الفصل السابع والعشرون

66 0 0
                                    

(27)
فيينا

" ناضلي من أجل جامعة ترغبين بها.. وظيفة تتمنيها.. فستان يليق بك.. ناضلي من أجل كل الأشياء واتركي الأشخاص يناضلون من أجلك ..
وأخيرًا ..
امنحي من حولك عطفك وحنانك.. اغتنمي من بسماتهم قبسًا من السعادة فذلك يشرح الصدر ويبعث البهجة..
كوني بائعة للسعادة وستسعدين .. فالود يجلب الود والحب يجلب الحب ..
فقط كوني..
[ حواء كما يجب أن تكون ]

بتلك الكلمات ختمت رسائلها لحواء وآلاف الحواء من حولها ، شهور وهي منكفأة وبين أناملها قلما تخط بحبره كل ما يقيدها و يسلسل روحها فتتخلص منه وتحررها.. فالحالمة باتت حرة .
كل ما حدث معها في أيامها الأخيرة كان كالحلم ، بداية من تلك المرأة التي توسطت منزلها أو بالأحرى غريمتها.. فبعد كل ما كان وجرى فضل عليها ساقطة! إحدى رواد الملهى الليلي.. تزوجها بعقد عرفي أو رسمي لا فارق الأهم أنها باتت محطة مهملة ، بضاعة مستهلكة ومنتهية الصلاحية بالنسبه له.. ولم تكن لتغضب أو تصرخ كغيرها تطالب بحقها في زوجها او تتزين وتتجمل كما هو العرف حتى تعود به لبيته ولا تترك لأخرى فرصة بالفوز.. عذراً فقد فات الاوآن وعريت الأرواح ، هي لم تغضب ولم تسقط دمعة واحدة من محجرها فهو بلا رصيد من الأساس ، بلا قيمة تنعي خسراتها وتتحسر على فقدانها ..
ودعم أبيها لها لم يكن محض صدفه أو معجزة سماوية هبطت فبدلته ، بل كان سوء اختيار وضع الزوج الخائن في موضع شبهات ، وفي النهاية أختار الساقطة هائماً معها في دنياها بعد ما فضلها على إبنة العم وصغيرته ..
والمحصلة؛ مطلقة مع مرتبة الشرف .
خرجت من شرودها حين تذكرت أمراً ما ، غاصت في عالمها فنسيت حالها وصغيرتها.. تركت القلم من بين أصابعها وتناولت هاتفها .. مهاتفة سريعة اطمأنت من خلالها عليها ، فهي لا تلبث أن تغادر منزل خالتها حتى تعود له من جديد بجرعة توسل وترجي من قبل الخالة الحنون .
وعنها..أصبحت تتخذ من سطح البناية خلوة تخصها.. تخرج أجمل ما فيها وتخطه فوق صفحات ..
طالعت أوراقها فوق المنضده بابتسامة ناعمة ثم عبثت بأزرار هاتفها قليلا لتصدح منه ألحان هادئة تشبهها.. نهضت من جلستها ، فكت وِثاق شعرها فتطايرت خصلاتها وتناثرت بعشوائية فوق صفحة وجهها .. بدت في الدوران حول نفسها أكثر .. وأكثر .. خطوة واسعة لليمين وأخرى لليسار وتدور من جديد .. تضحك وتتبسم لحالها بعينين مغمضتين.. تتخللها نسمات الهواء فتستشعر حالها بوزن ريشة تحلق نحو البعيد .. نحو خيالها الجامح .. نحو غد وبعد غد ستبنيه وتحلم به كما تريد وكيفما تشاء .. غد صور بها وبصغيرتها وسلامها النفسي الذي تحياه ..
افترق جفنيها بتباطىء وهي ترتكز ببصرها نحو السماء الصافية وتهمس لنفسها بشجن
"غربلي يا أحزان القلب وتساقطي فقد مضى زمانك "
* * * * *
-يا ابن المجنونه !
