الجــزء الأول.

29.5K 395 132
                                    


---

كان الصباح مزدحمًا وصاخبًا في المقهى كالمعتاد، مع الزبائن الذين يتوافدون كل يوم لاحتساء قهوتهم المفضلة. كان هيبر ينظف الطاولات بسرعة قبل وصول المزيد من الزبائن. لاحظ هيبر وجود زبون جديد، يحيط به هالة من الهدوء والثقة، يرتدي بدلة أنيقة وشعره الأشقر المموج ونظاراته السوداء التي تزيده غموضا و جاذبية.

جلس الزبون بهدوء في زاوية المقهى، نظر إليه هيبر بإعجاب. لطالما شعر بالانجذاب لهذا الرجل الأنيق وغموضه. كيف له أن لم يره من قبل والآن يقصد هذا المقهى يوميًا؟

كان الزبون يراقب النادل بحركاته الرشيقة والسريعة في تنظيف الطاولات وإحضار الطلبيات. شعره البني الفاتح وعيونه السماوية لفتت انتباه الزبون الغامض. رفع يده دليلاً على رغبته في طلب، وفور رؤية هيبر ليده أسرع إلى طاولته.
أثناء أخذ الطلب، لم يستطع هيبر إلا أن يلاحظ الهدوء التام والاطمئنان في تصرفات الزبون الأنيق.

"قهوة سوداء من فضلك"، قال الزبون بهدوء دون أن يرفع نظره عن الجريدة التي بين يديه
نظر هيبر إلى وجه الرجل الحاد والوسيم للحظات قبل أن يستفيق ويسرع إلى المطبخ لتحضير القهوة، لم يستطع منع نفسه من التفكير في الزبون الغامض، كان هناك شيء فيه كالمغناطيس يجذب هيبر إليه.

عندما وضع هيبر كوب القهوة على الطاولة، شعر بيد قوية تمسك يده. رفع ناظريه ليجد الزبون ينظر إليه بابتسامة جانبية وقد أزال نظارته السوداء لتظهر عيونه الزمردية التي أسرت قلب هيبر.

" يبدو انك تعمل بجد هنا"، قال الزبون بهدوء. ابتسم هيبر ورد بارتباك: "ن-نعم.. بالطبع". لم يعرف هيبر ما يقوله، فقد شعر بالتوتر الشديد، لم يسبق له أن حدثه أحد الزبائن أو حاول التواصل معه.

"لا يبدو لي أن هذا المكان يليق بمهاراتك، أنت تستحق فرصة أفضل من هذه يا هيبر"، قال الزبون مغيرًا تعابير وجهه في محاولة لإقناع هيبر برأيه.

نظر هيبر بذهول، كيف لهذا الزبون الجديد أن يعرف اسمه؟ لكن هيبر البريء خجل من أن يسأله عن كيفية معرفته لاسمه، فقال بهدوء: "لطالما فكرت بهذا أنا أيضًا"، قال هيبر وهو ينظر إلى الأسفل بحزن. لطالما كانت أحلامه وطموحاته أكبر من مجرد نادل في مقهى.

ابتسم الزبون ابتسامة جانبية لوصوله إلى مبتغاه، وأخرج بطاقة من جيب بدلته الأنيقة. "إذا أردت الحصول على فرصة أحلامك، لا تتردد في التواصل"، قال الرجل وهو يقف ويعدل بدلته قبل أن يسير خارج المقهى.

نظر هيبر إلى القهوة التي لم يلمسها الزبون، ثم نقل ناظريه إلى البطاقة الموضوعة فوق الطاولة. أمسكها بيده ليقرأ رقم واسم شركة أو شيء من ذلك القبيل.

هل يمكن أن يكون حظ هيبر قد ابتسم له؟ وهل سيحقق أحلامه كما يعتقد؟

---
بعد يوم طويل وشاق في المقهى، عاد هيبر إلى المنزل متثاقل الخطى، محاولاً دفع باب الشقة المتهاوي الذي أطلق صريراً طويلاً مزعجاً. كان الظلام يلف المكان، ولم يكن هناك إلا وميض التلفاز الذي يعرض مشاهد متكررة بلا صوت.

لكنه قبل أن يخطو داخل الشقة، سمع ضحكات مكتومة وأصواتًا غير مألوفة صادرة من غرفة المعيشة. شعر بثقل في قلبه وهو يتقدم ببطء، ليجد والدته مع رجل غريب على الأريكة، غارقين في لحظة من اللهو، غير مكترثين بوجوده.

تجمد هيبر في مكانه، معتاداً على هذا المشهد الذي يتكرر كثيرًا. كانت والدته غارقة في حياة من الفوضى والعلاقات العابرة، غير مكثرتة لتأثير ذلك عليه. حاول أن يبقي عواطفه تحت السيطرة، لكنه شعر بالاستياء والغضب يغليان في داخله.

"امي.." نطق بصوت مبحوح، لكنه فوجئ بها تنظر إليه ببرود، ثم أصدرت صوتًا أكبر مما كانت تصدره من قبل، وكأنها تريد عمداً أن تزيد من ألمه وخيبة أمله. كانت تكرهه، لأنه كان الذكرى الحية لعلاقة فاشلة ومحطمة، علاقة دمرت حياتها وأبقتها أسيرة للماضي.

و قد كان هيبر بالنسبة لها مجرد تذكير دائم بزوجها الذي خانها وهجرها محطمة، والآن، بدلاً من أن تكون أمًا مسؤولة تهتم بابنها، اختارت أن تفرغ حقدها ومرارتها فيه. كان مجرد هدف لانتقامها غير المعلن، وكل لحظة يقضيها في بجوار امه كانت تدفع ثمن أخطاء لم يرتكبها.

تركهم هيبر وغادر إلى غرفته، حيث أغلق الباب بعنف وألقى حقيبته في زاوية الغرفة. جلس على سريره، محاولًا محاربة الدموع التي لم تتوقف عن التسلل إلى عينيه. شعر بالوحدة والخذلان، محاطًا بجدران منزل لا يحمل سوى الوجع والخزي.

لاحظ هيبر تلك البطاقة الموضوعة فوق الطاولة بضبابة دموعه، مسح عينيه بعنف ليمسكها و ينظر إليها للحظات، لم يتبقى حل آخر للهروب من واقعه الأليم و عائلته التي لا ترغب به سوى هذه البطاقة، ربما هي مخرجه نحو حياة أفضل يحقق فيها ذاته و طموحاته.
" لا يمكنني الاستمرار هكذا للأبد" همس لنفسه بصوت خافت و هو يتأمل البطاقة التي بين أنامله.

-

لُعبته.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن