الفصل الثالث 🥉

123 6 0
                                    

وبرغم الريح وبرغم الجو الماطر والإعصار، الحب سيبقى يا ولدي أحلى الأقدار
نزار قبّاني
***********
عندما سافر لإكمال دراسته بالخارج بعدما حصل، كان يرى الدنيا بنظرة سوداوية حانقة...ولمّا عاد منذ سنوات برفقة طفلته رآها بنظرة أخرى. أمّا الآن فهو يراها بنظرة مختلفة كلّيّا...نظرة رضا واكتفاء وسعادة
طوال سنيّ غربته كان يرفض رفضا قاطعا توسّلات والده له كي يعود...كان يحسّ بالاختناق بعد كلّ مكالمة له مع عائلته ويظنّ بأنّ والده يبالغ في تعبيره عن شوقه ...
لكنّه فهم بأصعب الطّرق مدى قسوة شعور الفراق عن قطعة من روحه حينما طردته ابنته من حياتها وهجرته ...
سنتان أمضاهما يتحرّق شوقا لكلّ لفتة منها ...
يلاحق صورها بهوس...يظلّ يترجّى جودي لتطلعه على آخر أخبارها وأحيانا تساعده ليكلّمها في فترات وهنها النادرة...
فهم سبب دموع والده وتوسلاته...فهم وجع الفراق...
ظلّ بروح مشطورة تهفو توقا لقطعة منها...
ليارا ...
وها قد حنّت ابنته أخيرا...
أخيرا
وصل لنهاية السّباق وفاز
سباق ؟ لا ، بل صراع خاضه منذ سنتين ليعيد ابنته لأحضانه
واليوم وصل لنهاية الطّريق
انتهى الشتاء والصّقيع وسيحلّ الدّفء
يارا عائدة
أهناك شيء أجمل من هذا الخبر؟
أهناك فرحة تعادل فرحته؟
طفلته ستعود لأحضانه لتستكين روحه أخيرا
ستعود فلذة كبده لتنهي عذابه بفراقها

"يارا قادمة"
كرّرها عزيز بغير شعور
كان يذرع غرفة المكتب جيئة وذهابا متحمّسا بشدّة ينظر كلّ لحظة لساعة يده.
طرقت منيرة باب مكتبه بهدوء ثم دخلت تضع كوبا من العصير فوق طاولة المكتب
رفع عزيز الكوب لفمه وقال بفرح:" ابنتي ستعود اليوم يا أختي منيرة"
أومأت مبتسمة وهي تغالب دموعها :" أجل ..ستعود ..مبارك"
ردّ عزيز بصوت مرتجف:" ابنتي ستعود لحضني ...لن أكون وحيدا بعد اليوم...يارا عائدة...(ثم استطرد بتوتّر): هل غرفتها جاهزة؟ هي تركت بعض ثيابها هنا لكنني سأشتري لها ثيابا أخرى وربّما نغيّر أثاث الغرفة ؟ هل ستعجبها يا ترى؟"
أومأت موافقة بتأثّر متمتمة:" ستعجبها. لا تقلق""
عاد لينظر لساعته وهتف فزعا:" لقد تأخّرت "
ثمّ خرج راكضا بسرعة وكأنه شاب في العشرين من عمره...
********
حطّت الطّائرة على الأراضي التّونسيّة أخيرا وعلا صوت الطّيّار مرحّبا بالجميع يعلمهم بوصولهم لمطار تونس قرطاج بسلام...
نظر ربيع من النافذة بشوق موجع ...
كان بداخله مزيج معقّد من المشاعر ما بين خوف ..وجع وفرح وحنين..
ورغم كلّ ما كان يكبّله من تعقيدات
فقد ترك قلبه يطير لهفة وأملا...
كان جوّ بلاده مختلفا ...ليس كأيّ مكان ...يشعر بروح مختلفة هنا،
بهالة سحريّة دافئة تملأه بالطّمأنينة والرّاحة وهو طالما عرف هذا
ولأنّه يعرف فقد كان يتجنّب العودة.
يتوقّع أن ينهي الإجراءات في وقت معقول نظرا لأنه لم يحمل سوى حقيبة صغيرة معه..
فهو لن يبقى طويلا. أليس كذلك؟
عبر بوّابة الدّخول بخطى مرتجفة شوقا وحنينا ولم يملك سوى أن يتساءل
ترى هل ستحضر لاستقباله؟
***********
سمعت مرة مقولة أحبتها :" انما سمي الإنسان إنسانا لقدرته الفائقة على النسيان" وقد حاولت
حاولت على مدار سنوات فعلها
حاولت أن تنسى عينين يسكنهما ربيع دافئ طالما غمر روحها وزرع بها شيئا من السحر يجذبها نحوه فتسلم نفسها خاضعة لسلطانه ...
كانت كل نظرة من تلك العينين تزرع بداخل روحها نباتا بديعا تتأصّل جذوره وتنغرس بأعماق قلبها .... لكنّ الرّبيع سرعان ما رحل وبقيت روحها وحيدة مقفرة غير قادرة على النسيان منتظرة أن يحل بها الربيع مجددا
نادت " بشائر" بغضب:" غاية....يا غاية. .أين أنت؟.. الجميع ينتظرك منذ نصف ساعة...أسرعي يا فتاة ...والدك أوشك صبره عل النفاذ..."
من خلفها قال رضوان بهدوء ساخر :" لا... مازالت بحوزتي كمية محترمة ولله الحمد....أتركي ابنتي على راحتها.. الوقت ما يزال مبكرا وربيع بنفسه أخبرنا أن نحضر بعد وصول الطائرة لا قبلها...ألا تعرفين أن الاجراءات بالمطار تستغرق وقتا؟"
اقتربت منه بشائر تنظر اليه بشر قائلة: "أعرف..... لكنّني أريده أن يجدنا في انتظاره لا أن ينتظرنا هو... كما أن أسامة سيأتي قريبا ليقلّنا..." .
أجابها رضوان وهو يقلب أوراق جريدته بملل :"حسنا... حسنا اهدئي... سنصل في الوقت المحدد.. توقفي عن قلقك الزائد وسيمضي الأمر بخير "
ثم تابع متذمرا :" هداك الله يا بشّار ...عائلتان كاملتان يجب أن تذهبا للمطار لاستقبال ابن أخيك المدلل .... أضعت علي يوم العطلة وساعات النوم الإضافية الثمينة التي أحظى بها مرة كل ربع قرن"
كانت بشائر على وشك الرّد الاّ أن دخول رؤيا قاطعها فاقتربت منها تربت على رأسها تتفحص ملابسها بإعجاب وفخر أمومي كعادتها...لطالما كانت رؤيا كنسمة صيفية منعشة هادئة

وقد حل ربيعك بروحي! حيث تعيش القصص. اكتشف الآن