اظطررت للرحيل

147 16 4
                                    

وحيدة هي الأنا بين كتب المكتبة جمعت منها الأكثر غرابة ولكن اهم ماسيساعدني تلك الورقة دليلي كانت مع حور ..
على الطاولة المقابلة تُركت سلة تفاح ورغيف خبز وبعض قطع الجبن واللحم.
انها مكتبة وليست غرفة طعام!
يالذكائك ياحور لقد تيقنت بوجودي وعلى أني متعلقة بوصية الأب لكنها لاتراني لذلك توخت الحذر وتركت بعض الطعام للضيف الخفي وتركت أيضا رسالة ومعطف حملت كل ذلك في حقيبة ما وأضفت لهم بعض الكتب ثم كسرت زجاج النافذة بكتاب قديم صلب تأذت يدي من ما أقدمت على فعله و حينها وجدت حور تصرخ ظاحكة
-فعلا حمقاء لقد تركت لك الباب مفتوح يا زمردة .لا تأكلي طعامك دفعة واحدة سينفذ منك وفي سلة التفاح سرة نقود. سكان القرية وحبقة يرونك بصورة طبيعية لا تنسي زيارتنا بعد ايجاد حل اللغز . والا سألحق بك يا غبية.
حين أنهت كلامها وساد الصمت وأدركت أن مايفصلني بينها جدار .اقتربت منه وودعتها بشفراة مورس الصوتية على الجدار و التي علمتني اياها.
أعلم أنك لست عاطفية ولا تحبذين الوداع لكنني حظيت معك بتقدير ذاتي أنت ربع روحي تمثلين صوت العقل أتمنى أن لا أجن بعد الذهاب.الى اللقاء حور.
وقفزت من النافذة المكسورة بعد أن لففت الجرح بقطعة من لحاف الطاولة الذي حملته معي كذلك احتياطا.
وعندما وضعت رجلي على الأرض أبصرت مشهدا محزن جعل قلبي ينكسر بانكسار نظرات حبقة الوردة المزهرة التي تملأ ظحكتها أروقة البيت نهارا وتملأ البيت حزنا دموعها ليلا .بعد أن عجزت منذ وفاة أبيها عن الكلام لم ألاحظ منها تجاهلا مثل البقية على العكس لقد اقتربت مني جدا ولم تعد تفارقني كصوت قلبي والمشاعر وصوت البرائة الأخرس.
عيناها الواسعتان أغرقتاني في حزن دامس ومازاد الوضع سوءا أنهما أغرقتا وجنتيها بشلاّلات صامتة. لم تتحرك أطرافها بتاتا وكأنها شلت .
ياللهول ذاك المشهد ! زلزلت الأرض من تحت أقدامي لهول مارأيت .أفلتت مابيدي من أغراض فمنها ما تدحرج على الأرض ومنها ما ظل ساكنا إحتراما للموقف.
كتفاي نزل عليهما ثقل لم أشعر به في حياتي.ثقل دموع حارة ذكرتني ببكائنا سوية كل ليلة الفرق أن دموعها الآن تنهش لحمي وعظمي لتصل لروحي المريضه تحدث فيها الثغرات  التي حاولت سدها مدة سنتين وقلت في نفسي كيف لي أن أفارق حبقة هي ليست صديقة لأنساها بسهولة وبطرفة عين كما ظننت بالبداية هي قلب المعادلة التي انا اهجر كفّتيها للبحث عن العنصر المجهول. أخلط كل الموازين تناقض في تناقض..
واصلت الاقتراب منها بروية خوفا من.. لم اعلم من ماذا أخاف لكني حرصت عن أن لا تكون لخطواتي أصوات فتسمع رفرفات الفراش ولا يسمع وطأ أرجلي على الحشائش.
وحين لمست يديها وقلت لها في تأثر:
-عزيزتي لاتبكي أعدك أنها ستفرج ...أااااانلعب سويا؟
كان كلامي شبه ساخر لم يكن ذلك متعمدا ولكن لساني خائن غدّار .
ولم ألبث أستوعب ما قلته وأجد للموقف ألف حل حتى تبخر طيف حبقة من أمامي وكأنني لم أره أصلا بل وكأن عيوني معتلة بداء الوهم.
وللحظة أردت أن أصرخ منادية لها فما راعني الا فقدان صوتي. لم يعد له وجود.ولكن حورية جاءت راكضة تسأل بصوت عال عن حبقة .ثم انتبهت انها لم توجه لي الخطاب .كانت تصرخ باسمها وحسب وبعد دقائق من البحث حدث أمر كان ليكون غريبا لو لا ماسبقه من حوادث.لقد رحلت وكأن حبقة لم تكن معها أصلا.يبدو أنها نُسيت هي الأخرى لكن ليس لها بمرافق يرافق وحدتها .وهل بات لها وجود؟ وهل لهذا العالم وجود غير الهدف المنشود من دخولي بابه ؟
طبعا من حسن حظي اني امسكت بدمية المفقودة قبل رحيلها فصارت جزئا من هالة الاختفاء لتكون ذكرى لا تجعل لي فرصة لنسيانها ومن ثم بعد جمعي لأغراضي المتناثرة منها الطعام والشراب كتاب حور وسلسلة حوى التي عاجلت ارتدائها وسكين حورية .
اجل حورية تملك نوعا من الانفصام تبدو مجرد فتاةجريئة لكنها لو لا ما تربت عليه من أخلاق لكانت قاتلة مؤجورة لكثرة حبها للعنف وللتصرفات المتمردة والولدانية الصبيانية . كان لسانها سليطا يكره أدب حور ويشفق على برائة حبقة ويمقط كلام حوى الطيب المعسول. تلك السكينة كانت قد اهدتني اياها في آخر مناسبة في القرية من وراء باقي الفتيات وعلمتني كيفية استعمالها لو احتجت لذلك يوما ما واظن _وانا لا احتمل ذلك _أنني سأحتاجها في المستقبل القريب.
اضفت لما في السلة من اغراض دمية حبقة وانطلقت اودّع كل شبر من رائحة الغابة العطرة التي تطابق رائحة حبقة رائحة الندى والأعشاب والطحالب مع عطر زهور خفيف ومطر بلل الأرض غيثا نافعا ،ذكرتني بأيام أحن إليها.
ايام كنت فيها غريبة عن القرية .لا أجيد سوى مراقبة الفتيات ومساعدتهن أثناء النهار والتسامر معهن أثناء الليل فقد عرف كوخنا الصغير وتميز عن بقية الأكواخ بالمرح الذي كان ينبعث منه رغم مامرت عليه من مآسي.
وربما السبب الأهم كونه كوخا لا تغمض فيه العيون كلها فنتناوب كل ليلة على الحراسة. كوخنا بيت بأربع جدران ولربما كان أمتن البيوت لكن كيف لنا أن نغفو وتطمإن قلوبنا بعد رحيل السند كتف البيت وسقفه أنه لأول بيت بعد البوابة الحجرية! سبق وأن وصّى العم سعد أصدقائه الحراس لحمايتنا ولكن الخوف يعترينا فلابد أن تسهر إحدانا على راحة الأخريات ومن ثم تلك المستيقظة تعمل على ايقاظنا جميعا لصلاة الفجر عادة واظبنا عليها كمواظبة الأب سعد عليها قبل مماته.
لاحظت طول تلك المدة أن حبقة لا تبتهج أساريرها أمام سكان القرية صباحا حتى مع زميلاتها في المدرسة إضافة الى صمتها المريب لكن بين صلاة الفجر وشروق الشمس كان وجهها وبسمته يملآن المنزل بهجة فلا ترى فيه سوى لعبا ولهوا وغناءا وزغاريد بيت مجانين فعلا .
كنا لا نقتصر جهدا في تلك السويعات من الصباح الباكر .
فنخبز ما لذ وطاب و ننسج الزرابي ونخيط حقائب وفساتين للعملاء ونقطف من زهور حديقتنا لنصنع الباقات.الخبز لحوّى والخياطة لحور وجمع الزهور على حبقة أما الرقص فكان من مشمولات حورية كانت تتهرب من تلك الأعمال التي لا تجيدها حيث كانت تشد عزائمنا لمزيد من العمل تتحرك يمنة ويسرة وشعرها البني المجعد يميل معها فوق رأسها طوق زهور منها الأرجواني ومنها الأحمر والأصفر و ألوان لايمكن أن ترها مجتمعة سوى في ثياب وفوق رأس حورية .
قد لفت وشاح رأسها حول خصرها وأخذت تتمايل في لهو وعبث.وعندما يدق جرس المدينة معلنا صباحا جديدا ومنذرا سكانها بموعد العمل تفك حورية الوشاح عن خصرها وتضعه على رأسها وضعا مدارية ما أمكنه ذاك الوشاح أن يداري من جمالها الفتّان .ومن ثم تثبت صينية المعجنات فوق رأسها وتتبختر نحو الباب برشاقة وأتعجل الخطى مدارية بوشاح رئسي خصلات شعري راكضة ورائها في حياء مما يبدر منها من تصرفات كيف لا ونحن كزهرة بخمس بتلات لو أوذيت إحدى البتلات شوّهت الزهرة ببتلاتها الخمس وتاجها الأصفر.في هذه الزهرة لم نحتج مزيدا من الحياء حوّى كانت رمزا للحياء والخجل لم تكن تخرج من المنزل كثيرا ولو خرجت فصوتها كان يكاد لا يسمع أمر مبالغ فيه لكن طالما أن القرية صغيرة جدا فلن يكون هذا بعبئ فلا أحد لايعرف عن غرابة أطوار هذا البيت ببناته الخمس واللاتي لاتتطابقن في شيئ من الشخصية سوى الالتزام والأخلاق التي لربما تختلف بدرجاتها لكن بحد متفق عليه .

.... .أثناء رحلتي في الغابة ممسكة السلة عادت بي الذكريات حينما أبصرت عيناي المتورمتان من الدموع قطعت القماش المطرزة تغطي قاع السلة .
في صيف السنة الماضية أي حوالي بضعة أشهر قبل هذا اليوم إجتمعنا حول ماكينة الخياطة لحور هي عادة تنهرنا من دخول غرفتها .غرفة نومنا مشتركة لكنها إنعزلت طول النهار في مكتبتها الصغيرة التي كانت غرفة الأب سعد سابقا.غرفة لا تخلو من شيئ قد تحتاجه فتاة انعزالية انطوائية مثلها طاولة وكرسي فواكه ومياه، ماكينة خياطة أوراق للرسم ولوح شطرنج لا أدري إلى الآن مع من تلعبه بعد موت الأب سعد لكني متأكدة من أنني رأيتها كل عشية جمعة وهو يوم عطلة في القرية تلعب به بمفردها وكأنها تجرب حركات تكتيكية مسمومة وترياق سمها فيما بعد .قد دعتني سابقا للتعلم ولم أرفض لها ذلك بل استمتعنا سويا فكسرت حينها ويوما بعد يوم قيود وحدتها فصار من المسموح لي أنا فقط من ولوج ركنها المنفرد كما ولجت أذيق الأماكن في نفس كل فتاة في هذا البيت تماما كما تقاسمن هن الأربع شظايا بلور روحي المكسور بعد ولوج هذا العالم الغريب.
إجتمعنا حولها بعد أن دعتنا وهي تكاد تندم كلما رأت حورية تظع يدها على الأغراض أو حوى تسقطها دون عمد لضيق المكان جلسنا حولها كأحفاد حول جدتهم وأخذت تطرز في صمت متقع و من ثم تدعونا لتجهيز أربع من ألواننا المفضلة أسود أحمر أبيض وأزرق وأخضر زمردي .وتخيط اسم كل واحدة فينا بتلك الألوان بادئة بحبقة  التي طرّزته على فستانها ثم حوى على وشاحها وحورية على غطاء صينيتها القماشي وأنا على لحاف سلتي وهي على غطاء طاولتها والذي أخذت طرفه المطرز بالأسود  معي .

.... الآن انتهت رحلة الذكريات وحان موعد الجد فقد أسدل الليل لباسه الداكن فلم يعد لي سوى الانتباه لطرقي قبل أن تفترسني ذئاب الطريق الجبلي..
.... حال الفتيات ليس أفضل من حالي في هذه الأثناء. لابد أن غيابي سيهدد أمانهن..
لنرى ماذا سيصنعن من دوني ...

نبض الزمرد/ Emerald Pulse حيث تعيش القصص. اكتشف الآن