداخل مرةً أخرى يكمل ما بدأه صديقه ولم يتمه على أكمل وجه على غير عادته، بينما الآخر ينزع عنه كمامته بعنفٍ، يقذف بها أرضًا، من ثم يعود لوضعه السابق.
وبعد الساعتين كان يضرب الباب بعنفٍ ليقتحم خلوته وغضبه يزداد، لم يعيره أدنى إهتمامٍ لمنظره الرث، بل صرخ فيه بقوةِ غاضبٍ:
- عايز أفهم إيه اللي حصل ده وإزاي إيدك كانت ترتعش كده؟! كنت هضيع نفسك ومسقبلك يا مجنون.
منكسُ الرأس بينما أصابعه تتشابك من خلفها، ضاغطًا بقوةٍ فوقها.. تحدث دون أن يرفع له عينيه، و كانت نبرته ضائعةً، والسؤالُ مضطربٌ:
- حصلها حاجة؟
والجوابُ مزمجرٌ بلمحة عتابٍ:
- الحمد لله الحالة مستقرة بس كان إحتمال يكون في نزيف ومتاهات إحنا مش قدها.. دي روح بني آدم يعني الغلطة بفورة يا صاحبي.
رفع رأسه بغتةً يطالعه بعيونٍ جاحظةٍ، وكأن عقله يستوعب صدمته للتو:
- كان ممكن تموت بين إيديا يابدر.. كنت هقتل روح!
ودون كلمةٍ أخرى.. جذب سترته بعنفٍ غير آبهٍ لعلامات القلق التي انتابت صديقه وانطلق يخطو بخطواتٍ واسعةٍ لا يرى فيها غير السواد.
* * *
ترجل من السيارة وما إن خطى بخطواته، حتى أجفلته نبرته الحادة، تعلو باسمه والتي تحمل بين طياتها غضبًا لا يستطيع تقديره وهو يعلم السبب، وكيف لا وتلك في الأساس كانت هديته الأولى!
اقترب باسل بدوره يتطلع لقسماتِ أخيه القاتمة أو أجدر بالذكر المخيفة.. رغم أن نصف ملامح وجهه اختفت تقريبًا بفعل الضوء الخافت لكن النصف الآخر أظهر ما يجب أن يراه وقبضتاه المضمومتان بقوةٍ تعنيان ذلك..
إذن حانت المواجهة..!
وكان باسل هو المتحدث أولًا، نفسٌ عميقٌ، وهتافٌ أجشٌ:
- ناوي تتكلم ولا تتغابى؟
ولكمةٌ قويةٌ سددها لفكه كانت جوابًا كافيًا، ترنح للخلف على إثرها ثم عاد واتزن سريعًا ليردف تلك المرة بغضبٍ:
- يبقى قررت تتغابى.
وقبل أن يكمل ثرثرةً، كان الأكبر ينهال عليه بلكماتٍ مستعرةٍ بغضبٍ أهوجٍ تحط عليه أينما كان.. والباسل يتحمل ويتحمل رُغم آهات الألم الواهنة، ويهتف بثباتٍ:
- اضرب لو ده هيريحك..
ليزداد بعدها حنقه و يستعرغضبه أكثر وأكثر، وهو يزأر كأسدٍ حبيسٍ، ويصرخ فيه بعلو صوته وركبته تصيب معدته:
- ليه يا باسل تستندل مع أخوك.. ليه هي بالذات ليييييه؟!!
وجوابه خرج متقطعَ الأنفاس، واهنٌ، يوازي سقوطه على ركبتيه:
- ماكنش أعرف.. والله ما كنت أعرف أن هي غير يوم الخطوبة.
جذبه من تلابيب قميصه حتى نهض من جديدٍ، ينظر لعينيه ويطبق على عنقه حتى كاد يحبس أنفاسه من ثم يصرخ فيه بعيونٍ تقدح الشرر:
- وبعد ما عرفت عملت إيه؟ استغفلتوني!.. مش ناوي تنضف بقى هتفضل طول عمرك ندل وتافه..
وحينما أوشك على الإختناق من قوة قبضته حول عنقه، دفعه بعيدًا وهو يسعل بقوةٍ بينما جسده عاد يترنح ولسانه يهتف بحدةٍ:
- أنا عمري ما كنت ندل ومعاك أنتَ بالذات.
وكأن غضبه لن ينتهيَ الليلة، ولن تخمد ناره.. عاد، ولكمه بقسوةٍ من جديدٍ دون وعيٍ.. وتلك الأخيرة استهدفت أنفه مع صياحه القوي الذي اخترق السكون ودوى من حوله:
- أنا كنت هقتل روح النهاردة، عارف يعني إيه؟.. وأنتَ السبب.
تنافرت الدماء على سائر وجهه وطال بعضًا منها يد الغاضب.. ترنح وارتطم بطول جسده فوق الأرض الصلبة، بينما عيناه مازالت تقاوم حتى تحتفظ بآخر صورةٍ مشوشةٍ، وكلمات شقيقه الأخيرة تدوي داخل عقله..
قتل
روح
وهو السبب
وما أبشعها من كلماتٍ!
وببساطةٍ التقى جفناه دون أدنى مجهودٍ حتى ضاعت الرؤية تماماً..
والآخر يطالعه من علوٍ بجمودٍ، وهو يراه كالجثةِ الهامدةِ، والدماءُ قد لطخت سائر وجهه.. أنفاسه تستعصي، وتأبى الخروج حتى تريحه.. فقط تتحشرج داخل حلقه حتى باتت بهياجٍ مسموعٍ..
وفي تلك اللحظة.. خرجتا ساندي وشهيرة، تقتربان بذعرٍ بعد المشهد المخزي الذي شاهدتاه من الشرفة العلوية.. ومع رؤية أحد أبنائها ممدٍ دون حراكٍ، والآخر يطالعه بصمتٍ مكتفيًا بدور المتفرج.. صرخت فيه بذعرٍ:
- قتلت أخوك يا إسلام!
نظر لها بجحوظٍ من وقع الكلمة.. بينما اقتربت هي من الآخر تضم وتهتف بجذعٍ، تملس بأنآملها فوق وجنتيه وجبهته ببطئٍ.. وبعد حين تحركت يده تمسد أنفه، منطقته المصابة بفعل الثور الهائج ذاك، أخذ جفناه يفترقان عن بعضهما ببطئٍ، ينظر لعيني أخيه المستقرة فوقه فيدمدم بسخريةٍ:
- ماتخافش هو أينعم إيدك تقيله زيادة عن اللزوم بس لسه مامتش.
تحركت ساندي تتمسك بذراع الأكبر وتسأل بقلقٍ:
-حصل إيه يا إسلام علشان تضربوا بعض كده؟
ليتابع باسل سخريته:
-بعض! فين بعض ده؟ وكمان عمياء ياسو.
كان ينظرله من علوٍ.. يخترق عيناه وشعاع العسل المنطفئ  يخبره أنه قد خذله وحطم فؤاده لعدة شظايا، لا يعلم إن كان سيجمعها ويعود به لسابق عهده أم أن حطامه بات رمادًا.. واكتفى بصمته ليغادر بعدها المنزل تاركهم خلفه.
والآخر يستشعر خذلانه والألم الذي يحيا فيه بسببه.. زفر بقوةٍ في محاولةٍ للنهوض رافعًا ذراعيه هاتفًا بضجرٍ:
- قوموني..
طالعته شهيرة بنصف عينٍ بعد ما اطمأنت عليه لتغمغم في حيرةٍ:
- أنت عملت إيه علشان يتجنن عليك كده؟
عافر وتحامل على نفسه حتى نهض دون مساعدةٍ، تجاهلهم خلفه وسار بخطواتٍ ركيكةٍ.. فاقتربت منه ساندي تسانده قائلةً بامتعاضٍ هامسٍ:
- أكيد هببت مصيبة، إسلام مش هيتجنن كده غير لما يكون جاب آخره.. عملت إيه إنطق؟
- كسرت له قلبه.
خرجت همسته خفيضةً توازي ملامحه المبهمة.. فعقدت حاجبيها في عدم فهمٍ وهمت بطرح المزيد.. لكنه أوقفها بتعبٍ:
- هشششش مش عايز أسمع حرف.
دلف لغرفته وغادرت ساندي بأمرٍ منه.. استلقي فوق الفراش عرضيًا، ويده تعبث بجيب سترته الداخلي.. أخرج حافظة نقوده وسحب منها ما يخفيه عن حاله قبل أيٍ كان..
صورتها
يتأملها ويشبع جوع عينيه، يحادثها قلبه لا لسانه، يملس بأنامله كثبها الأسود الطويل "ليله".. الحالك وعشقه الأزلي الذي يتيه بين سواد خصلاته، فترتفع عيناه نحو "قمره".. عيناها أثيرتاه بنظرتهما المسكرة وأخيراً ضحكتها..
ليطلق بعدها تنهيدةً طويلةً ويهمس لصورتها كأنها تتجسد أمامه:
- لو تعرفي بس وحشتيني قد إيه ومحتاج لك قد إيه.
*  *  *  *  *
بدأت يومها بجرعة نشاطٍ لم تنلها من قبل، تستشعر حالها كفراشةٍ في نهار ربيعي، قلبها الأحمق يخفق بنبضاتٍ ثائرةٍ.. حتى ابنة الجارة تراها اليوم بوجهٍ مختلفٍ، كأن الكون وما فيه يزداد جمالاً!
استأنست بتلك المدعوة أماني؛ فهي عروسٌ وزيارتها تزداد مؤخرًا بفضل وصفات تالا الرائعة.. ومن بين ثرثرتهم الصاخبة التقطت أذنيها تلك الكلمات..
"دكتور بدر بيعشق حاجة اسمها ملوخية"
إذن فلتكن الليلة مميزة وضيف الشرف "ملوخية هانم"
أخذت خطتها قيد التنفيذ في التو واللحظة بقيادة الجميلة والمنقذة دائمًا وأبدًا أماني.. لكن قيادة نظرية تلك المرة.. أعطتها الوصفة وكررتها على مسامعها عدة مراتٍ قبل الرحيل.. وبدأ التطبيق العملي بأيدي الجميلة ذات الخصلات الذهبية بنفسها.. نفذت الخطوات بحذافيرها، وانتهت بحمد الله دون خسائر فادحة إلا من كأسين، وثلاث أطباقٍ حُطموا شر تحطيمٍ، لملمت الحطام المبعثر على عجلٍ تخفي آثار الجريمة بل تمحوها من الوجود..
واتصالٌ صغيرٌ مع حلول المساء و اقتراب موعد العودة..
"لا مفيش حاجة اطمن.. أنا بس حبيت أقول لك بلاش تأكل بره النهاردة.. هستناك نتعشى سوى.. أوك.. باااى"
ونفسٌ طويلٌ
فتأنقٌ سريعٌ
تبعه إعدادُ المائدة
فعودة سيد الرجال وحاجبه المرفوع بتوجسٍ، ونظرة عينيه المتعجبة كانا من أجمل ما رأت يومًا.. أما عنه قرر منح معشوقته أول قضمةٍ، لكن ملامحه المتغضنة فجأه تنبأ عن خطبٍ ما.. عاد سريعًا وتبسم برزانةٍ بعد ما أزاح المعشوقه بصحنها جانبًا واكتفى بهتافٍ أجشٍ:
- أنا هشرب شوربه.. ماليش نفس للملوخية.
حركت رأسها بقلقٍ، وهي تتابعه بصمتٍ.. وبدأ هو برفع أول ملعقةٍ.
