بقلم : نهال عبدالواحد
بمرور تلك السنوات توطدت العلاقة بين عزيز ومسعد حتى إن عزيز قد أعطى نسخة من مفتاح البيت في السويس ليمكث فيه وقت الإجازة فمن الصعب أن يذهب ويجئ في تلك الظروف من الجبهة إلى العريش بعكس السويس التي تطل على الجبهة.
كان أحيانًا يتصادف موعد إجازة عزيز ومسعد فيمكثان معًا في جوٍ ودي ممزوجًا بصداقةٍ تزداد يومًا بعد يوم.
كانت كفاءة عزيز المتزايدة بالجهد والتدريب أتاحت له فرصة التعرف والتدخل وسط بعض القيادات والمشاركة في بعض الأعمال الخطيرة السرية.
حتى بدأ بناء حائط الصواريخ على طول الجبهة وكان مسعد يشارك فيه كمجنّد وذات يوم بينما كان مسعد وغيره من المجندين على وشك إنهاء بناء الجزء المتقرر بناءه اليوم، إذ هجمت عليهم غارة من طائرات العدو و دكت ما أنشؤه على رؤوس الموجودين.
وما أن علم عزيز حتى أسرع بالبحث عن مسعد ليطمئن عليه ويتمنى من داخله لو لم يصيبه مكروه، لكن ما أن وصل حتى علم باستشهاده، فنزل الخبر عليه كماءٍ مثلّج في ليلةٍ زمهريرة من ليالي شهر طوبة.
هبط جاثيًا على ركبتيه من أثر الصدمة ودموعه تنهمر بغزارة، ويسأل نفسه أكلما ارتبطت بأحدٍ رحل وتركني! والفاعل واحد في كل مرة!
ثم نهض واقفًا مرددًا داخله الفاعل واحد! لقد ثقُل الحساب أكثر من اللازم، فجاء إليه قائده العقيد رفعت وربت عليه متحدثًا بجمود: قم واصلب طولك، فلا وقت لدينا للحزن، علينا سرعة التفكير والتصرف.
فانتبه إليه عزيز والتفت إليه ببطء ماسحًا دموعه قائلًا: يوجد شيئًا خاطئًا.
فأومأ رفعت يوافقه وتابع: حقًا شيئًا خاطئًا؛ فهو ليس أول قصف في حائط الصواريخ خاصةً في الجزء الحديث البناء بالتحديد بمجرد الانتهاء منه يُقصف توًا كأنه يعرف طريقه!
- ليس كأن، فهو فعلًا يعرف، لكن!
- لكن ماذا؟!
- هذا يعني وجود خائن هنا!
- هذا مؤكد.
- إذن هي كارثة! ليكون الخائنون من أفراد الجيش، الغريب أن كل من هنا فوق مستوى الشبهات.
- ليس هناك شيء اسمه فوق مستوى الشبهات، سنكتشفه حتمًا وسيُنظّف الجيش فلا يوجد أكثر من المقشّات في البلاد.
وبدأت المراقبة المشددة على الجميع خاصةً القادة المسئولين عن تلك العملية، حتى تفاجئوا بآخر شخص يمكن أن يفعلها لكنه قد تم تتبعه ثم القبض عليه والتعرف على من غواه.
وكان ذلك هو طرف الخيط الموصل للجاسوسة (هبة سليم) خطيبة ذلك القائد والذي كان عاشقًا متيّمًا بها، حتى تم القبض عليها في ليبيا بالتنسيق مع المخابرات الليبية.
كان عزيز متابعًا لذلك الموضوع ويتمنى القصاص وأخذ حق من ذهبوا خاصةً مسعد، وبدأ يتوتر عندما سمع بمفاوضات إسرائيل وأمريكا للإفراج عن (هبة سليم) وازداد قلقه وخوفه عندما تصاعدت المفاوضات مع الرئيس السادات شخصيًّا.
فتوقع تلقائيًّا أن الأمر قد حُسم ومن الممكن التفاوض وتبادل الأسرى مثلًا، وبدأ ييأس بعد ما كان صامدًا طوال تلك الفترة، لكن تفاجأ بردة فعل السادات بل وسرعة قراره، فقد إدّعى السادات عدم معرفته بأمر تلك الفتاة وأنه سوف يتقصّى عنها.
لكن بمجرد سفر المتفاوضين أمر بسرعة تنفيذ حكم الإعدام فيها وفي نفس اليوم، وبعد إعدامها بلّغهم السادات بأنه قد وجدها قد عُدمت منذ مدة.
كم أسعد عزيز ذلك الخبر وشعر ببعض الراحة! ولازال من داخله رغبة كبيرة في الانتقام من ذلك العدو و يتمنى لحظة صدور الأوامر بالعبور وفتح النيران في وجوههم والأخذ بحق كل الشهداء.
أما نور فقد زاد الحمل عليها فصارت المسئولة عن كل شيء، فعديلة قد بدأت تتأثر صحتها رغم أنها لا تزال في الخامسة و الثلاثين من عمرها، لكن يبدو أن كثرة الحمل والإجهاض قد أثّر عليها صحيًّا.فصارت نور تتحمل أعمال البيت بالكامل وتساعد أمها في حياكة الملابس وشراء لوازم الخياطة، وهكذا صارت تستذكر دروسها في وقت الفراغ، فبالطبع لم تدخل الثانوية العامة ودخلت تعليم فني.
ولازال ذلك المتهدل المسمي أخوها، لا تنتهي طلباته ولا يساعد في أي شيء على اعتبار أنه رجل البيت، لكنه لم يأخذ من الرجولة سوى الصوت العالي، الذي ليس له أي علاقة بالرجولة.
فهو في الثانية عشر من عمره ومع ذلك كائن عديمًا للذوق ومتبلّدًا المشاعر، يصيح دائمًا عند طلب أي شيء ودائم التعنيف لأخته، وها هو قد تعرف على أصدقاء السوء المتسكعين والجالسين في الطرقات يلمزون ويسخرون بشأن كل من حولهم ثم يعود إلى البيت متأخرًا، فلا اهتمام بالدراسة ودائم الرسوب، هكذا كان بلا فائدة بل كائنًا مؤذيًّا.
لكن ما زاد الأمر سوءًا أن لم يعد يحترم أي شخص أيًا كان، حتى أمه التي كثيرًا ما دللته وأسرفت في تدليله، صار لا يحترمها بل ويرفع صوته عليها بلا حياءٍ ولا أخلاق.
كم آلمتها طريقته تلك!
كم تمنت عديلة لو لم تدلله وتنصت لكلام يوسف كما كان ينصحها!
ليتها ما رأته ولا أنجبته! ليته صار سقطًا مثل غيره!ها هي قلوب الأمهات عندما يمزقها عقوق أبناءها، وكلما همّت بالدعاء عليه تراجعت وخشيت أن يُستجاب لها، فتجلس داعية له بالهداية.
لكن قلبها لازال يؤلمها من قسوة ووقاحة ذلك الابن.
NoonaAbdElWahed
أنت تقرأ
( رواية نور) By: NoonaAbdElWahed
Historische Romaneملحمة تاريخية وطنية كان ميلادها مع نور الانتصار وبعد ظلام الغارات فسُميت نور تيمنًا بإنارة النور، نشأت وكبرت وأمامها بطلٌ شجاع أحبته من كل قلبها رغم حداثة عمرها... شاءت الأقدار أن تبدلت الأحوال دمار موت بُعد و... [قد نختلف مع أنظمتنا لكن لن نختلف...