قاربت الشمس من الغروب، وكان شاهين يجلس على حافة الجرف الصخري الى جانب سهم وهما ينظران للافق الذي بدأ يصطبغ باللون الاحمر، حتى قاطع ذلك الصمت صوت سهم،
« انا آسف.. كنت اظن اني وحدي من يعاني من فراق أبي، وأن وجع غيابه يصب في قلبي لوحدي»
« جميعنا لدينا احزاننا يا بني التي قد نتشارك اسبابها و مسببتها.. لكن لكل منا طريقته في التعامل مع ذلك الحزن» رد شاهين دون ان يلتفت.
« حسنا يا جدي، ماذا سنفعل الان؟» تسائل سهم بعد ان ادار وجهه لجده كأنه تائه ينتظر ان يدله على الطريق
« اولا علينا ان نبقي الأمر سرا عن أجوان، ونمارس حياتنا بشكل طبيعي أمامها» ثم التفت ليركز نظره على سهم كأنه ينتظر منه شيء ما، اطرق سهم برأسه وركز على الارض امامه، وأمواج الافكار تتلاطم في عقله، تذكر تلك الليلة التي طلب منه جده ان يعده بأن يعتني بأجوان « لهذا السبب طلب مني رعايتها، كان يعرف بمصير ابي» قال ذلك في نفسه قبل ان يرد على جده بعد ان تنهد بعمق « نعم، لا تزال صغيرة وستحتاج لنا دائما يجب ان نحميها ونرعاها» وجلس معتدلا واضعا كفيه على ركبتيه وهو ينفخ صدره بالهواء استعدادا لتحمل المسؤولية، عرف بداخله ان عليه ان ينضج وان يودع فترة الطفولة ليتحمل مشاق الحياة لجانب شاهين الذي بانت معالم الراحه على وجهه بعد ان سمع كلام سهم، لكن سرعان ما عاد ملامح الحزن تعلو وجهه، لكن ماذا يفعل لمجابهة القدر.
« لنعد للداخل، لابد ان أجوان انهت واجباتها المدرسية، تذكر يجب ان لا تلاحظ شيء» قالها وكأنه يشدد على سهم ويحثه على تحمل شقاوة أجوان. هزَّ سهم رأسه كأنه يستعد للبلاء.
ما ان وصلا المدخل حتى سمعا صوتا انثويا يناديهما من مسافة ليست بالقريبة التفتا ليجداها السيدة مها وهي تحث الخطى لتلحق بهما، تلك السيدة طيبة القلب رغم تجاوزها الخامسة والاربعين من عمرها الا انها غالبا ما تعجز عن السيطرة على لسانها، نظرا اليها و همّ سهم بالدخول لكن شاهين اشار له ان يبقى في مكانه، وصلت السيدة مها وهي تجر انفاسها بقوة، فقد ارهقتها طول الرحلة نحو المنارة ولم يساعدها جسدها الممتلئ على تلك الرحلة، وقفت وهي تنحني قليلا لتستعيد طاقتها ثم رفعت عينيها متوجهة صوب سهم « سهم بني انا حقا آسفة، صدقني لم اكن اقصد، كانت زلة لسان، لم ارغب ان تعرف بهذه الطريقة» كانت تتحدث والصدق واضحا على معالم وجهها و لمعت بعض قطرات الدمع في عينيها، نظر اليها سهم بحزن ثم طأطا رأسه «لا بأس سيدتي، انا اعرف انك لم تقصدي أيذائي، فلطالما كنت طيبة معي انا واختي وتعتنين بنا» ثم رفع رأسه محاولا الابتسام « لطالما اسعدتنا هداياك و الجوارب التي تحيكينها لنا» ثم اعتذر منهما و ولج داخلا، كانت عينا السيدة مها تراقبانه، وما ان اختفى في الداخل حتى وجهت كلامها لشاهين وهي لا تزال تنظر خلف سهم «سيد شاهين، اعتذر منك، لا اعرف كيف زلّ لساني، كان يجدر بي ان اكون اكثر حذرا وانتباها» واخذت تمسح دمعة سقطت على خدها « لا عليك سيدة مها، انا اعرف، ثم انه لا توجد هناك اية طريقة لجعل من خبر موت احدهم يبدو سهلا» استدار ليواجه السيدة مها واردف« كان سيعرف عاجلا ام آجلا، بطريقة او بأخرى» هزت السيدة مها راسها بالموافقة «لا اعرف ان كان الوقت مناسبا، ولكن، اهديته هذا قبل أن..» وامسكت عن الكلام في حين مدت يدها لتناول شاهين الفارس الخشبي، نظر اليه وتصنع ابتسامة وقال « لابد انه من صنع رائف» وتناول الفارس الخشبي من السيدة مها ابتسمت وهزت رأسها بالايجاب، اكمل كلامه وهو يقلب التمثال بيده ويدقق بتفاصليه الجميلة « لطالما كان رائف مبدعا في النحت على الخشب» ابتسمت ابتسامه عريضة فقد سرها مدح ولدها،« شكرا لك سيدة مها سأحرص ان يصل الفارس ليد قائده» وتبادلا ضحكة خفيفة قبل ان تنصرف عائدة لبيتها بالقرية.
كان سهم جالسا في مكانه المعتاد عند الطاولة عندما دخل شاهين، كان الصمت والهدوء مطبق على الاجواء حين قطع ذلك الصمت خطوات أجوان التي نزلت من الدرج وهي توزع نظراتها على جدها واخيها كأنها تفكر بكيفية افتعال شجار ما، ثم انفرج ثغرها عن ابتسامتها الخبيثة كأنها وجدت ما تريد،
« جدي، ما رأيك ان تقرأ لنا من كتاب امي» ثم نظرت لسهم الذي احتقن وجهه لهذا الطلب « لابد ان سهم سيتذكر كلمة او اثنتين منه حين كانت امي تقرأ له من الكتاب»
كانت أجوان تعرف مدى تعلق سهم بأشياء والديه، ويحافظ عليهما لدرجة انه لا يسمح لاحد من لمسها حتى، كانت قبضة سهم ترتعد معربة عن الغضب الذي تملكه تلك اللحظة من طلب اجوان التي استمرت بالنزول بهدوء وكأنها لم تفعل شيء!.
اتسعت عينا شاهين من طلب أجوان فقد تجاوزت حدودها حقا هذه المرة، قطع سرحانه صوت سهم وهو يحاول كظم غيظه « إياك و الاقتراب من كتاب أمي يا أجوان»
«لماذا؟» ردت بهدوء ولا مبالاة « هل كانت والدتك لوحدك؟ ماذا عني؟ انا متأكدة بأني ابنتها ايضا، ويحق لي الوصول لمقتنياتها»« أجواان، قلت إياك» قالها بحدة وغضب،
«و ما الذي ستفعله، يا سهم؟» نظرت له بتحدي ووجه خالي من التعابير، انتفض من مكانه بغضب، و أسقط الكرسي بعد ان دفعه، كانت أجوان لا تزال واقفة على اخر درجتين لتبدو اكثر طولا من سهم،
« حسنا، سنتحدث بهذا الشأن لاحقا» قال شاهين وهو يتقدم لوسط غرفة الجلوس محاولا تدارك الوضع قبل ان يتأزم، لكنه تفاجأ بردة فعل كلٍ من سهم و أجوان اللذين تكلما في اللحظه ذاتها بتعليقين متضادين
« نتحدث بماذا يا جدي؟ انا لن أسمح لأحد ان يمس كتاب امي»
« وهل قراءة كتاب والدتي تحتاج الى مباحثات وتشاور؟» ثم عاد الاثنين يتبادلان نظرات الغضب،
« الامر قد انتهى يا أجوان، انسي الموضوع»
«ومن انت لتنهي امرا او تبدأه؟ ثم لا يحق لك ان تحتفظ بمقتنيات والديَّ لوحدك، سأقرا الكتاب شئت ام ابيت»
«لن تمسيه يا اجوان» تجاهلت كلامه و همت بالصعود لغرفته ، فهي تعرف اين يحتفظ سهم بمقتنيات ابويهما، تحرك سريعا ليصعد لغرفته ويمنعها من الدخول لكنها كانت اسرع وما ان وصلا لباب الغرفه حتى دفعها بعيدا، فوقعت ارضا نظرت اليه بغضب ثم نظرت نظره خاطفه لداخل غرفته وقالت « ستدفع الثمن يا سهم»
في تلك اللحظات كان شاهين قد وصل حيث كان الاخوين، مد يده ليساعد أجوان على النهوض و جلس على ركبته « هل انت بخير؟»
«لقد دفعني، انه يكرهني» صاحت بغضب وهي توجه نظراتها لجدها « لا بأس عزيزتي.. اذهبي للاسفل وسأحضر لك الكتاب» توجهت للاسفل بعد ان رمقت سهم بغضب.
استدار الجد ليواجه سهم ثم وقف على قدميه ودخل للغرفة واوصد الباب خلفه « أهكذا كان اتفاقنا ياسهم؟» قال ذلك وهو لا يزال مواجها للباب وسهم يقف خلفه، ثم التفت جزئيا ليقع نظره على سهم الذي تذكر وعدهما، علت نظرة الحزن على محياه فرد بصوت مخنوق « اعتذر.. لم اتمالك نفسي» رفع عينيه لجده واردف بنبرة رجاء وبكاء مكتوم « اخشى ان تمزق الكتاب»، اطلق شاهين زفيرا وتقدم بأتجاه سهم ووضع يده على كتفه « لا تقلق، انا من سيمسك بالكتاب ويقرأه، وسأعيده لك» تنفس سهم بعمق محاولا السيطرة على خوفه الممزوج بالحزن واتجه نحو صندوق خشبي متوسط الحجم وضع عند احدى زوايا غرفته، واخذ وقته بفتح الغطاء واستخراج الكتاب ثم اغلاق الصندوق مجددا قبل ان ينهض ويعود الى حيث كان جده يقف ويسلمه الكتاب، كانت نظرة الانتصار وابتسامة الشماته بادية على وجه أجوان التي كانت تجلس قبالة سهم وهي تستمع لجدها وهو يقرا الكتاب، بينما سهم بقي مطرقا رأسه هو يستمع مجبرا لكلمات الكتاب الذي تحدث عن الموت والحياة والعالم الآخر بنعيمه وجحيمه الدائمين.
أنت تقرأ
اسرار الظلام
Fantasyقد ترمي بك الاقدار في مغامرة لم تعد لها العدة، فماذا ستفعل هل ستواجه ام تخضع،؟ دائما ما كان يطل من نافذة غرفته على الغابة المظلمة وهو يتخيل عالما سعيدا هناك، ولكن، تحول حلمه الجميل الى كابوس مرعب حين اخبره شاهين ان الجيش الملكي عثر على جثث الصيادين...