شاهين

77 6 4
                                    


استمر مرض سهم عدة أيام قبل إن تزول الحمى أخيرا ويتعافى تماما، وفي مدة مرضه بقي شاهين يعتني به بينما اهتم رامي برعي الأغنام
ــ هذا أقل ما يمكنه فعله بعد إن تمارض . قال سهم  لجده الذي اخبره عن رامي، بينما انشغلت أجوان بواجباتها المدرسية وألعابها عن افتعال الشجار مع سهم .
استيقظ سهم من حلم مزعج آخر، فمنذ رحيل والده استمرت الكوابيس بمراودته و أصبحت شبه يوميه، فبالكاد يتذكر ليلة واحدة من دون كوابيس، وأغلب كوابيسه كانت عن يوم رحيل والده وعن الحرب والقتل والدمار، تحرك من فراشه متثاقلا وتوجه للأسفل، كان المشهد المكرر ذاته كل يوم، شاهين  يحضر الفطور ويملأ كوب أجوان التي ارتدت ثيابها المدرسية ورتبت شعرها بجديلتين منخفضتين،
نزل من الدرج الخشبي واستقر في مكانه ــ صباح الخير .
ــ صباح الخير . رد شاهين ــ هل تشعر بتحسن اليوم؟
.  ــ اجل.... سأذهب للمرعى اليوم 
ــ همم...  هذا جيد . 
همهم الجد وهو يملأ كوب سهم بالحليب الساخن، نظر سهم للبخار المتصاعد من كوبه, وقد شكل زوبعة صغيرة ترتفع مكونة عمودا يتلاشى كل ما ارتفع عن حافة الكوب، بقي يراقب البخار الذي بدا وكأنه يروي حكاية ما من دون كلمات، حول نظره نحو الموقد يستمع لألسنة اللهب وهي تلتهم قطع الحطب, ركز بنظره على خط النار الذي بدا وكأنه أفعى نارية, تتحرك بانسيابية على الفحم وتحيله رماداً, وتنتقل لقطعة فحم أخرى لتبيد وجوده بحرارتها
ــ هل سأذهب للحرب أنا أيضا يا جدي؟
سأل سهم بهدوء تام، ولكن وقع السؤال كالصاعقة على أجوان التي أسقطت كوبها مسببة فوضى على المائدة والأرضية، في حين اتسعت عينا الجد وبدا عليهما الخوف و القلق
ــ لا... لن تذهب . أجابه شاهين بحزم وثقة وهو يجمع شتات نفسه واخذ منشفة صغيرة لينظف الفوضى التي أحدثها كوب أجوان.
ولكن حين أكبر.. ــ
ــ قلت لا. قاطعه شاهين بقوة كأنه ينهي الحوار نهائيا .
سكت سهم والتقط كوبه ليرتشف حليبه, بينما أنهت أجوان فطورها بسرعة على غير العادة وغادرت بدون كلمة،
ساد الصمت على البيت الصغير كأنهم يستعدون لمصيبة ما, قاطع هذا الهدوء صوت كرسي سهم وهو يبعده ليخرج للمرعى، وما إن وصل للباب نظر إلى جده الذي لا زال واقفا قبالة الموقد, يحدق في النار كمن يحاول أن يكتم بداخله شيئا ما صرخة... بكاء... لعنة ... شيء ما يختلج نفس ذاك العجوز, الذي دفن زوجته في سن مبكرة, وأعتزل العالم ليربي ولده الوحيد مروان، وظن إن الأمور ستتحسن بعد زواج ولده وإنجابه لطفلين لكن الحظ السيء عاد ليخطف «غدق» بعد ولادتها لابنتها أجوان، ولم يكن ذلك كافيا بل اشتعلت الحرب التي أحرقت البشر والحجر و مروان احد ضحاياها.
تلاطمت الأفكار في عقل شاهين كأنها أمواج بحرٌ هائج، أيُّ قسوة هذه التي تمكنت من العالم؟, لتحيله مظلماً لهذا الحد في عينيَّ هذا العجوز؟ لم تنتهي لعنة الغابة لتبدأ لعنة الحرب, أنها مندلعة منذ سبعة أعوام, لم يبقَ أمامه سوى ثلاثة أعوام فقط حتى يأتي الجنود لأخذ سهم, عندها ماذا سيفعل ؟
استدار ليجلس فرأى سهم لا زال واقفا عند الباب ينظر إليه عن كثب
ــ سهم!؟.. ماذا تفعل هنا؟ ألم تكن ذاهباً للمرعى؟
هزَّ سهم رأسه بهدوء بالإيجاب ثم خرج وأوصد الباب خلفه، جلس شاهين على كرسيه الخشبي الكبير ليغرق في التفكير مجددا
مشى سهم على الطريق الحجري باتجاه المرعى, وسار بهدوء وكأن عقله مسكرا أو مسحورا, لا يفكر بشيء رغم ما يثير مخاوفه عن الحرب، لقد شاهد الجنود منذ فتره في القرية وهم يأخذون الشباب للمعسكرات سيأتي دوره قريبا, شعر بالحزن الشديد و خيبة الأمل, ظنَّ انه سيكبر بالمنارة مع جده، وقف مكانه  مطرقا رأسه للأرض و الحزن يعلو وجهه, بقي متسمرا عدة دقائق قبل إن تتبادر لذهنه فكرة
ــ ربما سأرى والدي هناك..  ربما سأصادفه. قال لنفسه محاولاً رفع معنوياته, وانطلق مسرعا للمرعى . 
أنتشر قطيع الأغنام في الوادي يرعى, و جلس رامي عند شجرة الصفصاف الكبيرة, منشغلا بالتدرب على الرسم الذي تعلمه من سهم, فقد ورث سهم موهبة والدته بالرسم .                                    
في عموم السنه يحظى الوادي بكميه وافره من ضوء الشمس ودفئها, مما يتيح للعشب وبعض الأشجار المنتشرة فيه بالنمو, أما في الربيع فتكسو الأزهار البرية الملونة عموم الوادي, ليضج بالألوان, وتنتشر الفراشات فيه, بينما تتجمع بعض أنواع الطيور بالعشرات لتبني أعشاشها على الأشجار وبين الأعشاب وفي حفر أرضية, كأنه عرس تقيمه الطبيعة، ولطالما انطلق الولدان بحثا عن أعشاش طيور السلوى و الحباري بين الحشائش, يجمعون بيوضها كأنها جوائز قيّمة، أما الآن فلا زال الشتاء قائما فلا توجد أية أعشاش، ولعلَّ جمال الوادي هو ما كان يثير شغف الصديقان بالرسم هناك
ما أن رأى رامي سهما صاح فرحا ولوح لصديقه، ابتهج سهم الذي هرع نحو رامي ولمّا اقترب منه, صاح به مدعيا الغضب
ــ أيها الجبان لقد أدعيت المرض وتركتني أرعى القطيع وحدي، أتظن انه ستنطلي عليَّ حيلتك؟ كنت أعرف انك بخير... أنت كاذب وجبان يا رامي.
شعر رامي بتوتر كبير و إحراج أكبر فما قاله سهم كان صحيحا
ــ أنا اسف... لم اكن... اعني اني حاولت أن آتي ولكن الجو كان مخيفا جدا ومرعبا.
ــ فدعيت المرض؟. قال سهم وبدأ يقترب من رامي بهدوء
ــ أنا آسف.
عندها انفجر سهم ضاحكا يسخر من صديقه الذي بدا التوتر عليه واضحا، غضب رامي وصاح به
ــ كنت ألوم نفسي لما حدث لك, لذا خرجت للمرعى وحدي طيلة هذه الفترة, وأنت تعرف اني أخاف من صوت الذئاب، كل ذلك لكي أعوض عليك، أليس هذا كافيا؟
عندها صمت سهم، لم يكن يعتقد إن مزحته ثقيلة لهذا الحد، وقف أمامه وقال
ــ رامي لم أقصد مضايقتك، كنت امزح فحسب. وبدا الندم عليه،
ــ أعرف.. ولكن تعلم باني... حسنا أنا جبان... وأخاف من التهديد والضرب. رد رامي بحزن، لكن سهم قاطعه بسرعه وقال بحزم
ــ لكنك تعرف اني لن أذيك أبدا.. بل وسأدافع عنك،  رامي، أنت لست صديقي الوحيد فحسب بل اعتبرك أخي الصغير.
ــ لديك أجوان . قال رامي وهو يجلس في مكانه بعد أن هدأ.
ــ أرجوك لا تذكرني، أنا مستعد لأقايضها بإحدى تلك المعزات. وأشار إلى معزات صغيرات يركضن في المرعى, وأردف ــأنها لعنة حقيقية يا رامي. وبقي يراقب المعزات و هنَّ يتقافزنَّ ويلعبنَّ قريبا من أماتهن،
القى رامي نظراته على سهم فقد كان يعرف ماذا يعني ,أكمل سهم كلامه قائلا
ــ حسنا اعتقد إن جميع الفتيات لعنات حقيقية. كان رامي لايزال ينظر لصديقه بغرابة قبل أن يسأل
ــ ماذا تعني؟ 
ــ أعني أنت لديك رولا وانا لدي أجوان، اذا اعتقد فجميع الفتيات لعنات حقيقية.
ــ ولكن يا سهم. قال رامي وهو يطرق رأسه بهدوء ونبرة حزينة بعض الشيء ــ رولا كانت طيبه جدا معي بعد وفاة والدتي، وتولت رعايتي والعناية بي، لكن بعد إن تزوجت ذلك الأحمق فريد تغيرت كثيرا وأصبحت  سيئة مثله.
ــ فريد! ، كنت أظن انهم سيأخذونه للتجنيد أيضا, لكن يبدو انهم غير مهتمين بالحمقى. ضحك الاثنان واكمل رامي سخرية صديقه من زوج أخته قائلا
ــ وبماذا سينفعهم مدمن كبير البطن مثل فريد؟ وانفجرا بالضحك معا, وامضيا ما تبقى من الوقت باحاديثهم المتنوعة والطويلة قبل أن تبدا الشمس بالمغيب, ويجمعا قطيعهما ويعودان للقرية في نهاية ذلك اليوم.
في طريق العودة والاثنان منغمسان بأحاديثهما, فسمعا صوتا مزعجا
ــ رامي ...أيها الفتى الحقير...هل استلمت النقود؟
تجمد رامي من شدة الخوف, ولم ينبس بكلمه أو يلتفت خلفه, عكس سهم الذي استشاط غضبا وألتفت ناحية الصوت قابضا كفه مستعدا للعراك، تقدم رجل متوسط العمر قصير نسبيا, تركز معظم وزنه في وسطه, يرتدي ثيابا شبه بالية و شبه قذرة وتفوح منه رائحه الخمر حتى وصل عند رامي المتسمر في مكانه وقال
ــ أين النقود؟  أين هي نقودي؟
ــ نقودك؟!. صرخ سهم بغضب ــ أنها نقود رامي, اذا أردت النقود فذهب وجد لك عملا.
نظر فريد بلا مبالاة لسهم و أعاد نظره لرامي, وتقدم خطوة ووضع كفيه على كتفي رامي وانحنى ليهمس بأذنه قائلا
ــ هل أحضرت نقودي؟ أنت تعرف ماذا سيحصل إن لم احصل على نقودي. شعر رامي بخوف مضاعف, ومد يده لجيبه واستخرج الخمس قطع النقدية, ورفعها فأخذها فريد منه وهو يقهقه ويقول
ــ فتى مطيع.. أحسنت.. لكن تذكر سترتفع العمولة، عليك أن تجد عملا آخر لتسدد ما عليك.
ــ هل أنت مجنون؟. صاح سهم ــ عمولة ماذا ؟ . نظر فريد لسهم ببلاهة ورد بهدوء مستفز
ــ أن هذا الشقي يسكن في بيتي ويأكل من طعامي, وعليه أن يعمل بجد ودون أن يتكاسل, ليسدد نفقات وجوده في بيتي.
شعر سهم بغضب عارم وصرخ بفريد  الذي بدأ بدأ يتحسس النقود بأصابعه  ويعدّها
ــ أنت من يسكن في بيته أيها المدمن المعتل، وأنت من عليه أن يسدد ثمن إقامته وطعامه.
ــ هاا.. ماذا تقول؟ أنا اسكن في بيت زوجتي . ثم انحنى نحو سهم كأنه سيقول سرا لا يريد أن يسمعه احد ــ إنه ثمن قبولي بالزواج من أخته الحمقاء, هل تظن أن هناك رجلا عاقلا سيقبل الزواج من تلك الغبية؟ لقد قبلت بالزواج منها كي تتوقف الفتيات عن السخرية منها، لأنها تأخرت بالزواج, ولم تجد احمقا يقبل بها .
اهتاج سهم غضبا وأراد الهجوم على فريد الذي رفع رأسه وهو يقهقه عاليا, لكن رامي أسرع وأمسك بصديقه يمنعه وهو يرجوه أن يهدأ، عندها نظر فريد لذينك الاثنين وانحنى قليلا يوجه كلامه لرامي
ــ عليكما أن تكونا ممتنين لي أنت  واختك الشمطاء.. وإن كان صديقك منزعجا فجعله يدفع جزءا من ضرائبك . واطلق بعدها ضحكات عالية وعاد بخطواته المترنحة للحانة, في حين كان سهم يحاول اللحاق به ليضربه و رامي يمنعه بكل قوته، حتى هدأ قليلا ونظر بغضب لرامي
ــ كيف تعطيه أموالك؟ لماذا تسكت عن حقك؟ كان عليك الرفض.
ــ وماذا سيحدث لي عندها؟. انزل يديه من سهم ويعلو وجهه الحزن الشديد ــ اعلم إن رولا ستعاقبني بشدة.
ــ تعال معي.. يمكنك العيش معنا بالمنارة. قال سهم برجاء وحزن لأنه يعرف مسبقا أن صديقه لن يوفق، رفع رامي رأسه وعلت ثغره ابتسامه طغى الحزن عليها
ــ قلت لك مرارا...لا استطيع... فمهما حدث لا يمكنني ترك رولا وحدها مع هذا الجشع.
عاد سهم حزينا لما يتعرض له صديقه, وهو لا يعرف ماذا عليه أن يفعل, حتى قاطع شروده صوت السيدة مها وهي تناديه، نظر ناحيتها و أجاب بابتسامة وتحرك نحوها، كانت تقف عند باب بيتها, فبادرها بالسلام حين اقترب منها و ردت عليه
ــ كيف حالك بني سهم؟ لقد سمعت بانك مرضت.
ــ نعم..  لكني بخير الآن. أجاب بتحرج .
ــ هذا جيد. أجابت وعلى وجهها ابتسامة لطيفه ــ لقد أردت أن أعطيك هذه في عيد مولدك, لكن أظنك بحاجه لبعض الترفيه بعد مرضك. ومدت يدها وأعطته شيئا ملفوفا بخرقة، بقيت عيناها مثبته على سهم ترتقب ردة فعله، اخذ سهم تلك الهدية الغامضة مع ابتسامه ظهرت جلية في عينيه، فتح الخرقة. كان تمثالا خشبيا صغيرا لفارس امتطى حصانه, وامسك برمحه الكبير موجهه نحو الأمام كأنه في حالة هجوم، سعُد سهم بتلك الهدية و رفع نظره باتجاه السيدة مها ــ شكرا سيدتي. أنها جميله جدا. ابتسمت السيدة مها, كأنها أطمأنت لجودة هديتها
ــ حسنا، كما تعلم, فقد كان ولدي رائف يجيد النحت على الخشب, لقد صنعها قبل التحاقه بالجيش . سكتت للحظه وكأنها تذكرت شيء ثم استأنفت سؤالها
ــ كيف حال جدك العجوز؟
ــ أنه بخير..شكرا لك.
ــ الحمد لله. وجهت نظرها صوب المنارة مع نظرة شفقه و أردفت ــ لقد عانى جدك الكثير، لكنه رجل قوي, كنت أظنه سينهار حين وصله خبر موت مروان، لكن اعتقد انه تماسك من أجلكما.. ربما عليه أن يتصرف بسرعه قبل أن.... عندها أمسكت عن الكلام, و ادركت أنها ارتكبت خطأ فادحا, حولت نظرها بهدوء ناحية سهم الذي صعق مما سمع، كان يظن أن والده سيعود يوما, لكن السيدة مها تقول بانه قتل في الحرب، حاولت أن تتدارك ما قالته لكن الأوان قد فات، تراجع سهم بخطوات صغيرة للخلف وهو يهز رأسه بهدوء, في حين تجمعت دموعه بعينيه البنيتين, غير مصدق ما سمعه, حاولت السيدة مها أن تهدئه وتعتذر له
ــ سهم عزيزي, أنا آسفه لم اكن اقصد. أنا..  بني عليك أن..
انطلق سهم بسرعه نحو المنارة, ودموعه تتقاطر من عينيه, رامياً فارسه الخشبي على قارعة الطريق.
كانت صدمة سهم كبيرة بما سمعه والكثير من الأسئلة تدور في رأسه، لكنها لم تكن بحجم الألم الذي اعتصر قلبه، استمر بالركض رغم تعثره عدة مرات, حتى وصل المنارة فتح الباب وما إن ولج داخلها حتى اطلق صرخة مدوية ــ جــدي!.
بحث عن جده في الداخل لكنه لم يجد اثر له، فخرج مسرعا و ألتفّ للجانب الآخر من المنارة, مقابل للبحر المفتوح, حيث وقف شاهين هناك يحدق بصمت بالأفق البعيد، وما أن وقعت عينا سهم عليه حتى صرخ مجددا
ــ جدي. التفت شاهين كأنه استفاق من سباته, وهرع باتجاه سهم مستفهما بقلق
ــ ما الأمر؟ هل أنت بخير؟ ما الذي أصابك؟. كان الخوف واضحا على وجه شاهين, وهو يرى شحوب حفيده وحالته المزرية تلك.
ــ لماذا؟  اجبني لماذا؟. صرخ سهم في حين راحت دموعه تنهمر على خديه شاقة طريقها للأرض.
ــ ماذا تعني؟ أنا لا افهم ماذا تقصد؟ رد شاهين
ــ لماذا لم تخبرني؟ منذ متى؟ ومتى كنت ستقرر أخباري؟. صرخ سهم بعدها وقع على ركبتيه منهارا، جلس شاهين قبالته ووضع كفيه على كتفي سهم وهو يراقب عيناه بحذر وقلق وأجاب
ــ أخبرك بماذا؟
ــ بأن والدي قد مات. صرخ بنبرة عالية، ارتعد شاهين للحظه، كان قد اخفى امر وفاة مروان خوفا على الصغيرين, وخاصة سهم لتعلقه الشديد بوالده، لكن يبدو أن السر قد ذاع ولا مناص من البوح أخيرا، تنهد وقرفص على الأرض مطرقا برأسه ــ كنت اعلم انك ستعرف ذات يوم, لكن لم أشاء أن يكون ذلك اليوم قريبا.
نظر في عيني حفيده وسمح لدموعه أن تنساب بحريتها على خديه ــ كان هاجسك منذ رحيل والدك هو عودته, ثم احتد صوته وقال ــ ماذا تريدني أن افعل؟ هل اخبر طفلا صغيرا أن أباه قد مات؟ هل اخبره أن يتوقف عن انتظره لأنه لن يعود؟ وكيف سأخبرك ؟ هل أقول لك بني سهم لقد أصبحت يتيم الأبوين؟. هدأت نبرته و جرَّ أنفاسه بتعب ــ أنا لم أحض بفرصة وداع ابني، لم أتمكن من تقبيل عينيه قبل أن تغمضا لأخر مرة وللابد،  لم أتمكن من احتضانه قبل أن يوارى تحت طبقات التراب. رفع عينيه مجددا لسهم وعادت النبرة الحادة للظهور
ــ أنا لا اعرف أين قبره، لا اعرف أن كان ولدي دُفن أم أكلت جثته الوحوش، لا اعرف كيف كانت لحظاته الأخيرة، وبماذا كان يشعر؟ . وانهار باكياً بألمٍ دفين. بقي سهم يراقب دموع جده التي جرت سخية وهو يسمع آهاته المتقطعة, زحف على ركبتيه ليقترب منه أكثر، رفع شاهين نظره لسهم وقال
ــ هل كان علي أخباركما أم احمل هذا الألم لوحدي؟ هل علي أن ابكي لفقد ولدي أم ابكي لخسرتكما أبوكما؟ سهم بني.. أنا اسف. وأخذ بالبكاء بصوت مسموع، أما سهم فما كان منه إلا أن يستمر بمراقبة جده و دموعه تنهمر على خديه دون صوت.

اسرار الظلام حيث تعيش القصص. اكتشف الآن