سعلةٌ قويةٌ، فأخرى، وأخرى.. حتى كادت أن تزهق روحه، وهنا رغمًا عنه فقد أعصابه وهدر بعصبيةٍ مختنقةٍ:
- حرام عليكِ يا تالا سكر وشطة مع بعض!
عقب كلماته الصادمة تلك.. جذبت ملعقتها تتذوق صنع يديها، لترفع نظرها إليه في حرجٍ وتهمس بصوتٍ متهدجٍ:
- الأتنين أبيض واحترت بينهم.. فعملت حادي بادي.
رفع حاجبيه بذهولٍ، وهم بالنطق الحانق.. لكن بكائها المفاجئ أخرسه.. لِمَ تبكي تلك الحمقاء الآن؟!
لم تفعلها يومَ ذهب أبوها وتركها، ولا حين منعها عن ممارسة عملها، ولم تفعلها حين صرخ عليها مرارًا وتكرارًا.. دائمًا ما كانت ترتدي قناع الصلابة، ولو من باب العناد وتأتي الآن وتبكي لكونها أبدلت الملح بالسكر..! وأخيراً ترك تحليلاته الرهيبة واقترب منها بعد ما رقَّ قلبه لنشيجها الخافت، امتدت يده عنوةً دون سابق تفكيرٍ تمحي دمعاتها بأنامله وعيناه تتابع عينيها، عقد حاجبيه متسائلًا:
- ممكن أفهم ليه العياط دلوقت؟ محصلش حاجة يعني؛ عكيتي الدنيا المرة الجاية هتظبط.. وبعدين لو كل ما حاجة تبوظ تعيطي كده مش هنخلص!
قال آخر جملته بسخريةٍ مرحةٍ.. فسكنت شهقاتها قليلًا وهمست من بينها:
- أنا بعيط علشان جعانة.
لو أخبروه من قبلٍ أنه سيجاور يومًا ما امرأةً بعقلِ طفلةٍ، و تدعى تالا، تبكي وتشهق لأنها جائعة..  لكان دهس صاحب الخبر بإطارات سيارته دون رحمةٍ..! تنهد بيأسٍ ثم سحبها من خلفه، وسار بها إلى المطبخ، وبعد دقائقٍ كانت تتوسط الطاولة بمؤخرتها، تؤرجح ساقيها في تسليةٍ، بينما هو يرتدي مريول الطبخ فوق بنطالٍ بيتي مريحٍ رمادي اللون؛ يعلوه قميصٌ قطنيٌ أبيضٌ بأكمامٍ قصيرةٍ.. يدور هنا وهناك، يتلاعب بالأدوات بكل حرفيةٍ.. هل يوجد شيءٌ لا يجيد فعله ذلك الكائن؟
مالت رأسها بحالميةٍ وعيناها تبعث بقلوبٍ حمراءٍ من بين منبعهم الأزرق وهي تعيد وتكرر ذاك السؤال..
ولتكسر الصمت وتتلاعب مع ذاك الجميل هتفت مسرعةً:
- استنى ده سكر!
طالع العبوة في يده ثم تحرك نحوها ببطئٍ.. توقف قبالتها وارتفع حاجباه بنبرةٍ صارمةٍ:
- افتحي..
حملقت فيه دون فهمٍ، فحرك حاجبيه مرةً أخرى بإشارةٍ نحو فمها، فاستجابت لأمره صاغرةً وفتحته ببطئٍ وتوجسٍ، وقبل أن تعي ما يريد كان قد فرك من بين أنامله بضع ذراتٍ، فعبست قسرًا من الملوحة المذابة في ثغرها وهتفت عابسةً:
- أنتَ مؤذي قوي.
عاد لقدره يحرك محتوياته ببطئٍ مدمدمًا بإقرارٍ:
- وأنتِ متدلعة.
ضحكت بخفوتٍ من نطقه المتهكم لوصفها الذي حتمًا يليق بها.. انتهى أخيرًا من إعداد طبقين من المعكرونة الفاخرة، فمهما تغير الزمن تظل السيدة معكرونة منقذة الجميع..
لتصفق بمرحٍ وهي تسرع الخطى نحو الخارج استعدادًا لتناول وجبتها بعد جوعٍ مفرطٍ.. بينما هو يتمتم خلفها بسخطٍ، على الأقل تتفضل وتقدم الطعام هل يطهو هو ويقدم أيضًا!!
بأي زمان يحيا البشر!
لو يراه إسلام الآن لادخر نوباتٍ من الضحك لدهرٍ قادمٍ.. إسلام ذلك الأحمق خرج منذ الصباح، ولم يعد للمشفى مرةً أخرى، وهاتفه خارج النطاق.. ماذا به يبدو كمعتوهٍ اليوم..! ترك الأطباق بحنقٍ فوق المائدة طاردًا إسلام وغيره من تفكيره.. يكفيه تلك المتشردة التي تلتهم الطعام كمن لم يتذوقه منذ أيامٍ..
- همممم حقيقي أنت شاطر.. طعمها حلو قوي.. كل يوم عاوزين من ده.
- كل يوم من ده! وحضرتك هتعملي إيه؟
شردت بتفكيرٍ ثم قالت وهي تجيد تمثيل الجدية في كلماتها:
- طنط راوية عندها مقابلة بكرة مع أنكل مصطفى، من وراء أهلها ومحتاجة مساعدتي.. أصلها لسه مخطوبة سمعتها بقى وكده.. هي قالت لي وأكدت عليا ماقولش لحد وأنا طبعًا ماقولتش لحد خالص.
أنهت كلماتها بضحكاتٍ عذبةٍ تحاول كتمانها.. وعجزت ببساطةٍ جعلته يتبسم رغمًا عنه:
-ي ظهر كده الآنسة راوية والأستاذ مصطفى -الله يرحمه- كان حكايتهم حكاية.
- مامتك سكر قوي يابدر.. مش بزهق وأنا معاها.
- طبعًا مش حقل تجارب لهبل حضرتك.
رفعت حاجبيها هاتفةً باعتراضٍ ثم دفاعٍ:
- هبل! على فكرة بقى انا بعمل شغل أحسن من أي خبيرة تجميل.. أنت بس اللي  مش فاهم، أصل من زمان بعشق الميك أب وإتعلمت حاجات كتير من النت وكان نفسي قوي أكون خبيرة  وأفتح بيوتي سنتر.. بس بابا بقى هو السبب في دخولي مجال الطب وأنا أصلا مش بطيقه.
هتف بامتعاضٍ:
- كوافيرة!
كزت فوق أسنانها:
- خبيرة تجميل.
صمت قليلًا ثم أردف بتوجسٍ:
- بمناسبة سيرة بابا محاولش يكلمك؟
تلآشت بسمتها وتركت ما بيدها وهي تنهض قائلةً بخفوتٍ وإيجازٍ:
- لأ..  أنا شبعت هغسل الطبق بتاعي وبعدين أنام.. تصبح على خير.
لاحقت عيناه رحيلها حتى أغلقت بابها خلفها ببطئٍ.. مهما تظاهرت بالآمبالاة والنسيان.. بات يعلمها جيدًا ويعرف خباياها، تخلت عن كبريائها وعنادها التي ترعرعت عليهما خوفًا من أن يتركها بدوره كما فعلت والدتها من قبل ثم أبيها.. خافت من فقدآن مأوى بعد ما جردها أبوها من كافة حقوقها، وهي تعلم أنها بمفردها قليلة حيلة لن تفلح في شيءٍ.. هي تحتاج للسند والأمان كي تتفتح وتزدهر بكل ما فيها من حياةٍ، وصخبٍ، وما إن يحدث العكس تعود تذوي، وتذبل كأنها تغدو تائهةً، ضعيفةً بوحدتها.
*  *  *  *  *
دعني وجرحي فقد خابت أمانينا
هل من زمانٍ يعيد النبض يحيينا
يا ساقي الحزن لا تعجب ففي وطني
نهرٌ من الحزن يجري في روابينا.
"فاروق جويدة "
تعتلي فراشها ويهتز جسدها للأمام ثم الخلف في رتابةٍ، تقضم أظافر كفها بتوترٍ وبالآخر يكمن هاتفها الخلوي فوق أذنها وذات الرد يواجهها منذ الصباح، الهاتف مغلق ..
غادر المشفى باكرًا، هكذا أخبروها حين تسائلت عنه، حتى أنه لم ينتظرها ليتحادثا كما اتفقا ليلة البارحة.. قلبها يخبرها أن هناك خطبٌ ما قد حدث فتلك ليست عادته، لم يتناولا فطورهما الصباحي وهو لم يهتم بالأمر أو يعتذر كعادته أيضًا، حتى لم يهاتفها ولو لمرةٍ واحدةٍ منذ الصباح، وهي من كانت تغضب لكثرة إتصالاته ورسائله أثناء عملها وكان رده على غضبها ضحكةٌ عابثةٌ تحمر على إثرها خجلًا.
فكرت في مهاتفة ساندي.. لكن عادت وتخاذلت خوفًا من بث القلق في قلوبهم.. ربما كان الأمر عملٌ ما خارج المشفى وانشغل به قليلًا. قطع تفكيرها المضطرب رنين الهاتف بين يديها، وما إن لمحت اسمه يضيء فوق الشاشة جذبته من فورها لتهتف بقلقٍ:
- إسلام فينك قلقتني عليك!
- إنزلي..
لفظها باردةً.. جامدةً.. كفيلةً لجعل أوصالها ترتعد وقلبها يخفق بجنونٍ.. لتهمس متوجسةً:
-أنزل فين دلوقت! بابا وماما نايمين؟
- مستنيكي تحت البيت.. إنزلي.
وأغلق الخط..
لتطالع هي الهاتف مشدوهةً..! نهضت من فورها نحو النافذة تتأكد من وجوده، وما إن لمحت سيارته مصفوفةً هناك أمام البناية زاد خوفها وتحركت تلبي طلبه..
دقائقٌ قليلةٌ و كانت تستريح جواره داخل سيارته، تنظر لملامحه الشاردة وتسأل بقلقٍ:
- في إيه؟
لم يتحدث.. فقط ينظر أمامه نحو الفراغ بينما كفاه يقبضان على عجلة القيادة.. مرت بعينيها فوق آثار الدماء على كفه اليمنى وحين طال صمته، ولم يصلها ردٌ، أردفت وقلبها بدأ يفقد نبضاته تلقائيا:
-كنت فين طول اليوم، أنا طلعـ....
- لسه بتحبيه!
قطعت حديثها إثر سؤاله المباغت.. وصمتت تنظر إليه بجمودٍ.. بأنفاسٍ باتت مختنقةً..
- تقصد إيه؟
دار بجسده بغتةً، يخترق عينيها بنظراته الحادة ويهتف بجمودٍ:
- باسل.. لسه بتحبيه؟
واسترسل غاضبًا بقسوةٍ:
- كام مرة قال لك بحبك.. كام مرة رديت بـ وأنا كمان..!
انتفض جسدها وغشت مقلتيها العبرات، وهي تنظر له من خلف غشاوتها، وترى فيهما إتهامات.. آه وأين ذهب شعاع العسل! ماذا فعلتِ به لمار؟ اختنقت الحروف والكلمات داخل حلقها وانسابت دمعاتها أمام ناظريه تحرق وجنتيها وقلبها يحترق ألف مرة.. استدار بعيدًا عنها عائدًا برأسه للخلف في حين خرجت نبرته متعبةً بوهنٍ.. متألمةً:
- ليه يا لمار.. ليه تعشميني بأحلام أنتِ مش قدها، وليه أنا أحبك كل الحب ده، وليه أنتِ وباسل.. ليه تكسري قلبي وتقتلي فرحتي بيكِ.. ليه كل ده ليه؟
كانت تشهق مع كل سؤالٍ يخرج من بين شفتيه، وتسأل حالها بآخر..
"ولم حديثك كنثرِ الملح فوق الجراح"
محت عبراتها بظهر كفها هامسةً بصدقٍ:
- لو كنت أعرف إنه أخوك ماكنتش رجعت، وماكنتش عشمتك بأحلام أنا صدقتها قبلك، ولا كنت خليتك تحبني كل الحب ده، ولا كسرت قلبك وقتلت فرحتك بيا زي ما بتقول.. صدقني أنا نفسي ماعرفش ليه كل ده؟
عاد ينظر لها ويهمس بإتهامٍ:
- خبيتي..
- خفت.. خفت أخسرك.
التوى جانب شفتيه في سخريةٍ، فرفعت يدها تجذب كفه، تضمه بين كفيها الصغيرين وهمستها تلك المرة وازت دمعتها المنسابة بألمٍ ورأسه المرفوعة نحوها:
- خفت أوجعك زي ما وجعتك قبل كده.
كيف اجتمع بكِ الحب والألم يا امرأة؟
كيف تعتصرين قلبي عشقًا ووجعًا في آنٍ واحدٍ؟
منذ أن رأتكِ عيناي وأصبحتِ حلمًا جميلًا أحيى فيه..
لم طريق قلبك مليءٌ بالعثرات.. وأي ظلمٍ هذا يكون؟
سحب كفه من بين يديها هامسًا بخفوت:
- إنزلي يا لمار.. إمشي.
لم تنبسْ بحرفٍ، فقط أذعنت لطلبه بصمتٍ.. استدارت على صرير السيارة المنطلق بقوةٍ لتسرع الخطى عائدةً إلى فراشها.. تدفن رأسها بين ساقيها وتضم نفسها بذراعيها.. تنتحب وتشهق بينما قلبها ينزف ألمًا يواسي  قلبه المطعون، أخيراً اجتمعا سويًا لينثران الثرى فوق مرفأ الوجع..
وتهمس لحالها بكلماتٍ متقطعةٍ مصدرها صميمُ قلبها:
- وأنا قلبي حبك.. والله حبك.
*  *  *  *  *
(بعد أسبوع)
عاد بعد أسبوعٍ كاملٍ قضاه في بلدته الريفية، بين أحضان جدته التي تواسيه وتربت بحنوٍ دون أن تعلم سبب حزنه، تقصُ عليه حكاياتٍ من الشرق ومن الغرب وهو يستمع، ينصت لها بصمتٍ، يتبسم بهدوءٍ وسكينةٍ.. ترك مشفاه وغادر عروس البحر بأكملها.. كان يحتاج وقتًا طويلًا كي تهدأ روحه وتسكن آلامه حتى لا يؤذي حاله ومن حوله.. وكانت رحلته ذات أثرٍ طيبٍ على نفسه بعد ما حصل على السكينة لبعض الوقت.. لكن  العودة حتمية مهما طال البعد أو قصر، كان لا بد من العودة؛ حيث مشفاه ومرضاه الذين أهملهم ورمى بكافة الحمل على عاتق بدر الذي يتحمل لأجله الكثير.
بعد يومٍ طويلٍ مليءٍ بأحداثٍ عديدةٍ عاد لغرفته، خلع عنه سترته تاركًا إياه فوق الفراش وتحرك ناحية الصوان، استوقفه أزيز الباب ودخول آخر شخصٍ يتمنى أن يراه في تلك اللحظة، لذا زعق مسرعًا مشيرًا  بيده نحو الباب:
- اطلع بره يا باسل مش ناقصك..
والآخر يتقدم بإصرارٍ، سيتحدث وسيسمع رغمًا عنه:
- إسلام ممكن تهدى وخلينا نتكلم بالعقل من غير عصبية.
ضرب الصوان بقوةِ كفيه، وهو يهتف فيه غاضبًا:
- أنت إيه يا أخي مابتحسش!
شوح الآخر بيده في الهواء وهو يغمغم  بنفاذ صبرٍ:
- لوعايز تتجوزها روح ماحدش هيمنعك.. ولو هتسمع مني يبقى بلاش.
زمجر بحدةٍ وهو يسأل بهياجٍ:
- بلاش ليه؟
- بلاش وخلاص البنت دي لا تنفعني ولا تنفعك.
والثوانِ التالية كان يقبض على تلابيبه ويصرخ فيه من جديدٍ بإصرارٍ لا يفهم كنهه:
- بلااااش ليه يا باسل!!
حاول فك وثاق كفيه وهو يبادله نظراته الحادة.. ازدرد لعابه وأجاب دون خجلٍ:
- يعني أكيد مش هتتجوز واحدة مشيت مع أخوك!
ارتخت أنامله ببطئٍ و تراجعت خطواته للخلف بينما عيناه مصلبةٌ عليه وأنفاسه مهتاجة حد الألم..
اللعنة عليكَ باسل!
من أي طينةٍ أنتَ؟
كيف تتبجح وتتذرع بالنذالة هكذا بكل بساطةٍ!
همهم وتعابير القرف تخط فوق ملامحه:
- أنتَ إزاي حيوان كده..؟!
ودون إضافة حديثٍ مطولٍ.. فقد ملَّ وبات الحديثُ معه ماسخًا بمرارة العلقم وليته يجدي، تقدم نحو سترته جذب شيئًا ما وعاد يخطو إليه، سحب كفه بقوةٍ واضعًا بها حلقة ذهبية مزينة بحجر ماسي ظنه يومًا رباطًا جمع بينه وبين من تمناها.. ليهتف بعدها ونبرته خرجت ساخرةً بمرارة:
- فكر كده كويس يمكن تحن للماضي وتلاقيها تنفعك.
ثم رمقه بنظرةٍ أقرب للإحتقار، توازي ضحكته الساخرة واستدار تاركًا له غرفته.. ما إن خطى في الرواق حتى كان الآخر يتبعه، وقبضته تعتصر حلقة عشق أخيه.. كيف يخبره ويزرع بعقله الصلد هذا أنه لم يخفِ الأمر إلا لأجله لا لشيءٍ آخر وحين يطالبه بالعزوف عن الزواج منها ذلك لا يعني أبدًا أنه يبغيها لنفسه.. جذبه باسل عنوةً من ذراعه حتى أوقف خطواته فالتفت له  وكل منهما يكاد يقتل شقيقه بنظراته الحادة.. حآن دوره ليتكلم ويصرخ فيه؛ فقد ملَّ خيالاته الشيطانية التي تتحكم فيه وترسم له خيالاتٍ سوداءٍ تكاد تفتك به، وهو مازال على عناده يستمع لها ويحللها كما يريد وقد بات إحتمال الإتهامات ثقيلًا..
قاطعهما صوت شقيقتهما المنبعث من الرواق على بعد خطواتٍ منهما:
- لا يا بنتي كده أحلى فعلًا، طيب ثواني يا فرحة خليكِ معايا..
رفعت بصرها تقلبه بينهما.. ترمقهما بازدراءٍ، وهي ترتشف من مشروبها البارد رشفةً صغيرةً قائلةً بزمجرةٍ:
- في إيه.. واقفين كده ليه؟ أنتم هتتخانقوا تاني..!
وعادت تلتقي نظراتهما بشراسةٍ ليتقدم -أحدهما- نحو ساندي بعزمٍ لا يقبل التراجع، يخطف الهاتف من بين أصابعها و..
- فرحة.. تتجوزيني؟

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن