الفصل الحادي عشر : زُوي.

203 20 10
                                    

➤ Zoe ★

قبل 14 سنة.

كانت أنفاسي تتسارع على نحو مخيف، وكأنني ألهث للهواء في بحر من الجنون. شعرت أنني عاجزة عن التحكم في جسدي. كلما حاولت تهدئة نفسي، زاد خفقان قلبي بشكل مرعب. الجو في المستشفى كان كابوسًا بحد ذاته. الهواء الثقيل والخانق يخترقني كالإبر، وكل خطوة أخطوها تبدو وكأنها تُغرز في جسدي ببطء قاتل.

الجدران المحيطة بي بدت وكأنها تهتز بخفوت، تكاد تنطق بكوابيس صامتة. تلك الجدران العتيقة، التي لم تعد تتماسك، بدت وكأنها شاهد على الجنون الذي يعتري هذا المكان. الجص المتآكل، والصدأ الذي التهم كل زاوية وكل مقبض، حتى الروائح... رائحة العفن التي تختلط مع رائحة المطهرات الحادة... وكأنها تحاول تغطية سر دفين، لا يريد أحد كشفه.

الممرات الطويلة، بلا نهاية تلوح في الأفق، تنساب أمامي وكأنها تأبى أن تعطيني مخرجًا. أضواء واهية تومض وتختفي، وكأنها تلعب معي لعبة الجحيم. كل ومضة تزيدني توترًا، كل لمحة من العتمة تُطلق في داخلي ذعرًا لا يُوصف. شعرت أن كل شيء في هذا المكان حيّ، الممرات تتنفس، الجدران تهمس. حتى الهواء الذي تسلَّل من النافذة المكسورة كان أشبه بصوت صرخة مكبوتة، يثير في جسدي قشعريرة لا تترك مجالًا للراحة.

الأصوات كانت في كل مكان، تأتي وتذهب كالهمسات المسمومة. ضحكات خافتة مشوبة بالجنون، صرخات بعيدة تتردد من خلف أبواب مغلقة، حتى تلك اللحظات التي كنت أسمع فيها اسمي يُنادى، فقط لألتفت وأجد الصمت يلتهمني مرة أخرى. كل شيء هنا غير مرئي ولكنه موجود، يلتف حولي، يقترب، ويبتلعني تدريجيًا في ظلامه.

كأنه يترصدنا، يراقب كل خطوة وكل نفس. حتى الوقت نفسه بدا وكأنه يفقد معناه هنا، يذوب في فوضى الجنون المحيطة. هل ما أعيشه حقيقي؟ أم أنني بدأت أغرق في الجنون؟

ثم جاء ذلك الصوت... صوت مألوف، اخترق الصمت كالسيف: "سيد إيفاندر، لا أعتقد أن ابنتك ستتحسن." لم أكن بحاجة للاستدارة لأعرف من يتحدث. أدركت حينها أين أنا. الغرفة. قماشة ملتفة حول ذراعيَّ، تقيدني، تمنعني من الحركة. الجميع يعتقد أنني مجنونة... يعتقدون أنني فقدت عقلي، لكن هل هم على حق؟

أنا لست كذلك.

أنا لست مجنونة.

أنا طبيعية. أنا فقط بحاجة إلى مساعدة.

"لا يوجد حل، أليس كذلك؟" جاء صوت أبي مجددًا، الصوت الذي أكرهه بكل جوارحي. نبرته مألوفة جدًا، تلك النبرة المزيفة التي يحاول فيها أن يبدو لطيفًا أمام الآخرين. لكنني أعرفه جيدًا، أعرف ما يخفيه خلف تلك الكلمات المعسولة... عكس كل ما يدّعيه.

بدأت أعد في رأسي... واحد، اثنان، ثلاثة... أركز على الشقوق الصغيرة في السقف. محاولة يائسة لتهدئة نفسي، لربط هذا العالم المفكك ببعضه. أحاول تذكر الأرقام، التمسك بأي شيء ملموس كي لا أنزلق في دوامة الجنون.

لقد مرت شهور... جدراني المليئة بالخطوط تحكي قصتي. كل خط يمثل يومًا مضى وأنا هنا، سجينة في هذا الجحيم. أربعة أشهر... نعم، أكثر من أربعة أشهر وأنا مقيدة، معذبة، يعاملونني كأنني فقدت عقلي. كل يوم هو معركة جديدة ضد هذه القيود التي تحبسني ليس فقط في جسدي، بل في ذهني أيضًا.

ثم جاء ذلك الصوت الآخر، البارد، صوت الطبيب. "حسنًا، سيدة هانا، يمكنك كتابة ورقة النقل. سيتم نقلها قريبًا."

لا. لن أُنقل.

لن أُغادر.

لن أذهب إلى أي مكان.

سيقتلني. أنا متأكدة من ذلك. لقد سمعته يقولها للطبيب: "إذا لم تتعافَ، سأقتلها وأتخلص منها." تلك الكلمات التي تخترقني كالسكاكين. كلما تذكرتها، شعرت بثقل يضغط على صدري، وكأن الأكسجين يهرب مني.

أرجعت رأسي للخلف وحاولت السيطرة على أنفاسي المتسارعة. كنت بحاجة لفعل شيء، أي شيء. نظرت إلى مفك القماشة الذي اعتدت استخدامه لفك القيود. هذا كان الشيء الوحيد الذي يمنحني شعورًا مؤقتًا بالحرية. أمسكت به، وبدأت أفك القماشة عن معصمي. الألم كان لا يُحتمل، لكنه الطريقة الوحيدة لأشعر بأنني ما زلت أتحكم بشيء، ولو كان بسيطًا.

بمجرد أن تحررت، استقمت ووضعت أذني على الباب. الأصوات بدأت تتلاشى، خطواتهم تبتعد، مختلطة بصوت صرخات من غرف أخرى. كان لدي لحظات قليلة فقط. ركضت نحو أسفل سريري، وأخرجت دفتر مذكراتي الذي خبأته. هذا الدفتر كان كل ما أملك؛ كل الأسرار، كل الخوف والأمل المكبوت بداخلي، كنت أفرغه على صفحاته.

أمسكت القلم وبدأت أكتب. نسيت حتى كيف أكتب. يداي كانت ترتجفان بعنف، والدموع ملأت عينيّ. الكلمات تخرج غير مرتبة، تتشابك مع بعضها، لكنني استمريت. دموعي سقطت على الورقة، فلطخت بعض الحبر، لكنني لم أتوقف. القلم توقف عن الكتابة فجأة، فبدأت أنفخ عليه بجنون، أحاول جعله يعمل من جديد.

كتبت بسرعة، بيديّ المرتجفتين، قبل أن يعود الممرض أو الطبيب ويمسكون بمذكرتي. انتهيت أخيرًا، نظرت إلى الورقة؛ كانت مشوشة، لكنني حاولت بقدر ما أستطيع.

ابتلعت ريقي بتوتر. أتمنى أن تصل هذه الرسالة إلى إيشاني. أتمنى أن يراها أحد قبل أن يجدها هؤلاء المجانين.

حتى لو مُت، يجب أن يعرف أحد الحقيقة. حقيقة أن ابنتي ما زالت حية في مكان ما، وأن عليهم إنقاذها.





















• ───── ୨୧ ───── •

• ───── ୨୧ ───── •

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

• ───── ୨୧ ───── •

🫣🫣

in another life.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن