"وهكذا يسطّر القدر أوامره.
أحدهما يفقد روحه بينما الآخر يحظى بها أخيرا."
******
"متى ظننّا أنّنا أمسكنا بزمام الأمور، ضربنا القدر ضربة غير متوقعّة تهزّ كلّ بنياننا فلا تترك سوى الحطام."
**************
جلست سكينة بمكتب طبيب الأطفال المختص بأمراض القلب والذّي كان يطالع أوراق الفحوصات والأشعّة وتخطيط صدى القلب أمامه بتركيز منذ فترة .
كانت قد أتت بغيد للعاصمة منذ أسبوع تقريبا وسكنت بالبيت الذّي تستأجره مرام شقيقتها مع صديقاتها بعد أن أصررن عليها كي لا تخسر نقودا هي بأمسّ الحاجة إليها.
وكنّ محقّات فقد التهمت مصاريف الفحوصات والأشعّة أغلب ما أحضرته من مال.
لكنّ كلّ هذا لا يهمّ .
المهمّ حياة طفلتها التّي تعذّبت كثيرا لتنجبها وما أن أهداها إيّاها الله حتّى استردّ روح والدها فعاشت المسكينة اليتم منذ سنيّها الأولى.
كانت تدعو اللّه ألّا تكون حالتها سيّئة. تتوسّله لينقذ طفلتها.
"tétralogie de Fallot كما توقعت ..."
قالها الطبيب بحياديّة يخرجها من شرودها فهمست بترقّب:" أعذرني يا دكتور لكنّني لم أفهم. أفهمني بالتّفصيل لو سمحت."
"لا تقلقي. سأساعدك.
رباعية فالو هي حالة مرضيّة عبارة عن أربع عيوب خلقية تصيب القلب."
قدّم لها ورقة ما وقال:" هناك صورة للقلب الطّبيعي على اليمين وعلى اليسار صورة لقلب مصاب برباعية فالو.
لاحظي الفروق سيدتي.
أترين الثقب في الحاجز البطيني؟ هذا العيب يتسبّب في اختلاط الدّم الخالي من الأكسيجين في البطين الأيمن مع الدم الغني به في البطين الأيسر مما يؤدّي لضعف تدفّق الدّم ويقلل إمداد الجسم بالدمّ الغني بالأكسيجين. لاحظي أيضا البطين الأيمن. انه متضخم أكثر من الحجم الطبيعي والشّريان الأورطي يتّخذ وضعا خاطئا إضافة لتضيّق الصّمام الرّئويّ وهذا يسبّب...."
معلومات ..جمل معقّدة...
الكثير والكثير منها.
دلكت سكينة جبينها بتوتّر ودقّات قلبها تتصارع.
نظرت للطّبيب بعينين نديّتين نطقتا بالعجز فقال بتعاطف:" أبديت تفهّما كبيرا وتدخّلت في الكثير الأيّام الماضية وقت إجراء الفحوصات لذا رجّحت أنّك ستفهمين ما سأشرحه. كما أنّ من واجبي أن أشرح لك الحالة بالتّدقيق سيّدتي. أنظري الطّبّ تقدّم والحمد لله هناك حلّ لكلّ علّة."
همست باختناق:" لكنّ وضع قلبها سيّء يا دكتور. ألا ترى كلّ هذه العيوب به؟"
"كما أخبرتك هناك حلّ لإنقاذها."
هتفت بلهفة:" ما هو؟"
"عمليّة لترميم القلب وإصلاحه. "
"متى نجريها؟ "
" في أقرب فرصة ممكنة."
صمتت للحظة ثمّ سألته بوجل:" وكم تكلفتها؟"
همهم الطّبيب برقم ما بحرج لكنّها سمعته فامتلأت عيناها دمعا حارّا واختنقت الأنفاس بصدرها.
غمغمت بخفوت وهي تنهض من مكانها:" شكرا."
حاول إيقافها لكنها لم تسمعه وخرجت من العيادة لا تلوي على شيء.
سارت لساعة من هناك وحتّى منزل شقيقتها صامتة مصدومة.
ترتجف بشدّة والبرد يغزو جسدها رغم حرارة الشّمس المشتعلة.
رأتها مرام من النّافذة فرفعت غيد من حجرها تسلّمها لرفيقتها ثمّ هرعت لتفتح الباب لأختها الكبرى.
التّي نظرت إليها بخواء للحظة قبل أن تنهار فاقدة الوعي بين ذراعيها اللّتين تلقّفتاها بذعر.
هتفت مرام تطلب النّجدة متسائلة برعب عن السّبب الذّي حوّل أختها لهذه الحال.
صورة لامرأة محطّمة.
~~~~~~~~~~~~~
شعرت سُكينة بلمسات ناعمة تتجوّل فوق وجهها تبلّله بالمياه مرّة تلو أخرى ورائحة عطر هادئة تخترق ظلامها.
فتحت عينيها ببطء فوجدت نفسها في غرفة بسيطة.
لا بدّ أنّها غرفة مرام التّي كانت تضع رأسها فوق حجرها تبلّل وجهها بالماء بينما صديقتها تقرّب من أنفها قارورة عطر.
قالت مرام بفرح:" حمدا لله. لقد أفاقت. شكرا يا رنيم. بإمكانك الذّهاب."
أومأت لها رنيم بتفهّم وخرجت من الغرفة بينما ساعدت مرام شقيقتها على تعديل جلستها ثمّ جلست بدورها على حافّة السّرير.
قالت تسألها بهدوء:" ماذا أصابك يا أختي؟ بماذا أخبرك الطّبيب كي تنهاري بهذا الشّكل؟"
وكأنّ سؤال أختها أعادها للواقع بعد أن ظلّت للحظات تائهة في الفراغ.
همست بخواء:" أتركيني وحدي يا مرام رجاء. أريد النّوم قليلا"
شعرت مرام بالخوف. ما دامت أختها تلجأ للنّوم إذن المشكلة غير بسيطة.
ليتها فقط تخبرها بما حصل لها لكنّها تعرفها عنيدة ولا تحبّ أن يتدخّل أحد في مشاكلها.
قالت مرام وهي تغادر:" سأحضّر مرق البازلّاء. غيد تحبّها."
ما أن خرجت شقيقتها حتّى كانت سكينة تنهض من نومتها لتجلس فوق السّرير الفرديّ تتدلّى قدماها الحافيتان من فوقه وكتفاها محنيّان مغمضة العينين تهتزّ ذهابا وإيّابا.
على مدار السّنوات المنصرمة ظنّت أنّها قد خسرت بما فيه الكفاية وأنّ القادم سيكون تعويضا عن فرحتها المنقوصة لكنّها كانت مخطئة فالحياة أبت منحها السّلام فتاهت بين طيّاتها متخبّطة تنهض مرّة لتقع أخرى لكنّ السّقطة هذه المرّة كانت قاتلة.
مزّقت قلبها وروحها.
"يا ربّ يا ربّ ماذا أفعل؟ أنجدني "
عقلها يكاد يحترق من التّفكير.
تتقاذفها الحيرة بين مدّ وجزر.
ما الحلّ؟
كيف الخلاص؟
لقد باعت كلّ ثمين لها. والمبلغ الذّي تبقّى لا يكاد يغطّي ثمن تذاكر القطار لعودتها ومستلزماتها اليوميّة.
من أين تحضر ذلك المبلغ المهول المكوّن من عدّة أصفار لم تتجرّأ يوما على تخيّل عددها.
لم تكن يوما مهتمة بالمال بل كانت قنوعة أقرب لزاهدة وحتّى في فترة شبابها لم تتدلّل كما كانت تفعل بقيّة رفيقاتها.
والآن أدركت أهميّة المال.
بعد أن أنفقت ميراثها البسيط من والدها وما تركه زوجها استغلته في شراء بيت بسيط لهما في القرية و...
البيت ؟
اتّسعت عيناها فجأة وقد وجدت الحلّ.
ستبيع البيت.
وبماله تجري العملية لطفلتها. والفائض ستأجّر به بيتا ما .
لن يتركها اللّه.
سيفرجها من عنده.
خرجت من الغرفة عاقدة العزم على أن تتسلّح بالقوّة.
ستنقذ طفلتها مهما كان الثّمن.
وجدت مرام تجلس غيد في حجرها تقطع قطعا صغيرة من الخبز تغمسها بالمرق ثمّ تلقمها إيّاها بمحبّة.
فابتسمت رغما عنها وجلست جوارهما طاوية ساقيها تحتها تتناول الطّعام بغير شهيّة.
في اليوم الموالي، حزمت أغراضها وابنتها وتحرّكت نحو محطّة القطار.
صعدت إلى عربة الدّرجة الثاّنية وجلست جوار النّافذة بينما جلست الصّغيرة جوارها تلهو بلعبة ما على الهاتف.
نظرت سُكينة من النّافذة بشرود للحقول الخضراء المترامية على طرفي الطّريق.
لطالما أحبّت استقلال القطار منذ كانت طفلة ليس للرّاحة التّي تجدها وهي تجلس جوار نوافذه الضّخمة بل لأنّه يسير متأنّيا يمنحها أكثر من الوقت اللّازم لتفكّر ثمّ تجد حلّا.
وهذه المرّة هي ليست طفلة ولا مراهقة حالمة أهمّ مشاكلها كيف تتواصل مع حبيبها.
هذه المرّة هي امرأة راشدة. أمٌّ مسؤولة عن طفلتها وعن والدتها المسنّة.
بعد أن استقلّت مرام بحياتها تعمل بدوام جزئيّ أيّام دراستها وتعمل كنادلة في إحدى المطاعم بالصّيف.
تساعدها على قدر استطاعتها في التّخفيف من حمل علاج أمّهما المريضة.
البارحة وفي خضم رعبها من خسارة طفلتها نسيت أنّ هناك حياة أخرى معلّقة بحياتها.
حياة والدتها التّي لم تبخل عليها يوما بشيء.
عاد الهمّ ليستوطن قلبها وهي تشعر بالضغط يزداد ويزداد ويحاصرها.
سمعت بعد فترة، صافرة القطار واستشعرت توقّفه في محطّته الأخيرة.
توقّف قبل أن تجد حلّا.
******************************
كانت يارا نصف مستلقية فوق الأريكة بغرفة الجلوس تردّ على رسائل زملائها الذين يسألون عن حالها حين وضع عزيز صحنا من حساء الخضر على الطّاولة أمامها وأمرها بحزم أن تأكله قبل أن يجلس على الأريكة المقابلة يراقبها بحرص.
عدّلت يارا من وضعيّة جلوسها وأطفأت الحاسوب لتضعه جانبا ثمّ قالت بتذمّر :" بابا لست نباتيّة، تعرفني أحبّ اللّحوم فكفى أرجوك. أنت تطعمني هذا الحساء منذ ثلاثة أيّام."
"ومن أوصلنا لهذه الحال يا ترى؟ لقد تعرّضت لأزمة وكنت ستخسرين حياتك لولا أسامة"
"كانت نوبة بسيطة والأمور تحت السّيطرة الآن."
قال عزيز ساخرا :" ونعم السيطرة. هيّا كلي وإلّا أطعمتك بنفسي."
أغمضت يارا عينيها بضيق ثمّ تناولت الصحن من فوق الطّاولة وشرعت في الأكل صاغرة.
وما أن أنهت الطّعام حتّى قالت بسرعة:" بابا غدا سأعود للعمل. "
"أيّ عمل؟ لقد أرسلت بنفسي شهادة طبّية تلزمك الجلوس بالبيت لأسبوعين على الأقلّ."
ردّت يارا باستنكار وهي تكاد تشدّ شعر رأسها :" يا إلهي. بابا الشركة ليست ملكي لأتدلّل هكذا. من تظنّني؟"
أجاب عزيز بعفوية مسّت قلبها:" المهندسة يارا الصّادق."
ابتسمت باتّساع ودفء نبرته يلفّ قلبها.
والدها رغم دراسته بأفضل الجامعات ورغم سمعته كجرّاح نابغ دوما كان متواضعا يميل للبساطة إلّا حينما يتعلّق الأمر بها.
حينها يتحدّث عنها بكلّ غرور وفخر رغم أنّها لا تعتبر نفسها بهذه الأهمية.
قالت يارا بهدوء:" أعدك أن أحافظ على صحّتي وأقلّل من أيّ مجهود. لقد اشتقت لعملي. أرجوك بابا"
زمّ عزيز شفتيه بتفكّر ثمّ قال:" حسنا افعلي ما يحلو لك. المهمّ أن تكوني بخير."
ابتسمت بمرح ثمّ سألته بمكر:" اممم..بالمناسبة منذ متى تعلمت الطبخ؟ على حدّ علمي لم تكن تبرع فيه."
ابتسم عزيز لمشاكستها وردّ :" نفعل أيّ شيء لإرضاء للّا يارا."
ثمّ تنحنح وقال بجدّيّة أثارت توجّسها :" لقد مرّ شهر على عودتك يارا وأظنّ أنّ الوقت حان لنتحدّث بصراحة فيما أجلناه يوم وصولك."
أومأت تحثّه على المتابعة باهتمام فسألها مباشرة :" لماذا عدت لتونس؟"
"لأنها وطني."
"هزّ رأسه بغير اقتناع وأردف:
أعرفك عمليّة وبالتّأكيد تعلمين أنّ بإمكانك الحصول على فرص أفضل ببلدان أخرى فلم اخترت تونس بالذّات؟"
"تونس أفضل بلد في العالم. ألم يكن هذا ما كنت تخبرني به دوما حينما أسألك عنها ؟ (سكتت قليلا تفكّر ثمّ تابعت): أنظر يا بابا أعلم أن بلدي لست الأقوى أو الأغنى لكنّها الأفضل بالنسبة لي وأنا عشت طويلا في الصقيع حتّى اكتفيت. اشتقت للدفء هنا واشتقت للتّحدّث بلهجتي . اشتقت للبساطة والحرية . أنا لا تهمّني الأموال طالما لست سعيدة وقد شقيت طوال سنتين وحيدة في الغربة. أظنّ أنّ كلّ طير مهما ابتعد هائما دوما يعود لعشّه وأنا عدت."
أومأ متفهّما وعاد يسألها :" لماذا قبلت بالعودة معي؟"
"فأجابت ببساطة:
لأنّك والدي. ربّما تخاصمنا. جرحتني وجرحتك لكن لا شيء سيغيّر هذه الحقيقة."
سكت قليلا ثمّ سألها بتحفّز:" هل سامحتني يارا؟"
ردّت بتأثّر وقد خنقتها غصة بكاء:"
"نعم ...وأنا أحاول النّسيان حاليّا. اكتشفت أنّ الحياة أقصر من أن أضيّعها في الكراهية والجحود. تغيّرت نظرتي للكثير من الأمور خاصّة بعد عودتي ومواجهتي مع الماضي."
غامت عينا عزيز وشعور الراحة يطفأ نار قلبه الذي التاع بفقدها فنهض من مكانه ليضمّها لصدره بفرح حامدا اللّه على نعمته أن أعاد له طفلته ـأخيرا .
وسألها بعدها بمرح :"بالمناسبة هل استمتعت بوقتك البارحة مع تسنيم؟"
"ضحكت وهزّت رأسها بحماس:
"إنّها رائعة. وعلاقتها بإخوتها مذهلة حقّا. أنا لم أقابل أخاها الأوسط مثلا لكن حسب ما رأيت من تصرّفاتها والدّكتور أسامة أظنّها حقّا محظوظة بوجودهم."
أغمضت جفنيها بحزن لحظي وهي تكمل في سرّها "ليت سلام كان لها نصف حظّها" لكنّها عادت لتهزّ رأسها مستغفرة..
. كان ما حصل قدرا كتبه الله ومن هي لتعترض؟.
"الدّكتور أسامة؟" سألها باستنكار ثمّ أضاف :" هل طلب منك مناداته بالدّكتور؟"
"لا، لكنّي أحاول حفظ مساحة احترام وهو يصرّ على تجاوزها بمناداتي ب'يارا'."
"أوليس هذا اسمك؟"
" أجل لكنني لا أحبّذ أن يناديني به الغرباء مجرّدا."
"الغرباء أنقذوك منذ بضعة أيّام."
قالها عزيز مؤنّبا فزمت يارا شفتيها بامتعاض وهي تعترف بتحاملها على أسامة. ربّما لأنّه قريب من والدها ولذلك فهي تغار منه لكنّها لا تعترف بالأمر بمكابرة.
*****
بعد أيام
تربّعت غاية على بساط خفيف فرشته بالحديقة مقابلة لتسنيم وأسامة اللذان شاركاها جلستها.
تتحرّك يداها بعصبية فوق لوحة مفاتيح حاسوبها تردّ على رسائل متابعيها وتحوّل بعض الحالات لزملائها وأسامة الذين تطوعوا بكل حماس لمساعدتها.
لم يكن حال أسامة يختلف عنها فقد كان منهمكا بإجراء بضع مكالمات يرتّب للحملة القادمة للتبرعات التي ينظمونها كل سنة قبل عيد الأضحى.
تسنيم الوحيدة التي كانت جالسة بهدوء تراقب كل حركاتهما بدقة.
بعد فترة أنهيا جزءا من العمل فارتكنا للراحة يشربان بعض العصير البارد الذي أعدته منوبية.
قالت غاية بتوتر :" لا أظننا سنستطيع النجاح في جمع الخرفان وإرسال التبرعات في الوقت المحدد. نحن متأخّران جدّا وماما طلبت أن نتفرغ أسبوع ما قبل العيد وهذا يحدّ من الوقت القليل الذي نملكه."
نهضت من جلستها برشاقة تنفض يديها من الأوراق الخضراء المتساقطة هنا وهناك تتحرك رائحة غادية تولول بفزع:"
يا إلهي لن نلحق بالموعد. ماذا عن الناس الذين وثقوا بنا.....والمتبرعون؟ يا الهي...نسيت أمر التبرعات الخارجية غير تبرعاتنا الخاصة والمؤن من سيوصلها؟."
في تلك الأثناء كان ربيع يجتاز بوابة البيت الحديدية عابرا الحديقة نحو المرسم لكنّه عدّل مساره ما أن لمح غاية فاتّجه نحوها ببطء.
كان قد عاد لتوه من استقبال بيرم بالمطار والذي جاء ليشارك عائلته الاحتفال بعيد الأضحى.
في خضم توترها وحركتها العصبية لم تنتبه غاية لربيع القادم نحوها فكادت تقع على صدره لولا أنّه أمسك كتفيها بحزم يساعدها على الوقوف باعتدال.
فرفعت عينيها لعينيه.
وابتسمت.
فسقط قلبه بكل جنون بين يديها دون أن تدرك.
نهضت تسنيم التي لاحظت برعب نظرات أخيها الهائمة فوقفت بينهما مدّعية معانقته.
ألقت نظرة من خلف كتفها على أسامة وحمدت الله أنه انشغل بمكالمة أخرى
ثمّ قالت بارتباك:" مرحبا ربيع. لم أتوقّع أن تشاركنا"
فردّ باستغراب:" أتيت فقط لإلقاء التحية.)لاحظ أسامة الذي كان يلوح بيديه هاتفا بغضب في الهاتف فسألها بتوجّس): هل تحتاجون مساعدة؟"
ردّت غاية ببؤسٍ: "الكثير منها. العمل متراكم ونحن علقنا "
أومأ متفهما وهو يلاحظ الهالات تحت عينيها وشعرها الذي تلفه في كعكة عشوائية شعثاء.
كانت ترتدي سروالا بيتيا أبيض فضفاضا جدّا يحتضنها ككيس ويتجاوز طوله كاحليها وبلوزة وردية ناعمة بنصف كم.
لم تكن غاية لتهمل أناقتها لو لم يكن الوضع بائسا فعلا لكنّ مظهرها البسيط أعاده لسنوات المراهقة الجميلة حين كانت تعشق ارتداء الملابس الفضفاضة المريحة وخاصة أقمصة والدها وكانا يتشاجران كلما التقيا بسبب سخريته منها.
ابتسم بشجن وهو يحاول إبعاد نظراته عنها.
كانت قد أعلنت حالة الطوارئ ما أن أنهت تربّصها بإحدى المستشفيات وجاءت منذ ثلاثة أيّام لتنضم لأسامة الذي كان يبدو مطحونا في الترتيب منذ فترة مما جعله يظنّ أنّ الأمور تحت السيطرة بالفعل..
قال بعد لحظة تفكير غير محسوبة العواقب:" لم لا أساعدكم أنا؟"
استغلّ أسامة عرضه وهلّل بحماس:" رائع... إذن سنقسم العمل بيننا. ربيع سيرافقك يا غاية للإشراف على جمع الخرفان. ليليا ومعاذ يهتمان بجمع التبرعات الخارجية والثياب وأنا والدكتور عزيز نشرف على إيصال المؤن وتبرعاتنا الخاصة للقرية التي اخترناها هذه السنة."
هزّ ربيع وغاية رأسيهما باستحسان بينما انقبض قلب تسنيم هلعا فهتفت :" وأنا سأرافقهما."
فمنحها أسامة موافقته .
*******
قبل العيد بأسبوعين ونصف
يوم السبت مساء
أنهت يارا إعداد العصيدة وسكبتها في صحنين عميقين.
صنعت بعض الثّقوب في الخليط الهلامي وملأتها بالقليل من زيت الزّيتون قبل أن ترشّ فوقها السّكّر بحرص.
وضعت الصّحنين فوق الطّاولة وصعدت لوالدها لتستعجله.
منذ مصالحتهما عادت علاقتهما تدريجيا لدفئها السّابق.
وعادت عاداتهما القديمة آليّا.
وأهمّها عشية السبت المقدّسة التي يقضيانها بالبيت للحديث حول آخر التغيرات في حياتيهما والثرثرة حول كلّ شيء.
كانت الوقت المخصّص لهما كأب وابنته منذ طفولتها.
فكّرت بأنّها تستطيع الآن فقط أن تقول أنّها عثرت على استقرارها المفقود.
بعد أن استعادت أباها وأختها.
لمست القلب الفضي الذي يتدلّى فوق صدرها والذي اكتمل يوم زارت قبر سلام فقد عمدت شفاء لإعطائها نصف القلب الخاص بأختها وأخبرتها بأنّهم وجدوه في يدها تتمسّك به بشدّة حينما حاولوا إسعافها تلك الليلة.
تنهدت بمرارة وهي تمحو من ذهنها كلّ ما يتعلّق بهذا الأمر.
لن تعود للتفكير الآن.
تحتاج فترة مناسبة للتوازن قبل أن تشنّ هجومها.
طرقت باب مكتب والدها بهدوء ثمّ دلفت هاتفة بمرح:" جهزت العصيدة يا سي عزيز ولديّ كيس كبير مليء بالأحاديث الهامة فهلاّ انضممت إل..."
اختنقت بكلماتها وتبعثرت أحرفها وهي تلمح ذلك الجالس مواجها لها إلى جانب طاولة المكتب.
وظلّت تناظره مذهولة والحرج يتملّكها.
بينما نهض أسامة من مكانه وتقدّم نحوها مادّا يده ليسلّم عليها برقي لم يظهر بعينيه ال.. المستمتعتين؟
:" مرحبا يارا."
غير أنّها فاجأته وهي تهتف بفظاظة:" متى أتيت؟ ومن أدخلك؟"
ردّ بتوجّس:" والدك."
ارتبكت عيناها الفضيتان للحظة ثمّ قالت بضيق وهي تلاحظ مدى غباءها:" مرحبا."
كانت يده لا تزال مفتوحة أمامها بعناد فأمسكتها بقوة تردّ سلامه ثمّ وقفت بتحفز خلف الكرسي المقابل له..
عاد أسامة للجلوس مكانه واضعا ساقا فوق الأخرى يراقب انفعالاتها التي تشي بغيرتها الواضحة بتسلِّ يغلفه البرود..
وفي الخارج كان عزيز يهتف بمساعدته بغضب:" كيف يتحدّد الاجتماع دون إخباري؟ ألم تخبرك سلوى بانشغالي غدا؟"
وصله الردّ المتلعثم من تلك الشابة التي تعوض مساعدته الأصلية سلوى والتي اضطرت لأخذ إجازة:" لم أكن أعرف...دكتور ..أنا آسفة...السيد فهمي هو من أصرّ ..وأنا...ظننتك تعرف."
زفر بيأس وهو يشعر بالشفقة تجاهها متخيلا ابنته مكانها تتلقى التقريع من أجل شيء لا يد لها فيه غير أنّه كان يدرك أنّ يارا لم تكن لتعتذر بهذه الاستكانة بل كانت لتقيم الدّنيا وتشعل الحرب للظّفر بحقّها.
ضحك ضحكة صغيرة ثمّ أردف مسترضيا:" آسف إن أزعجتك يا نور . أعلم ألّا علاقة لك بالأمر. لا تقلقي سأحضر."
عاد لغرفة مكتبه ففوجئ بيارا تقف متمسكة بظهر الكرسي المقابل لأسامة تتبادل معه نظرات غامضة. ولو كان واجهها للاحظ نيران الغيرة المشتعلة بحدقتيها لكنّه لم يرى سوى نظرات أسامة الهادئة والذي انتبه له أوّلا فأومأ له باحترام.
ربّت عزيز على كتف ابنته في إشارة لها للخروج قبل أن يجلس خلف مكتبه لكنّها لم تتزحزح من مكانها بل ازدادت تشبّثا بالكرسيّ.
فناظرها للحظة بتشوّش ثم خاطب أسامة:" ما أن أحصل على وقت فراغ يتيم حتّى تتعقّد الأمور. آسف يا بني لن أستطيع مرافقتك غدا. حدّدوا موعد الاجتماع السنوي ليكون بالغد ولم يخبروني في الوقت المناسب."
هزّ أسامة رأسه بتفهم :" لا تقلق يا أستاذ. سأسلم الأمانة لأصحابها بنفسي ."
شكره عزيز بفخر:" لطالما كنت صاحب واجب. لا أريد أن أثقل عليك يا بني. البيوت كثيرة والتقسيم معقد. ستحتاج المساعدة بالتأكيد...ربما لو رافقك..."
تدخّلت يارا بعزم:" أنا سأرافقه."نهاية الفصل العاشر..
أنت تقرأ
وقد حل ربيعك بروحي!
Romanceالأخطاء لا تُطمس والذنوب لا تُمحى! نحن نتوب عنها... نتقبلها.. نتعايش معها... ثم نسعى لإصلاحها ما استطعنا... فإن أخطأت يوما كن قويا.. قل فعلت ولكن... وما بعد ال..لكن يكون تحملا للمسؤولية أو إصلاحا للخطأ... الحياة مجموعة من رحلات قصيرة جدا أقصر من أ...