(19)

266 16 0
                                    

                         بقلم : نهال عبدالواحد

مرّت عدة أيام بعد الوفاة وظلت حميدة مع عديلة محاولة التخفيف عنها من حدة هذه الصدمة؛ خاصةً وأن عديلة وحيدة فلا أخوة لها وقد فقدت أبويها واحدًا بعد الآخر، ولم يعد لديها سوى نور وجمال.

كان عبد المنعم يبحث في مستحقات يوسف وما إن كان يمكن صرف معاش لأسرته بعد، ويسعى في ذلك الطريق من إجراءات وتوثيق لأوراق.

وبعد فترة اضطرت حميدة لترك عديلة والسفر مع زوجها إلى السويس أولًا لجلب أمتعتهم ثم إلى القرية.

كان فقد نور لأبيها شيئًا قاسيًّا فقد كان أبًا حنونًا ومتفهّمًا، كانت شاعرة أنه صديقٌ لها، حتى إنها قد نويت ذات أن تخبره بما يجول داخلها من مشاعر غريبة نحو عزيز الذي لم يعرها انتباهًا بل لم يراها من الأساس، لكنها تراجعت عن التحدث بشأن هذا.

لكنها تشعر بوحدة كبيرة، منذ أن تركت السويس وعادت للأسكندرية وبالرغم من أنه موطنها الأول إلا أنها تشعر بتلك الغربة فيها، و هاهي تكتمل غربتها بوفاة أبيها؛ حيث أن عديلة منذ أن أنجبت جمال ولم تعد ترى غيره، ولِمَ لا وهو الذكر (الولد الحيلة)  فراحت تدلله وتغدق عليه من الحنان والاهتمام الزائد ما يفوق اهتمامها بنور ابنتها البكرية، بل صارت تحملها بعض من تصرفاته.

وكما نعلم ذكاء الأطفال في تلك المرحلة، فهو يتجه نحو مصلحته وما أن يعرف نقاط ضعف أمه حتى يضغط عليها من خلالها، ويبدأ تفلّت زمام الأمور عامًا بعد عام.

وكم حذّرها يوسف من طريقتها هذه وتحدّث معها بشأن ذلك، لكن بلا فائدة!

أدركت نور ذلك الفرق في التعامل لكن كان يكفيها أن لها أبًا يفهمها ويدللها لكن بالقدر الذي تحتاجه، لكن افتقدت كل ذلك من بعده، وها هي في الحادية عشر من عمرها لكنها قد أدركت ما ستلاقيه وأن القادم ليس مفروشًا بالورود ولا ممهّدًا من الأساس.

بالطبع الوضع بالعكس مع جمال فهو لازال طفلًا في السابعة ولم يعيش مع والده طويلًا، ورغم أن معاملة يوسف كانت حيادية ولا تتميز بأي تحيّز لأحدهما لكن بالطبع تجده يميل للتي تدلله التدليل الزائد.

أما حميدة وعبد المنعم فقد انتقلوا إلى القرية وتركوا السويس بعد ما صارت حطامًا تعاني من الغارات، القصف والتدمير، رائحة الدماء والشهداء في كل مكان.

لكن عزيز ودّعهما ولم يذهب معهما بل ظل في السويس مع مسعد.

كان عبد المنعم يرى كل التغيرات الطارئة على ابنه مدركًا حجم الاكتئاب واليأس المسيطر عليه، لكنه يرى أيضًا ضغوط أخرى تعمل على إيقاظه، منها سفره لأهل عوض صديقه، مجئ مسعد ومعرفته بما حدث للشيخ بدر وهو السبب المباشر لذلك، وأخيرًا ما حدث ليوسف.

وهؤلاء الثلاثة الشيخ بدر، عوض ويوسف يمثلون له الكثير، فتركه وهو يرى عودته وإعادته لحساباته، خاصةً وأن مسعد لازال مقيمًا معه.

حتى ما لبث وقد عادت له روحه إلى حد ما وصحب مسعد معه ذاهبَين إلى العقيد رفعت قائده الذي قابله يوم الغارة ووبّخه بشدة؛ ربما لأنه يفهم عزيز جيدًا ويعرف كيف يضغط عليه ويستفذ قدراته الكامنة.

استعد عزيز بزيه العسكري المميز حالقًا لحيته وشعره تمامًا، معه مسعد الذي طلب منه أن يحلق لحيته وشعره هو الآخر.

وما أن وصل لقائده العقيد رفعت حتى نظر له نظرة طويلة ثم وكزه في كتفه بقوة، لكن عزيز لازال واقفًا لا يتحرك ملقيًّا التحية العسكرية، رأسه معتدلة، ظهره مستقيم وصدره لأعلى.

ثم قال بحزمٍ وصرامة: كنت على يقين من عودتك، لكنك كنت تحتاج لصدمة أو صدمات لتستعيد نفسك، ورغم كل الظروف التي قد مررت بها لكن ليس لدي مانع أن ألطمك على وجهك لطمة تجعلك تستعيد كل شيء، أتمنى ألا تكون قد نسيت العسكرية والنظام الميري يا سيادة الضابط، وألا تكون راحتك في حضن أمك قد أنسته لك كما نسيت من تكون وما واجباتك!

أجاب عزيز بجدية: تمام سيدي، أعتذر منك على كل ما بدر مني، وأتمنى أن تلتمس عذري وما كنت أمر به.

فصاح فيه: إنتباه! هذا الكلام يمكنك أن تقوله مع أحد أصحابك عندما تجلس على مقهى، لكن هنا لا أعذار! تلك الظروف التي تتحدث عنها لم تمر عليك وحدك، بل كنا فيها جميعًا، لكن لن نجلس ونبكي ونضع كفوفنا على خدودنا كالنساء، عامةً لقد تغيرت القيادة وهذا في حد ذاته يعطينا دافعًا وأملًا، والدفعات الجديدة قد وصلت بالإضافة إلى المتطوعين من الفدائيين، وهذا بالطبع ليس جديدًا  على مصر لأنها دائمًا ولّادة، إن ذهب واحد جاء ألف كل منهم يحمل روحه على كفيه وعلى أتم استعداد ليذهبوا جميعًا فداء ترابها.

صاح عزيز بحماس: تمام سيدي، لأين سأتوزّع وما هي مهمتي؟

فأومأ رفعت برأسه: لا، ليس الآن، أنت تحتاج لفترة من التأهيل والإرشاد النفسي أولًا، فستذهب للشئون المعنوية التي ستتولي ذلك حتى نطمئن من كونك يمكن أن تكون وسط الدفعات الجديدة، وباستطاعتك التدريب والعطاء وليس قبل ذلك.
أما أنت -يوجه حديثه لمسعد- فستذهب مع العسكري الواقف بالخارج إلى مكان دفعات المتطوعين الفدائين ليتم فحصك ثم إلى التدريبات، هيا إنصراف.

ألقى عزيز تحيته وانصرف هو ومسعد كلًا منهما لوجهته.

والشئون المعنوية يمكن اعتبارها قسم يوفر قدر من التأهيل، الإرشاد النفسي، تنمية الشخصية والثبات  الانفعالي، فالجنود الناجون من حرب ٦٧ يحتاجون بالفعل لذلك التأهيل؛ فالهزيمة، مواجهة الموت وفقد الكثير مما لا شك فيه أنه قد أثّر سلبيًّا عليهم .

ووجودهم في ذلك التأهيل يختلف على حسب حالة كلٍ منهم، مدى استجابتها وتحسنها، فلا يمكن خوضهم لأي معركة أو أي مهمة بهذه الروح الإنهزامية المسيطرة.

Noonazad

( رواية نور)       By: NoonaAbdElWahed حيث تعيش القصص. اكتشف الآن