هتف بجملته لنفسه ضاحكا اثناء تصفحه السريع لهاتفه ، بعد ما تفاجأ بأخبار أخيه تزدحم بها مواقع التواصل ..
صباح اليوم التالي لزفاف شقيقته كان يغادر أرض البلاد منها إلى لندن.. فليبتعد فترة.. شهر ، إثنين، أو ربما أكثر إن لزم الأمر ، ولم يكن والداه ليعترضا فقط كان الصمت حليفهم حين أخبرهم بقرار سفره ورحيله عنهم ، وعلى ماذا يعترضان بل هما من الأساس كانا يرغبان بذلك ، بل لو أمكنهم محو تلك الفتاة وكل ما يخصها من قلبه وعقله حتى ذاكرته فلا يربطه بها حتى طيف ، ولأنهما على يقين بمحال ما تمنيا ساندوا قراره على الرغم من صعوبة الأمر عليهم ، فالآن بدلاً من غياب واحد طيلة الوقت أصبح الأثنان غائبين على الدوام والأخيرة تزوجت بدورها ، وغدا المنزل فارغ إلا من فرحة وإياهم ...وعلى ما يبدو سيعاني كثيرا فتلك أول أمسياته والأكثر مللاً على الإطلاق منزل راقي بطابع أوروبي ، يغلفه البرودة وتسكنه الوحدة ، لا صوت لبدر المتذمر على الدوام ، ولا مرضاه الذين كون معهم علاقات قوية على مر السنوات ، غابت تدخلات ساندي البغيضه وأنفها المحشور بأدق تفاصيله ، ولا وجود حتى لدعابات باسل السمجة.. وحتماً لا عبق لحبيبة يفتقدها يفوح في الأركان .. فقط ركود مثقل يثير ضيقه أكثر ..
زفر بقوة .. تخلى عن هاتفه من بين أصابعه بإهمال ، رافعا ساعده فوق عينيه..
وبضع دقات على الباب أجفلت شروده ، فنهض من أعلى الصوفا بتكاسل ، مستقبلا الطارق .
جسد نحيل بعض الشئ بدرجة رياضي مع بشرة سمراء تعلن عن شرقيتها على الرغم من سنين الهجرة وعناق طال قليلا باشتياق.. ابتعد بعدها الرجل هاتفا بمشاكسة:
-روح أستر نفسك الاول ؛ تيشرت ولا حتى بشكير كده هنتفهم غلط يا أوس.
أغلق الباب وتبعه للداخل مبادلاً زائره الضحكات.. التقط قميصاً قطنياً من بين حقيبته الموضوعة بإهمال منذ وصوله يرتديه على عجل مغمغماً بدوره:
-حبيبي يا إتش واحشني يا باشا .
تمدد هشام بأريحيه فوق الصوفا مخبراً اياه:
-انا والله ماصدقتش أول ما شوفت المسج بتاعتك ، بس تعرف أحسن حاجه عملتها يعني بلد نضيفه .. هواء نضيف .. حياة مختلفه تنسي الجن الأزرق اللي عاوزه ..وبكره تقول هشام قال
هتف بدوره:
-أديني مشيت وراك يا عم هشام اما نشوف أخرتها إيه ؟.
-أخرتها عنب .
غمغم مستنكرًا:
-عنب ! في رجل أعمال قد الدنيا ومحترم يقول عنب ؟! فضحينا يا مصرين فين ما تروحو
همهم من بين ضحكاته:
-الأصل باقي يا دوك .. طمني على باسل أخباره إيه دلوقتي ؟
تحرك نحو المطبخ يدور فيه ويقهقه بجذل حين تذكر ما رأه منذ قليل أثناء تصفحه ؛ مخبراً إياه:
-أحسن مني ومنك.. إفتح فيس ولا أنستا وشوف آخر أخباره.. البيه بيتصرمح ومقضيها.
