(21)

251 13 0
                                    

بقلم : نهال عبدالواحد

كان عزيز لا يذهب لأهله في الإجازات إلا نادرًا ولازال مقيمًا بالسويس، رغم أنها أصبحت شبه خربة من كثرة البيوت المهدومة أو المثقّبة بفعل القصف والغارات، لكن بيت أهل عزيز لم يصاب بشيء حتى الآن وكان يذهب إليه.

ولأن السويس كانت تطل على الجبهة فدخول أي فرد يلزمه من التصاريح، لكن بالنسبة إليه كأحد أبناء الجيش كان يدخل ويخرج بدون تصريحات رسمية.

كان أكثر ما يُغضب عزيز هؤلاء الثرثارين خاصةً المتطوعين الجدد الذين يحكون عن كل ما يحدث على الجبهة للأهل والأصدقاء، حتى في المقاهي، الشوارع والمواصلات العامة.

كان عزيز يستمع لكلامهم وهم يقصّون لقد تدرّبنا على السلاح كذا من النوع كذا وكذا، وببلاهتهم يفشون أسرارًا عسكرية بحسن نية فقط ليظهروا علمهم وتفلسفهم أمام الآخرين.

ورغم تنبيهات عزيز و مختلف قاداتهم في التدريبات عن عدم التحدث بشأن أي شيء؛ فالخونة والمتلصصين ناقلي الأخبار مندسّين في كل مكان، لكن كأنهم كانوا يتحدثون لأُناسٍ آخرون.

لذلك كان عزيز يكره الخروج من السويس حتى في فترة إجازته، لأنه طوال طريق سفره وحتى عندما يصل للقرية لا ينتهي كل من حوله من كثرة الأسئلة:

-كيف الأحوال على الجبهة؟

فيجيب: الحمد لله!

-هل سنحارب قريبًا؟

فيجيب: نسأل الله التوفيق!

- سنعبر قريبًا!

فيجيب: يا رب!

- سمعنا وجود سلاح كذا، أليس كذلك؟

فيجيب: الله أعلم!

- كيف لا تعرف وهناك فلان قد أخبرني بذلك؟

فيجيب: إنه سؤال لا إجابة له.

- كأنك تتكبر علينا!

فيجيب: لا والله!

- إذن احكي ولا تخفي شيء.

فيجيب: لا يجوز التحدث بشأن أسرار عسكرية.

- لا، أنت فقط تتكبر علينا.

فيجيب: والله لو عُرفوا من يتحدثون وينقلون تلك الأخبار ليُقدّموا للمحاكمة بتهمة تسريب أسرارٍ عسكرية!

وبين كرٍ و فر من محاولات إقناع عزيز أنه ليس متكبرًا وأن مثل هذه الأسئلة هي أسرار لا ينبغي أن يُجاب عنها ولا حتى يُسأل بشأنها، لكن بلا فائدة!

ويسقط عليه خبر وفاة عبد الناصر كالصاعقة؛ فرغم كل ما حدث في الآونة الأخيرة خاصةً في غضون النكسة وبعدها وكل تلك الفوضى، إلا أن الجزء الأيسر له لازال يخضع لحبه.

كان في قمة انهياره، فهو لازال بمثابة الأب الذي يفعل بأبناءه لا يملك إلا أن يحبه.

وذهب هو الآخر لحضور جنازته مثله مثل غيره من المصريين ليودعوه لمثواه الأخير مرددين:
«الوداع يا جمال، يا حبيب الملايين.»

فقد كان رحيله في ذلك الوقت العصيب يُشعر الجميع بنهاية المطاف، فكأنهم ملقون في عرض البحر يصارعون الأمواج والعواصف وطوق النجاة الوحيد قد فقدوه، فها هو شعورهم أنهم غارقون لا محالة.

فذلك الوقت العصيب وبعد توقّف العمليات العسكرية بفعل قرار الأمم المتحدة ثم وفاة عبد الناصر في غضون أشهر من ذلك القرار.

كانت إسرائيل معلنة سعادتها واحتفالها بوفاة عبد الناصر، ولم لا؟! وقد كان عدوها الأول الذي يقف أمامها، يقاومها و يهاجمها صراحةً دون تزيين للحديث، وإن كانت تلك الصراحة في مهاجمتها قد زادت عن الحد لدرجة التوريط مثلما حدث قبيل حرب ٦٧.

أما عن نور ورغم صغر عمرها إلا أنها حزنت هي الأخرى على رحيله، ربما لأنها تدرك مدى حب عزيز له متخيلة مدى حزنه وقهره، أما عنها فلم يكن الأمر أكثر من العادي فمثل تلك الأمور لم تكن تشغلها ولا تشغل قريناتها الفتيات، كان يكفيها طلبات أخيها التي لا تنتهي .

حقيقةً جمال أخوها كان كافٍ أن تتعقد من الإسم وتكرهه بجدارة، فهو كائن لا فائدة له بل ويأمر وينهي وكلامه لا رادّ له.

كانت عديلة منذ وفاة يوسف وهي تعمل في بيتها كخيّاطة تقوم بحياكة الملابس وأغطية الأسرّة؛ فقد كان لديها ماكينة خياطة تلك التي تدار بالقدم الكبيرة.

وكانت ترسل نور إلى (زنقة الستات) بالمنشية لتشتري لها لوازم الخياطة كقطع غيار للماكينات، زيت للتشحيم، أزرار ودانتيل... وخلافه.

رغم أنها كانت في الرابعة عشر من عمرها وهذا الأخ قد أتم العاشرة من عمره، لكنها لم ترسله أبدًا لأي مكان ولا حتى يخرج مصاحبًا لأخته.

ووسط ذلك الظلام الحالك بالبلاد المرتدية السواد حدادًا على عبد الناصر، كان لابد من وجود قائد آخر يكمل المسيرة ويتحمل تلك المسئولية في ذلك الوقت العصيب.

كان ذلك القائد هو الرئيس محمد أنور السادات، الذي تولّي الرئاسة في سبتمبر ١٩٧٠ حيث كان قد تم تعيينه كنائب للرئيس منذ عهد جمال عبد الناصر، ثم تولى فعليًّا في منتصف أكتوبر من نفس العام.

لم يكن الطريق ممهّدًا إطلاقًا للسادات، فأحوال الإحتلال والحرب كما لم يكن الشعب مقبلًا عليه مثل عبد الناصر فكان شاعرًا بأنه من الممكن أن يقومون عليه من حينٍ لآخر، فكان لابد وأن يحارب.

و بالإضافة لذلك مراكز القوى التي لم تكن راضية عن تلك الخطوة وأن السادات قد صار الرئيس، وكانوا يظنّون أنه سيكون مجرد رئيس شرفي ولهم حق التحكم في كل شيء، السيطرة على قرارته وسحب سلطاته في الكثير من المهام بحجة أنهم مسيطرون على الاتحاد الاشتراكي.

لكن لم يطل الأمر كثيرًا فبمجرد محاولاتهم للضغط المستمر عليه في ذلك الوقت العصيب، حتى إنهم قد دبروا لقلب نظام الحكم وعمل أزمة سياسية بالبلاد، فأقالهم وأمر بالقبض عليهم و عيّن غيرهم.

فلم يعد هناك وقت ليحارب في أكثر من جبهة، فتكفيه جبهة البلاد ضد العدو عند القنال.

NoonaAbdElWahed

( رواية نور)       By: NoonaAbdElWahed حيث تعيش القصص. اكتشف الآن