وحين تخونك أنفاسك، ينقذك القدر"
****عندما تحبّ المرأة تحبّ بصوت عال وتعبّر عن حبّها بالصّورة والصّوت، أمّا الرّجل فيمتصّ حبّه كما تمتصّ ورقة النّشّاف قطرة الحبر ويتآكل قلبه تدريجيّا كما يتآكل محرّك السيّارة من داخله..
-نزار قبّاني-
~~~~~~~~~~~~~~
تقلّبت تسنيم مرّة أخرى في فراشها قبل أن تيأس وترمي اللحاف بعنف تستقيم ناهضة ...
فتحت باب شرفتها وخرجت لتقف هناك متنعّمة بالنّسائم الصّيفية الصباحية الباردة ...
لم تنم لحظة واحدة منذ عادت مع أخويها...
التفكير أضناها...
أتكون مخطئة؟...ليتها تكون فعلا..
لكن لا ...هي ليست مخطئة...
الأمر بدا واضحا وضوح الشّمس لها ومن غيرها سيفهم أخاها الحبيب الذي تحفظه كخطوط يديها؟...
تأمّلت السّماء الرمادية شاعرة بالخوف يجثم على صدرها...
كان هناك شيء غير طبيعي في جلستهم ببيت عمّتها
أهي الكيمياء التي لاحظتها بين غاية وربيع أم تصرّفات عمّتها وزوجها؟
هل ربيع يحبّ غاية أم أنّه معجب بها فقط؟
ابنة عمّتها جذّابة جدّا خاصّة بشخصيّتها الحيوية تلك...وبالتّأكيد ستحظى بالاهتمام دون أن تقصد حتّى
لكنّ ربيع ليس في وضع يسمح له أن يحبّ أحدا خاصّة وأنه سيكون في منافسة مع ....أخيه .
الجميع يتوقّعون زواجها وأسامة بعد نجاحها في مناظرة التخصّص.
يا إلهي يا أخي ما الذي فعلته بنفسك؟
كيف سيتحمّل ربيع هذا؟
لكن ماذا عن غاية؟
أتراها تحبّ ربيع أم أسامة؟
فكّرت بألم بأن الأمر سيّان ففي الحالتين ستحدث كارثة.
يا ليتها ما أقنعته بالعودة...كانت لتصوّر له بثّا حيّا بكلّ وقائع العرس كما تفعل في كلّ المناسبات ...
يا ليتها ما ألحّت عليه ...
نزلت للمطبخ لتعدّ كوب حليب علّه يساعدها على النّوم ...
وما أن دلفت إلى هناك حتى كانت تصرخ بفزع حين تفاجأت بوجود أسامة فبسملت وهي تتنفس بعمق
نظر إليها أسامة الذي كان يعدّ البيض المخفوق بتسلية وقال :" صباح الخير تسّو ...هل شممت الرائحة فأتيت؟"
لم يكن مزاجها سامحا بالمرح فقالت بجدّيّة:" لا ...أتيت لأعدّ بعض الحليب جافاني النّوم"
"ستعودين للنّوم الآن؟"
همهمت وهي تخرج علبة الحليب من الثلّاجة :" أجل ،لماذا؟"
أطفأ أسامة الموقد ووضع ما أعدّه في صحن ثم جلس إلى الطّاولة وقال:" السّاعة الآن الخامسة والنّصف ...لم لا تخرجين معي للركض ؟"
تثاءبت تسنيم وهي تجلس جواره تخلط الحليب الذي أعدّته ببعض العسل :" ربّما لأنني أكاد أقع على وجهي بسبب التّعب؟"
"حسنا...كما تريدين أميرة تسنيم ..هل أحضر لك شيئا ما؟"
وضعت يدها على فمها وتثاءبت مرة أخرى ثمّ قالت بلهفة:" أجل بعض الكرواسو بكريمة الفانيلا...عمّي شعبان يحضرها بالشكولاتة وأنا لا أحبّها ..وأريد رقائق بطاطا بنكهة الفلفل و...فقط...لدينا عصير ويوغرت (زبادي)..."