تقدم بإتجاهه ضاحكاً بجذل:
-هو اخوك على طول كده فاضح نفسه... المهم بقالك ساعة بتلف حوالين نفسك ليه؟
-عاوز أعمل لك حاجة تشربها بس مش لاقي أي حاجة .. البيت لسه فاضي.
- لا سيبك من حوار تشرب وتأكل ده وروح خد شاور وفوق كده علشان هننزل .. سهرة صباحي على شرفك يا باشا .
حك إسلام ذقنه النامية مغمغماً بتحذير:
-هشام أنا مش حمل سهراتك.. سيبك انت من الجو ده أنا اصلا عندي شغل الصبح.
ضرب هشام كفيه ممتعضاً هاتفاً فيه:
-يابني إرحم نفسك شوية ايه شغل شغل ، هنرجع يومين بس من إياهم بعدين هنرجع لشغل هيروح فين يعني.
تنهد في يأس وهتف بآخر كلام :
-طيب ماشي ننزل نسهر بس مش عاوز أي حاجه من إياهم وفعلاً لازم أروح المستشفى الصبح علشان أقابل الراجل اللي مستنيني وأشوف نظام الشغل هيكون إيه .
وافقه بهزة رأس فانصرف بعدها للداخل.. فقد كان هشام صاحب فكرة تركه للبلاد ، يتمنى بصدق أن يخرجه من تلك الحالة التي يمر بها ، على الرغم من تلك السنوات القليلة على معرفتهم أيام دراسته بلندن لكنها كانت كافية لتربط بينهم بعلاقة قوية على الرغم من اختلاف مجالاتهم ، وحين وصلته رسالته الخاصة المعلنة عن قدومه مرفقة بالعنوان لم يكذب خبرا وأتى له على وجه السرعة بدون مهاتفه حتى ، لطالما كانا لبعضهما خير رفيق في أيام الغربة ومازالا.
* * * * *
ليالي الأنس في فيينا نسيمها من هوا الجنة
وهي لم تكن كليالي الأنس.. كلا بل هي ليلة بألف ليلة في فيينا ، انتهت بهم فوق رمال أحد شواطئ تلك المدينة الساحرة.. المياه الباردة تروح وتجيء مداعبة أطراف أقدامهم بينما القمر يتبسم بخجل والنجوم ساهرة لأجل عشاق الليلة وربما البلدة بأكملها تشدو بمجانين نثروا بصماتهم في الأجواء..
ألم تمتعض وتحزن رغبة وحسرة على حفلة زفاف تمنتها ولم تحظَ بها ، وهو لم يكن كاذباً حين أخبرها مسبقاً أنها ستحظى بما هو أجمل.. وكان لها ما تمنت . اختطفها عنوة عقب زفاف شقيقته مباشرة ، وكلما انتابها الفضول وتسألت عما ينتوي كان يخرسها بقبلة ، فكانت تصمت وتستكين متعلقه بذراعه وهي ترى داخل عينيه لمعة سعادة.. وبين زوبعة مفاجآته انتهى بها الأمر فوق مقعد طائرة حيث الدرجة الأولى ولا يكفي بل تخص باهتمام خاص لها وحدها.. كيف لا وهي زوجة القائد العظيم؟! ولم يكن الوقت مملاً بالنسبة لها كما تخيل فقد أمضت الوقت ورأسها تتمايل تباعا لتنانير المضيفات القصيرة وقمصانهم الملتصقه بحنايا أجسادهن بإغواء.. وبعد حين أتت لها دعوة بالتقدم إلى غرفة القيادة وهناك لأول مرة رأته داخل ذلك الإطار ، رأت رجلاً تفخر أنها تنتمي إليه ، تسكن قلبه ونبضاته نبضه.. نبضه ، استأذن الرجل المجاور له مغادراً على عجل فتقدمت هي حتى جاورته في وقفتها، فجذبها عنوة حتى سقطت فوق ساقيه.. رفعت ذراعيها عاقدة إياهم خلف عنقه مع همس دافىء:
-باسل..
داعب أرنبة أنفها وخرج رده متنغماً بعبث:
-نعم يا حبيبي نعم ..أنا بين شفايفك نغم.
برمت شفتيها بدلال هامس :
-المضيفات هنا حلوين قوي !
أغمض عين وترك أخرى أثناء جوابه :
-بصراحه آآآآه .
وال " آه " الطويلة خاصته جعلتها تعبس بضيق وهي تبادله نظراته بأخرى صادمة من جديته .. فزفر بحنق مردفا:
-يعني خاطفك وعامل لك جو سبنس وحركات وجايبك بين السحاب علشان أقول لك حاجه مهمة.. وفي الآخر تقولي لي المضيفات حلوين ! ما ده شئ مفروغ منه يا فرحة ولا حبكت تنكدي دلوقتي؟!
استشعرت خطأها فهمَّت بإصلاح الموقف على عجل:
-خلاص إمسح اللي فات ده .. وقول حاجتك المهمة.
-لا إنسي .. فصلتيني .
وبعد وصلة دلال وغزل تليق به منحها ما أرادت :
- بحبك
تبسمت بخجل حقيقي ، ليس لأن تلك أول مرة ينطق بها لسانه ، بل لأنها تحمل معها تلك النظره التي تشعرها أنها تحلق فوق السحاب.. وهي بالفعل فوق السحاب وبين أحضانه ويعترف لها بعشقها.. ماذا تريد بعد ؟!
ودائماً ما يكون جوابها في تلك اللحظات هي الاستكانة والركون فوق نابضه تستمع وتطرب بدقاته المتسارعة لأجلها.. ثم تهمس بها شفتيها بشجن وشغف يتجدد كلما حاوطها بعينيه ودقاته.. وبغتة قطع جلستهم الحميمية الغير محمودة العواقب بصفير عالٍ فاقتحم خلوتهم طاقم من المضيفات الحسناوات؛ المتبسمات بهيام.. ساعدها على النهوض من فوق ساقيه من ثم دفع بها نحوهم ببطء مع غمزة وجملة مقتضبة:
-إستلمو بقى عاوزها .. ع ر و س ة
نطق آخر كلمة بحروف متفرقة لغرض التأكيد وقبل أن تعي هي ما يحدث جذبتها الفتيات عنوة لإتمام ما طلب منهن دون السماح لها بحديث.. وحين تم الهبوط بحمد الله كان هو من ينتظرها.. طلت عليه بثوب أبيض هفهاف يلتف حول حناياها بنعومة ، جزؤه العلوي تناثرت فوقه الوردات الصغيرة بينما السفلي أكتفى ببضع طبقات من الشيفون الناعم مع ذيل صغير ، خصلاتها الليلكية الكثيفه تم تصفيفها على شكل عقدة كبيرة فوق رأسها تجاورها الوردات الصغيرة.. كانت عروساً كما طلب ورغب ، ومن جهته كانت بذلته الرسمية أكثر من جذابة لتعطيه الهيئة المطلوبة .. وكما دفعها هو لهن من قبل ؛ فعلن المثل عائدين بالجميلة لفارسها لكن بقوة جماعية أكبر.
تعثرت
وسقطت
فتلقفها هو بصدره وذراعيه
وما إن استقامت على قدميها تبسم لها برضا وامتدت يده من فورها نحو خصلاتها.. تخلصها من قيدها ، فينساب كثبها الأسود الطويل فوق قدها بسحر ، تخلل أصابعها بأنامله وهمس بشغف:
-كده أحلى
من ثم ودع الجميع على عجل وزغاريد المباركة تصدح في الأرجاء بزفة خاصة تليق بالكابتن إبن الشافعي ؛ داخل صالة المطار..
وعن حفلة العرس فقد كانت بدعوة عامة.. بين شوارع فيينا ، يجوبانها سيراً بضحكات صاخبة أثارت الدهشة والتعجب في أعين قاطني البلدة.. بينما هما يحلقان في عالمهم الآخر غير آبهين لغيرهم ، يتغنى هو بتلك الكلمات التي خصها بها منذ أن وقعت على مسامعه فباتت لا تغادر قاموسه الغزلي :
على حبك عندي 100 إثبات
شوقي مثلا بان في عيني ساعات
وبخاف وبغير خد من ده كتير
وإن سيرتك جت بنطق بالخير
وطبعك خدت منه حاجات
وأخبارك مَعَ التَّفَاصِيلِ أَحُبَّ أَسَمْعَهَا بالتفصيل
مَادَامَ أَتَفَتَّحَتْ السِّيَرَةُ أَخَدَّ وَأَدِي لِنَصَّ اللَّيْل
في حبك كل يوم في جديد ولو توحشني وإنت بعيد
بالإحساس بنتلقى مفيش حاجة إسمها مواعيد
لكزها في كتفها بخفة فتابعت هي بعد نحنحة خجلة من عيون البشر المتابعة.. وهمسها الشجي أخذ يعلو رويدًا رويدًا بإنسجام:
لَوْ أَقولَكَ الْكِلاَمَ هيطول حِسَّ اُنْتُ شوف بِعَيْنَكِ دُوَلَ
فِي كَلاَمِ عَادِي يتقال لِلْنَاسِ وَكِلاَمَ أجمل يتقال إحساس
بيوصل لِلْقُلُوبِ عَلَى طَوْل
في حبك كل يوم في جديد ولو توحشني وإنت بعيد
بالإحساس بنتلقى مفيش حاجة إسمها مواعيد
تعبقت الأجواء بألحان شرقية ورقصة أولى مجنونة بين حلقة بشرية هائمة معهما..وختم الحفل بأخرى فوق الشاطئ على سيمفونية بحرية عزفتها الموجات المتلاطمة وعناق نظرات طالت بصمت.. والليلة ستنتهي بجنون كبدايتها إذ اتخذا من الرمال موضعا ، افترق جفناه على إثر همستها الخافتة:
-إوعدني ..
دار برأسه قليلا يراقب سكونها لثوان ، فاعتدل على جانبه مرتكزاً فوق مرفقه بصمت ، وعلى الرغم من جفنيها الملتقيين بهدوء وسكينة شعرت به يحثها على المتابعة ..فأردفت بشجن وهي تفتح عينيها .. تلتفت له بدورها فيقابلها وجهه المشرف عليها:
-إوعدني إنك تفضل معايا على طول وإنك تخلي بالك من نفسك علشاني.. وعلشان تسمع الكلام الكتير اللي لسه عندي ليك.. ونعيش الليلة دي من تاني.. وعشان يكون لي منك ولاد وبنات كتير نربيهم سوا ويكبرو قدام عينينا.
صمتت لثوان ثم تابعت همسها وروحها تمتزج بروحه دون لقاء:
-وعلشان أنا ماليش حد غيرك .. وقلبي بيتنفس بيك .
همسها كان كمخدر دفع داخل أوصاله فهربت منه الكلمات والتعابير.. فمال برأسه قبل العينين ببطء ، الجبين والخدين ، الفك والنهاية لشهد الشفتين.. وهمسته الدافئة تحررت أخيرا من بين أنفاسه المتمرغة داخل عبق خصلاتها:
-أوعدك.
* * * * *
( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً )
غادرت العجوز المريضة حياة الدنيا إلى دار الحق ، توارى جسدها بالثرى ورحلت روحها لبارئها.. غادرت الأم الحنون تاركة إياه خلفها تائهاً ، شارداً ، ضائعاً بين دهاليز ذكرى زينتها صورتها وصوتها ، ربما ازداد مرضها وأصبحت أكثر حملاً وثقلاً فوق كاهله لكنه والله ما أشتكى يوما ولم يكن ليفعلها ، إن تناست هي ذكرياتها؛ أيامها وحنوها عليه وعلى أخيه الجاحد يوما لم يكن لينسى هو ولو بعد ألف عام.. في صحتها ومرضها كانت له كالبلسم ترطب روحه وتسقيه الحنان في كؤوس ولم يظمأ أبدا حتى بعد غياب والده منذ زمن.. كانت إمرأة بمئة رجل ، ربت رجلين حتى بلغا أشدهما فنالت حصاد تعبها؛
الأول.. فاسد وجاحد لم يكبد نفسه عناء القدوم حتى يلحق بموكب أمه الراحلة ، وحسرتاه على هكذا رجل..
والثاني.. انكفأ فوق سجادة صلاتها وبين يديه وشاحها يشتم عبيرها فيه ، يبحث عن بقاياها ، يأنب ويلعن نفسه على انشغاله الدائم.. لو فقط يعود الزمن لكان قبل الرأس والقدمين ، لطلب الصفح وأخذ الرضا مفتاح الجنان..لكان وكان.
وعلى بعد خطوات منه خلف إطار الباب الموارب كانت تراقب جلسته بسيل من العبرات تخط طريقها عبر وجنتيها.. لم تكن أحسن حالاً فتلك العجوز الطيبة كانت بمثابة نسمة باردة هبت وسط حياتها الجافه فعبقتها ، رأت فيها أماً حرمها منها الدهر وجدة تحنو عليها وتربت ، تقص عليها الحكايا فتضحك وتطرب بحق ،تناوشها وتصطحبها لعالمها فباتت جزءاً منها.. ولن تنسى أنها كانت لها الطريق الممهد التي عبرت منه لقلب إبنها فباتت ترى لمعة عينيه حين يراهما سوياً ، بسمته الراضية عنها حين تقوم بعمل ما فيعود لها بحنو أضعاف مضاعفة لما قدمته..
بسمته التي غادرته منذ تلك الليلة المشؤومة ، حين سقطت من نظره وهزت ثقتها بيديها ، لا تعلم بما تفوه ذاك الحقير حتى ظل على صمته فقط يبادلها نظرات مؤلمة تخبرها بوضوح أنها خذلته ، هدمت بلحظة ما بناه هو منذ أول يوم جمعهما سويا تحت سقف واحد.. لم تعي بحالها إلا وهي جاثية أمامه تتمسك بكفيه ، تبكي حالها وتناجيه ، تتوسله عله يمحي تلك النظرات ، هي ليست بخائنة ولا بائعة لرجل تفديه بعمرها كله ولا يكفي .. ترغي وتزبد، توضح وتنفي ما يدور بباله ، كانت فقط تساعد أختها؛ تنتشلها من ورطتها كما طلبت ، أتت لها ضائعة ولم تكن لتتنكرها ، لكن دائما كان هو أول حساباتها فلم تكن لتلوث إسمه أو تطيح به بأي شكل من الأشكال ، تجاهلت وابتعدت وتركت الساحة حين علمت أنها هي المبغية ، وحين عاد من جديد جبنت وظنت في لحظات حماقتها أنها ستنتهي من تلك الدوامة التي سحبتها نحو الأعماق ، ولم تكن تعلم أنها قد غاصت في الأوحال إلا حينما كسر صمته دون أن ينظر لها و همس بلا حياة.
"كنتي هتروحي له بيته ! "
لم تدري آنذاك إن كان سؤال أم إقرار ، كل ما أمكنها فعله التشبث به أكثر والرفض برأسها ودموعها التي زادت مع عينيه الزائغه بعيدا عنها..
