الفصل الثلاثون

106 0 0
                                    

(30)
حكم القلب

ألم.. فرح.. حزن.. إشتياق.. غضب ..والكثير من قبيل تلك الأشياء التي تتوالى على روحك وتتابع، ينغرس الألم في قلبك فلا تقوى على حياة وحين يأتي الفرح بغته يلوح بصيص أمل في الأفق، فيعود الحزن يستعمرك من جديد.. حتى تعتاده بل حتى يصبح جزءا منك؛  فتذبل وريقاتك وترى فيها الخريف وقتما تتساقط دون رادع، وحين الأشتياق يلتاع الفؤاد؛ تغضب وتسخط من حالك.. وفي النهاية تظل رهينة على الأطلال حيث الخفافيش والأشباح.. تبهت الحروف وتتيه السطور بين الألم والوحشة، وتلك لم تكن سطور عابرة بل هي حياتها قد مرت أمامها لتو فوق صفحات المياة، حتى موجات البحر ثائرة؛ تشاركها ألمها؛ وجعها؛ وروحها الكسيرة.. تنعي شرخا كلما جبرته جاءت القاضية فتصدعه من جديد، والشرخ تلك المرة غائر، فوق إحتمالها.. ذهبت لزياردته كما إعتادت مؤخرا وما إن وصلت وجهتها حتى تلقت خبر وفاته..  وجهه؛ ملامحه الباردة بسكون، وداع أخير يعني فرآق أبد الدهر.. اخطأ وعوقب وعنها فقد سامحته مع أول دمعة سقطت من بين جفنيه وكانت ممزوجه بندم وتوبة عن كل ما كان وفعل؛ حين إستشعرت معانته وألمه لفراقهم..  نسيت كل شيء حين أخبرها أنها مازالت طفلته ومدللته الأولى والأخيرة.. قبلت الجبهه؛ والوجنتين  مع عبرات هطلت لتنعي روحها من جديد.. إسبوع كامل مضى على جسده الموارى بالثرى، تلقت فيه العزاء كما يجب أن تفعل، دعت له كثيرًا في سوهاد لياليها بنيل مغفرة وجنان نعيم تسكنها روحه التائبة.
ودمعة أخيرة محتها أناملها ببطء يوازي إقتراب خطواته اليها، حتى إنتهى مجاورا لها فوق نفس المقعد.. تشتم رائحته ولو من بين مئات البشر لن تتيه عنها، أغمضت عينيها بألم تحبس عبرات تخنقها أثارها من جديد بقدومه.. وهتافها الغاضب يحمل عدة معان؛ أولها إشتياق ربما:
-جيت ليه؟
والسؤال يعني؛ أحتاجك.. إنتظرتك طويلا.. وتأخرت كثيرا.
-علشانك.
والجواب هنا؛ أشعر بك.. تؤلمني عبراتك بقدر إفتقادك.
ولقاء المقل طال.. طال بعتاب وألم فاق التحمل، بينما آنامله قررت تسابق أناملها تلك المرة وتمحي  دمعة ثقيلة ولدت فشوشت الرؤيا.. وسرعان ما نهضت بصمت تلملم وشاحها المتطايركانت قد لفته حول جيدها مسبقا، وكانت له الأسبقية أيضا حين أوقف خطواتها المتعثرة بتيه، بحجز كتفيها بين كفيه.. يثبتها؛ ينظر ويأسر عيناها  الغائرة بقوة..
فتشهق مرة وإثنان وعند الثالثة كانت تتوسط صدره، تتفجر دموعها وتنتهي فوق قميصه.. وبعد حين حينما نضبت و هدأت فرائصها المرتعده كفكفتها بصمت وهي تتحاشى النظر له من جديد.. وبقدمين مثقلين سارت مغادرة، وكفها المرفوعه نحوه ترفض وبصرامه إقترابه من جديد.. لا تريد أن تعيد حسابات الأمس، لن تعدد ما خسرت فيه، لن تتشبث مجددا بأمس ضائع متساقط الأوراق.
ولو إنتظرت قليلا وإستمعت لدقاته لكان وصلها همسه وهو يخبرها..
