المنارة

26 5 0
                                    

«هل انت بخير؟»
«لا اعرف يا جهاد، فمنذ عودته من الغابة المظلمة قد تغير كثيرا»
«تغير؟ كيف؟»
« اصبح اكثر هدوءا،ومهما فعلت اجوان نادرا ما يرد عليها، حتى خطواته اصبحت هادئة لا تكاد ان تسمع،» ثم ادار وجهه نحو جهاد « بدأت اشتاق لشجارهما» ثم تنهد وهو يعيد النظر لسهم الذي انحنى بفأسه على جذع الشجرة « على الاقل كان يشعرني بأن حياتهما طبيعية»
« وهل انت قلق لانه نضج؟»
«النضوج ليس ما يقلقني يا جهاد،  انت تعرف ماذا اقصد»
تنهد جهاد وهو يقول «مضى عامين على حادثة الغابة المظلمة» ثم نظر لشاهين « لأصدقك القول لقد تغير سهم كثيرا»  ليصل صوت الفأس الذي يضرب بجذع الشجرة لمسامعهما
« اختفت ملامحه الطفولية، وطبعا لا اعني ملامح شكله بل روحه، كان طفلا خجولا و يفرح بأي هدية تصل اليه اما الان فيتصرف وكأن كل شيء حوله يضمحل،  اشاركك القلق يا صديقي العجوز » استمر ضرب الفأس بجذع الشجرة التي قاربت على السقوط
«جهاد،  ما اخبار نائل؟»
« انه بخير، سيعود قريبا»
«يعود؟»
« أجل، حسب القوانين الجديدة سيعفى من التجنيد لانه وحيد»
علت نظرة الأسى على وجه جهاد وهو ينظر لصديقه « لو ان هذه القوانين جاءت باكرا»
«لا بأس»  قاطعه شاهين بسرعه « انا سعيد بهذه القوانين ستعفي الفتى من التجنيد»  وترسمت امارات السعادة والارتياح على وجه شاهين،  ابتسم جهاد،«انت محق» في هذه الاثناء وصل رامي راكضا الى حيث سهم وقبل وصوله بقليل سقطت الشجرة، ليقف سهم ويتنفس الصعداء وهو يمسح العرق عن جبينه بكم قميصه، لقد اصبح شابا، واكتسب كتلة عضلية واضحة، وبعض الاسمرار من عمله في تقطيع الاخشاب، وانسدلت خصلات شعره الاسود لتغطي رقبته، تبادل بعض الحديث مع صديقه رامي الذي اخذ فأسا هو الآخر وبدأ يقطع الاغصان عن الشجرة،
« لم يبقى غير عاما واحد وسيتم تجنيد رامي»  نظر العجوزان للفتى بشفقة وحزن، رغم انه اكتسب بعض الطول الا انه لا زال هزيلا،« لا استطيع الا ان اشعر بالقلق عليه ليس مستعدا لشقاء الجيش»
«انت محق يا جهاد» ليسود الصمت قليلا قبل ان يكمل شاهين « اعتقد ان سهم ادرك الامر ايضا، يحاول ان يعلمه بعض المهارات»  طأطأ جهاد رأسه وهو يضرب بمقدمة قدمه الارض امامه
«محاولات يائسه، حسنا، يا شاهين جئت لاخبرك بقوانين التجنيد الجديدة، ليس عليك القلق حين يأتون الجنود بعد أسبوع لاخذ الشباب، سيعفى سهم»
مد شاهين يده ليصافح جهاد
«شكرا لك يا صديقي، انا سعيد حقا بهذه الاخبار،  ارجو ان يصل نائل سريعا»
«ارجو ذلك فموسم صيد السردين اقترب»  ضحك الاثنان،  ليسمعا صوتا انثويا من خلفهما
«عم جهاد، مرحبا بك»
«اجوان،  اهلا يا بنتي،»  ليعانقها وهو يقول « لقد اصبحت كبيرة ايتها الجميلة»
« قل هذا الكلام لجدي»  ونظرت بعبوس لشاهين
«تريد ان تبيت مع صديقتها رياحين» اجاب شاهين
«رياحين ابنة كنان؟»  هز شاهين رأسه « انه بيت امن يا شاهين دع الفتاة تمرح»  ليبتسم وهو يشد خديها بلطف « لن يتبقى لها الكثير حتى تبلغ وتصبح عروسا»  اقطبت اجوان واختفت ابتسامتها لتبتعد غاضبة، احتار جهاد من ردة فعلها عكس شاهين الذي قهقه عاليا « عليك ان تحذر،، فأجوان لا تحب ان يذكرها احد بأمر البلوغ والزواج»
هز جهاد كتفه متعجبا ثم ابتسم « من اراد الزواج من حفيدتك عليه ان يكون شديد الحيلة كثير الصبر»
ليفترقا على ضحكة عالية.
عاد شاهين وسهم للمنارة وكانت اجوان قد جهزت حقيبة صغيرة وضعت فيها ثوب النوم خاصتها وبعض الحاجيات والكتب والاقلام.
« هل ستقرآن ام ستمرحان»
« انا أمرح حين اقرأ»  ابتسم شاهين وذهب ليسكب الماء الساخن في الابريق ليعد الشاي،  في حين وقف سهم على الدرج مستفهما
« الى اين؟»
«ما شأنك؟»
« حسنا اعتذر ولكن هلا تكرمت واخبرتني؟»
« لبيت العم كنان، سأبيت عند رياحين»
« الا زلت صديقة تلك البدينة؟» وبدا بالصعود بخطوات لا تسمع كانه صياد متمرس
«توقف عن التنمر ايها الاحمق» صاحت به من خلفه،  في زمان اخر كان الشجار يستمر وكان شاهين يتدخل لفض الشجار لكن الوضع تغير الان،  قبلّت جدها وعانقته قبل ان تخرج متجهة لبيت الضابط كنان.
ليلة اخرى تمر هادئة لكن هذه المرة كانت اكثر هدوءا فأجوان ليست موجودة،.
في الصباح الباكر كعادته خرج سهم لعمله بينما ذهب شاهين للقرية ليسلم قائمة بالاشياء التي يحتاجها لصيانة المنارة، كان الوقت قارب الزوال حين صاح احد الصبية «انظروا دخان!»
اوقف الاهالي اعمالهم لتتجه الانظار نحو عمود الدخان الأسود المرتفع ليصرخ احدهم « المنارة،  انه قادم من المنارة»،  ليهرع الجميع نحو المنارة خلف شاهين الذي انطلق بكامل قوته نحو بيته الذي يحترق،  تمكن الشباب من الوصول اولا لتستمر وفود القادمين للمساعدة بالوصول تباعا،  وبدأت الجهود تتضافر للسيطرة على النيران التي التهمت المنارة وارتفع عمودها عاليا ، صاح الضابط كنان بالرجال أن يبتعدوا، فلن يتمكنوا من السيطرة على الحريق كما ان المنارة قد استحالت رمادا،،،.
كان الجميع يراقب المنارة وهي تحترق ليندفع سهم الذي وصل توا من بين الحشود محاولا اقتحام النار و الدخول لكن الرجال امسكوه ومنعوه وهو يحاول التهرب حتى امسكه شاهين يحاول تهدأته،  كانت عيناه تفيض دموعا وهو يصرخ وينظر لجده
« جدي،  بيتنا،  المنارة،  ذكريات امي وأبي، كل شيء يحترق»
شده شاهين بقوة محاولا السيطرة عليه
«لا بأس،  يا ولدي،  لا بأس»
« ولكن،  »  ثم اندفع بقوة اكبر  تمكن من وصول لبوابة المنارة لكن الرجال سيطروا عليه وابعدوه عن المنارة المحترقه التي بدأت أجزائها تتهاوى امام انظارهم ،« يمكنني انقاذ الصندوق،صندوق امي و ابي» انهار على ركبتيه و عيناه متسمرة على المنارة المتفحمة في حين استرسلت دموعه على خديه، مرت بعض اللحظات،  قبل ان يستدرك شاهين، نظر لكنان « لا تزال أجوان في بيتك؟»  اتسعت عينا كنان مرتعبا « كلا،،،، لقد غادرت منذ الصباح وقالت انها عائدة للمنارة» ما ان انهى جملته حتى انطلقت صرخات شاهين وسهم « أجواان،  أجواان»،
كان الرعب مسيطرا على الجموع الذين منعوا سهم وشاهين من دخول المنارة وهم يتخيلون صورة الفتاة محترقة، لكن سرعان ما هدأ الجميع بعد ان سمعوا احد الشباب الذين وصلوا  للمنارة اولا وهو يقول « انها بخير،  لا تقلقوا،  لقد رأيتها»  انتفض شاهين وسهم بسرعة نحو الشاب وهما يستجوبانه لكن الصدمة كانت حين قال الشاب لهما
« لقد رأيتها تقف امام المنارة و هي تحمل جرة زيت»  كان الجميع مذهولين مما سمعوا،  واكمل الشاب «لقد هربت بهذا الاتجاه»  واشار نحو غابة الاشجار حيث يعمل سهم، بعد عدة دقائق قال الضابط كنان « لا بد انها ذهبت لتستدعي اخاها للمساعدة»
« ماذا عن جرة الزيت؟» تسائل الشاب
« هل تظن انها أحرقت منزلها؟»  صرخ جهاد، وساد الصمت، تحرك سهم نحو الغابة بهدوء، ليوقفه شاهين «الى أين يا سهم؟»
«ابحث عن أجوان»
«انتظر انا قادم»
«كلا،  ساذهب لوحدي، انتظرها انت هنا»  ثم وقف في مكانه و استدار نحو جده وتعلو وجهه مشاعر مبهمة « ربما تعود للمنارة يجب ان تجد احد من عائلتها هنا، أليس كذلك؟»
لم يرد شاهين لكن الخوف سيطر عليه،  فبعد عودة سهم من الغابة المظلمة اصبح شخصا غامضا وكتوما،  كما ان شاهين رغم عدم تصديقه لفكرة تعمد أجوان لإحراق المنارة، الا انه لم يستبعدها ايضا كان يخشى من ردة فعل سهم ان كانت أجوان فعلا من أحرقت المنارة،  ولكن،  لماذا؟  لماذا تحرق بيتها الذي تحب؟
كان كنان تساوره بعض الشكوك لكنه لم يفصح عنها ابدا،  فهو الأخر كان يظن ان أجوان هي من أحرقت المنارة،  وربما،  يعرف السبب.
بعد بعض الوقت انطفأت النيران اخيرا،  لم يتمكنوا من استخراج شيء واحد من كومة الفحم تلك التي كانت حتى وقت قريب منارة للسفن.
انتصف النهار حتى صاحت ناي « انظر يا أخي،  انها أجوان»  نظر رامي لجهة الغابة، وفعلا كانت اجوان تقف على مسافه ليست بعيدة عن تجمهر الناس وهي مصفرة الوجه ومرعوبة،  هرع اليها شاهين وتبعه كل من كنان وجهاد ورامي، وما ان وصل اليها حتى وقع على ركبتيه ليحتضنها،  ثم بدأ يتفحصها ليطمئن انها بخير، كانت عيناه محمرتان اما هي فكانت صامته لا تنطق والرعب مسيطرا عليها « هل انت بخير؟  اجوان بنيتي»  لم ترد واكتفت بالتحديق حتى قال رامي « سيد شاهين يدها!»  كانت يدها تحمل بعض الحروق « انها بسيطه لا تقلق»  اجاب كنان وهو يقلب يدها ثم نظر اليها كانت عيناها مثبتة عليه، عندها تأكد من شكوكه.
كان الطبيب سنان يضمد يد أجوان حين دخل سهم ليرى اخته تقدم بهدوء نحوها كانا يحدقان ببعضهما بتركيز كأن حوارا سريا يجري بينهما دون كلمات.
« لا تقلقي،  انتِ بخير»  قال سنان « احضرها لي غدا لأعيد تطبيبها»  هز شاهين راسه موافقا ثم صافح سنان وشكره ثم غادروا عيادة الطبيب
«ابقوا في منزلي ريثما نعيد بناء المنارة»  قال جهاد
«هل سيتسع بيتك لنا؟» 
« حسنا انه ليس كبير لكن سأنام في غرفة نائل وانتم يمكنكم البقاء في غرفتي»
«شكرا لك »
« انه واجبي يا صاحبي» وقبل ان يتحركوا نحو بيت جهاد استوقفهم الضابط كنان
«شاهين، اود التحدث مع أجوان قليلا»
«هل تجد ان الوقت مناسبا لتحقيقك يا كنان؟  الا ترى حال الطفلة؟» قال بغضب
« اجل،  انه الوقت مناسب،  لا تقلق لن اطيل»  ثم امسك بيد أجوان السليمة ليجرها بعيدا عن جدها ثم انحنى على ركبته ليتحدثا قليلا،  لم يتمكن شاهين ومن معه من سماع الحديث، لكن الحديث انتهى بعد ان هز كنان رأسه وبدا انه غير مصدق بما اجابته أجوان،  ثم عادا حيث شاهين، ليودعه كنان ويرحل،
انطلق الاربعة نحو بيت جهاد صامتين حتى قاطع هذا الصمت سهم
«ماذا اراد العم كنان؟»
«لا شيء»
«متأكده؟»
«اجل»
«اين كنت حين احترقت المنارة؟»
«سهم،توقف» قاطعهما شاهين« هل انتهى استجواب كنان ليبدأ استجوابك؟»
« اريد ان اعرف»
«تعرف ماذا؟  كنت عند الجرف،  لم ارى الحريق»
توقفت وهي ترد بعصبية «ماذا هل سأتحمل ذنب هذا ايضا؟»
«كيف احترقت اذا؟» رد عليها بحدة وهو يصر على اسنانه ويمسك ذراعها المحترقة بقوة،  ليتدخل شاهين ويبعده عنها « هل جننت؟»
«انها تخفي شيئا يا جدي»
«هذا رائع،  لقد اصبحت ذكيا فجأة» صاحت به وهي تمسك بذراعها المتوجعة وتمسح دمعة سقطت على خدها
« اعلم انك تخفين شيئا يا اجوان لذا عليك ان تفصحي والا اجبرتك  على ذلك»
«تجبرني؟كيف هل ستوبخني ام تخيفني بوحوشك»
«أجوان لا تختبري صبري» عندها وقعت صفعة قوية على خد سهم، نظر مصدوما لجده
«اسمعني ايها الشاب، انا لم امت بعد لتهدد اختك،  لقد نجت من الحريق بأعجوبة،  هل كنت تريدها ان تموت هناك لتكون سعيدا؟  ام انك ستتهمها بأحراق المنارة كبقية الناس؟»
«الجميع يشك بكونها احرقت المنارة»  صاح بغضب
« وان يكن،  انت لن تفعل مثلهم لانك اخوها»
«وهذا بيت القصيد،  انا اخوها،  واعرف ما يمكن لهذه الشيطانة فعله»
لم تستطع اجوان من كبح نفسها لتصرخ بوجهه
«اكرهك يا سهم اكرهك واتمنى ان تمووت»
وانطلقت بعيدا عنهم،  حاول شاهين الحاق بها لكن جهاد منعه، ليفسح لها بعض الوقت لتهدأ ، اما سهم فلم يعرها اي اهتمام واكمل طريقه نحو بيت العم جهاد، ولا تزال التساؤلات تجول في عقله،
كان الليل قد انتصف تقريبا حين استيقظ اهالي القرية مفزوعين على اصوات الخيل والفرسان يجوبون انحاء القرية، ليخرج الجميع من بيوتهم وهم يتساءلون عن الامر،  كان عشرات الفرسان المدرعين والجنود الذين حملوا رماحا طويلة يجوبون القرية بصخب ارعب الاهالي،ثم بدأ الجنود بالصياح على الاهالي ودفعوهم لوسط القرية وقد استخدم بعضهم السياط لضرب الناس وحثهم على التحرك، تقدم ضابط ببدلته الانيقة قد تجاوز  الثلاثين من عمره بشعر اشقر وعينان زرقاوان  وغصن كاليبتوس ممشوق يضرب بطرفه كفه الايسر، وعلى كفه الايمن وشم ( شمس يتوسطها تاج)...*

اسرار الظلام حيث تعيش القصص. اكتشف الآن