أحنى أسامة رأسه بطريقة ملكيّة وهو ينهض من مكانه قائلا :" أوامرك يا أميرة...لكن لا تنسي أن تنظفي الأواني...إن وجدتها الخالة منّوبيّة متسخة ستدفن كلينا"
طبع قبلة على جبينها ثم خرج من المطبخ بينما تأملته عينا تسنيم بخوف من القادم...
*********
لم ينفعها الحليب في شيء لذلك ارتدت ثيابها ونزلت للأسفل ...
كانت منّوبية قد استيقظت لتجهّز فطور الصّباح الذي طلبت يسر أن يكون في الحديقة بسبب الطقس الرائق اليوم ...
وكالعادة رفض ربيع الانضمام إليهم متعلّلا بأنه سيفطر برفقة صديق له ...
أمّا أسامة فبعد أن عاد إليها بما طلبته خرج أيضا متّجها لعمله...
وظلّت هي وحيدة برفقة والديها ...
لم تمسّ شيئا من الطّعام أمامها ...كانت فقط تقلّب قهوتها بشرود بينما أبواها يتجاذبان أطراف الحديث...
قال صالح بحزم بعد أن أنهى فطوره:" لقد وافق رضوان على عرضي يا يسر ...سنمضي أسبوعا في المزرعة قبل العيد إن شاء الله...أخبري أم سارة لتنضم إلينا مع عائلتها "
سعلت يسر وقالت بفزع:" لا أظن الفكرة سديدة يا صالح...المرأة متمسّكة بالعادات والتّقاليد ولن تقبل"
مسح صالح فمه بمنديل ورقيّ ثم ربّت على ذراع تسنيم سائلا :" ما رأيك يا ابنتي؟"
ردّت تسنيم :" أظن أنّ يسّور محقة ...لكن اسأل رامي يا بابا هو الأعلم بحماته"
أومأ صالح مستحسنا اقتراحها ...
وما أن تحرّك والداها كلّ لشأنه حتّى كانت هي تتجه نحو المرسم وقد تشكّلت فكرة ما في عقلها ...
وجدت الباب موصدا فذهبت لغرفة مكتب والدها وبحثت عن نسخة إضافية للقفل..
وجدتها بعد عناء فعادت إلى هناك
فتحت الباب ودخلت بهدوء...
كانت أشعة الشمس المتسلّلة من النافذة العريضة المفتوحة تغمر المكان...
يبدو أنّ ربيع كان هنا
جالت بنظراتها فاستقبلتها العديد من اللوحات...
بعضها بألوان زيتيّة وأخرى بألوان مائيّة ولوحات أخرى مغطّاة...
تفحّصت جميعها حتى وقعت عيناها على لوحتين مستندتين إلى ركن بعيد بحيث لا تسهل ملاحظتهما ...
فتحرّكت لتجلس القرفصاء تزيل الغطاء عن الأولى ...
كانت لفتاة يتطاير شعرها الكستنائي النّاعم بجنون حولها ...
لا يظهر منها سوى عينيها وبقية ملامحها مخفيّة بوردة ضخمة...
أعادت تسنيم تغطيتها ووضعتها مكانها
ثمّ نزعت الغطاء عن الثّانية لتتسمّر يدها في الهواء وهي تطالع وجه غاية مرسوما بدقّة...
عيناها الزّرقاوان الصّافيتان ضاحكتان للناظر إليهما.
شعرها الكستنائي النّاعم يتطاير حول وجهها.
وخلفها بستان أخضر من الورود المزركشة ممتدّا نحو البعيد ويتلاقى في نقطة ما مع السماء الصافية الرّحبة.
شهقت بارتياع وهي تفلت اللوحة من بين يديها فسقطت على وجهها مصدرة صوتا قويا أفزع تسنيم التي رفعتها بخوف لتجد ورقة صغيرة ملصقة بظهر اللوحة وفوقها كلام مكتوب بخطّ تعرفه جيّدا قرأته بعينين مشوّشتين:
"أنت...ما أنت؟
رسم جميل عبقريّ من فنّ هذا الوجود
فيك ما فيه من غموض وعمق وجمال مقدّس معبود
أنت ما أنت؟
أنت فجر من السّحر تجلّى لقلبي المعمود
فأراه الحياة في مونق الحسن وجلّى له خفايا الخلود"
كانت بعض الأبيات لأبي القاسم الشابي ...الشاعر المفضل لربيع و...لغاية ...
ابتلعت ريقها بصعوبة وبيدين مرتجفتين حملت اللوحة الأولى لتقلبها بنفس الطّريقة كالأخرى وكما توقّعت وجدت بعض الكلمات من نفس القصيدة كما رجّحت مكتوبة بظهر اللوحة:"
أنت روح الرّبيع تختال في الدّنيا فتهتز رائعات الورود
تهب الحياة سكرى من العطر ويدوّي الوجود بالتّغريد "
ظلّت تسنيم جالسة مكانها مصدومة للحظات حتى سمعت أصوات العمّ شعبان والبستاني الذي يهتمّ بحديقتهم فنهضت من مكانها مسرعة تعيد كلّ شيء كما كان...
خرجت من المرسم وأوصدت الباب هامسة بألم:" قلبي عليك يا أخي"
**************
مرّ شهر على وصولها لتونس بالتّمام والكمال
وها هي تشعر بنفسها أفضل ...
متألّمة ربّما...
موجوعة وخائفة من معرفة ما كتبته سلام بذلك الدّفتر لكنها بالتّأكيد وجدت طمأنينتها وسكينتها المنشودتين...
أوقفت يارا سيّارتها منتظرة أن يخفّ هذا الزّحام اليوميّ فوق الجسر وتراجعت للخلف قليلا مسترخية على مقعدها ببرود...
لحسن حظّها أنّها معتادة على هذا الأمر خصوصا حينما كانت تعيش بالخارج..
لذلك دائما تحتاط فتخرج قبل موعد عملها بساعتين تقريبا ...
هي سعيدة أخيرا
ما زالت تبتسم ببلاهة كلّما سمعت أحدا يتحدّث بلهجتها وتفرح كطفلة كلّما طبخت أكلا شعبيّا جديدا من أجل والدها
فكّرت بابتهاج:" ما أجمل تونس وأهل تونس و....
طقس تونس؟
مطر في الصيف؟ نسيت تقلّب الطقس المجنون."
تجهّمت ملامحها وهي تلاحظ الأمطار المنهمرة من السّماء فأغلقت نافذة السيّارة وقد ساء مزاجها...
هي أصلا مصابة بالزّكام بسبب نسيانها للنافذة مفتوحة البارحة ...
ولو لمستها قطرة مطر ستزداد حالتها سوءا...
مدّت يدها لتسحب حقيبتها تتأكّد من شيء ما وكما توقّعت كانت قد نسيت بخّاخها ...
أغمضت عينيها بضيق وحنق ..
هذا ما ينقصها فعلا ...
رغم أنّ إصابتها بالرّبو شُخّصت منذ سنة تقريبا إلاّ أنّها مازالت تنسى ذلك أحيانا ...
وكثيرا ما نسيت حمل بخّاخها ...
دعت الله ألّا تسوء حالتها فجأة وقرّرت أن تشتري الدّواء من إحدى الصيدليات القريبة من مقرّ عملها...
*********
ما أن فتح المصعد أبوابه حتى كانت يارا تدلف بسرعة تعطس وتسعل ...تتوقّف لتنفض المياه العالقة بثيابها بغضب مغمغمة:" أكره طقس تونس المتقلّب...أكرهه ..."
لم تنتبه في خضم انفعالاتها لذلك الواقف خلفها يتأمّلها بتسلية حتّى حيّاها بصوته العميق:" مرحبا آنسة يارا"
أجفلت للحظة لكنّها التفتت نحوه تحييّه بعمليّة:" سيّد رامي ...حمدا لله على سلامتك...لم أتوقّع عودتك بهذه السّرعة "
ردّ مازحا:" العمل المتراكم ناداني فلبّيت (ثمّ استطرد بجدّيّة): ما الذي حصل لك؟"
أجابت بحنق:" عانيت لأجد مكانا لسيّارتي في المرآب وكما ترى أغرقني المطر"
خرجا من المصعد بعد لحظات وانشغلا بالتحدّث حول آخر المستجدّات بشأن العمل ثمّ اتّجه كلّ منهما لمكتبه...
----------
كان يوما طويلا
طويلا وكأنّ لا نهاية له ومرهقا جدّا ...
يحتاج للسّقوط في غيبوبة علّه يريح عضلاته المتشنّجة
خرج أسامة من المستشفى واتّجه للمرآب ليستقلّ سيّارته
رنّ هاتفه فتأفّف بحنق وهمهم بضيق: "الصّبر من عندك يا إلهي الكريم ..."
ثمّ رفع الهاتف لأذنه وردّ بمزاج متعكّر:" نعم"
وصله ردّ رامي المتهكّم:" أهكذا تردّ على المتّصلين يا حضرة الطّبيب المحترم؟"
هتف أسامة متفاجئا:" رامي؟ متى عدت؟"
" البارحة مساء ، المهم... تعال إليّ بعد ساعة أريد التحدّث إليك"
دلك أسامة جبينه بإرهاق:" آتي إليك أين؟"
"إلى الشركة...هيّا أنا في انتظارك"
تأوّه أسامة بتعب:" الرحمة من عندك يا ربّ"
ثمّ استقلّ سيّارته متّجها للعاصمة حيث يعمل شقيقه.
********
كان يوما ضاغطا بشدّة وقد عانت كثيرا للنّجاح في إتمام عملها على أكمل وجه.
خصوصا وهي تشعر بأزيز في صدرها وضيق في التنفس.
تقاوم طيلة اليوم أعراض الإصابة بإحدى نوباتها.
لكنّها ما أن عبرت بوّابة الشّركة متجهة للمرآب حتّى كانت تضع يدا مرتجفة على صدرها المتألّم وتستند بالأخرى على جدار صلب تحاول أخذ أنفاسها بصعوبة وهي تسعل وتسعل .
كانت الرّؤية تتشوّش أمام عينيها وهي غير قادرة حتّى على فتح فمها لطلب المساعدة.
ها هي النّوبة تهاجمها وهي في أضعف حالاتها.
لو تستطيع فقط أن تمدّ يدها لحقيبتها فتسحب هاتفها وتطلب المساعدة من والدها.
تعرفه سيهبّ لنجدتها لو كانت في أقصى بقاع الأرض.
لكنّ الأمر صعب...
صعب جدّا لأنّها لا تضمن عدم تهاويها أرضا إن هي أفلتت الجدار.
حين أوقف أسامة سيّارته في مرآب الشركة التّي يعمل بها شقيقه لاحظ بطرف عينيه فتاة ما تقف أمام البوّابة مخفضة الرّأس وشعرها يغطّي ملامحها مستندة لجدار البوابة بتشبث يائس.
وبحدسه الطبّيّ أدرك أنّها ليست بخير ففتح باب السيارة وهرع إليها .
وقف أمامها محافظا على مسافة محترمة وسألها بهدوء:" هل أنت بخير يا آنسة؟"
رفعت يارا عينيها إليه وصدرها يعلو وينخفض بسرعة.
فاغرة الفم تسحب أنفاسها بصعوبة
وتشعر بنفسها داخل فقّاعة خانقة.
أدرك أسامة كونها تعاني من نوبة ربو.
فتحرّك سريعا وأحضر فورا كرسيّا كان مهملا في الزّاوية -لا شكّ أنّه للحارس -وأجلسها عليه بهدوء.
امتدّت يداه برشاقة ينزع عنها حقيبتها وتلكّأتا قليلا أمام رقبتها ينتظر إذنها وما أن أومأت ببطء حتى كان يفتح أربعة من الأزرار العلوية لقميصها.
جلس القرفصاء بجوارها يطمئنها بصوت عميق هادئ ثمّ سألها :" هل لديك بخّاخ أو دواء ما؟"
في تلك الفقّاعة العازلة كان صوته الرخيم يتسلّل إليها فيصدّع جدرانها رويدا رويدا يخبرها بوجود شخص ما سيتلقّفها قبل السّقوط في هوّتها :" لا تقلقي يارا أنت بخير. اهدئي وحاولي التّنفّس. لا تجزعي. هناك الكثير من الهواء . أنت بخير ..."
سمعت سؤاله فهزّت رأسها بحركة طفيفة نافية فأومأ بهدوء ثم ابتسم لها قبل أن ينهض يسحب هاتفه متّصلا بقسم الاستعجالي طالبا سيّارة إسعاف.
وما حصل بعدها كان مشوّشا كحلم لا تتذكّر كامل ـأبعاده..
تذكر بالتّأكيد حضور سيّارة الإسعاف بسرعة نظرا لقرب المشفى من مقرّ الشركة.
ونزول رجلين منها ساعداها على الاستلقاء بحرص فوق ذلك السرير المتحرّك وحملاها لداخل السيّارة.
وهناك وضعت الممرّضة جهاز التنفس فورا فوق فمها وأنفها.
ثمّ انطلقت سيّارة الإسعاف حاملة إيّاها للمشفى تلحقها سيّارة ذلك الغريب الذّي أرسله القدر منقذا.
بعد فترة ، وقف أسامة برواق المستشفى يطمئن شقيقه على حالة يارا ثمّ أغلق الخطّ ورقن رقم الممرّضة المساعدة لأستاذه .
أتاه ردّها سريعا فقال:" مرحبا سيدة سلوى. هل غادر الدّكتور عزيز؟"
"لقد أنهى عمله وسيقوم بجولة تفقدية مسائية للمرضى بقسم القلب والشرايين. تعرف عادته."
ردّ أسامة:" حسنا. شكرا لك .. سأتّصل به."
******
أنهى جولته التفقدية وعاد لمكتبه ليغيّر ثيابه.
حمدا لله أن تمكّن من إتمام عمله على أكمل وجه.
اليوم سيجلس مع ابنته ويحدّثها بشأن كل شيء.
عليه أن يزيل العقبات بينهما.
طفلته بحاجته وهو سيلبي استنجادها الغير منطوق.
رنّ هاتفه فحمله من فوق طاولة المكتب وردّ بمرح:" أهلا أهلا بتلميذي العزيز."
وصله صوت أسامة متوترا وهو يردّ تحيّته فعقد حاجبيه بتوجّس وسأله بجدّيّة:" ما بك يا أسامة؟ ما الذي يحصل معك"
" دكتور عزيز الأمر بسيط لذا أرجوك لا تنفعل.."
هتف عزيز بعصبيّة:" أنت تخيفني بهذه النبرة. قل ما بك؟"
" الآنسة يارا ابنتك.. تعرّضت لنوبة ربو وهي بالمستشفى الآن"
أيصدر عن القلب صوت حينما ينقبض هلعا؟
خرج عزيز ركضا من مكتبه ونزل الدّرجات قفزا متجاوزا المصعد بغياب ذهن.
كانت يداه مرتجفتين وقلبه منقبضا بخوف فاستقلّ سيّارة أجرة خوفا من التّسبب بحادث بسبب حالته
ما به هذا الطّريق طويل لا ينتهي؟
لم لا تتقلّص المسافة بينه وبين طفلته؟
بل لماذا يشعر بأنّه سيفقدها في أيّ لحظة ثمنا لأخطائه؟
استغفر الله وهو يخفي وجهه بين كفيه مبتهلا أن تكون ابنته بخير .
وما أن توقفت سيارة الأجرة أمام المشفى حتّى نقد السائق ورقة نقدية كانت أوّل ما مسّته يده المرتجفة ثمّ هرول صاعدا الدّرجات يتّجه لقسم الاستقبال باحثا عن ابنته .
~~~~~~
دخل أسامة غرفة الفحص بعد أن انتهى الطّبيب المناوب من إسعافها واستقرّت حالتها.
وجدها نصف مستلقية على السّرير.