"بين يديك اليوم سوف نجمع أوراقه وإن رحل فلديك الغد.. قد يبدو الأسود بعد إعتياده جميلا لكن الأبيض أجمل منه.. لنتمسك بخيوط الشمس وإن كانت بعيدة"
........
أجفلها وقطع شرودها الذي طال بكاء الصغير بين ذراعيها، رفعته قليلا حتى تقابل عينيه وتداعبه بعدة قبلات متفرقه فوق وجنتيه وجبهته حتى هدأ وإنفرج ثغره الصغير بضحكات طفوليه ساحره.. قطع خلوتهم ولوج تالا عليهم من جديد وسرعان ما همهمت بعتاب وهي تترك مابين يديها من ضيافة فوق منضده مجاوره:
- تعرفي إنك وحشتيه قوي يارخمه.
تبسمت لها بخفوت وهي تقبله من جديد بإشتياق و تهمس بدورها :
- أنا جيت النهاردة علشان وحشني أكتر.
جلست بقربها مربته فوق فخذها برفق، مغمغمه بخفوت:
-الحزن مش هيرجع اللي راح يا لمار..  بقالك شهور من بعد وفاته وانتي حابسه نفسك مابين شغلك والبيت لا بتشوفي حد ولا بتحاولي تخرجي من المود ده.. فكري في نفسك شوية وبلاش شيل هموم زيادة عن اللزوم  ربنا مابينساش حد.
-مش بإيدي يا تالا.. من وقت ما حياتنا اتقلبت وانا بحاول اقف على رجليا بس كل مرة تيجي حاجة و توقعني من جديد.. بابا مات صحيح بس ساب جوانا حاجة مش هتفارقنا طول ما إحنا عايشين.
همست تالا بحنو:
-لمار لوحدك هتتعبي كتير وإنتم أكيد محتاجين راجل معاكم.
تجاهلت ما ترمي له وأخبرتها بإيجاز:
-خالو حامد معانا.. بيسأل علينا دايما ومش مقصر.
حدجتها بنظرات متهكمه وعادت تواجهه بوضوح:
-ربنا يخليهولك بس خالو حامد لو عاش لكم النهاردة مش هيعيش بكره.. وإنت عارفه انا اقصد ايه.. أقصد إسلام يا لمار
صمتت تنظر لها بحنق ومالبثت حتى صاحت بها معترضه:
- لا أنا مش محتاجه لا لإسلام ولا لغيره.. انا محتاجه أخد بالي من أختي علشان ما تضيعش مني.. أكون سند لأمي علشان متحتاجش لحد غيري.. ومحتاجه أركز في شغلي علشان ربنا يجازيني ومحتاجش لحد.
تبسمت لها رفيقتها بصمت تعلم أنها تتجنب الحديث عنه من القريب أو البعيد وتكره الخوض في ذلك مع أيٍ كان، لذا همت تنهض مسرعة مخبره إياها بإيجاز مديره دفة الحديث بعيدا حتى لا تغضبها أكثر:
-قومي يلا إنت ضيفتنا النهاردة وهتحضري العشا بنفسك.
نهضت لمار بدورها وإعتراضها لطيف:
- مش هينفع يا تالا  ماما ولارا مش هيتعشوا من غيري وكمان لازم أمشي حالا الساعة داخله على عشرة  الوقت إتأخر.
ومع إلحاح تالا المكرر أنهت الجدال بكلمات :
-مرة تانية.. أوعدك.
أذعنت لرغبتها باستسلام .. وعند الباب كانت تودعها بعدة قبلات حين فتح الباب بغته و دلف بدر ملقي السلام بارتباك حينما وقع بصره عليهما:
-السلام عليكم..
تبسمت له وقابلت ترحيبه بود قطعه ولوج آخر.. آخر ماتتمنى رؤيته في لحظتها، ولم تكن صدمته أقل منها، حيث جمد بصره وعقد لسانه برهه حينما راها.. لم يوقظه سوى لكزة بدر لقدمه وهو يوجه حديثه لزوجته:
-إسلام هايتعشى معانا.
وقررت هي إنهاء ذلك اللقاء السريع بقبلة وداع أخيره فوق وجنتي تالا وخطوات سريعة يصحبها إستإذان هامس بعيون زائغه.. وغابت عنه بباب موصد عقب رحيلها.. فمنذ إفتراقهما منذ ذلك اليوم فوق رمال الشاطئ وهي ترفض حتى رؤيته وإكتفت بكلمات مقتضبه؛ جافه حتى تنهي محاولاته البائسه حين فاجئها بزيارة داخل المشفى الذي تعمل به بعد يومين من لقائهم..
" لو سمحت انا مش مستعده لأي حاجة ولا عندي إستعداد أفتح في دفاتر إتقفلت من زمن.. انا بمر بفترة صعبة بحاول اتوازن فيها.. وجودك  حاليا بيخل بحياتي من تاني... أرجوك إبعد "
ألجمته كلماتها القاسية حينها ومالبث حتى قابلها بملامح متغضنه بإعتراض وهمهمه سريعه
" ممكن نتكلم و..."
وقطعت إسترساله بعينيها المصوبه له برجاء خالص
" أرجوك "
صمت بعد ذلك ومع هزة رأس خافته قرر منحها ماتريد، مقتنعا أنه لم يحن الوقت بعد..
أما قالو قبلًا ومن الحب ماقتل!
لكن معه يجدر بنا القول ومن الحب ما وجع.. إشتاق و إلتاع فصبر وإنتظر.
*    *    *    *   *
طيلة سنون حياتها إعتادت الترف لا تنكر ذلك، حتى مجال دراستها من ثم عملها كلا كان بدافع الشغف وإثبات الذات، لكن بعد تلك الدوامات التي دارت فيها ومازالت،  وبعد ما جردو من كافة ممتلكاتهم  أضحى العمل فرض عين وأولى واجبتها، فبضع مئات من الجنيهات تتسلمها والدتها كل شهر من شقتها المستأجره؛ إرثها من أبيها قد تسد خانة لكنها حتما لا تفي بالغرض أبدا، وحتى بعد ما عادت والدتها لمهنتة التدريس في إحدى المدراس الثانوية القريبة بعد إنقطاع دام لسنوات لم يكن ذلك أيضا ليغطي مصروفات أختها الجامعية ومتطلبات البيت الغير منتهية وغيرها من المستلزمات اللآزمة، لذا عليها أن تعمل وتكدح لساعات إضافيه؛ جهد وطاقة مبذولان لم تظن أنها ستتحمل كل ذلك يوما.. لكنها ببساطه إعتادت كل هذا  وها هي تتخبط مع عجلة الأيام يوم جيد يليه غد  أفضل بالإرادة والمثابره .
لكن اللعنة كلما أقنعت حالها أنها هكذا أفضل وأن ذكراه ماهي إلا لحظات ضعف عابره يأتي ويظهر لها من العدم.. حتى أخباره لا تنقطع عنها حتى لو دون قصد من لسان تالا ومراد الذي يهتم لأمرةا كثيرا وطلبه الملح الدائم في عودتها لمشفاه والذي تقابله دوما بالرفض اللطيف خشية إحراجه، والآن تدرك أنها كانت على حق ماذا لو عادت إلى ذاك المشفى وحين عاد وجدها! فقد فعلها وترك غربته للأبد وعاد لسابق عهده وذلك ما كانت تدركه جيدا.. لم يكن ليتعايش وحيدا أكثر من ذلك .
زفرت ببطء وهي تتناول عدة حقائب لمشتروات جلبتها لتو تبعها ترجل من عربة الأجرة بعد ما نقدت صاحبها..  فقد قررت فور خروجها من منزل تالا أن تذهب وتتسوق بعض من المتتطلبات فالغد لديها جدول مزدحم.. وربما لأجل أن تتناسى وتعود منهكه فتغفو سريعا ولا تجد فرصة سانحة لتفكر او الغوص في  ذكريات لم تعد تجدي .
صاحب خطواتها الهادئه نحو مدخل العقار المتهالك إعتراض سمج من شخص سمين أكثر سماجه:
-مساء الورد يا دكتورة.
إستدارت تواجه  المدعو "صلاح" بريبه وهي تتقهقر للخلف في خطواتها وتستدير عنه من جديد منهيه تحيته بأخرى جامده:
-مساء النور يا أستاذ صلاح .. عن إذنك.
توقفت عن سيرها حين أمسك بمعصمها يمنع عنها رحيلها، فجذبت ذراعها بسرعة من بين أصابعه فتساقط مابداخل حقائبها وتبعثرت حبات البرتقال فوق الأرضية وهي ترمقه بغضب وتصيح فيه بتحذير مرتجف:
-لومامشتش دلوقتي هصوت وألم عليك الناس.
وإقترب أكثر يلفحها بأنفاس ملوثه بدخان أرجيله مقيت:
-ليه بس ياست البنات ده انا طالب القرب وكله في الحلال.
أشاحت بوجهها بعيدا عنه وهتفت من بين أسانها بقوة عله يفقد الأمل ويرتاح وينسى باب منزلها الذي لايكف عن طرقه كل يوم وآخر طالبا القرب.. وكل اللعنات تصب فوق رأسه وعلى هكذا قرب:
-قولت لك لأ يا أستاذ صلاح .. ولو إنت آخر راجل في الدنيا برضوه لأ.. إنت متجوز عيب كده! أرجوك إتفضل..
وصلاح تخلى عن جميع النساء لأجل تلك البحه الرقيقة مهما حاولت القسوة او الحده.. بل قدم آخر بطاقاته متأملا بها ربح:
-انا طلقت عيشه هي كده كده كانت أرض بور.. مش حجتك إن متجوز؟ أهي غارت مالكيش حجه بقى.. ها تحبي أكلم السيد حامد خالك ولا الست الوالده؟!
- لا هتكلم الحانوتي بس ماتقاطعش!
كانت جاحظة العينين تحملق في ذلك الكائن العجيب وفي حديثه الأعجب وقبل أن تفك عقدة لسانها كان يتدخل آخر عنها بقبضته.. ثم صفعه مدويه نالت من وجه صلاح مع سباب بذىء لأولمرةتسمعه منه لكنها إعتادت على سماعه في تلك المنطقه، أخرجها من معمعتها إستعابها لوجود ذاك الآخر وتهجمه المفاجىء مع أصواتهم التي بدت تعلو في وقت غير مناسب لذا صاحت فيه:
- سيبه!
ولم تكن تعلم أن رؤيتها أثارت زاوبعه التي لا تخمد، وما إن ولج مع بدر لداخل بجسده بينما عقله كان يصحبها، وما هي إلا دقائق وكان ينهض فجأة مغادرا تحت أنظار صديقه المندهشه.. وله أكثر من ساعتين قابعا في إحدى الزوايا الجانبيه،مكانه المعتاد الذي يلجأ له حين يمني نفسه برؤيتها، وظل يراقب نافذتها بصمت وشرود وبعد ماخاب أمله نوى الرحيل فصطدم برؤيتها تترجل من سيارة أجرة في ذلك الوقت المتأخر بعد ما طالع ساعته فوجدها قد تخطت الثانية عشر والنصف وحين عاد لها برأسه راى ذلك السمج وهو يتطاول عليها..  ولم يحتاج ليفكر في الأمر مرتين حتي يترجل على عجل ويشبع ذاك الحقيرمن اللكمات والصفعات.. وحين لم تجد منه ردا عادت تهتف من جديد دون تفكير:
-علشان خاطري سيبه.
طالعها بصمت إلا من حشرجة أنفاسه المهتاجه، لينفض بعدها يديه عن ياقة قميص ذاك اللزج  بعنف، ليفر بعدها الرجل هاربا متوعدا بكلمات متعثره، وعاد هو لها ببصره يرمقها بحده ويصيح بها:
-بقالك ساعتين خارجه من بيت بدر عايز أعرف كنت فين كل ده ؟! وإزاي تتأخري كده!
لاتنكر أنه أخافها بنظراته القاتمه تلك وهسيسه الغاضب.. لذا خرج جوابها متوجس مقتضب من هيئته:
- انا كنت بجيب حاجات وماحستش بالوقت.
وعقب كلماتها السريعة إنخفاصها الأسرع.. تلملم ما تبعثر منها بكف مرتعد، وسرعان ما إنخفض لمستواها بدوره يجمع الثمرات مثلها بحاجبين معقودين.. وحين إنتهيا وإستقاما من جديد سألها بتهكم بدالا من ان يناولها ثمراتها حتى ترحل:
-مامتك فوق؟
والسؤال حائر بحنق:
-ليه؟
غمغم ببساطة والإبتسامة الوليده لاتناسب هيئته منذ قليل:
-عايز أشرب عصير برتقال.
ونظرته التالية تخبرها؛ انتهى الماضي بكل ما يحمله بين ثناياه، ومن اللحظة سنترك الضوء يتسلل من جديد.. قسرا سنعيد لقلبينا البهجة والنبض المفقود.
*   *    *    *    *
أخيرًا إنتعش جسده المجهد بعد رحلة طويلة استنزفت طاقته كلياً.. تحرك بخطوات هادئة إتجاه صوان الملابس، يفرك بآنامله خصلاته المبتله بينما جذعه عاري إلا من منشفه عريضة تحتل خصره.. بينما عيناه تراقب بعجب تلك القابعة بصمت فوق الفرآش، على غير عادتها لا تثرثر ولا تصيح بأفعال والدته المتجبره وإلتزامها الصمت فقط لأجل خاطره.. انتهى من إرتداء بنطال قطني مريح تعلوه كنزه تماثله ومازالت على صمتها، فأخذ يمشط خصلاته أمام المرآه وعينيه مازالت تراقبها.. وحين لم تتحرك ولم تناظره حتى هتف فيها ساخرا:
-ربنا يستر ليكون عقلتي من ورايا!
ونجح في كسر تقوقعها ونال على حركة رأس هادئة نحوه مع همس شارد:
- تفتكر ينفع!
-هاه!
لوحت بكفها بلامبالآ لعدم فهمه وعادت تربع ساقيها فوق الفراش وتشرد بعينيها من جديد، فقترب باسل بقلق.. يطالعها من علو ويسأل:
-فرحة إنت كويسة؟ لتكوني تعبانة ولا حاجة!
جذبت كفه بسرعة حتى جاورها فوق الفراش، ومازالت ملامحه مشدوه لحركاتها المريبه وقبل أن يضيع أكثر في أفكاره إنتشلته من جديد بملامح مبتهجه فجأة:
- بيسو عايزاك تساعدني.. ممكن؟!
وكانت ترجوه بدلال وغنج برئ، فرفع حاجبه الأيسر مستفهما:
-في إيه؟
عضت فوق شفتها السفلى قبل أن تفجر أفكارها في وجهه:
- أنا قررت أجوزهم.
-هما مين دول!
وكان يسأل ببلاهه وتجيب هي بتصفيق حاد وجذل:
- ماتركز معايا كده  هيكون مين يعني.. خالو مراد وعمتو نبيله طبعا.
-نعم!
إحتقنت ملامحها من إستنكاره الواضح فعادت تهتف من جديد من بين ضروسها بفروغ صبر:
-باسل هتساعدني ولا لأ ؟!
تنهد ببطء وهو يراقب ملامحها الجديه قبل أن يعود ويحادثها من جديد:
- فرحة الموضوع مايتاخدش قفش كده.. مراد مش مراهق هيفرح بعروسة جيبهاله.. ده غير إن الموضوع ده عنده خط أحمر ومابيسمحش لأي حد يتدخل فيه، فاكره بسهوله كده هتقدري تعملي إللي أمه وأخوه الكبير ماقدروش يعملوه؟!
صمت لبرهه قبل أن يردف بحرج:
-بعدين ماتنسيش يعني مراد دكتور؛ راجل ناجح ومثقف.. بينما عمتك نبيلة يعني من غير زعل مطلقة وتقريبا مش معاها أي شهادة.. مش بقلل منها والله إنت عارفه كويس قوي أنا بعزها وبحترمها إزاي..  بس اللي أقصده  من غير حساسيه مافيش توافق بينهم ويوم ما مراد ياخد الخطوة دي بجدية ليه مايختارش اللي تناسبه أفضل وهي أكيد ربنا هيبعت لها اللي يسعدها وترتاح معاه.
غمغمت بإحباط:
- نديهم فرصة بس، هفرح قوي لو ده حصل.. الاتنين محتاجين سند، محتاجين سكن لروحهم الوحيدة.. وده مالوش علاقة لا بشهادات ولا غيره.. إنت عاجبك حال مراد كده يعني!
- مش موضوع عاجبني ولا لأ انا بفكر بالعقل.. والعقل بيقول إللي بتفكري فيه ده مستحيل.
نقر فوق جانب رأسها عقب آخر كلماته فتمسكت بكفيه ترجوه الفهم والعون:
- علشان خاطري يا باسل إحنا هنساعدهم يتقابلوا مش أكتر..  وبعد كده هنسيب له هو حرية التفكير والأختيار والله ماهتدخل تاني، أنا بس هخلق لهم فرصة يتعرفوا على بعض فيها.
ربت فوق كفيها قبل أن يتمتم آخر ما لديه بنظرات حازمه:
- مش هعمل ولا أساعد في حاجة انا مش مقتنع بيها.. وياريت تشيلي الفكرة دي من دماغك علشان زي ما قولتلك ببساطة ماينفعش.
وغادر..
نهض وغادر تاركا لها الحجرة فارغة إلا من أفكارها المتلاطمه والتي تعيث برأسها منذ أن وضعت صغيرتها غزل وكانت عمتها بصحبتها طيلة الوقت ولم تتركها وتعود للبلده حيث أبيها المسن حتى أتمت شفاءها تماما.. وكم مرة إجتمعت العائلة آنذاك وكانت عينيها لا تلتقط سوى مراد ونبيلة التي رسمت لهما معا في خيالها دروبا مهدت بالدفء والسكن كلاهما للآخر...  دروب أسقطها زوجها المبجل فوق رأسها في ثوان، لكن منذ متى وهي تستسلم؟
وفجأة أضاء عقلها بفكرة جديدة إتسعت لها إبتسامتها..
ستستعين تلك المرة بالجدة "طمطم"  من غيرها قد يدعمها في أمر كهذا.. لن تكل ولن تمل حتى تنال ما أرادت ولو بعد حين.
*  *   *   *   *
الإستعدادات على قدم وساق للحفل الهام الليلة.. فاليوم زفاف الطبيب المنتظر.. لم يكن بالأمر السهل الخوض في تلك المعركة من جديد و كان لباسل النصيب الأكبر في قضية الإقناع حتى رضخ الأبوين في النهاية لأجل خاطره.. ولكن سعادتهما المنقوصه تظهر جليه فوق ملامحهم، ليست تلك العروس ما تمنياها لبكريهم، أرادو كأي أبوين الحسب والنسب.. ورغم ذلك يحاولان إظهار شئ من البهجه والسعادة في هذا اليوم لأجله وفي قلبيهما غير مرحب بها فهي إبنة رجل يملك تاريخ ملوث وإن كان أصبح مجرد ماض، حتى لو كان لاذنب لها في ذلك كما يدعي العاشق الولهان، لا يتقبلان الأمر ولم يملكان سوى الرضوخ فقد إختارقلبه وأصدر الفرمان ولا داعي لخوض حرب الربح فيها للقلب دون غيره .
ينظر لسطح العاكس أمامه يتأمل صورته المكتمله بينما صديق الطفولة ورفيق رحلة الكفاح  يضبط ويعدل ربطة العنق بتمهل وتركيز، وحين إنتهى ضربه فوق كتفه بقوة صائحا في مرح:
-عريس، عريس يعني.
والعريس يسبل أهدابه ويحيط وجهه بكفيه ثم يستخف بسماجه:
-بجد يا بيدو!
أبعد بدر كفيه عن وجهه زافرا بحنق، فمنذ أن وقع على أسماعه ذلك اللقب اللعين من بين شفتي زوجته المصون وهو لا يكف عن تلفظه كل حين وآخر.. لكن وللأمانة شتان بين "بيدو" خاصتها و " بيدو" خاصته.. والآن لا بد من رد الصاع :
-ركز بس في اللي إنت فيه.. عايزك ترفع رأسنا مش تكسفنا وتتحجج بفتاق ولا غيره!
وقصف الجبهات نال الباسل الذي أنزل الهاتف على الفور، ضاغطا عليه بكفه حتى لا تصل غمغمته الساخطة لمحدثه عبر الهاتف:
-بقولك إيه نظام تحفيل مش عايز.. خليك في دور أم العروسة أحسن.
وعاد يكمل مهاتفته حانقا.. فقهقه الأثنان بصخب من ثم أخذ عريس الليلة يتابع سماجته بحالميه لا تناسب هيئته وسنه، لكنه يعلم جيدا ماتفعله بالواقف قبالته:
-مش مصدق إن هتجوز أخيرًا !
ولكمه زينة فكه رد طبيعي من الصديق لسماجته الزائده ونال أيضا على هتاف حانق قبل أن يتخطاه مبتعدا:
- ما خلاص بقى ماتقرفناش.
-الله يخربيتك.
هتف بها إسلام متهكما بغضب وهو يطالع فكه في المرآة بعد ما ناله من زرقة طفيفه  نتاج سماجته.
...............
وعلى بعد أمتار خلف باب مؤصد كانت تكمن العروس بزينتها المكتملة، خلف المرآه تطالع صورتها بصمت..
رفرفت بأهدابها عدة مرات  تمنع ظهور عبرات لعينة ستفسد زينتها؛ لا لن تبكي اليوم، يكفي لقد تعب القلب من كثرة النواح والنحيب.. ستتناسى بل يجب أن تتناسى كل ما يعكر صفاء حياتها، فقد آن للسعادة أن تطرق بابها وتطوف داخل حجرات قلبها؛ لأجلها.. ولأجله هو؛ طبيبها.. نعم هو يستحق أن تمنحه نفحات من السعادة تدغدغ بها روحه المتيمة بعشقها، فكلما إسودت بعينيها الحياة وتكاد أن تلفظ آخر أنفاسها، يأتي هو و ينتشلها من دوامتها من ثم يضمها لقلبه.. يخبرها أن هذا هو ملجأها الذي خلقت لأجله.. رباه!  كم تعشق هذا الرجل؛ ستهبه السعادة أينما وجدت فهي لا تليق إلا به.
أجفلت على ضمة حنون من أمها.. تحيطها بذراعيها من الخلف وتبادلها النظرات داخل المرآة كأنما تخبرها
" يكفي حزنا.. إسعدي حبيبتي.. إبتهجي يا عروس "
قبلت رأسها وهمست لها بشجن:
-أحلى عروسة شافتها عينيا.
تبسمت لها لمار بدورها ونهضت سريعا من جلستها، فتلقفتها الأخرى بين ضلوعها.. وحين هطلت دموع الوالدة أطلقت تالا زغرودة تشبه جرس الأنذار محذرة إياها بالتمادي أكثر.. والمحصلة؛ ستفسد زينة العروس بعد كل ذلك العناء.
وتقدمت روان تخلعهما عن أحضان بعضهما عنوه؛ فهي على يقين إن طالت الضمة ستهطل أمطارا لا دموع.. ثم هتفت بمرح حتى تلطف الاجواء وتقتل أي حزن قد يطفو:
-يلا العريس مستعجل.
وأكدت تالا بحماس:
-بيدو كلمني دلوقتي وقال إستعدو.
أنهت جملتها وقد سحبت العروس عنوة نحو المرآة من جديد.. بينما تولت روان أمر خالتها وسحبتها هي الأخرى لمرآة جانبية حتى يتممن زينتهن.. فاليوم للفرح والسعادة وفقط لا وقت لماضي مشبع بالآلآم والوجع .
وكانت لارا جليست ركن قصي بالحجرة تراقبهم بشيء من السخرية فهي برأيها كل مايحدث مزيج من السخرية والحماقة، بداية من عرض الزواج الذي عاد وقدمه البطل الهمام حتى قبول أختها عقب رفضها المسبق.. وكانت تعلم أن شقيقتها لن تبقى على رفضها طويلا كانت ستنحني له ما إن يقترب أكثر.. وها قد فعلت .
*   *   *   *   *
طِليِّ بالابيض طليِّ
يا زهره نيسان
طِليِّ يا حلوي وهليِّ
بهالوج الريَّان

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن