الفصل الأول

46.4K 2.3K 178
                                    

"روزاليندا موريس." نادت الفتاة النحيلة.
أخرجتُ سمّاعاتُ هاتفي من أُذني وحملتُ حقيبتي ثم تبعتها للمكتب.
"آنسة موريس، تفضلي." قال السيد هارفورد الذي بدا وكأنه في الخمسين من عُمره.
جلستُ على المقعد المقابل لمكتبه.
"لوحاتكِ جميلة." قال مبتسماً وهو يُداعب لحيته الرمادية الخفيفة بأطراف أصابعه.
ابتسمت.
"ولكن.." عاد يقول.
سقطت الإبتسامة من وجهي.
"لا شيء مميز." قال ببساطة.
"ما الذي تقصده؟" سألته.
نهض السيد هارفورد من على مكتبه ثم توجه نحو الأرفف وسحبَ مُجلداً ضخماً.
"هذا ما أقصده." قال وهو ينثر الرسومات من المجلد فوق المكتب.
تفحصتُ الرسومات بلهفة وفضول، أردتُ أن اعرف ماخطب لوحاتي؟
"لم أفهم." قلتُ أخيراً.
"انظري هُنا مثلاً، هذه رسومات 'جينا ليودين' تتميز بوصفها الدائم والدقيق لتفاصيل الطبيعة، وهي معروفة بهذا دائماً وهذا مايميزها لدى الجميع." قال وهو يرفع أحد الرسومات التي احتوت زهور الأوركيدا والتيوليب وقد التفت سيقانها معاً ليندمجا بطريقة ساحرة.
ثم انزل اللوحة ورفع غيرها.
"وهنا، رسومات 'كالينا ثيودور' التي تتميز برسم الجمادات العتيقة، ففي رسوماتها دوماً الطابع القديم، وهذا معروفٌ عنها." قال لي.
ثم أنزل الرسومات وصمت.
"وأنتِ، آنسة موريس، ما الذي يُميزّ لوحاتك؟ لم أرى شيئاً." قال بجدية وقد أنزل نظارته لحافة أنفه ونظر لي.
"أتعني أنك لن تضع رسوماتي في المعرض؟" سألتهُ بإنكسار.
"كلا، اعتذر." قال بهدوء وقد عاد ليجلس على مقعده الجلديّ.
نهضتُ من المقعد وتوجهت نحو المخرج خائبة.
"آنسة موريس.." نادى السيد هارفورد.
التفتُ له.
"المعرض بعد ثلاثة أشهر، سأقوم بمنحكِ حتى الأسبوع القادم لتحاولي مرة أخرى، سأنتظرك." قال مبتسماً وقد جدد بي الأمل.
"شكراً لك، سأبذلُ جهدي!" قلتُ له مبتسمة ثم خرجتُ من مكتبه.
المدّة لم تكن كافية بالنسبة لي، ولكن هذا المعرضُ مهم وعليّ بذلُ جهدي.
عُدت للمنزل، لأجد زوجي بإنتظاري كعادته فوق الأريكة.
"مرحباً بعودتكِ يالوكا." قال ضاحكاً.
"لا تناديني بـ لوكا يا ديڤ." قلتُ له بغضبٍ مصطنع.
'لوكا' كان اسمٌ قديم تُناديني بهِ عائلتي وهو اختصار لـ "بينتور لوكو" وتعني بالإسبانية "الرسّامة المجنونة."
"ماذا حدث؟ تبدين شاحبة." قال ديڤ وقد جلس بجانبي.
"لم تُقبل لوحاتي." قلتُ بأسف.
"لا مشكلة عزيزتي هُنالك المزيد من الفرص." قال بنبرة مريحة وهو يفرُك ظهري.
"حقاً؟ مثل ماذا؟" سألتُ ساخرة.
صمت ديڤ وهو يفكر.
"مثل مهرجان المواهب." قال بفخر.
"أتمزح؟ هذا مهرجانٌ للأطفال، أأبدو لك في الخامسة من عمري؟" سألتهُ غير مصدقة.
"لو.. اقصد روز، اهدئي، ستأتي الفرصة في الوقت المناسب، لربما معرض اللوحات هذا غيرُ مناسب لكِ." قال بهدوء.
"انسى الأمر، سأقوم بتحضير الغداء." قلتُ له ثم نهضتُ من فوق الأريكة.
ومنذ تلك اللحظة وأنا أُفكر في ما قد أتميز به.
مضت ثلاثة أيامٍ وأنا أُفكر، ذهبتُ للحديقة لأحظى ببعض الإلهام ولا جدوى.
شاهدتُ الاطفال، استمعتُ للموسيقى، شاهدتُ أنامل المطر تطرق النوافذ، وذهبتُ للمقاهي، وتأملتُ الغروب ولا فائدة!
بقي أربعة أيامٍ فقط وأنا لم أجد فكرة مناسبة.
أعددتُ كوباً من القهوة وعُدت أتأمل لوحة الرسم البيضاء الفارغة أمامي.
بدأت أرسم، ثم أُبدل اللوحة، ثم أرسم، ثم أُبدل..
حتى غفوت.

فتحتُ عيني لأجد رجُلاً يُحدّق بي، لا أستطيع رؤيته جيداً فقد كان مبهماً وغير واضحاً ولكن الشيء الوحيد الذي كان واضحاً بالنسبة لي كالشمس هو عينيه..
كانت عينيه خضراوين كلون الغابة الداكنة، وقد كان بهما بريقاً يلمعُ بالكثير من العواطف.

فتحتُ عيني على وقعة رأسي من بين يدي على المكتب.
هل نمتُ بهذا العمق؟ أكان ذلك حُلماً؟
"ماذا حصل؟" سأل ديڤ وقد فتح باب غرفة الرسوم الخاصة بي.
"لقد غفوت ووقع رأسي فوق المكتب." قلتُ له.
"تأخر الوقت، ارتاحي الآن وارسمي غداً." قال مبتسماً وقد حمل كوب قهوتي ليغسله عني.
توجهتُ نحو سريري ثم انجرفتُ في نومٍ عميق.

استيقظتُ صباحاً كعادتي، قمتُ بتجهيز الإفطار ثم ساعدتُ ديڤ في الإستعداد لعمله.
طوال هذه الفترة كانت هُنالك صورة لا تفارق ذهني.
صورة عينيّ الرجل الذي حلمتُ بوجهه ليلة أمس.
لم استطع مقاومة رغبتي المُلحّة في رسمها.
صعدتُ لغرفة الرسم خاصتي وبدأت في الرسم، وبما أني لا أتذكر شيئاً غير عينيه فرسمتهما وحدهما فقط.. دون وجه ولا أنف، فقط عيناه.
الغريبُ في الأمر هو أني لستُ جيدة في رسم الملامح البشرية، لأني اعتدتُ رسم الطبيعة وغيرها من الأشياء المحيطة بي، حاولتُ رسم ملامحٍ بشرية مسبقاً وفشلت.
ولكن عيناه كانت جيدة، رسمتهما وكأنهما حقيقيتين وكأنهما ينظرا لي عبر اللوحة.
ووجدتُ نفسي أغرقُ في رسم عينيه وتلوينهما وتأملهما حتى استفقتُ على صوت ديڤ يعود من عمله.

عشق على ورق | h.sحيث تعيش القصص. اكتشف الآن