الفصل السابع عشر

68 2 0
                                    

(17)
هدية أولى

كم من غريبٍ أصبح قريبًا
وكم من قريبٍ بات غريبًا
أليست هذه الحياة.. هذه خياراتنا، الصائبة حينًا والخاطئة غالبًا..
أصابعه ضاغطةٌ فوق عجلة القيادة بقوةٍ، بينما عيناه تلاحق انكماشها بالمقعد الخلفي.. لا يكسر الصمت المطبق بينهما إلا أنفاسها اللاهثة الموجهة ناحية النافذة، أصابعها التي لا تتوقف عن التشابك والإنفلات بتوترٍ.. وحتى يخلصها من ذلك ويخلص نفسه من انتظار تلك اللحظة التي لابدَّ لها أن تتم في يومٍ ما؛ فقد كان ينتظرها.. وحينما أتت له الفرصة لم يتردد لثوانٍ.
اخترق مسامعها بنبرته الأجشة.. الهادئة:
- ماقولتيش ليه..؟
دارت برأسها بغتةً بقسماتٍ متجهمةٍ على أثر نبرته الهادئة.. ابتلعت غصتها الشبيهة بكرةٍ من الوبر وهي تطالع انعكاس عينيه في المرآة، ومع ذلك خرج جوابها الهامس جامدًا.. هادئًا مثله تمامًا:
- ماقدرتش..
جاء دوره ليطلق تنهيدةً كبيرةً، حارةً ليتابع بعدها بهمهمةٍ خفيضةٍ:
- ماتقوليش حاجة.
صمت لبرهةٍ يراقب فيها تصلب ملامحها من ثم تابع بنفس هدوئه المقيت:
- معرفته مش هترجع الزمن لوراء.. إسلام ماينفعكيش يا لمار ولا أنتِ تنفعيه.
هتفت دون وعيٍ بقسوةٍ غاضبةٍ:
- تقصد مانفعوش علشان رفضته زمان.. علشانك!
صمتت..
قطعت حديثها الغاضب، وهي ترمقه بازدراءٍ كريهٍ، بينما هو أوقف السيارة على حين غرةٍ على جانب الطريق وصريرها المزعج يرافق استدارته المباغتة لها.. يواجهها بوجهٍ غاضبٍ أكثر، وصياحه هذه المرة يعلو فوق هتافها القاسي وبالتبجح يختصر الكلمات:
- بالظبط كده ماينفعش يتجوز واحدة مشيت مع أخوه.
لآحظ بوضوحٍ عينيها الجامدة بدمعاتٍ حبيسةٍ، أنفاسها المتحشرجة داخل صدرها الذي يعلو ويهبط بألمٍ.. وفي ثوانٍ عاد لهدوئه المستفز ليدمدم ببساطةٍ:
- عارف أنا غلطت في حقك، وأنا مستعد لأي حاجة تطلبيها..
ونظرة الاحتقار المنعكسة داخل مقلتيها جعلته يتابع بإقرارٍ:
- بس إسلام ماينفعش.. قربك منه هيأذيه.
رفعت عينيها الجامدة إليه ولا تقوى على التفوه بكلمةٍ.. فاستطرد:
- لو بتحبيه بجد.. ابعدي.
شعرت بدوارٍ يجتاحها..
كيف؟
ومن؟
بماذا يهذي هذا المعتوه؟!
هكذا  ستحل المعضلة وتنتهي كأنما لم تكن..!
خرجت نبرتها متلعثمةً، صبغها القهر:
- وياترى بعدي عنه هايمحي حقارتك دي؟
عقب سؤالها المتوقع التوت شفتاه ساخرةً.. مغمغمًا:
- صدقيني الحقارة اللي بتتكلمي عنها دي ولا حاجة.
ابتلعت لعابها تلك المرة برعبٍ حقيقيٍ.. انزوت للخلف أكثر، تلتصق في المقعد حتى كاد أن يبتلعها وهي تنظر له بذعرٍ كأنها تراه للمرة الأولى.. رباه!
كيف أحبت شخصًا كهذا من قبل؟!
وهو جُلَّ مافعل أن استدار ببطءٍ عائدًا لوضعه السابق.. حرك المقود وعاد يكمل طريقه هاتفًا بتهكمٍ ساخرٍ:
- ماتخافيش، مأذتكيش قبل كده علشان أعملها وأنتِ خطيبة أخويا.
وعاد الصمت من جديد.. هو اكتفى من الحديث وهي اكتفت حتمًا بما سمعته.. وما إن وصل أسفل بنايتها حتى هربت سريعًا دون أن تنظر للخلف ولو لمرة.. يتابع هرولتها المتعثرة وكفاه يضغطان على المقود أكثر فأكثر.. أجفله رنين هاتفه فتناوله من الجوار وظلَّ يطالعه بصمتٍ قبل أن يرفعه لأذنه ببطءٍ، ونظراته تزداد قتامةً مع الهسيس الخطير المنبعث عبر الهاتف:
- أخدت فرصة وضيعتها.. كده أنتَ تستاهل أول هدية.
وأردف بهسيسٍ ساخرٍ قبل أن يقطع الإتصال:
- سلام يااا.. كابتن.
*  *  *  *  *
يومٌ طويلٌ مشابهٌ لكل أيامه، كل عالمه راكدٌ منذ زمنٍ، بلا روحٍ.. لم يتغير شيءٌ سوى منزله المتواضع هذا، باتت تدب فيه روح ذات خصالٍ ذهبيةٍ، وعيونٍ زرقاءٍ.. لا ينكر أنها تنتشله من عالمه الراكد بحمقاتها وثرثرتها الطويلة، ضحكتها على أقل كلمةٍ يتفوه بها أو فعل يقوم به والمثير للعجب أنه اعتاد تلك الضحكات وباتت تؤنسه.. تلك المجنونة ماذا تفعل به؟.. هو حقًا لا يعلم!
أغلق الباب خلفه وسار بخطواتٍ متأنيةٍ؛ حتى يرى ماذا تفعل تلك الكارثة الليلة.. توقف جانب حجرة والدته؛ حتى يتابع المشهد المكرر يوميًا.. لكن بمضمونٍ مختلفٍ كل ليلةٍ..
في إحدى المرات عاد ليجدها تتعارك مع أمه العجوز، والسبب أوراق اللعب وكل منهما تتهم الأخرى بالتزوير، والليلة التي تلتها وجدهما قد تصالحتا، وتالا تطعمها بفمها بكل ودٍ.. والليلة ليته ماعاد من الأساس حتى لا يتوقف قلبه من هول مايرى!
فأمه.. حبيبة قلبه.. حقل تجارب لتلك المعتوهة!.. اقترب أكثر فلم يعد يحتمل الوقوف كمتفرجٍ.. يقترب وحدقتاه تكاد تنفجر من التحديق بينما كفه يلامس قلبه يحثه أن يصمد حتى النهاية، وعيناه مازالت تتابع والدته المرتاحة فوق الفراش بسكينةٍ.. شملها بنظراته بدايةً من شعرها المتشبع بخصلات بيضاء كثيفة، وقد تم تصفيفه على شكل عقدة مستديرة عالية تجاورها زهرة حمراء بينما تلون وجهها بأصباغٍ متدرجة  الألوان و..
يا رب السموات!
أمه العجوز تضع أحمر شفاه بلون نبيذي قاتمٍ!
ولم تكتفِ بفعل كل تلك الكوارث، بل منكبةً بكل تركيزٍ تطلي أظافرها بلونٍ لعينٍ يشابه لون شفتيها.. تبًا لك تالا!
ما إن لمحت ظله ينعكس على الفراش حتى رفعت رأسها بغتةً.. وشهقتها كادت أن تصل للشقة المجاورة، انتفضت من جلستها و لم تهتم بأدواتها الثمينة التي تبعثرت فوق الأرض بهمجيةٍ.. تنظر إليه برعبٍ وتتمتم بدفاعٍ متعثرٍ:
- هي اللي طلبت أعمل لها كده علشان.. علشان باباك راجع من السفر النهاردة.
عقد حاجبيه في تعجبٍ وعاد يذكرحاله.. ألم يغادر والده عالم الأحياء منذ زمنٍ؟! هل الجميع أصبحوا غير أسوياء أم هو فقط يعاني من فقدان للذاكرة؟
اللعنة!
اقترب بحذرٍ بينما حجزت هي حالها بالزاوية وعيناها تراقبه.. سحب بضع محارمٍ ورقيةٍ بحاجبين معقودين ينوي تنظيف ما قامت تلك المصيبة بفعله حتى تعود له والدته التي يعرفها كما كانت.. رفع يده وهو يتمتم بكلماتٍ ساخطةٍ لاتتعدى مسامعه لكن  كف العجوز كانت له بالمرصاد وهي تمنعه من الإستمرار هاتفةً فيه بسخطٍ:
- في إيه ياواد مالك وراجع بدري ليه؟ روح خلص مذاكرة بدل ما أقول لأبوك وهو يتصرف معاك.
همس بحنقٍ من بين أسنانه:
- الله يرحمه ارتاح وسابني أنا.
والشهقة مع الصفعة الخفيفة تزين وجنته مع تعنيفٍ يستحقه:
- الشر بره وبعيد عاوز تموت أبوك يابدر.. طيب إيه رأيك أنتَ محروم من المصروف لشهر قدام.. وبردو هقول للحاج وهو يتصرف معاك.
وقبل أن يُدرك أنه نال صفعةً من كف والدته بهذا العمر، صدحت ضحكات تالا في أرجاء الغرفة أثناء هروبها السريع.. وبعد محاولاتٍ مستميتةٍ مع العجوز لم يستطع فعل شيءٍ سوى الخروج مغلقًا الباب من خلفه بهدوءٍ حتى تنعم والدته بخلوتها مع والده العائد من السفر!
رفع أكمام قميصه حد مرفقيه.. تخلى بعدها عن ساعة معصمه، من ثم توجه نحو باب الغرفة الموصد مضيقًا عينيه الرمادية العاصفة بتوعدٍ.. طرق الباب عدة مراتٍ وصوته الصارم ينفذ إليها:
- افتحي أحسن لك.. اتقِ غضبي، أنتِ لسه ماشفتيش حاجة.
لسوء حظها تعجز عن التخلص من نوبة الضحك التي انتابتها.. فقد حُرم من مصروفه ونال صفعة بسببها!
هتفت من بين ضحكاتها:
- مش هفتح..على جثتي.
وتوعده الخطير وصلها أيضًا:
- كده! استحملي بقى..
هدأت أنفاسها، وهي تستمع لوقع أقدامه الراحلة.. و لم تمر دقيقتان حتى شهقت بعلوٍ، وغادرتها ضحكاتها للأبد وهي ترى شيئًا ما يحشر في مزلاج الباب ودقيقتان إضافيتان و فُتح الباب ببساطة..
تقدم إليها بخطواتٍ وئيدةٍ يتلذذ فيها بنظرات الرعب التي تزين زرقة عينيها.. تركض بعيدًا ولا مهرب الآن، اعتلت الفراش تترجاه، وهو يتقدم ولا يعير كلماتها مثقال ذرةٍ.. قفزت لجهةٍ أخرى و ما إن استدار ناحيتها حتى عادت تعتلي الفراش مرةً أخرى، وبخدعةٍ بسيطةٍ منه كان يقبض على معصمها بكفٍ، والآخر يثبت به خصرها حتى لا تتحرك.. والآن لا خلاص من عينيه الثاقبة التي تخترق زرقة عينيها بحدتهما وأنفاسهما اللاهثة باتت متبادلةً..
تحدث أولًا بنبرته الخشنة:
- بقى تستغلي غيابي وتعملي كده في الست العيانة؟
تحاول الإبتعاد.. فيزيد من الضغط حتى التصقت بصدره العريض.. خرجت أخيراً نبرتها البريئة تصاحبها رفرفة الأهداب:
- هو أنا عملت إيه؟ هي كده كده كانت ناوية تقابله، بس كده هتقابله وهي مبسوطة وبعدين ليه مصر نعاملها كأنها مريضة؟
تابعت وقد بدأت تفقد ثباتها وتغوص داخل نوبة ضحك جديدة:
- بس والله ما كنت أعرف أنها هتحرمك من مصروفك و..
عضت فوق شفتها السفلى تكبح ضحكةً منفلتةً قسرًا.. تهرب من نظراته حتى لا تنفجر من جديدٍ وتقع في المحظور.. ضيق عيناه من مكرها الذي بات يعرفه وهمس بخطورةٍ:
- بلاش حركاتك دي معايا.. خافي على نفسك.
حركت كتفيها بلامبالاةٍ وكفها الحر يستريح فوق صدره:
- شوف تحب تعاقبني إزاي وأنا جاهزة.
ولأن الوقت متأخرٌ ولا يناسبه عقاب تنظيف الأواني أو المنزل أو حتى الزعيق والصرآخ في وجهها.. فماذا إن أزعج البشر في وقت كهذا وأقلق منامهم؟!
هي تعدت حدودها الليلة ومازالت تضحك ولا تبالي.. لهذه الدرجة أصبح متهاونًا معها؟ إذن وجب لها عقابٌ قاسٍ يلائم فعلتها..
ودون تفكيرٍ أكثر مال بشفتيه نحو شفتيها؛ يذيقها عقابًا من نوعٍ خاصٍ.. جديدٍ عليها وعليه من قبلها.. تخلى عن قيد معصمها ليتملك من خصرها ويقربها منه أكثر.. ليرتفع ذراعيها تلقائيًا حول عنقه وتلك المرة ليس بطلب حماية، بل لتبادل قبلته الشغوفة بأخرى تماثلها شغفًا.
ابتعد وتركها لاهثًا يطالع وجهها المحمر إثر قبلته القوية.. انتظر حتى تفتح عينيها لينشغل بهما، ويترك شفتيها المنتفضتين واللتين تثيران بركانه الخامد.. ولأنها لم تفعل ذلك لزمه تكرارُ العقاب مرةً.. وأخرى.
وستقضي المسكينة ليلتها في العقاب، والمعاقب لا يشعر بالإكتفاء.
........
مستكينةٌ بين ضلوعه تستمع لدقات نابضه المنتظمة، وعلى ثغرها أجمل إبتسامة.. لا تعي كيف اجتاحها بطوفانه دون سابق إنذارٍ، كيف و متى لا تدري جل ما تدركه أن هناك شيءٌ ما يجذبها لذلك الرجل.. رجولته.. عنفوانه.. مزاجه المتقلب..  بسمته التي تفلت منه وقت غضبه، نظراته التي تخترقها فتربكها.. كانت تسعى لإكتشافه في كل يومٍ بخطوةٍ لكن الليلة هو من قفز إليها متخطيًا عدة حواجز سبق و وضعها بنفسه..
رفعت رأسها قليلاً من فوق صدره المكشوف، تطالع ملامحه الهادئة وترتكز بذقنها عليه فتراه مسبلَ العينين بأنفاسٍ رتيبةٍ، ظنت أنه قد راح في سباتٍ عميقٍ حتى وصلها صوته الرخيم ومازال على وضعه:
- مالك؟
همست بعد تفكيرٍ.. بترددٍ:
- ليه عملت كده؟
افترق جفناه ببطءٍ ينظر لعمق عينيها قائلًا بصوته الأجش:
- أنتِ مش مراتي ولا إيه؟!
بادلته النظرات الحائرة قبل أن تعود لوضعها السابق  تلتصق فيه كقطةٍ شريدةٍ تنشد دفئه وملآذه الآمن:
- أنت مش ندمان على اللي حصل.. ومش هتسبني.. مش كده؟
شدد على ضمها لصدره وهو يهمس بدوره:
- أنا عمري ما ندمت على حاجة عملتها.. وسواء ده حصل بيننا أو لأ في الحالتين مستحيل أسيبك.
وكلماتٌ كتلك ودفءٌ كهذا الذي يحتويها أكثرُ من كافٍ لتغرق في نومٍ هادئٍ، فتهفو لقلبها دغدغاتٌ محملةٌ بنفحاتٍ من السعادة تذوقتها فقط بين يديه.
*  *  *  *  *
حبيبي .. مهما سافرت.. مهما بعدت
ومهما غبت.. يا روحي عني .. قريب مني
مهما طالت رحلتك .. مستنياك .. قلبي معاك
يا حبيبي .. في غربتك
مستنياك يا روحي بشوق كل العشاق
مستنياك تعبت تعبت من الأشواق
مستنياك وأنا دايبة يا عيني من الفراق
حبيبي ... حبيبي
أمرها بدر ليلة الخطبة أن تتوقف عن قبول تلك الباقات المجهولة لربما كان مرسلها سيءُ النوايا لذا من الأفضل قطع كافة الطرق من البدايةِ فإن كان ينوي خيرًا.. لِمَ لَمْ يظهر و يكشف عن نفسه حتى الآن؟
في النهاية انصاعت لأمره مرغمةً.. وظل يرسل، وهي تتلقى لمدة أسبوعٍ كاملٍ ومن بعدها إنقطعت الباقات، لا ورود ولا زهور وعادت لنقطة الصفر دون أن تعلم هوية المرسل، وكأن لا يكفيها حزنها على فقدان باقاتها اليومية؛ فالجميلة فرحة مكتئبةٌ نوعًا ما.. تحادثها كل ليلةٍ كعادتها، ولا فائدة.. تثرثر هي والأخرى تستمع بصدرٍ ضيقٍ، وآخر حكاياتهم الليلة كانت تخص تلك التالا التي شاهدتها ليلة الخطبة وكفها بين يدي زوجها..
هتفت ساندي بضيقٍ:
- بنت مايعة كده بشعر أصفر وعينين زرقاء ماعرفش عجبته في إيه..؟
أخفضت صوت الراديو الصادح بأغنية "مستنياك " واعتدلت في جلستها تهتف متذمرةً ليصل الأخرى الرد المتأفف عبر شبكات الهاتف:
- على فكرة أنا شفت صورها على الفيس وطلعت زي البدر ليلة تمامه.. وشكلها لذيذ مش ملزقة زي ما بتقولي.
لتعود ساندي لهمسها الحانق:
- لذيذ! أنتِ بس ماشفتهاش في الواقع علشان كده مخدوعة فيها.
غمغمت فرحة بجديةٍ مغتاظةٍ:
- هوالراجل حلي في عينيك بعد ما إتجوز! إللي يشوفك كده مقهورة يقول غيرانة منها.
ردت بصرامةٍ:
- أنتِ إتجننتي بدر أخويا.. يعني زي إسلام وباسل كده ومن ناحية بحبه فأنا بحبه فعلًا وقوي كمان وحاسة إن جوازته دي وراها سر بحاول أدعبس وأعرف من إسلام بس عامل زي القفل المصدي ماعرفتش أطلع منه بحاجة.. كل الحكاية إن بدر ابن حلال وغالي قوي عندي، كنت أتمنى له واحدة تناسبه بدل المايعه دي.
- ياستي ربنا يسعده.
وبعد حديثٍ طال بينهما في نقاشاتٍ وخلافاتٍ متتعددةٍ هتفت فرحة بقوةٍ حتى كادت أن تخرق أذن محدثتها:
- دلوقت روحي قولي له كده وسيبي الخط مفتوح عايزة أسمعه بنفسي.
- أيوة بس افرض عرف أن بنعمل عليه فيلم أنا ماضمنش إيه العواقب؟!
وفرحة أصرت على رأيها ولن تتزحزح؛  فقد ملت الإنتظار وتعب قلبها المسكين والتاع، وهو لا يبالي.. إذًا فلتتحرك هي..
وبالفعل نهضت ساندي مرغمةً بعد إصرار ابنة عمتها لتتجه نحو حجرة باسل بترددٍ.. أخفت الهاتف بجيبٍ منامتها ودلفت الغرفة، نظرت حولها لم تجده.. مدت يدها نحو الهاتف تخبرها أن الخطة فشلت من قبل البداية؛ فالغرفة فارغة لكنها أعادته سريعاً بإرتباكٍ ما إن وصلها صوت باب الحمام الداخلي يفتح، وقفت بثباتٍ تستجمع قواها وتبدأ التنفيذ.
خرج بعد ساعة ونصف الساعة من تحت رشاش الماء البارد.. خصره ملتف بمنشفة عريضة، بينما شعره وجسده يقطر ماءً.. رآها تتوسط حجرته دون سابقِ دعوةٍ، لم يهتم وتحرك ناحية الصوان يقلب فيه ورغم قسمات وجهه الغير مريحة لم تتراجع..
هتفت بتلعثمٍ:
- باسل كنت عايزة أتكلم معاك في موضوع.
والرد جاف:
- خير..
تنحنحت وأخذت خطتها قيد التنفيذ:
- فرحه.. يعني.. أقصد متقدم لها عريس وأنكل حسن تقريبًا موافق و.. و يعني هو حد كويس وكده.. ها بقى أنتَ رأيك إيه؟!
ارتكز بكفيه على الصوان، بينما رأسه مائلٌ للأسفل وأنفاسه اللاهثه تزداد ضراوةً ليغمغم بعدها بصوتٍ هادئٍ.. جامدٍ:
- خليها تشوف نصيبها..
صاحت فيه بصوتٍ مصدومٍ.. مغتاظٍ:
- أنتَ بتقول إيه..!
والجواب تلك المرة غير هادئٍ تماماً.. ضرب فوق الصوان بقوة حتى آلمه كفاه وهو يعيد جوابه بنبرةٍ أقرب للصراخ القاسي:
- قلت لك خليها تشوف نصيبها بعيد عني..
واستدار يواجهها بعينيه المحمرة القاسية؛ ليردف سائلاً إياها بحدةٍ:
- صعبة دي؟
ظلت تطالعه بوجهٍ جامدٍ لا تعرف ما أصابه.. هل هذا توأمها؟! لقد نفذت خطة فرحة كما طلبت منها لأنها واثقة أنه لن يسمح بذلك لكنه.. يا إلهي!
تحركت تهرول لخارج الغرفة، استلت الهاتف، وأخذت تهتف باسمها تخبرها أنه ليس على ما يرام  وأنهما قد اختارتا التوقيت الخاطئ فليخبرناه أنها مزحة فقط لاغير..
لكن لا مجيب سوى صوت المذياع..
للدرجة ديا .. تغيب عليا
وتهون عليك دمعة عينيا .. ويهون هواك
خايفة الأسية .. تاخد شويه
من شوقي ليك أسال عليا .. وإنت هناك
*  *  *   *  *
كان قد قارب الفجر على البزوغ حين ارتمى بجسده فوق الأريكة خاصته داخل غرفته بالمشفى.. بدأ أمسيته بعشاء معبق برائحة البحر برفقة الحبيبة وانتهى به الأمر داخل حجرة الولادة.. أي هناءٍ هذا الذي يحياه؟!
استل هاتفه يفتح تطبيق "الواتس أب" وأرسل لها على الفور..
- نمتي؟
* لسة .. روحت؟
- لا عندي جراحة تانية كمان ساعتين.. كسلت أروح وأرجع تاني.
- لمار
* هممممم
-أنا آسف.. عارف أن إعتذراتي كترت وأنتِ مالكيش ذنب لكن والله غصب عني.
* أنا أكتر حد يعرف طبيعة شغلك علشان كده مافيش داعي كل شوية تعتذر.. بس بكره لآزم أتكلم معاك ضروري، هخلص كشوفاتي وأطلع لك نتكلم.. أوك؟
- في إنتظارك من دلوقتي (
*  روح نام بقى، ساعتين أحسن من مفيش.. أكيد مش قادر تفتح عينيك.
-هو أنا قولت لك إني بحبك قبل كده 💙
*  كتييييييير  -_-
- طيب ما تيجي نتقابل 😉
* دلوقتي!! إزااااااي 😳
- في الحلم 😊
* ربنا يهديك😤   يلااا تصبح على خيييير.
-وأنتِ من أهلي 💋 💋
* الأيموشن ده تاني 😒
-أي حاجة فيها بوووس بحبها 😚
*  قليل الأدب 🙈🙊🙉
- عااااااارف 😎
أجمل ما في تلك التطبيقات أنها لا تنقل الشعور كما تنقل الكلمات.. تركت هاتفها على الكومود المجاورلفراشها وضمت جسدها بقوةٍ.. عيناها تحوم في الظلام الدامس من حولها بينما كلماته لا تزال تدوي  وتخترق السكون.. لم تعِ شيئًا ولم يصلها ماذا يريد تحديدًا.. لم يريدها أن تبتعد عنه هكذا ببساطة لتكسر قلبه من جديد؟ بل كيف تفعلها؟!
ماذا أصاب ذاك المعتوه ليقل كلامًا كهذا..
رباه.. يبدو حقًا كمعتوهٍ حقيقيٍ مصاب بخللٍ ما في عقله، يريد أن يحافظ على صورته أمام أخيه وحتى يفعل ذلك عليها هي أن تدفع الثمن، وتبخس من نفسها أمامه، تشوه صورتها بعدما ما أصبحت تخصه، تطعنه دون وجه حقٍ ولأجل من؟
مئات من الأسئلة والأجوبة مبهمة غير واضحة والحل هو واحد لا غيره.. هذه المرة لا سبيل للرجوع لتنهي تلك الحكاية، وفي جميع الأحوال سيكون أهون من عذابها الذي باتت تتعايش معه منذ أن رأت الآخر ، ولا يكتفي بل يزيد رعبها الليلة بحديثه الغريب، و ألآعيبه التي مازال يخترعها حتى يبرر ما قام به.
*  *   *  *  *
كان ما قد كان.. مات
كان في عينيك حلم
خانني وسط الطريق
حين صار الموج وحشًا
لم يعد يرحم أنات الغريق
كان في عينيك حلمٌ
يعزف الألحان في عمري.. وعمرك
أغنيات للطيور..
كان سرًا من خبايا الصبح حين يجيء
في ليل جسور
بحر عينيك توارى
جف ماء البحر في صمت
وصار الآن أسماكًا
تساقط جلدها بين الصخور
كيف صار اللؤلؤ المسحور
أحجارًا على الطرقات حائرة
وفي هلع.. تدور؟
كيف صار الموج في عينيك شيئًا.. كالرفات؟
كيف مات الطهر فينا
كيف صرنا كالأماني الساقطات؟
آهٍ من عينيك آهٍ
لست أدري في رباها غير عنوان
أراه الآن ينكرني
قلت يومًا.. إن في عينيك شيئًا لا يخون
يومها صدقت نفسي..
لم أكن أعرف شيئًا
في سراديب العيون
كان في عينيك شيءٌ لا يخون
لست أدري.. كيف خان؟
ليس يجدي الآن شيء
فالذي قد كان.. كان
احرقي الأحلام والذكرى
فما قد مات .. مات
وأخرسي دمعًا لقيطًا
ما الذي يجدي لكي نبكي على هذا الرفات؟
" فاروق جويده "
***
هل جربتم من قبل إحساس النصل الحاد المغروس بين ضلوعكم فيصيب القلب دون غيره؟
هل ذاك الشعور مؤلمٌ؟
ماذا إذًا إن كان الطاعن أقرب ما يكون للقلب المطعون، هل يدرج ذلك الشعور تحت مسمى الألم أيضًا!
مقطع فيديو مرسل لحسابه الشخصي لم يهتم من يكون المرسل بل في الأصل هو ممتنٌ له.. فقد بات يعلم الآن لم كانت تبكي عروسه ليلة خطبتهما، ولم اختفى أخوه دون سابق إنذارٍ، وهو من كان ينتظر قدومه، وحين سأله أجابه ساخرًا أنه هو من كان لا يرى أحد غير عروسه.. انطفأ  شعاع العسل داخل عينيه وتحول دفئهما لبرودةٍ امتدت وتشعب صقيعها حتى قبضت على قلبه المطعون واعتصرته دون هوادةٍ.. والسبب نظرة عينيها العاشقة لغيره التي رآها من قبل وأرقت مضجعه لشهورٍ.. فبات يميزها من بين ملايين النظرات.. والآن تجسدت أمامه بشكلٍ آخرٍ وسط حفل زفاف وشقيقه يتنقل بين الحضور بجيتار يخصه  يعرفه حق المعرفة بينما عيناه لا ترى غيرها.
وهي.. هي تبادل نظرته بأخرى مماثلة بل تبدو عاشقة!
نعم أخبرته من قبل أنها على ذمة عاشقٍ، وقلبها ملكٌ لآخر لكنها لم تخبره أن ذاك العاشق والمالك لقلبها هو في الأصل أقرب له منها.

دوامة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن