(14)
غياب + اشتياق = ؟تسمر مكانه وللحظةٍ تصلبت شرايينه أثناء وقوع بصره عليها، تجلس في إحدى سيارات الأجرة وبدورها تحدق فيه..
تلك البريئة التي أنقذها يومًا من بين براثن الأمواج الغادرة، تغنى لها بعدها أمام الجميع ومن ثم تركها مغروقة العينين فوق الشاطئ تبكي عشقها المفقود..
تلاقت الأعين للحظاتٍ قبل أن ينفض الشجار وتتحرك بها العربة ومع ذلك ظلت عيناها التي أصابته في الصميم معلقةً به حتى توارت من أمامه.. شيعته بنظرةٍ تحمل عتاب الكون أجمع، اخترقت قلبه، ودمغته بقوةٍ كأنما تذكره بما مضى وكأنه نسى يومًا..
تنبه على ذراع ساندي تحثه على التحرك، انصاع جسده وتحرك لكن عقله ظل تائهًا مع ماضيه الذي صادفه للتو والذي جدد شعوره بالخزي بغزارة..
دلفا للمشفى وانتهى بهما الأمر داخل حجرة بدر.. تبسم لهما مرحبًا، ليتقدم باسل يعانق، ويقدم مباركته والتي حتمًا رُفضت!
فغير كونه يقدم تهنئة زفاف داخل مشفى هو آتٍ صفر اليدين!
دمدم بدر بوضوحٍ دون تجميلٍ:
- شكلك زبالة قوي يا باسل..
بنبرة غرورٍ هتف متفكهًا:
- يابني كون تنازلت وجيت أبارك بنفسي ده في حد ذاته أكبر من أي حاجة.
تبادلا بعضًا من دعاباتهم الثقيلة التي تبدأ ما إن يجتمعان، وبعد هنيهةٍ استأذن باسل ذاهبًا لمراد بينما ظلت هي عند الباب عقب ما أخبرت شقيقها أنها ستلحق به بعد لحظاتٍ.. لم يوجه لها ولا كلمة واحدة، ظل يمازح باسل ولم يعيرها هي مثقال ذرةٍ، شعرت بصعوبةِ الأمر فهذا يعني أنه مازال غاضبًا..
اقتربت هي تقتصر المسافات تهمس باسمه بصوتٍ خفيضٍ حتى يترك تلك الوريقات اللعينة التي يتظاهر بالانشغال بها:
- بدر..
ترك ما بيده وظل مكانه يوليها ظهره وحين فقدت الرد منه همست مرةً أخرى بصوتٍ متحشرجٍ عاتبٍ:
- مش عايز تبص لي.. للدرجة دي يا بدر!
وصلتها تنهيدته الطويلة ومن ثم استدار لها ببطءٍ:
- مافيش داعي نتكلم في اللي فات يا ساندي.
هزت رأسها برفضٍ وتابعت بنبرةٍ خفيضةٍ:
- مش همشي قبل ما أعتذر وتسامحني.. سوري يا بدر بجد، أنا ماكنش قصدي أجرحك.
أطرق برأسه للأسفل وساد الصمت المطبق للحظاتٍ قبل أن يصلها هتافه الخشن وهو ينظر لعينيها المغشية بالدموع:
- كلامك العبيط ماجرحنيش.. اللي زعلني أن الكلام ده طلع منك أنتِ.
تساقطت دمعات لم تستطع كبحها، وضاعت الكلمات بين الغصة، فاكتفت بدمعاتها تقدم الإعتذارت اللآزمة.. وكانت أكثر من كافيةٍ ليرفع ذقنها بأنآمله، يواجه عينيها بصرامةٍ، وهذه المرة بسؤالٍ ينتظر إجابته منذ آنذاك:
- مين ده يا ساندي وإيه علاقتك بيه؟ عايز أعرف الحكاية كلها من غير لف ودوران.
محت عبراتها بأناملها وأجابت بخجلٍ وحرجٍ دون مواراةٍ:
- فهمني أنه هو الشخص اللي بيبعت لي ورد.. قابلته مرة واحدة فضول والله مش أكتر وبعدين ألح كتير وأحرجني علشان أقابله مرة تانية..
صمتت لثوانٍ ثم تابعت وهي تتحاشى النظر إلى عينيه الغاضبة:
- وافقت.. وبعد ما قعدنا اعترف أنه مش هو بتاع الورد وأنه عرف الموضوع ده صدفه فأخده حجة.. أول ما قال كده وقفت علشان أمشي بس هو مسك في إيدي وشدني جامد وبدأ يتطاول عليَّ.. خفت وماعرفتش أعمل إيه وقبل ما أفكر كنت أنت جيت.
وحينما لم تتلق أي رد فعل منه تجرأت ورفعت بصرها نحوه، رأته عابسًا مكفهرَ الملامح.. فهتفت سريعاً تنفي أي ظنونٍ قد تهاجمه دون أن تبتعد بعينيها تلك المرة:
- والله ماشفته تاني من بعدها وكمان غيرت رقم الموبايل وما أظنش أنه هيفكر يقرب تاني بعد العلقة إللي أخدها.
سألها بحدةٍ:
- تفتكري لو وقتها ماكنتش هناك بالصدفة.. تخيلي كده لو الحيوان ده كان تمادى معاكِ.. كنت هتعملي إيه؟!
طأطأت في خجلٍ هامسةٍ:
- بس أنتَ كنت هناك.. وأنا إتعلمت خلاص، أوعدك هاخد بالي بعد كده ومش هكررها.. خلاص سامحتني..؟
- أنا كمان آسف ياساندي.. جنانك كان مستفز و فقدت أعصابي غصب عني وماعرفش عملت كده إزاي.. حقك علىّ.
تبسمت له فبادلها بأخرى هادئة.. هتفت بعدها بحبورٍ:
- دلوقت أقدر أقول لك مبروك.
رفع أحد حاجبيه في إستنكار وهتف بجديةٍ:
-مش بقبل تهنئات هنا يا آنسه.. عنوان البيت وحافظينه، يلا بقى بلاش عطلة أكتر من كده.. وآآآه ماتنسيش تقول لي للجلف أخوكي يجيب حاجة معاه، منظره وحش قوي.
ضحكت ساندي وهتفت ببراءةٍ تلونت ببعض السماجة:
- والله قولت له هات برتقان ندخل بيه.. قال لي كبري دماغك.
-برتقااان!!
أنهت سبابته الحوار، يشير بها إلى الباب في أمرٍ بالمغادرة..
ضحك بعدها لمنظرها المخزي وهي تهرب سريعاً خوفاً من أن يرميها بشيءٍ ما يشطر رأسها لنصفين.. ثم شرد قليلًا مع نفسه ليعترف بصدقٍ.. زواجه بالفعل لا يليق به سوى بضع برتقالات.. متعفنة ربما!
* * * * *
فوق الفراش شاردةٌ تنظر نحو اللآشيء، فكلُ شيءٍ بات لا شيء.. لا تصدق أنه رحل هكذا ببساطة، لم يتمسك بها كما كانت تبغي، في طفولتها تركها والآن أعاد الكرة.. من يلومها إذن على فعلتها؟
كان معها كل الحق في رفض مصاحبته.
لازالت طرقاته الغاضبة على باب المنزل تضرب مسامعها كطرقِ الحديد، فما إن صرح له بخبر الزواج وبعدها العنوان لم تمضِ سويعات قليلة وتعالت الطرقات، وما إن فتح الباب حتى كان والدها يتوسط المنزل بهيبته وملامحه القاتمة التي تنبئ عن بركانٍ ثائرٍ.. قابله بدر بوجهٍ صامتٍ دون ملامحٍ واضحةٍ بينما الآخر يدور برأسه يميناً و يسارًا يبحث عنها ويظن أن تلك مجرد مزحة ثقيلة وسيعاقب فاعلها ما إن يتأكد.. لكن كل شيءٍ انتهى حين ظهرت هي تتمسك بإطار الباب، وتهمس بصوتٍ شبه متماسكٍ؛ تبررله فعلتها:
- أنا آسفة.. بس بسببك أنت عملت كده، قلت لك مش عايزة كريم لكن صممت عليه حتى بعد عملته الحقيرة مش شايف أنه غلطان.. قلت لك مش عايزه أسافر مافكرتش حتى تعرف أسبابي.. تعبت من كوني جزء في حياتك تحركه وقت ما تحب وعلى حسب راحتك أنت.
رغم الشرر المنبعث من بين عينيه إلا أنه تحدث بصوتٍ هادئٍ.. خطيرٍ:
- هو ده الكلام اللي نصب عليكِ بيه.. مش عايز كلمة زيادة يلا قدامي كلامنا هنكمله بعدين، أما الحيوان ده أنا هعرفه مقامه كويس.
أنهى حديثه وهو يشير بسبابته نحو بدر المتصلب.. آتون يتفجر داخله.. قبض كفيه بقوةٍ حتى ابيضت مفاصل أصابعه وأنفاسه الهادرة باتت كالحمم.. ليدمدم بصوتٍ صارمٍ دون أن ينظر إليه ضاربًا وعد التأني والصبر الذي قطعه على نفسه في عرض الحائط:
- اطلع بره..
زاد عبوسُ الرجل وهو يقيمه باستنكارٍ من أعلى لأسفل لتتدخل تالا تنهي تلك النيران الموشكة على الإشتعال:
- أنا اتجوزت بدر بإرادتي ومش هخرج من بيته.. أنا آسفة.
لا تعلم هل أسفها المكرر لأبيها أم لنفسها.. لم تعِ بأي مصيبةٍ أسقطت حالها سوى الآن.. هدر أبيها بصوتٍ زاعقٍ:
- لآخر مرة هقول لك أمشي معايا وهيطلقك ورجلك فوق رقبتك.. أنتِ عايزه تفضحيني على آخر الزمن!
عن أي فضيحةٍ يتحدث هذا الرجل؟! ماذا عن زواجه بامرأةٍ وتركه لأخرى ألا يعد ذلك من ضمن الفضائح! بل على أي شيءٍ يحاسبها هي فعلت ما يفعله ويتباهى به طيلة الوقت..
أظلمت عيناها في قسوةٍ وهي تردد بجفاءٍ مكتسبٍ وعنادٍ وسمت به منذ الأزل:
- مش هخرج من هنا ومش هسافر معاك.. هعيش حياتي زي ما أحب حتى لو كانت غلط.. سافر أنت وأتجوز أعمل اللي عايزه وسبني زي ما كنت دايمًا سايبني.
تحدث عاصم بصوتٍ قاسٍ.. حازمٍ:
- ولو خيرتك بيني.. وبينه ؟
أظلمت عيناها أكثر وهي تحرك رأسها بأسى.. رمقه بدر بعيونٍ حادةٍ كالصقرِ وتحدث بهدوءٍ باردٍ لا يمت ما يشعر به بصلةٍ:
- قالت لك مش هخرج وبعدين مين قال لك هسمح بده.. من اللحظة اللي بنتك بقت فيها مراتي بإرادتها القرار ده مابقاش يخصها لوحدها.
ضحك بسخريةٍ وهو يقيم منزله تلك المرة ويسأل بتعالٍ:
- عايزة تقنعيني أنك تقدري تعيشي هنا!
ودون انتظارٍ أردف بجديةٍ تامةٍ:
- اختاري يا ترجعي معايا دلوقتِ وأنا كفيل بحل المهزلة دي أو تنسي أن ليك أب عايش وتتنازلي عن كل حاجة و أولهم الكريدت كارد، مفاتيح البيت والعربية، مجوهراتك إللي أخدتيها من البيت.. ها قررتي إيه ؟
خيم الصمت لدقائقٍ وهي تطالع والدها في ذهولٍ وتساؤلٍ.. هل حقًا يخيرها؟ هل انتهى الأمر هكذا!
حينها فقد بدر المتبقي من أعصابه، وهدر بصوتٍ زاعقٍ ذي نبرةٍ حادةٍ أجفلت على أثرها:
- مش سامعة!.. ردي.
استدارت ببطءٍ ووجومٍ لداخل الحجرة، وما هي إلا ثوانٍ حتى عادت.. وقفت أمامه تنظر لعينيه ويدها تمتد بما تنازلت عنه، وهي تهمس للمرة الأخيرة:
- آسفة..
ارتفع كفه وحط به فوق وجنتها، فتأوهت بصمتٍ.. وهي تنظر جانبًا تتحاشى النظر إليه ليجذب الأشياء من بين يديها مغادرًا المكان.. أجفلت على صفق الباب بغضبٍ وعيناه التي تقدح شررًا.. اقترب منها يغرز أصابعه في ذراعها هادرًا بعنفٍ وهو يهزها:
- مش قلت لك سيبي كل حاجة وحذرتك تكسري كلامي.. ليه تحطيني في موقف زي ده؟
صاحت بغضبٍ وهي تتلوى من قبضة كفه القوية:
- يعني أسيب حاجتي لبنته ومراته.. وبعدين كان لازم أدفع لك تمن الجوازة دي بعد ما قررت أنها مجرد جوازة..
التوت شفتيها قليلاً وهي تتابع بوقاحةٍ:
- من غير أي حقوق!
حدجها بصمتٍ ثم اقترب من أذنها يهمس بخشونةٍ:
- أنتِ قليلة الأدب.. وتستاهلي القلم اللي أخدتيه من السيد الوالد وإن ماكنش عملها كنت هقوم أنا بالمهمة دي.. ولو عايزة تجربي تاني ماعنديش مانع..
تقهقرت للخلف قليلاً تنظر له بحنقٍ وخوفٍ تخفيه خلف مقلتيها المتذبذبتين.. نفض ذراعها بعيداً عنه بغضبٍ وهتف بقوةٍ:
- إمشي من قدامي.. حالًا.
في لمح البصر كانت تصفق الباب بعنفٍ للمرة الثانية.. استلقى بعدها على الأريكة يسب نفسه قبل غيره، فلو عاد بذاكرته للوراء بعمره كله لن يجد أكثر جنونًا وغباءً من فعلته أو مصيبته الأخيرة.. تلك الكامنة في غرفته والمسمى عروسه..
يهاتف رجلًا غريبًا ببرودة الكون، ويخبره بكل صلفٍ أنه زوج ابنته، ويمنحه فرصة إهانته بل يسمح له بذلك دون أن يحطم صف أسنانه على الأقل.. كيف يفعلها والرجل معه كل الحق.. بل توقع منه ماهو أكثر؟!.. هل بسيارة ومجوهرات وصفعة واحدة حلت المعضلة وانتهت!
فقد ظن أن الرجل سيقيم الدنيا رأسًا على عقب لأنها ابنته!
عاد ببصره إلى الباب الموصد عاقدًا حاجبيه في تفكيرٍ.. لابد أنها تبكي الآن على وجنتها المتضررة وبم ستهتم غير ذلك؛ فهي لم تذرف حتى دمعةً واحدة!
تبدو كالأحجية تلك التالا.. عاجزٌ عن فهمها منذ أن رآها أول مرةٍ.. تارةً مجنونة وأخرى هادئة مستكينة وكأن براءة العالم اختصرت بها والآن تناطح والدها بثباتٍ وقوةٍ لم يظن لوهلةٍ أنها تمتلكها والأدهى تعتذر، ثم تصرح بوقاحةٍ أنها عروس شاملة الخدمات، ولا تمانع من تسديد ديون تلك الزيجة بجسدها!
رائع.. حقًا رائع
حمقاءٌ وتحمل من الغباء أطنانًا.. متهورةٌ تريد تحريك العالم من حولها بطرقعة إصبعٍ.. لكن رغم كل ذلك الصخب الذي تحيا فيه هي صادقة..
فذاك الصدق أخبره أنها تنحدر نحو هوةٍ عميقةٍ ستسحقها ما إن تصل إليها بإرادتها، وقتها كانت ستضيع بعالمٍ آخرٍ أكثر ضراوةً من عالم أبيها الذي تمقته والتي تظن ما إن تتخلص منه ستكون قد تخلصت من أكبر عقبةٍ تواجهها وهي في الحقيقة ستكون حينها عالقةً في ماهو أكبر من العقبات..
شعورٌ.. فقط شعورٌ يخبره أنه مسئول عن تلك الكارثة عقب ما ألقت بحملها كله على عاتقه كأنها فرض عليه.. وببساطة قبل بعرضها العظيم بفضل ذاك الشعور اللعين مجهول المصدر.
زفر بضيقٍ وهو يعتدل جالسًا يراقب ضوء الشروق المنبعث من الشرفة بخجلٍ.. من الأفضل الذهاب للمشفى يؤدي عمله بدلاً من الجلوس هكذا كالمطلقات وقبل أن يستكمل أفكاره كانت تقف قبالته متكتفة الذراعين مشعثة الشعر، عيناها الزرقاء ثائرة.. وعلى ما يبدو لم يحن الوقت بعد لتتخلص من ثوبِ زفافها الأسطوري..
ألجم أفكاره الساخرة، وتحرك متجاهلًا إياها ينوي الإبتعاد عنها وعن البيت بأكمله.. لكن سرعان ما أوقفته نبرتها الحادة:
- طلقني!
تسمر مكانه قليلاً لم يتحرك فقط عيناه محدقة، أكلمت هي متخصرةً تتحدث بصوتٍ حانقٍ وغاضبٍ:
- طلقني كفاية كده.. المطلوب كله حصل وبابى صدق المسرحية حتى من غير أي إثباتات، كلفنا نفسنا فستان وبدلة وقسيمة كنت فاكرة هي الحل طلع الموضوع أسهل بكتير وكان هيمشي تمام قوي من غير جواز كان ممكن نعمل الشويتين دول وبعدين كل واحد يروح لحاله.
عاد بخطواته للخلف حتى جاورها عكسيًا، جذب ذراعها دون أن ينظر إليها ثم سحبها بقوةٍ وهي تتعثر خلفه وتطالب بالطلاق!
دفعها للداخل الغرفة واستدار يواجهها ينظر لها بعمقٍ ويربت فوق وجنتها المصفوعة مسبقاً بسبابة والوسطى وإجابة طلبها:
- روحي نامي وماتنسيش تتغطي كويس.
وآخر كلماته ختمها بصفعة ثالثة للباب المسكين.
انتفضت تالا من شرودها على طرقاتٍ عاليةٍ تكاد تخترق الباب، تحركت بتثاقلٍ تفتح الباب برفقٍ ليقابلها نفس الوجه الأنثوي للمرة الثالثة على التوالي كل يومٍ في نفس التوقيت تحضر تلك الفتاة ذات الملامح الهادئة تحمل بين يديها طبقًا كبيرًا فيه عدة أنواعٍ من الطعام المختلف.. قابلتها ككل يومٍ راسمةً إبتسامة صفراااء، تتناول ما بين يديها بعدها تصفع الباب بكل صلفٍ، دون حتى التفوه بكلمةٍ واحدةٍ أو السماح للطرف الآخر بالحديث..
وضعت الطعام فوق المنضدة بقوةٍ وغضبٍ فانسكب بعضه.. تخصرت واقفةً في منتصف الردهة تدرو برأسها وتهمس لنفسها..
"تخلصت من قيد عاصم رسلان لتصبحي مقيدة بآخر صدئ يحمل اسم ذاك الغبي الذي يظن نفسه بطلًا قادمًا من الستينات يأمر وينهى.. لا خروج من المنزل لا عمل حتى يحدد هو ذلك.. وها أنتِ وحيدة داخل بيت لم تعرفيه من قبل تسكنه عجوز شمطاء تنظر لك كما ينظر ابنها فيدب الرعب داخلك من كليهما"
رمت بجسدها على الأريكه بتهالكٍ تنظر نحوها بمللٍ.. رفعت كفها تنظر لأظافرها متحسرةً تبدو كأظافر المشردين! تحرك كفها نحو شعرها المشعث تتلمسه بضيقٍ وهي تشهق بخفوتٍ على حالته..
رباه.. تحتاج لأسبوعٍ كاملٍ داخل صالونات التجميل حتى ترمم نتاج الأيام السابقة.. وقع بصرها على قميصه المرتاح فوق الأريكة وبدا كأنه يتبسم لها بسماجةٍ كصاحبه، جذبته بعنفٍ وأخذت تخرج به طاقتها المكبوتة وهي تحاول تمزيقه لكن لا فائدة كفها الرقيق لم يساندها، نهضت بكل عزمٍ تبحث عن المسمى"مطبخ " وأول سكين قابلها كان يشق القماش بعرضه وطوله حتى بات القميص خرقةً عديمة المنفعة! عادت به تلقيه كما كان وتتبسم له بدورها.. تنهدت ببطءٍ وأخذت تجمع خصلات شعرها الذهبية حتى كونت عقدة فوق رأسها وهمت بالبحث عن شيءٍ آخرٍ تخرج به باقي غضبها المكبوت لكن تحرك المزلاج ينبئ عن عودة الغالي.. كتفت ساعديها تهز ساقها و تنظر لبرودة أعصابه وقبل أن يراها صرخت بقوةٍ:
- أنت مش من حقك تحبسني كده.. ده مش أسلوب!
لم تتحرك به عضلةٌ واحدةٌ، فقط استدار بهدوءٍ فقد بات معتادًا على نوبات الجنون المصاحبة لعروسه المصون.. تحدث بصوتٍ هادئٍ مصدومًا مشيراً بكفه نحو الباب:
- أنا حابسك! مين قال كده؟ إتفضلي الباب مفتوح..
احتقن وجهها بشدة هل يهينها الآن.. يعلم أنها بلا ملجأ أو مال.. أكثر ما تتمناه الخلاص لكن أين ستذهب!
كزت على أسنانها بغيظٍ:
- اتخنقت من البيت.. عايزة أنزل.
لآحظ جبنها وتراجعها وكم أسعده ذلك.. تظاهر بالإنشغال في هاتفه وتحدث بجدية:
- إسلام عازم نفسه وصاحبتك كمان كام يوم..
وأردف ساخرًا:
- يعني يدوب تفكري وتنفذي المطلوب.
شهقت بخفوتٍ وهتفت بصدمةٍ:
- أنا!
ثم تابعت بتعجبٍ:
- وبعدين ما تقول للبنت الشغالة أنا مالي.. صحيح هو ليه الشغالين عندكم في بيت وأنتم في بيت.. ليه مش سوا!
اقترب منها حتى بات لايفصل بينهما سوى خطوة واحدة،ضيق حدقتيه وسألها بتوجسٍ:
- تقصدي مين بالشغالين؟
أجابت بنفاذ صبرٍ ملوحةً بكفها:
- البنت اللي كل يوم تجيب الأكل ده وتمشي على طول، وغالبًا بتروح الشقة اللي قصادنا بسمع صوت الباب.
نظر نحوالطعام المسكوب بكل عنجهية فوق المائدة متخللًا شعره بأصابعه.. يهمس لنفسه من الواحد للعشرة حتى يتفادى تلك الكارثة، لكنه عاد وتمعن في ملابسها فعبس.. كانت ترتدي قميصًا قطنيًا كحلي اللون بالكاد يصل لمنتصف فخذيها يلتصق بجسدها، ذا حمالتين لا داعٍ لوجودهما من الأساس بل ما الداعي من القميص بأكمله!
لفحتها أنفاسه الهادرة وهتف من بين أسنانه:
- أنتِ فتحت الباب كده!
حركت رأسها ببراءةٍ فعاد وهتف بحدةٍ محاولاً التمسك بآخر ذرات الصبر:
- أولاً مافيش شغالين هنا، البنت دي تبقى أماني بنت الست معالي جارتنا وكل أفعالهم دي محبة في أمي وفاهمين أنك عروسة وكده فكتر خيرهم بيفكروا فيكِ..
قبض على ذراعها وتابع هسيسه:
- ثانياً آخر مرة تلبسي الهدوم دي أو تقابلي أي حد بالمنظر ده.. مفهوووم؟
وأكمل محذرًا:
- كلامي مش بكرره.. وآه مسموح لك تطلبي مساعدة أماني في تحضير العزومة بدل ما تفضحينا.
ظلت تنظر له بعيونٍ شرسةٍ وما إن انتهى حتى خلصت ذراعها بقوةٍ من بين أصابعه، واستدارت تهرب لغرفتها قبل أن تخونها عبراتها المكبوتة، وتنفجر أمامه وكأن هذا ما ينقصها!.. صفعت الباب قبل أن ترى إبتسامته التي خطت طريقها فوق ثغره قسرًا محققًا نظرية المثل الشهير
"هم يضحك وهم يبكي "
* * * * *
بعد أيام..
مضى نهارٌ طويلٌ وأتى ليلٌ آخرٌ يترنح على مهل.. اقتربت بحذر من طفلتها تحملها برفقٍ بين ذراعيها.. داعبت وجنتها الناعمة الوردية بأناملها فسقطت دمعةً ثقيلةً وتبعتها أخرى وأخرى حتى زادت شهقاتها الخافتة وتحولت لنحيبٍ خافتٍ وهي تضم الصغيرة لقلبها.. لا تعلم كم من التبلد تملك منها وكم من البرودة اكتست بها روحها لم يكسرهم سوى لحظة إدراكها لفقدانها إحدى طفلتيها!
لم ترها ولم تقبلها ولو لمرةٍ واحدةٍ.. أخبروها ببساطةٍ أن صغيرتها الأخرى رحلت لأنها خلقت بقلبٍ ضعيفٍ، لم يتحمل الحياة سوى لأيامٍ، لكم بكت كما لم تبكِ من قبل.. فقد رحلت سريعاً قبل أن تأسف لها لعدم ضمها لقلبها تأسف لقسوتها المكتسبة من روحها المعطوبة مرارًا..
أيُّ طفلٍ يتمناكِ أمًا له روان!
خاطبت بها روحها الكسيرة.. فتبسمت الصغيرة برفقٍ ليخفق قلبها.. طفلتها تتبسم وإن لم يكن لها، كم مضى من الوقت لم تشعر بقلبها ينبض للحياة وكأن تلك المنمنمة كالبلسمِ الرطبِ رغم الألم الذي يحتلها تشعر بها نسمةً دافئةً تدغدغ روحها المتألمة.. قربتها لصدرها أكثر ترضعها، تبني جسور مع تلك الصغيرة علها تستمد منها الدفء فتطيب بها كدمات الروح والجسد.
* * * * *
خلق الغياب لإدراك الإشتياق..
وهي تعلنها صريحةً لنفسها أنها تشتاقه حد الظمأ.. خمسة أيامٍ من الغياب لم تره يراقبها من البعيد ولم تفاجئ بتصادمٍ مقصودٍ.. لم تلمح عيناه تختلس النظر إليها خفيةً ولم يتطفل عليها أثناء خلوتها مع ملائكتها وكأن المشفى بأكمله أصبح راكدًا وبلا حياةٍ، أم لعلها روحها هي من باتت راكدةً بعد الصخب الذي تناله في حضرته.
بحثت عنه بعينيها وحين لم يظهر لها كعادته أصابها القلق وعلى مايبدو لاحظ صديقه ذلك فقرر أن يريحها بإجابته دون سؤالها:
"إسلام في مؤتمر.. كام يوم وراجع بإذن الله"
تنهدت خفيةً وهي تتبسم له في حرجٍ.. لم تكن تعلم أن اليوم دونه طويلًا مملًا للغاية.. عنفت نفسها في اليوم الأول والثاني بأن نتيجة شعورها أنها اعتادت وجوده لكن مع حلول اليوم الثالث أيقنت أنها تشتاق وجوده، تفتقده هو لا غيره وكلما زاد غيابه زاد إفتقادها.
ألقت نظرةً أخيرةً على صورتها المعكوسة داخل مرآتها تتأكد من تمام أناقتها.. فقد طويت أيام الغياب وحان موعد اللقاء بعد سويعاتٍ قليلةٍ في بيت العروسين.. بدلت ملابسها عدة مراتٍ حتى استقرت أخيراً على فستان فيروزي هادئ حد الركبتين وأسدلت شعرها كما تفضله دائماً.. تبسمت لصورتها إبتسامة حقيقية رسمتها بروحها.. فمنذ أيامٍ ظنت أنها بعد رؤية ماضيها ستضيع وسط ذكرياتها من جديد.. لا تصدق أنها رأته أمامها بعد كل تلك الشهور الطويلة وبين ذراعيه أخرى!
لم يكن الحزن من استحوذ عليها بل كان الغضب سيد الموقف.. أرادت الصراخ به.. تخبره بكل قسوةٍ أنه لم يعد يمت قلبها بأي صلة.. أنه تم نسيانه بنجاحٍ كما نساها هو.. يومها ودون تفكيرٍ اتجهت نحو حاسوبها تمحي بأناملها آخر روابط عشقٍ ظنته يومًا يستحق.. محت ذاك المقطع الذي كان يومًا إعترافًا بحبها خرج متنغمًا من بين شفتيه أمام الجميع..
والعجيب رغم كل تلك المتاهة التي كانت تحيا فيها بسبب لقاءٍ جاء من الماضي على حين غرة، كان هناك شعاع عسلي يخترق عينيها وعقلها بقوةٍ.. فتتناسى الماضى بكل ما فيه ويبقى العسل فقط بحلاوته ينصهر بروحها المشتاقة.
* * * * *
جالسةٌ فوق منضدة المطبخ تؤرجح ساقيها بهدوءٍ وبين أصابعها حبة من الجزر تتناولها بهدوءٍ.. تطالع تلك المدعوة "أماني" تتحرك وسط المطبخ كالفراشةِ تعد هذا وذاك.. لا تصدق أنها ذهبت إلى الغرباء تطلب المساعدة في طهي بعض الطعام! لكن لابأس هي الآن تقوم بدور المتفرج بينما أماني قاربت على الإنتهاء..
ارتكزت أماني بجذعها فوق منضدة المطبخ تجاورها، ثم سرعان ما هتفت بسعادةٍ وارتياحٍ:
- الحمد لله خلصنا.. كده كل حاجة تمام.
توسعت إبتسامة تالا وهي تردف براحةٍ:
- لو فضلت أشكرك لسنة قدام مش كفاية.. أنتِ خرجتيني من ورطة حقيقة.
هتفت أماني وقد زادت إبتسامتها هي الأخرى:
- ماتقوليش كده إحنا جيران وخالتي راوية ودكتور بدر أكتر من أهل.. وأنتِ كمان بقيتي في غلاوتهم وأكتر أنا حبيتك قوي.
غمغمت تالا بإمتنانٍ وهي مازالت تؤرجح ساقيها:
- ميرسي قوي يا أماني وأنتِ كمان كيوتة ولذيذة جداً.. تعرفي أنتِ الوحيدة إللي إرتحت لها في المكان العجيب ده.
-تعرفي كل الستات في الحتة هيموتوا ويتعرفوا عليكِ، ملهمش سيرة غير عينيك الزرقاء وشعرك الذهبي، ولا جمال عودك وبشرتك البمبي.. نفسهم يعرفوا سر جمالك علشان يقلدوكِ يمكن يعجبوا.
ختمت أماني حديثها بضحكاتٍ متتاليةٍ فشاركتها تالا ضحكاتها متسآئلة:
-وأنتِ يا أماني متجوزة؟
احمر وجه الفتاة وأجابت بخجل:
-لا لسه.. بس فرحي كمان شهر.
نهضت تالا من جلستها لتهتف بحماسٍ:
-يبقى أنا عليا أعملك ماسكات لبشرتك وشعرك وشوية حاجات كده قبل الفرح علشان تعجبي عريسك.. وبكده أكون رديت لك جزء من تعبك معايا.
تبسمت عروس المستقبل في خجلٍ مما أثار ضحكات تالا القوية، وهي تتعجب داخلها عن خجل وإحمرار تلك الفتاة الزائد.. كل هذا لأنها عروس!
.........
بعد سويعاتٍ..
غادر المدعوين بسلامٍ.. وضعت آخر الكئوس الفارغة فوق منضدة المطبخ.. استدارت تغادره وهي تناشد الراحة عقب يوم طويل متعب، لكن كان هو هناك كالسد المنيع في إطار الباب.. حاولت تجاوزه لكن لا فائدة امتد ذراعه يمنعها عن متابعة طريقها.. رمقته بإستفهام فاقترب يرنو من وجهها ينظر لعينيها، يمط شفتيه ويهتف بهمس ممتعضٍ:
- مش عيب تسرقي مجهود أماني وتكذبي على الضيوف؟
كتفت ذراعيها وهتفت بحنقٍ متلعثمٍ:
- أنا ماكذبتش.. أنا فعلًا ساعدتها.
رفع أحد حاجبيه ورمقها بنظرةٍ مستنكرةٍ لتدمدم بغضبٍ:
- ممكن تعديني بقى.. مش خلاص خلصنا ولا لسه في أوامر تانية.
رمقها بتعجب وأشار بعينيه من خلف كتفها هاتفًا بإستفهام:
- والكارثة دي مين هينضفها، ولا نجيب أماني بردو؟!
نظرت خلفها ففغرت فاهًا بأسى من منظر المطبخ الكارثي.. عادت له ترجوه عله يتركها لحال سبيلها، لكن قابلتها الصرامة، وتحدٍ بالرفض وبكلمةٍ واحدةٍ كانت أمام الحوض تبدأ أولى مهام التنظيف بينما جلس هو على أحد الكراسي يراقبها بكل صلفٍ ويملي عليها الخطوات المطلوبة.. يرشدها لطريقة تنظيف الأواني بهدوءٍ واضعًا ساقًا فوق الأخرى، وبين كفيه أحد كتب التاريخ.. يتابعها بعينيه ويخفي إبتسامة انتصارٍ خلف كتابه.. بعد مدةٍ وجيزةٍ عقد حاجبيه ساخطًا:
- ياريت تهدي شوية على الحال ده مش هنلاقي طبق سليم.
تبسمت له في سماجةٍ وتابعت عملية تعذيب الأواني بضميرٍ مرتاحٍ وبعد هنيهة همست بتوجسٍ:
- هي مامتك مجنونة؟!
* * * * *
لم أعد أدري إلى أين أذهب
كل يوم أحـس أنـك أقـــرب
كل يوم يصير وجـهـك جـزءاً من حياتي
ويصبح العمر أخصب
وتصير الأشكال أجمـل شــكلاً
وتصير الأشيـاء أحـلى و أطيب
قد تسربت في مســامات جلدي
مثلمـا قطـرة الـنـدى تتسـرب
اعتيادي على غيابــك صعـب
واعتيادي علـى وجودك أصعـب
"نزار قباني"
***
استكانت جواره داخل العربة عائداً بها إلى بيتها للمرة الثالثة.. تحاول جمع شتاتها المبعثر منذ أن تلاقيا.. تحاول تهدئة نبضاتها التي تدوي كالطبول بين أضلعها ولا جدوى.. تبتعد بعينيها عن مرمى عينيه المتربصة فتشعر نظراته تحاوطها من كل اتجاهٍ..
سحبت نفسًا طويلًا وسألت بشجاعةٍ ماكان يقتل فضولها:
- فاكر لم قولت لي في إعتذار ثالت وهو الأهم بالنسبالك وقتها مكملناش كلامنا.. ممكن أعرف كنت تقصد إيه؟
رفعت رأسها تنتظر إجابته فأربكتها إبتسامته..
ظل ينظر لها قليلًا يتشرب ملامحها يحفظ تفاصيلها.. عينيها اللآمعة.. خجلها الوردي.. ضحكتها الهادئة وغمازتيها الساحرتين.. شعرها وعبقها.. كل ما فيه يصرخ مناديًا بإشتياقٍ.
لم تغب عنه للحظة خلال فترة غيابه كانت دائمًا حاضرةً في صحوه وفي نومه حاضرةً.. لفظ اسمها من بين شفتيه كان ينعش قلبه.. حين أخبره بدر أنها مسحت المشفى بعينيها بحثاً عنه، تدور قلقًا وتخجل من السؤال الصريح تمنى وقتها لو يقطع كل تلك المسافات ويحضر أمام عينيها ليرى الشوق بهما ويستشعره كما يستشعره الآن.. فخجلها وتلعثمها ويدها المنتفضة على أثر السلام بينهما تخبره أنها كانت في إنتظاره كما كان.
أطرقت برأسها خجلًا حين طال صمته في حين قرر أخيراً أن يريحها فأجاب بصوته الرخيم ناظرًا أمامه نحو الطريق:
- فاكرة يوم المطر؟ وقتها عينيك قالت أنك مش فاكراني رغم أننا كنا اتقابلنا مرتين قبل كده.. وده زعلني قوي وقتها.
عقدت حاجبيها وتلك الذكرى تلوح في الأفق بينما تخجل من رفع عينيها فتقابلها نظراته العاتبة.. هي حقًا يومها لم تتعرف عليه وحالتها المأساوية ساعدت على ذلك آنذاك.. لكنها الآن حفظت ملامحه عن ظهر قلبٍ رغمًا عنها.. ألا يكون ذلك شفيعًا؟
وحين طال شرودها رنا منها قليلًا ليهمس:
- وصلنا..
رفعت رأسها تطالع البناية من خلف النافذة، حتى المسافات باتت أقصر في حضرته.. دارت برأسها ببطءٍ ليجفلها قربه.. تمالكت نفسها سريعاً وهمست بدورها تقدم له إعتذاره الأخير:
- أنا آسفة..
تذبذبت عيناها بإعتذارٍ قبل أن تنطق به وما إن خرج من بين تلك الشفتين الورديتن وبكل تلك الرقة التي جلبت له شوقًا آخرً فوق جبال أشواقه، فما كان منه غير أنه أطبق على شفتيها بقبلةٍ مباغتةٍ يبتلع بها أسفها، و يبثها ما يعتمل داخله في تلك اللحظة.. يخبرها بها كيف كان حاله في أيام غيابه.. وصدق همسته أكدت ذلك:
- وحشتيني.
ابتعد قليلًا حتى تلتقط أنفاسها اللآهثة بينما عيناها تحدق فيه كأنما تسأله
"ماذا فعلت للتو!"
بادلها النظرات وأجابت عيناه
"أطفأت نار أشواقي"
استدارت برأسها بغتةً فلفحته خصلاتها، تبحث عن مقبض الباب تنوي هربًا سريعاً وما إن فتحت الباب حتى جذبها من ذراعها بقوةٍ، فكادت ترتطم بصدره العريض.. وصله لهاثها القوي وحشرجة أنفاسها.. لكنه ملَّ الإنتظار وأضحى الصبر ليس من سماته؛ فهمس أمام شفتيها.. وعيناه لا تبارح عينيها:
- بحبك وعايز أتجوزك.
وأردف متوجسًا:
- موافقة..؟
يترقب..
ينتظر..
وأصبحت الآن أنفاسه هو اللآهثة بدرجةٍ خطيرةٍ، وبعد صمتٍ دام لدقائقٍ قليلةٍ سحبت ذراعها ببطءٍ وترجلت من السيارة بملامحها المبهمة.. تخطو أمامه مبتعدةً وخيبات الأمل تطرق بابه من جديد.. أطبق جفنيه زافرًا بضيقٍ يلعن غبائه وتسرعه.. ألم يستطع الصبر قليلًا؟!
ليصله نبرتها تحمل اسمه مجرداً:
- إسلام.
انتفض في جلسته يتأكد من ما سمع.. فوجدها مازالت تقف أمام البناية تنظر له متبسمةً خجلًا وتهز رأسها بالإيجاب!
وبعدها استدارت وقد تركت لساقيها العنان لتهرب بعيداً قبل أن يدرك موافقتها على طلبه فيحتجزها بين ضلوعه ويمطرها عشقًا لا شوقًا..
توسعت إبتسامته وهو يصدق أخيه القول تلك المرة.. فأميرته رضخت لعشقه بعد القبلة.
أنت تقرأ
دوامة عشق
Mystery / Thrillerيقع طبيب النساء والتوليد "إسلام الشافعي" في قصة حب من طرف واحد حيث يخبأ له القدر الكثير من المفاجآت الغير سارة.. على صعيد آخر يحلق كابتن الطيران "باسل الشافعي" على متن رحلة من الأسرار يخفيها خلف قناع المسؤولية والسخرية أحيانًا.. فيما تتقدم الآنسة "ت...