هادئة بشدّة...شاردة نحو البعيد
شرودا آسرا يجعلها كأميرة من عالم خيالي على الرّغم من شحوب وجهها..
ويدها تقبض بشدّة على قلادة تدلّت من عنقها وكأنّها تستمدّ منها الدّعم.
اقترب قليلا من سريرها وقال بخفوت متجنّبا إفزاعها:" حمدا للّه على سلامتك يارا."
نظرت إليه بامتنان ظهر في صوتها وهي تردّ:" شكرا لك على إنقاذي. هل تعاني من نفس المرض؟"
"لا"
"لقد تصرّفت كخبير "
(ومنع نفسه بشدّة من أن يسألها كيف لا تتذكّره)"أنا طبيب. "ردّ ببساطة:
"آه . أجل. شكرا دكتور أسامة..؟"
كان أسامة على وشك الرّدّ
حين اقتحم عزيز الغرفة هاتفا بلهفة:" يارا يا ابنتي. هل أنت بخير؟"
تراجع أسامة ليقف بإطار الباب مفسحا المجال لأستاذه ثمّ قال:" هي بخير حاليًّا يا دكتور. نسيت بخّاخها فلم نتمكّن من السيطرة على النوبة دون تدخّل طبّيّ"
قال عزيز بعتاب وهو يعبث بغرّتها :" آه منك يا ابنتي. منذ متى أصبحت مهملة؟"
"كنت مستعجلة بابا. "
هزّ رأسه يزفر بتوتّر ثمّ سحب رأسها بحرص إلى صدره يضمّها حامدا اللّه على سلامتها.
متى ستتوقّف هذه الفتاة عن إفزاعه؟
**************
أنهت سكينة عملها في المساء واتّجهت للروضة تستعيد طفلتها التي انتهت حصصها بالمدرسة منذ ساعات فأعادتها مريم ابنة سها معها للروضة..
سارتا في طرقات القرية بقدر ما تسمح به خطوات ابنتها الصغيرة تتمسّكان بكفّي بعضهما بحرص.
وحين وصلتا للمنزل، طرقت الباب بهدوء ففتحت لها والدتها مبتسمة بطيبة.
تأمّلت سُكينة ملامح والدتها المريحة الدّافئة ومالت تقبّل خدّها ثمّ رفعت غيد من خصرها لتقبّل جدّتها.
عانقت الجدّة حفيدتها وأدخلتها لغرفتها لتغيّر ثيابها فيما اتّجهت سُكينة للحمّام تستحمّ سريعا ثمّ خرجت تؤدّي فرائضها
جلست بعدها متربّعة أرضا أمام المائدة البسيطة تتناول غداءها بغير شهيّة.
كلمات سُها أصابتها بالخوف بل بالرّعب وقد طلبت محادثتها قبل أن تسلّمها ابنتها :" سُكينة ... اليوم أصيبت غيد بالإغماء مجدّدا ورغم أنّه كان بسيطا نوعا ما لكن وجب علي إخبارك . هي أصلا تصاب بالإرهاق وتلهث طويلا عند قيامها بأيّ مجهود. لا تستخفّي بالوضع كي لا تسوء حالتها . أظنّ أنّ عليك عرضها على أخصّائي بأمراض القلب علّه يجد دواء علّتها."
ماذا تفعل؟
كيف تتصرّف؟
هي بحاجة للمال بل للكثير والكثير منه.
وراتبها لن يكفي خصوصا وأقساط القروض تلتهم ثلاثة أرباعه كل شهر فلا يبقى لها سوى النذر اليسير الذّي لا يكاد يكفيها لسداد الفواتير وتأمين حياة مناسبة لها ولأمّها وطفلتها.
حالة غيد في تدهور ويجب أن تنقذ طفلتها قبل فوات الأوان .
ربّما تزور أخيرا الطّبيب الذّي رشّحته زميلتها.
علّ الخلاص يكون على يديه.
ستطلب من مرام شقيقتها التي تدرس بالعاصمة أن تحجز لها في فندق متواضع.
ستبيع قرطيها وربّما قلادتها الذّهبيّة إن لزم الأمر .
ليلة أو ليلتين بالفندق مع تكلفة الأدوية لن يكلّفاها أكثر .
أنهت طعامها ثمّ غسلت طبقها ونظّفت الطّاولة ثمّ رقنت رقم أختها بعزم.
*****
مرّ يومان .
وما زال والدها يحتجزها بالبيت بعد أن أخذ إجازة مفتوحة وأجبرها هي أيضا على طلب إجازة غير مهتمّ بردّ رئيسها أساسا.
غير أنّها تعرف بأنّ السيّد رامي لم يكن ليرفض وقد شهد شقيقه على ما أصابها وسمع توصيات الطّبيب بنفسه .
شقيقه ...
أسامة المحمودي
تلميذ والدها وأوّل شخص قابلته ما أن حطّت قدماها على تراب تونس.
ذلك الذّي أنقذها منذ ثلاثة أيّام من موت محتّم إن لم تتلقّى الإسعاف.
فرغم أنّ حالتها غير خطيرة لكنّ الإهمال خطر.
فكّرت بغرابة بأنّ القدر جمعها به في أكثر لحظاتها ضعفا واحتياجا.
مرّة عند عودتها لبلدها بروح هائمة
وأخرى بعد مواجهة قاسية تركتها بجرح نازف
والأخيرة كانت بعد مواجهتها الأقسى.
هذا الرّجل يظهر كلّما ضعفت مقاومتها وكأنّه...
وكأنّه...
هزّت رأسها بعنف وهي تلعن اتّجاه أفكارها الغريبة.
يبدو أنّ دلال والدها أصابها بضعف تافه وجعلها تصبح مراهقة ورديّة لم تكنها يوما.
وبذكر والدها ..
كان قد اختفى في المطبخ منذ الصباح يعدّ طبخة ما بعد أن أمرها بل أجبرها على الاستلقاء على الأريكة بغرفة الجلوس .
يصلها صوت تقطيع وأوان ترتطم ببعضها وهي تتساءل عن سرّ ما يفعله.
رنّ جرس الباب فنهضت لتفتحه .
وما أن فعلت حتّى طالعها وجه ذلك الغريب.
وجه أسامة...
لا بل الدّكتور أسامة.
لم تنتبه لكونها قد نادته بهذا اللّقب إلّا عندما عبر الباب بعفوية يقدّم لها باقة ورد بيضاء فخمة قائلا:" نادني أسامة.. لا أحبّ الألقاب يا يارا."
أومأت بضيق وكانت على وشك إغلاق الباب حين وقفت أمامها ذات الشّعر الفحميّ الكثيف حاملة صندوقا من الورق المقوّى.
شبيهة سلام.
والتّي ابتسمت قائلة بمرح:" مرحبا يارا...حمدا للّه على سلامتك."
اتّسعت ابتسامة يارا بغير وعي وقالت:" شكرا يا ..؟"
"تسنيم المحمودي... طالبة هندسة وقريبا زميلة لك. "
"امممم..أنت وإخوتك تقدّسون مهنكم حقّا. هيّا تفضّلي بالدّخول."
جلست تسنيم على الأريكة تراقب يارا ،التّي انهمكت بترتيب الورد في مزهرية أنيقة، بانبهار.
كانت جميلة...
جميلة بشدّة.بشرة بيضاء لبنيّة لا تشوبها شائبة....
شعر أسود قاتم كليل بلا قبس نور قصير مموّج.
وعينان ذواتا لون غريب.
مزيج ساحر بين الرّماديّ والأزرق.
تذكر أنّ أسامة قال ذات مرّة بأنّ أمّها أجنبيّة .
إذن هذه نتيجة امتزاج الجينات العربيّة بالغربية؟
لا تعلم ما الذّي دفعها للإصرار على زيارتها حين ناداها أسامة صباحا ليستشيرها بشأن ما يأخذه لعيادة ابنة أستاذه المريضة.
أهو الفضول أم حدسها الذي لا يخطأ؟
فرقعت يارا إصبعي الوسطى والإبهام أمام عينيها فأجفلت للحظة ثمّ انتبهت لها تقول :" لا أحبّ أن يتأمّلني أحد."
"آسفة لم أقصد."
قالت يارا وهي تتجه للمطبخ:" سأحضر بعض المثلّجات. أيّ نكهة تفضّلين؟"
"الفانيليا."
تسمّرت يارا مكانها للحظة غائمة النّظرات وهمهمت :" مثلها تماما. يا إلهي."
لكنّها استجمعت مشاعرها بقبضة صلبة ووقفت بعتبة المطبخ.
كان أسامة جالسا للطّاولة الخشبيّة يقطّع شيئا ما مرتاحا وكأنّه ببيته بينما والدها يقلّب محتويات القدر أمامه وما أن رآها حتّى هرع إليها هاتفا:" ما الذّي أحضرك؟ ما بك؟"
"" أريد بعض المثلّجات والعصير وربّما شكولاتة و...
أحضر لها ما أرادت ثمّ طردها حرفيّا من المطبخ .
عادت لغرفة الجلوس تحمل صينية فوقها كوبا عصير مع بعض الحلويات المشكلة ما بين التقليدي والعصري ... كوبان طويلان من المثلّجات وكوب ماء
وجدت تسنيم جالسة بوداعة في انتظارها.
فابتسمت لها يارا بدفء ممّا أصابها بالدّهشة ثمّ نهضت تساعدها بلباقة على وضع الصينية فوق الطّاولة.
فكّرت تسنيم وهي تتناول كوب المثلّجات خاصّتها بأنّ هذه الفتاة شديدة الغموض
وشقيقها يهوى فكّ الألغاز
...
كان أسامة يقطّع الخيار بترتيب يراقب أستاذه المتوتّر الذي يناظر القدر أمامه بانزعاج وكأنّه أمام إحدى المسائل المعقّدة . كتم ضحكه بصعوبة ثمّ قال بجدّيّة:
" يا دكتور. ألم تخبرني من قبل بأنّك لا تجيد الطّبخ؟ ما الذّي دفعك لإقحام نفسك بأمر لا تفقه به شيئا؟."
ردّ عزيز بحنق:" بالله لا توتّرني أكثر يا أسامة. هذه ثالث مرّة أعيد بها طبخ الحساء والنتيجة أفظع ممّا سبق."
مسح أسامة يديه بمنديل ورقيّ ثمّ وقف جوار أستاذه قائلا :" حسنا توقّف عن إهدار الطّعام . سأعدّ أنا حساء الخضر على طريقة ماما منّوبيّة ."
" شكرا يا ولدي.. دوما تنقذني "
"أستاذ بشأن الطّعام الذّي طبخته ..."
"لا تقلق سأتبرّع بقيمته لأحد المحتاجين... لم يكن عليّ إفساد هذا الكمّ من المكوّنات بغير فائدة....(ثمّ ربّت على كتفه بمحبّة): هنيئا لصالح بولد مثلك."وصلهما صوت ضحكات مرحة فخرج كلاهما من المطبخ بفضول.
كانت يارا تضرب كفّها بكفّ تسنيم وكلاهما تغرقان في ضحك هستيري.
سقط فكّ عزيز بذهول بينما رفع أسامة حاجبه الأيمن مبتسما ابتسامة جانبية يهزّ رأسه بتقدير.
أخته السّاحرة فازت مجدّدا ووجدت طريقا بين أسوار الجليد تسلّلت منه ليارا.
تلك الفتاة القاسية صعبة المراس كما وصفها والدها الذّي شهد هو على معانته لسنتين في محاولة لإعادتها لبلدها.نهاية الفصل
أنت تقرأ
وقد حل ربيعك بروحي!
Romanceالأخطاء لا تُطمس والذنوب لا تُمحى! نحن نتوب عنها... نتقبلها.. نتعايش معها... ثم نسعى لإصلاحها ما استطعنا... فإن أخطأت يوما كن قويا.. قل فعلت ولكن... وما بعد ال..لكن يكون تحملا للمسؤولية أو إصلاحا للخطأ... الحياة مجموعة من رحلات قصيرة جدا أقصر من أ...