بارت 57

8 0 0
                                    

كانت الشمس تحاول الإفلات من بين السحب الرمادية الثقيلة التي غطت السماء، حيث كان الجو باردًا قليلًا ويملأه سحر الصباح الهادئ. الهواء العليل يتسلل من النوافذ، جالبًا معه رائحة الصباح النقي التي أضافت شعورًا بالسكينة إلى أجواء القصر الكبير.
في الخارج، كان الحراس يتبدلون وفق النظام المعتاد. أولئك الذين سهروا طوال الليلة الماضية غادروا للراحة، ليحل محلهم فريق الحراسة النهاري. كل حارس كان يقف في موقعه بحذر، مستعدًا للتعامل مع أي طارئ، رغم أن الهدوء كان مسيطرًا، وكأن كل شيء مستقر وخالٍ من المفاجآت.
داخل الصالة، جلس جورج على أحد الأرائك الوثيرة، محاطًا بجو من الهيبة التي اعتاد الجميع على رؤيتها فيه. بجانبه جلست ماري، التي كانت تتحدث معه بصوت خافت وهادئ.
على الجانب الآخر، كان أدريان يجلس بهدوء على الأريكة المقابلة، مرتديًا نظاراته الأنيقة التي أضافت الكثير إلى ملامحه الحادة، مما جعله يبدو أكثر وقارًا وثقة. كان مستغرقًا في عمله، عينيه مثبتتين على شاشة الحاسوب المحمول، حيث بدت تفاصيل
وجهه المركزة وكأنها تعكس دقته وإتقانه. يداه تتحركان بخفة على لوحة المفاتيح، وأحيانًا يرتفع حاجباه قليلاً، إشارةً على أنه وجد شيئًا يستحق التمعن. أدريان، رغم انغماسه في العمل، بدا عليه الجاذبية التي تبرز عند الشخصيات التي تجمع بين الذكاء والهدوء، وكان هذا الهدوء يغلفه بجاذبية فريدة.
أما أركون، فقد كان مستلقياً بكسل على الأريكة الأخرى، يضع قدميه على الطاولة الصغيرة أمامه بطريقة عفوية، ممسكًا بجهاز الآيباد الخاص به. كان مستغرقًا في لعبته المفضلة "شيلانتي"، حيث كانت أصابعه تتحرك بخفة فوق الشاشة، وعينيه تتابعان الحركات السريعة للسيارة التي يقودها في اللعبة. كانت هناك ابتسامة صغيرة تلوح على شفتيه، خاصةً كلما تمكن من تفادي الشرطي الذي يطارده في اللعبة، محاولاً القفز فوق السيارات والعقبات بمهارة.
في تلك اللحظة، كان جو الصالة هادئًا ومريحًا، حيث كل فرد مشغول بشيء يعبر عن شخصيته
بعد حوالي ربع ساعة، وصل أندرو إلى القصر بخطوات هادئة وثابتة، وكأنه كان يعرف تمامًا ما ينتظره. كانت الأجواء هادئة، والجميع منشغلون في أحاديثهم، باستثناء إيليف التي لم تنزل بعد من غرفتها.
أول من لاحظه كانت ميلان، التي وقفت بسرعة وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة متوترة، محاولة أن تسيطر على قلقها. اقتربت من والدتها ماري لتقول بصوت متردد: أمي، سنخرج للتسوق قليلاً، لن نتأخر. كانت تحاول بوضوح أن تجذب انتباه أندرو لهذا الحديث، على أمل أن يتخلى عن نيته في أخذ إيليف.
لكن قبل أن ترد ماري، قاطعها أركون ببرود وابتسامة صغيرة على وجهه: لا، عزيزتي، لن تذهبن للتسوق اليوم، لأنني سأصطحب رزان معي إلى الشركة. بدا كأنه أراد أن يُفسد خطتهم بشكل غير مباشر.
رزان، التي كانت جالسة بقربه، ابتسمت بفرح وشعرت بحماسة كبيرة لفكرة الذهاب مع أركون، وعلّقت بسعادة: حقاً؟! فأومأ لها أركون بإيجاب. فقالت بفرح: حسناً، إذن ميلان، لن أستطيع الذهاب معك. تجاهلت نظرة ميلان الحادة التي كانت توحي بالاستياء، وكأنها لم تلاحظ، بل واصلت الحديث مع أركون.
أدريان، الذي كان يجلس بهدوء مركزًا على حاسوبه، رفع نظره عن الشاشة قليلاً، وقال بلهجة هادئة: حسناً، ميلان، بما أنك لن تذهبي للتسوق، ما رأيك أن تأتي معي إلى الشركة أيضاً؟ كانت كلماته تحمل اقتراحًا جادًا. كان يدرك هدف ميلان ورزان في خطتهم الساذجة فلقد اخبره أندرو انهم سوف يفعلون شئ ويجب ان يتصرف هو وأركون.
ميلان، التي شعرت بأنها في مأزق، صمتت لبضع ثوانٍ تحاول التفكير في ردٍ مناسب. لكنها في النهاية، قررت أن تتقبل الوضع بتظاهر المرح، وابتسمت ابتسامة صغيرة وقالت: حسناً.
أما أندرو، فقد وقف يشاهد كل ما يجري من بعيد بنظرة تملؤها السخرية. استطاع فهم تفاصيل الخطة بسهولة؛ لم يكن مخدوعًا بحركاتهم المترددة ولا بالتوتر الظاهر على وجوههم. ضحك في داخله على بساطة الفكرة ومدى سذاجتها، بل ورأى فيها
جانبًا مضحكًا أضاف بعض التسليّة إلى يومه. كان واضحًا له أن الجميع يحاولون إيجاد طريقة لإبعاده عن إيليف، وكأنهم يظنون أنهم قد يتمكنون من خداعه.
صعد أندرو بخطوات هادئة، مكملاً طريقه نحو غرفة إيليف، وعندما وصل إلى باب غرفتها، لم ينتظر إذنًا، بل فتح الباب ودخل مباشرة، دون تردد. توقف عند المدخل للحظات، لتقع عيناه على إيليف التي
كانت تقف وسط الغرفة، متفاجئة من دخوله غير المتوقع.
كانت إيليف قد انتهت لتوها من الاستحمام، وكانت تلف منشفة حول جسدها الصغير، بينما شعرها الأشقر الطويل المبلل ينسدل بحرية على ظهرها، تاركًا قطرات الماء تتساقط ببطء على بشرتها الفاتحة. كان ضوء الصباح الخافت يتسلل من نافذة الغرفة، ليعكس توهجًا ناعمًا على وجهها، مضيفًا إلى ملامحها البريئة بعضًا من اللمعان. نظرت إليه
بعينيها الزرقاوين السماويتين وقد ارتسمت عليهما دهشة كبيرة، وبدأت تتلعثم في كلامها، محاولة فهم جرأته.
صرخت عليه بحرج، قائلة بصوتٍ ارتجف من المفاجأة: أندرو! ماذا تفعل هنا؟ ألا تخجل؟! كان
تعبير وجهها الغاضب وخجلها الواضح لطيفين للغاية، وكأنها لم تجد طريقة أخرى للتعبير عن صدمتها.
ابتسم أندرو بخبث، مستمتعًا بارتباكها الظاهر. أخذ ينظر إليها بتفحص، وعيناه تتأملان كل تفاصيل وجهها الناعم، ووجنتيها اللتين احمرتا بشكل جذاب، كأنما كانت تحاول إخفاء اضطرابها خلف ملامح من الغضب الزائف.
لم يمضِ وقت طويل حتى اقترب منها بخطوات واثقة، وكأنه قد قرر تمامًا تجاهل احتجاجاتها. بيدٍ قوية وناعمة، أحاط خصرها وسحبها نحوه قليلاً، مما جعلها تشعر بالمزيد من الخجل. نظرت إليه مندهشة، محاوِلة أن تفلت من قبضته، لكن عينيه الثابتتين منعتاها من المقاومة.
نظر إليها بعمق، وهمس بصوت هادئ لكنه مفعم بالجرأة، قائلاً بنبرة ماكرة: ولماذا أخجل؟ ألم أركِ عندما...
وقبل أن ينهي جملته، كانت إيليف قد احمرت وجنتاها بشدة، وصرخت بطفولية تملؤها النبرة اللطيفة والغاضبة في آن واحد: أندرو، توقف!
كانت ردود فعلها الطفولية وصوتها الناعم يجعلان الأمر أكثر طرافة بالنسبة له. لم يستطع كبح
ضحكته، فابتسم ابتسامة عريضة، تظهر فيها أنيابه البيضاء، وأخذ يضحك بهدوء بينما كان يشدها نحوه أكثر.
نظرت إليه بغضب ممزوج بالخجل، وهي ترفع يدها لتدفعه بعيدًا عنها، لكن محاولتها كانت ضعيفة مقارنة بقوته. كان أندرو يدرك تمامًا تأثيره عليها، ويستمتع بهذا الانزعاج اللطيف الذي يرتسم على ملامحها. وضع يده على شعرها المبلل، وبدأ يتفحصه بأصابعه، وكأنه كان يدرس ملمسه الناعم
لم تكن إيليف تعرف ماذا تفعل، وقد طغى الخجل على مشاعرها، فكل ما استطاعت فعله هو أن تنظر بعيدًا محاولة الابتعاد، لكن أندرو لم يكن مستعدًا لإطلاق سراحها. اقترب منها أكثر، حتى لم يعد بينهما سوى مسافة قصيرة، وهمس بجانب أذنها بصوت خافت: تذكري، إيليف... أنا لا أريد لأحد أن يراكِ هكذا. أنا الوحيد الذي يُسمح له برؤية هذه الطفلة اللطيفة والخجولة.
شعرت إيليف برعشة خفيفة تسري في جسدها من قربه وهمسه القريب، وكان قلبها يخفق بسرعة لم تستطع السيطرة عليها. في لحظة، شعرت أنها عاجزة عن الكلام، وكأن الكلمات تاهت منها، لم تعد تستطيع النظر في عينيه، فأشاحت بوجهها إلى الجهة الأخرى، محاولةً تجميع أفكارها.
لكنه لم يعطها فرصة للهرب، بل رفع وجهها بيده، وأجبرها على النظر في عينيه مباشرة. كانت نظراته تمزج بين الجد والسخرية، وكأنه كان يستمتع بمشاعرها المضطربة. قال بابتسامة جانبية: لن تهربي مني، يا إيليف. مهما حاولتِ.
أحمر وجه إيليف أكثر، وأخيرًا، وجدت الشجاعة لتتمتم بنبرة متقطعة: أندرو، هذا... هذا يكفي.
اقترب أندرو منها بخطوات هادئة، ثم انحنى قليلاً حتى يكون بمستوى وجهها، وأخذ يطبع قبلة خفيفة على عنقها، جعلت جسدها يرتعش من لمسته. أغلقت إيليف عينيها بشدة، وكأنها تحاول السيطرة على تلك المشاعر التي بدأت تغزوها من جديد. شعرت بقوة احتياجها له في تلك اللحظة، فقبضت على قميصه بقوة، كأنها تحاول التمسك بشيء يحفظها من الانهيار.
ابتسم أندرو بخبث وهدوء عندما شعر بردة فعلها، ثم ابتعد قليلاً ليمنحها مجالاً لالتقاط أنفاسها. فتحت إيليف عينيها ببطء، لتنظر إليه بتلك العيون التي كانت تحاول إخفاء ألمها وشعورها المختلط بين الخوف والرغبة في الاستسلام له. انحدرت دمعة صامتة من عينيها الخضراوين، وكأنها انعكاس لكل ما كانت تحاول دفنه في داخلها.
رأى أندرو دمعتها التي لم تستطع كتمانها، فمد يده بلطف ومسحها بأصابعه، ليهمس بنبرة هادئة لكنه آمر: هيا، ارتدي ملابسك، سأكون بانتظارك في السيارة. لا تتأخري.
ثم انحنى ليقبل خدها قبلة خفيفة قبل أن يبتعد عنها، تاركًا إياها مع مشاعرها المشتتة. غادر الغرفة وأغلق الباب بهدوء، بينما هي كانت تتنفس بصعوبة. مسحت دموعها بسرعة، لكنها شعرت بضعفٍ غريب يسيطر عليها، كأن كل ما بداخلها يُثقلها.
مرت دقائق عدة، وهي جالسة على سريرها، تحاول استعادة هدوئها. أمسكت بفرشاة شعرها وبدأت تسريح خصلاتها الطويلة بعناية، وكأنها تحاول إلهاء نفسها عن كل الأفكار التي تطاردها. تحدثت بصوت خافت كأنما تحدث نفسها، بنبرة تعبر عن خليط من الغضب والإصرار: من تظن نفسك؟ لماذا يجب أن أسمع كلامك؟ لقد أخبرتك أنني انفصلت عنك، ومع ذلك، تتصرف وكأنك ما زلت تسيطر علي. أتمنى لو أستطيع قتلك الآن.
وبينما كانت تسرح شعرها، شعرت بشيء غير عادي. نظرت إلى يدها لتجد بعض خصلات شعرها تتساقط وتعلق بين أصابعها. توقفت، مشدوهة، وقد تملكها حزن عميق. جمعت الخصلات المتساقطة بهدوء، ثم وضعتها تحت وسادتها بخفة، وكأنها تخبئ ألمها بعيدًا عن العالم.
بعد أن أنهت تسريح شعرها، وضعت الفرشاة جانبًا، ثم ارتدت معطفها بسرعة.إتجهة نحو الباب، محاولة تمالك نفسها.

𝑰 𝑾𝑨𝑵𝑻 𝒀𝑶𝑼 𝑭𝑶𝑹 𝑴𝒀𝑺𝑬𝑳𝑭 𝑶𝑵𝑳𝒀 ❀حيث تعيش القصص. اكتشف الآن