من ثم غادرها.. تركها وحيدة مع بلوج الفجر تقطر ألما وينهشها القلق حين طال غيابه ، فقد رحل ليل طويل واقترب آخر يترنح وهو لم يعد بعد.. وبعد حين أتى لها الجواب في مهاتفة أختها.. تهجم على" كريم النحاس "داخل حصونه ونفوذه، بل في حجرته الخاصة ولم يتركه إلا بعد ما هشم له عظامه وأجهزته الذكية فوق رأسه وتهديد علني صرخ به بين الجدران حتى حفظته قبل البشر، بأن يتجرأ ويمس ما يخصه فليفكر فقط وحينها سيرى..
ونتاج فعلته؛ بات ليلته خلف قضبان الحبس او ربما هو نتاج حماقتها ، وأختها ما زالت تصرخ وتضحك بجذل فقد زالت الغمة وهياج الحقير الراقد فوق فراش مشفى عبر شبكات الهاتف يعلن خسارته.. قطعت الاتصال بغته دون حديث وانكفأت على حالها تبكيه ، تنوح وتلعن رعونتها.. فكرت سريعا ولم تجد غير " مراد " حتى تهاتفه تطلب منه العون ، لا يوجد غيره تستعين به فصديقه المقرب خارج البلاد والرجل لم يخذلها وعاد لها به بعد ساعات أخرى كادت فيها أن تموت كمداً.. عاد بحالة يرثى لها ، ملابس غير مهندمة ، وجه شوهته الكدمات.. ولم تكن لتطلب إذناً حتى ترتمي بين ذراعيه ، تتحسس جروحه بأناملها ودموعها لا تنضب فقط تهطل وتقدم أسفاً ، تقسم ألا تعيدها.. وهو جامد لا يتحرك وحين صمتت ولى ظهره عنها وتركها من جديد بيدين معلقتين في الهواء ودمعات أصابها الجمود داخل محاجرها.. وليته يصرخ ؛ يعنف أو حتى يضربها لا يهم فصمته المطبق لأيام بمثابة موت بطيء ، يغادر باكراً ويعود متأخراً وأخرى لا يعود أبدًا ، يعاملها كأنها لا شئ.. نبذها منه وباتت لا شئ.
وكأن المصائب تجلب البعض فتأتي تباعاً.. فجاء فراق العجوز كالقشة التي قصمت ظهر البعير.. وعلى الرغم من كل ذلك ما زال على صلابته ، تلقى الخبر بقوة.. حضر الغسل وورى فوق جسدها الثرى بيديه.. مرت أيام العزاء الثلاثة كدهر مثقل وهو على قدميه يستقبل المعزيين بين الغادي والرائح ، يقوم بواجباته كإبن على أكمل وجه.. حتى نفذت ذرات الصلابة وخارت قواه تماما وها هو فوق سجادتها يترك لدموعه العنان.. ليتعايش مع يتمه من جديد .
اقتربت بخطواتها منه حتى جثت أمامه ، تراقب عبراته المنسابة من بين جفنيه دون إرادة منه مع نشيج خافت يجاهد لخنقه فيتعثر بغصه ، فلا تملك غير مشاركته مُصَابِهِ .. فلم تكن تعلم أن الرجال يبكون سوى في لحظتها تلك ، فجميع من عاصرت معهم حياتها من قبل تشك أن لديهم القدرة على الوجع وإحساس الفقد.. جذبت برفق الوشاح من بين كفيه ، وحين لم يرفع رأسه اقتربت هي وضمته لصدرها .. تهمس له كما كان يفعل معها دائما:
-أنا معاك.
وفي لحظته هو أضعف من أن يبتعد.. فقط شد على ضمتها واستكان بين ذراعيها.
* * * * *
أخطأت يوم ظنت أنه قد أكتفى من الهجر والجفاء.. بعد ليلة بأكملها سكن ذراعيها وشهدت أكثر لحظاته ألماً وضعفاً بين ضلوعها ، لكن حينما شق الصباح أنفاسه ورأت مكانه خالياً ، أيقنت أنه ما زال على حاله ولن يعود لها بذلك اليسر.
وجفاؤه طال.. طال وقسى أكثر لأيام وليالي حتى باتت الوسادة ملاذاً والدمعة ونيساً.. تعاتبه بنظراتها على إبتعاده وهجره القاسي ولا تقوى على حديث.. شعورها بأنه يتحاشاها قدر المستطاع كأنما لا يطيق حتى الحديث أو النظر لها كاد أن يقتلها ، تنوي مواجهة فيقطعها هو دون بذل جهد، يكتفي بركون داخل غرفة والدته الراحلة وخلف باب موصد.. باب موصد منها هي !
وحينها لا بد من الأسئلة البيغضة أن تجتاحها وتذبذب اوصالها.
"هل مل منك ؟ هل أكتفى! هو لا يريدك.. ما عاد يبغي قربك.. لا تهدري كرامتك أكثر.. ابتعدي تالا ولا تبخسي حق نفسك أكثر ! "
وهنا يسأل القلب بتعجب ولوم
"وهل تقوين على إبتعاد ! "
والعقل يسيطر بقوة
"إذن إبقي جوار رجل لا يريدك ، أصبحتي ثقلا لا يطاق يا حمقاء ، تفرضين حالك مرة تلو أخرى.. الشهم النبيل نبذك منه وقريبا سينبذك بنفسه من عالمه"
وامرأة خلف باب موارب تودع رجلها من خلف غشاوة عينيها ، تتشبث بيد حقيبة كبيرة ويحيط بها ظلام لم ينقشع بعد.. ينبئ كل ذلك عن عقل تمكن وسيطر فبات اللجام من حقه.. وبضع خطوات حثيثة بات بعدها المكان خالياً إلا من ذرات عطرها تعبق الأجواء تعني أنها كانت بفعل ماضٍ.. والحاضر يخص رجلاً فزع وانتفض من نومه ، استعاذ يطرد شياطين كوابيسه وظلام يشيع من حوله ويغلفه ، أثار ريبة داخل أوصاله.. تخشى الظلام هي ، يعلم ذلك ويدرك مخاوفها حين تكون وحيدة.. خطى بتعثر؛ وظلام مقصود انقشع بمصابيح مضاءة تعجب له بحاجبين معقودين ، وقبل أن يتيه أكثر أتاه الجواب بباب فتح على مصرعيه وغرفة يملأها الفراغ.. خطوات أخرى وكان يتوسطها ، يقلب بصره في الصوان الفارغ ومنه إلى فراش مرتب لم يمس يعلوه مغلف ترك في المنتصف.. جلس على طرف الفراش بأنفاس متقطعة وقلب مثقل كأنما استنبط فحواه قبل أن يقرأه.. وحين فعل كانت عينيه تزداد قسوة وهي تلهث خلف الأسطر بينما قبضته تضم وتطبق على آخر كلمات خطتها بيدها وزينتها الدمعات:
" عارفه إنك هتتعصب وجايز تزعل أو تفرح.. مش عارفه .. حقيقي مش عارفه إذا كان ليا حق فيك علشان أطالب بفرصة تانية ولا ماكنش من حقي الفرصة الأولى من الأساس.. أنا مشيت يا بدر ماقدرتش أكون عبء عليك أكتر من كده ، فرضت نفسي عليك من البداية وهفرضها تاني لو فضلت أكتر من كده ، آسفه علشان وجعتك من غير ما أقصد ، آسفه إن ماقدرتش أكون زي ما إنت عاوز وخذلتك... وشكرا لرجولتك وشهامتك معايا ، شكرا على أحلى أيام عشتها في حياتي ومش هاعيش زيها تاني.. قلبي عرف يعني إيه حب على إيديك ، عرف يعني إيه تخاف على حد أكتر من روحك لدرجة إنك ماتتحملش تشوفه بيتألم خصوصا لو كان بسببك.. خد بالك من نفسك علشان أنا بحبك ، وماتخافش عليا أنا معايا أجمل وأغلى هدية منك "

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن