خطوات متسارعة لرجال هاربين , أمسك أحدهم بما تبقى من ذراعه التي مزقت , وأخر يركض بصعوبة بعد إصابة ساقه بجرح عميق ,زادوا سرعتهم بالهرب وأنفاسهم تتقطع من الخوف والجري, أحدهم يهمس
ــ أسرعوا لا تنظروا للخلف . تكسرت أغصان الأشجار وفروعها الصغيرة بعد أن اصطدمت بوجوههم وأجسادهم المليئة بالجروح , تعثر أحدهم على وسقط على وجهه على أرض الغابة الرطبة المليئة بالأوراق المتعفنة والمتفسخة , فصرخ مستنجداً بأصحابه لكنهم لم يتوقفوا من أجله بل انطلقوا أسرع , ثم علا صوت الرجل يصرخ بجزع من الألم , لقد أمسكت به وحوش الغابة وافترسته حيا , أستمر صديقاه بالهرب فقال أحدهم
ــ الشاطئ , لقد اقتربنا . ولكن رفيقه صرخ برعب وألم بعد إن سحبته الشياطين لأعلى الشجرة , أستمر الناجي الوحيد بالهرب حتى نزل للماء وأخذ يتخبط محاولا الفرار ولكن سحبه شيء ما تحت الماء وارتفع الدم مكونا بركه صغيرة في الخليج الفاصل بين الغابة وقرية نيموبا الساحلية حيث تقف منارتها شامخة تنير الطريق البحري للسفن خلال الخليج , ليشهد قمر تلك الليلة على هلاك مجموعة أخرى من الصيادين , انسحبت المخلوقات لعمق الغابة بعد إن زعقت وكأنها تؤكد قانون الغابة المظلمة بأن الموت هو المصير المحتوم لمن يقترب منها ,,,,
كان يركض غير مباليا لبرك الماء الموحل أو الطين العالق بثيابه انزلق عدة مرات، ولكنه يستعيد توازنه ليستمر بالركض مستفيدا من ضوء البرق الذي ينير عتمة الليل في تلك العاصفة الشديدة ,شعر بسخونة جسده وضيق تنفسه قال في نفسه «لابد اني أصبت بالبرد ,سيقلق جدي» كان عليه أن يأتي مبكرا، لكنه تأخر في جمع قطيع الأغنام لان رامي لم يذهب معه هذه المرة ، قال في نفسه وهو يصارع ليكمل طريقه « هه.. الجبان» فبمعرفته بصديقه علم أنه يدعي المرض لأنه خائف من العاصفة فقد حذرهم الضابط كنان من عاصفة قوية هوجاء , فمنع الصيادين من الخروج للبحر حرصا على سلامتهم , وقف تحت شجرة على الطريق الحجري المؤدي إلى المنارة يلتقط أنفاسه , أنحنى واضعا كفيه على ركبتيه يتنفس بشده ثم نظر لكيس القماش الذي يحمله بيده اليسرى، «لقد أبتل بفعل المطر» قال في نفسه« لابد إن الخبز أبتل أيضا سينزعج الجدي حتما» ثم ابتسم بمكر كأنه سعيد لإزعاج جده , انتصب واقفا ونظر إلى المنارة التي لا، تزال بعيدة ، وانطلق مجددا يشقُ طريقه للمنارة في ظلمة الليلة العاصفة .
لم تكن الدنيا رحيمة بالفتى ذو الاثنا عشر شتاءً , فذكرياته عن والدته مشوهة ,بالكاد يتذكر بعض ملامحها بصورة ضبابيه , فقد غادرت الدنيا حين لا يزال في الثالثة من عمره بعد إن أنجبت أجوان تلك الفتاة المزعجة, لتعود الحياة فتذكره بقسوتها حين أُخذ والده للحرب قبل سبعة أعوام ، كان والده يبعث برسائل تصل كل عدة شهور , ورغم إن الرسالة الواحدة تحتوي على عدة صفحات تملؤها الخطوط السوداء , إلا إن الجد شاهين يكتفي بعدة كلمات فقط ثم يقلّب تلك الصفحات و يعيد طيها وأعادتها إلى المظروف ويغلقه مجددا، في احدى الليالي أستيقظ سهم فأتجه للإسفل، فرأى شاهين ذلك الرجل ضخم الجثة , يجلس على كرسيه الخشبي الكبير قبالة الموقد وهو يحمل بيده صفحات رسالة ولده التي وصلت اليوم، ماسكا الأوراق بيده اليمنى و واضعا يده اليسرى على فمه ليكتم بكائه ونشيجه، و دموعه تنهمر على وجهه المليء بالتجاعيد التي سببتها السنوات لتنساب على لحيته البيضاء الكثيفة ، حين أنتبه لوجود سهم على الدرج ماسكا دميته (الذكرى الوحيدة المتبقية له من والدته) ينظر إليه بدهشه، عندها أستجمع شاهين نفسه، و تنفس عدة مرات ومسح دموعه وقال بصوته الاجش
ــ سهم ! لما أنت مستيقظ..؟
ــ اشعر بالخوف.... رأيت كابوس مجددا . رد سهم بتوتر , نهض شاهين ومدَّ يده نحو سهم الذي أرتمى بجسده الهزيل على جده، وأجلسه في حجره بعد إن عاد لكرسيه ,
ــ دعني اروي لك قصه .
, ــ قصه؟.. عن ماذا؟ رد سهم متحمسا
ــ عن الغابة المظلمة . ابتهج سهم كثيرا فلطالما أثارت الغابة المظلمة اهتمامه، تلك الغابة التي تقع قبالة المنارة على الطرف الآخر من الخليج، بدت عالما مبهما وغريبا عن سهم الذي يقضي بعض الأوقات ينظر إليها من خلال نافذة غرفته المطلة عليها ، يتخيل عالما جميلا مخفيا هناك، و لكن شاهين أخبر سهم عن أمور مرعبة ,عن اختفاء الصيادين في تلك الغابة، وأن من يدخلها لا ينجو، حتى إن الجيش الملكي لم يتمكن من التوغل فيها، كما أنهم وجدوا جثثا تعود للصيادين ممزقه بشكل وحشي , نظر في عيني سهم وقال
ــ أسمعني يا بني , تلك الغابة ملعونة ومهما فعلت فإياك والاقتراب منها , هل فهمت ؟
لم يرد سهم وبقي فاغرا فمه من هول ما سمع , نظر شاهين مطولا لرسالة ولده ثم أعاد النظر لسهم وابتسم قائلا
ــ سأدعك هذه الليلة تنام في غرفتي . وضع سهم من حجره ونهض من مكانه ثم أشار بسبابته اليمنى لغرفته التي تقع بجوار الدرج ، فرح سهم وكأنه حصل على هدية عيد ميلاده مبكرا هذا العام
رد سهم على الفور ــ حقا يا جدي ؟
هزَّ شاهين راسه ليحث سهم على السير للغرفة ، ثم قال ــ هذه الليلة فقط ولكن إن بللت فراشك سأمنعك من دخول غرفتي ثانية .
أقطب سهم حاجبيه بغضب مكبوت وقال معترضا
ــ لست صغيرا لأبلل فراشي كما تعلم , لقد بلغت الثامنة . واتجه نحو الغرفة, في حين ارتفعت قهقهة الجد عاليا ، و قبل أن يدخل سهم الغرفة نظر خلفه فرأى جده وهو يلقي برسالة والده في الموقد، لم يفهم سهم أبدا لم كان جده يحرق الرسائل دائما، وهل حقا ثلاثة أو أربعة صفحات مليئة بالكلمات تعني فقط « أنا بخير، أحبكم جميعا، سأعود حين تنتهي الحرب، كن مطيعا يا سهم، حبيبتي أجوان ، اشتقت لكم، ولا تقلقوا علي»، ورغم إن سهم تعلم القراءة والكتابة، إلا إن شاهين لم يسمح له قط بقراءة رسائل والده، مضى عام ونصف على آخر رسالة من والد سهم وبعدها انقطعت أخباره، عام ونصف كان كفيلا بإضافة تجاعيد أكثر وبخطوط أعمق على وجه شاهين العجوز , استمر سهم بالركض و أصبحت المنارة اقرب، لكن بابها لا يزال بعيدا لا زال عليه أن يصعد الدرج، بدأ بتسلق الدرجات الحجرية المؤدية إلى الباحة الأمامية للمنارة متشبثا بالدرابزين ويزداد تنفسه صعوبة حتى وصل إلى الدرجة الأخيرة، عندها رأى شبحا يقف عند البوابة، لم يجهد سهم نفسه ليتحقق من هوية الشبح، فقد كان يعلم انه جده شاهين الذي كان قلقا عليه ولم يتمكن من ترك المنارة و أجوان، فلم يجد بُداً من الوقوف عند البوابة حاملا قنديلا كبيرا مرتقب قدوم حفيده الوحيد.
وقع على الأرض الطينية المغمورة بالماء خائرا القوى , فشعر بيدين كبيرتين تحركانه وتقلبانه على ظهره ثم ترفعانه عن الأرض، لم يحاول أن يفتح عينيه، لإنه يعرف صاحب اليدين وبقي يردد في نفسه «لقد فعلتها.... لقد وصلت... وصلت المنارة » ثم أستسلم أخيراً و أرخى جفونه ليغط في نوم عميق
أنت تقرأ
اسرار الظلام
Fantasyقد ترمي بك الاقدار في مغامرة لم تعد لها العدة، فماذا ستفعل هل ستواجه ام تخضع،؟ دائما ما كان يطل من نافذة غرفته على الغابة المظلمة وهو يتخيل عالما سعيدا هناك، ولكن، تحول حلمه الجميل الى كابوس مرعب حين اخبره شاهين ان الجيش الملكي عثر على جثث الصيادين...