أجوان

116 7 11
                                    


فتح سهم عينيه بتعب , ألتفت لجانبه , وجد جده شاهين جالسا على كرسي خشبي جنب سريره ومغمض العينين , فهمس
ــ جدي !.
فتح شاهين عينيه وأقترب بسرعه منه وقال
ــ بني سهم هل أنت بخير ؟ هزّ سهم رأسه وقال
ــ لقد تأخرت بسبب العاصفة.
ــ لا عليك يا بني , المهم إنك بخير . أبتسم شاهين وأردف ــ في كل مرة تثبت لي أنك قوي الإرادة , عالي الهمة . أبتسم سهم وغط في النوم , نظر شاهين له وأبحر في قسمات وجهه الذي لا يزال يحتفظ بمعالم الطفولة , نهض من مكانه واتجه صوب النافذة ونظر للغابة الملعونة وهمس كأنه يعاتب أحدهم
ــ كيف سمحت لنفسك ؟ لقد عانيت من أجلك وكل ما أردته هو أن أعيش بسلام ,أن أجلس على كرسيَّ قرب المنارة وحولي أحفادي , ولكنك لم تعرض نفسك للخطر فقط , بل جميع من حولك من أجلها , خاطرت بحياة طفليك من أجلها . تنهد بعمق ثم أردف ــ تركت تفعل ما تشاء , شرط أن تترك حفيدي و شأنه , ولكن ها أنت ذا تطلب مني أن أرسله للموت من أجل ما تؤمن به , من أجلها , أنت أناني يا مروان , أناني . أستدار نحو السرير حيث يرقد سهم ــ لن أدع سهم يحتذي بك و سأبعده عن طريقها وعن الغابة الملعونة مهما كلفني الأمر . وعاد لكرسيه وجلس قرب حفيده المريض .
صيحات الجنود المندفعين للهجوم تقاطعت مع صراخ النساء الهاربة , وبكاء الأطفال الذين قتلوا ذويهم أمام أعينهم , ودخان حرائق البيوت وصهيل الخيول التي تضرب بحوافرها الأرض بقوه كأنها ستتسبب بزلزال ما للمدينة تعلو لتشقَّ طريقها نحو السماء ، فجأة عمَّ الهدوء واختفى كل شيء ثم سمع همسا بدا مألوفا له، اضطرب قلبه لينبض بشدة حين نظر لمصدر الهمس :«أمي..» اغرورقت عيناه بالدموع بادر السير بأتجاه والدته التي يراها ضبابيه،  لكن جسده لم يساعده كأن قدميه التصقتا بالأرض وتجذرتا عميقا،  نظر إلى قدميه كأنه يتوسلهما التحرك، وأعاد النظر لوالدته التي بدت إنها تبتعد، شعر بخوف شديد , لا يريدها أن تذهب مجددا ,نادها بصراخ عال لكنها أزدادت بعدا حتى اختفت، ثم سمع صوت الباب يفتح من خلفه فرأى والده وهو يحمل حقيبته على ظهره، المشهد ذاته الذي حصل عندما غادرهم أبيه وذهب للحرب , اسرع ليمنع والده من الذهاب، أراد أن يخبره انه لم يتلقى منه أية رسالة منذ عام ونصف، لكن الأب غادر واختفى في دائرة الضوء الأبيض الساطع , عندها صرخ سهم بكل قوته
ــ أبي.... عد أرجوك... توقف
وشرع بالبكاء بمراره حينها شعر بيد تهزه بقوة
ــ سهم ... سهم... أستيقظ بني .
ــ جدي.! فتح عينيه والحزن يغطي قلبه الصغير
ــ لماذا ذهب؟ هل كان عليه الرحيل؟ جدي أردت أن امنعه لكنه رحل. وانهمرت دموعه معلنةً انتصار حزنه المكبوت بداخله منذ سنوات
ــسهم بني..  لقد كانت هلوسه بسبب الحمى
وهل كان رحيله بسبب الحمى .صرخ معترضا
ــ أنها حرب يا بني . تنهد شاهين ــ و نحن لا نملك خيار سوى الطاعة , تلك هي إرادة الملوك , سيفعلون أيُّ شيء من أجل بقائهم في السلطة , وأما نحن فمجرد بطاقات لعب أو أحجار شطرنج يمكن استبدالها دوما تنهد عميقاً قبل إن يكمل ــ وعلى أية حال ,إن رحل والدك بإرادته أم بقي ففرص نجاته ذاتها، فقد يُعدم في ساحة القرية بتهمه الخيانة
ــ وقد يموت في الحرب.. قاطعه بشدة
نظر شاهين في عيني سهم ــ عليك أن تعلم أن والدك قد ضحى بنفسه من اجل ما يؤمن به .بدا واضحا إن شاهين يخفي شيء لم يبح به لسهم، نظر بغضب مكبوت نحو النافذة وقال
ــ لقد فعل ما هو صائب , فبقائه لم يكن ليعود على أحد بخير . ثم امسك , شعر سهم أن هناك خطبٌ ما و لكن الجد يرفض إن يقول ذلك . أردف شاهين قائلا
ــ لم تصلنا أية أخبار عن والدك  منذ مدة .و نهض من مكانه ليتجه نحو النافذة المطلة على البحر الذي كانت تتكسر أمواجه بشده على صخور الخليج في تلك الليلة شبه المقمرة وبعد لحظات تأمل اكمل
ــ أرجو أن تنتهي الحرب ويعود والدك سالما . اطرق سهم برأسه، يفكر بعمق  هل يستطيع فعل شيء لإيقاف الحرب أو أعاده والده على الأقل .
« ــ سهم . رفع نظره إلى جده الذي استدار بكامل جسده وهو يلقي بنظره جادة جدا إليه
ــ مهما حدث يا صغيري عدني بأنك ستهتم بأجوان ، اعرف انك لازلت صغيرا، لكن عليك أن تعدني بأنك سترعى أختك مهما حصل . أمتعض سهم لمجرد سماعه باسم أجوان، فهو يرى إنها سبب وفاة امه.
ــ لا تنسى إنها أختك . اكمل شاهين ــ لا أعلم ما يخبئه لنا القدر , لكن يجب أن نضع كل شيء بالحسبان . وضع كفيه الكبيرتين على كتفي سهم واخذ يحثه على الكلام ــ عدني . كان الشعور سهم في تلك اللحظة الغضب العارم ، فجده يعلم بكرهه لتلك الفتاة كيف يريد إن يعتني بها ؟ كيف يطلب منه ذلك ؟ لم يرد على كلام جده إلا بنظره غاضبة ادرك شاهين شعور سهم و لعله عرف إجابته فتوقف عن الكلام وتحرك من مكانه واتجه نحو الكرسي و جلس مجددا وفي عينيه نظرة حيرة ، أما سهم فاستلقى في فراشه وغطى نفسه بدثاره بغضب، وهو يردد في نفسه « كيف يريد مني أن اعتني بأجوان » في تلك اللحظة بالذات أعلن صرير الباب عن دخول أحدهم، فأطلت بثوبها الأحمر الذي يصل إلى نصف ساقها و شعرها الأسود منسدل على كتفيها , وتحمل بيدها اليمنى دميتها وتفرك عينها بالثانية و تتكلم بدلال زائد قد لا يناسب شرها
.  ــ جدي.. لقد سمعت صوتا مزعجا كأنه صوت بكاء طفل . ثم فتحت عينيها بنظرة ماكرة وهي تنظر لسهم وتقول ــ يبدو أن احدهم قد رأى حلما واستيقظ مرعوبا باكيا
احمر وجه سهم من الغضب وأجاب بحنق ــ لم اكن أبكي
ــ بلى كنت تبكي . وعلت وجهها ابتسامة خبيثة
ــ لم اكن ابكي .
ــ بل كنت تبكي .
لم اكن ابكي...لم ابكي...لم ابكي .  ــ
.  ــ بل تبكي... تبكي... تبكي . وتداخل صوتيهما بشجارهما المعتاد
ــ كفى . قال شاهين، ثم التفت لأجوان ــ هل ترغبين ببعض الماء؟ .
ابتسمت ببرائة لا تناسبها ــ كلا يا جدي .
ــ حسنا ما رايك ان تنامي هنا؟
ــ لا استطيع لأن احدهم سيبكي مجددا . وهي تحول نظراتها لسهم
ــ قلت لك لم اكن ابكي . صرخ بوجهها بغضب عارم
ــ لقد سمعتك كنت تبكيي .
ــ أنتِ مخطئة لم ابكي... لم ابكي .
ــ بلى تبكي.. تبكي .
وعاد الشجار مجددا قبل أن يصيح الجد بقوة ــ قلت كفى . وانهى الشجار لكن حرب النظرات لازالت مشتعلة.
نهض من مكانه واتجه لسهم وضع كفه على كتفه ليحثه على النوم ثم اتجه لباب الغرفة حيث كانت أجوان ليمسك بيدها و يأخذها لفراشها بعد أن اغلق الباب، نظر سهم لسقف غرفته الخشبي بعد أن اخذ نفساً عميقاً, لا احد يعلم ما كان يفكر فيه في الدقائق التالية قبل أن يعاود النوم، لتنتهي تلك الليلة مع إشراقة أول خيوط للفجر ...*.

اسرار الظلام حيث تعيش القصص. اكتشف الآن