الفصل الخامس

83 6 2
                                    

الموت لا يوجع الموتى
الموت يوجع الأحياء
_محمود درويش_
*****

بداخل كل منا قمقم معتم نخفي به مرارتنا..
آلامنا وفشلنا...
نخفي به الخيبات والأوجاع والجروح ...
الشجعان فقط من يستطيعون فتح هذا القمقم المختوم بالسواد ومواجهة المارد المخفي بداخله ...
ذلك المارد الذي نصنعه بأنفسنا وننساه فيظل يتضخم ويتضخم كلما ازدادت مخاوفنا ونقاط ضعفنا
...
لكن قدرتنا على فتحه ومواجهة ما بداخله لا تعني بالضرورة انتصارنا عليه
~~~~~~~~~
واقفة بمواجهة ذلك البيت العريق الذي لم يتغير به أي شيء رغم مرور السنوات ...
تلوح لها الذكرى تلو الأخرى ..
تكاد تسمع صوت الضحكات الصاخبة المرحة
لكنها تتذكر أيضا صرخات العذاب والانكسار
تتذكر الدموع التي سكبت بمرارة في حجرها
فتحت فمها تحرر زفيرا مرتعشا ...ورغم ارتجاف جسدها والبرودة التي اجتاحتها أمسكت بكف والدها الذي لم يقل عنها تأثرا تدخل معه قمقم الذكريات
....
كان باب البيت مفتوحا...
لم تتغير هذه العادة أيضا...
وقفت تطالعه برهبة للحظة ثم اجتازته مرتجفة ...تعلقت عيناها فورا بالدرج اللولبي الطويل وتمنّت للحظة لو تنزل شعلة السلام لترحب بها كالعادة منذ كانتا طفلتين وحضرت مع والدها لزيارتهم....
حتى الآن لا تصدق بأنها خسرتها ...ترفض أن تودعها ..ترفض المضي بحياتها متناسية ...
نزل مسعود الدرجات مهللا واقترب من أخيه يعانقه وكان على وشك تقبيل رأسها لولا أنها تراجعت مشمئزة كارهة فجعد مسعود شفتيه بامتعاض وعاد لأخيه يقوده لغرفة الجلوس بالأعلى ...
الا أن يارا أوقفته تقول بهدوء آمر :" أريد مفاتيح غرفتها "
نظر لأخيه بطرف عينه للحظة ثم استدار اليها ليقترب منها يضع مفتاحا قديما في كفها على مضض
*****
جاهدت لفترة قصيرة مع القفل الصدئ قبل أن تتمكن من فتح الباب
ووقت للحظات طالت محنية الرأس والكتفين ترتجف من رأسها وحتّى أخمص قدميها
سكن الوهن أطرافها وودّت لو ترجئ هذه المواجهة لوقت لاحق
لكنّ يارا الصادق لا تتراجع...أبدا
ما دامت وصلت هنا. لن تتراجع
بهدوء وإرادة حديدية ، دخلت الغرفة وحررت ماردها...
وقعت نظراتها فورا على السرير الصغير في جانب الغرفة وتراءت لها في الحال صورتها وهي تبكي بحسرة وعذاب وحرقة تضع رأسها على ركبتيها تسألها المعونة بانكسار ووجع
....
وماذا فعلت هي؟ لقد تخلت عنها ...تركتها تواجههم وحدها وهربت لحضن أمها منبهرة بالبريق الخادع لحلم العائلة...أرادت عقاب والدها فدمّرت كلّ ما كان .....
كانت أنانية ..لكنها لم تملك الاختيار ....
قبضة غاشمة امتدت تمسك بقلبها تعتصره بقسوة حتى أنها شعرت بالألم حيا...عيناها اغرورقتا بدموع كاوية طال حبسها
فغرت فمها متأوّهة بخفوت:" سلام...أنا قد جئت .. الخائنة عادت "

لم يقابلها سوى الصمت فجالت بنظراتها في المكان بعجز واختناق حتى رأت صورة كبيرة مؤطرة بإطار مزخرف معلقة فوق الحائط المواجه لها وكأنّها تسخر منها ...
صورة لها مع سلام تقفان متجاورتين تناظران بعضهما بسعادة تتمسكان بيدي بعضهما بتشدد وشيء لامع يتدلى من عنق كلّ منهما.
يومها كان عيد ميلاد يارا ...
تذكر أنها حزنت لغياب أمّها عن حفلها وقد كان أوّل ميلاد تقضيه بتونس ورفضت والدتها الحضور لانشغالها.
وقد حاولت سلام التسرية عنها فأحضرت لها قلادة فضية يتدلّى منها نصف قلب رقيق واحتفظت بالأخر لها.
مازالت تشعر بدفء حضنها وهي تقول بوعد:" منذ اليوم سنكون أختين . لن تتخلّى احدانا عن الأخرى مهما كان الثمن"
همست يارا بوجع :" لكنني تخليّت. خنت العهد يا سلام ..خنت عهدنا ورميتك للموت بيدي ....بيدي هاتين ...بيدي قتلتك...قتلتك ولم أهتم حتّى برمي حفنة تراب فوقك ...أحرقتك يا أختي "
ثمّ وبيدين مرتجفتين كانت تحمل الصورة لتلقيها بعنف  فتتناثر شظايا زجاجها فوق الأرض محدثة صوت تحطّم مفزع لم يكن بالتأكيد أعلى من صوت روحها الملتاعة...
انهارت ببطء حتى جلست على ركبتيها تضحك بمرارة وحنين تستعيد صرخات الفرح التي ملأت هذه الغرفة يوما...
تتذكر الوعود الرنانة والأحلام الملونة...
تكاد تلمس أطياف الذكريات التي تدور حولها بجنون والقبضة تعتصر قلبها بدون رحمة..
روحها تختنق وقلبها ينزف...
كانت عاجزة عن التفوه بحرف. ...
تدور عيناها تتفحصان المكان وضحكاتها تتعالى حتى تحولت لبكاء عال مفزع تتخلله شهقات تمزق نياط القلوب...
كان رد فعل متأخر جدا ..رد فعل أجلته لسنتين كاملتين... ...
كتمت الوجع ودفنته عميقا في قمقم مختوم يحرسه مارد عملاق صنعته على مدى سنوات من تراكم الخيبات
وها هو المارد قد تحرّر أخيرا وسيفتك بها
ظلّت تصرخ وتصرخ باكية بلوعة تفرغ كلّ ما بجعبتها علّها تستكين أخيرا...
....
~~~~~~~~~~~~~
خرجت سامية من غرفتها وقد ارتدت عباءة فخمة واتجهت لغرفة الجلوس الواسعة لتحيي أخ زوجها ...
جلست على أحد المقاعد بجانبه متجاهلة نظرات زوجها وقالت تسأله بود متصنع :" كيف حال السيدة ماري زوجتك يا عزيز؟ ألم تحضر معك ؟ هل هي مريضة كالعادة أم أنها لا تزال رافضة أصولك الريفية ؟
"
رمقها مسعود بنظرة زاجرة أخرستها بينما قال عزيز ببرود:" طليقتي يا سامية وبما أنها كذلك فلم يعد مناسبا زيارتها ....عموما هي بخير وتسلم عليك..
."
أومأت دون اقتناع ثم نهضت متوجهة للمطبخ بينما تابع مسعود حديثه مع أخيه :" ابنتك قليلة أدب يا عزيز...أرأيت كيف تعاملني؟ ....لم يكن عليك أن تتركها لأمها كل هذه السنوات خلال طفولتها "
قال عزيز بقوة يوقفه:" الا يارا يا مسعود...أنا لا أسمح لك .."
الا أن مسعود لم يتوقف بل تابع بجلافة:" لو كنت أنا من ربيتها لما..."
قاطعه عزيز بحدة ومرارة:" هل أردتني أن أستأمنك على قطعة من روحي يا مسعود ؟ وقد ألقيت ابنتك لتحترق بدرك الجحيم.
ابتعد عن يارا ولا تفكر مجرد التفكير في مخاطبتها حتى ..انها أملي الأخير في الحياة ولن أسمح بأي ضرر يصيبها...كن حذرا يا أخي لأنني لا أسامح بحق يارا""
سكت مسعود مجبرا بينما اتجهت عينا عزيز للنافذة المقابلة وقد تركزتا على عصفور صغير أبيض اللون حط عند حافتها....
وأخذته الذكرى بعيدا
***
سكينة ...سكينة توقفي ....توقفي ...
كان يركض خلفها في الحقل الواسع بعد أن أغرقت ثيابه بمياه الخرطوم الذي يستعمله العمّال لريّ الأشجار...يلاحقها بمرش أخضر اللون كبير محاولا الانتقام يناديها لتتوقف
وإجابتها لم تكن سوى ضحكات صاخبة وهي تواصل جريها ...
تعثرت فاعتقلت ذراعاه خصرها يسندها بينما دفعته هي بغضب لتهرول هاربة وعيناه تراقبانها بشوق ..."

وقد حل ربيعك بروحي! حيث تعيش القصص. اكتشف الآن