(27)

255 15 0
                                    

(بقلم : نهال عبدالواحد)

سارت نور على نفس الجانب والقلعة خلفها، بينما عزيز سار على الجانب الآخر الملاصق لشاطئ البحر.

كانا يختلسان النظرات من حينٍ لآخر، وكان ذلك يزيد من ربكة نور فهي تشعر أن كل العيون مسلطة نحوهما، فغيرت طريقها واتجهت يمينًا في شارعٍ جانبي يسبق الشارع الذي به بيتها.

كانت تريد أن تهدأ وتعود لطبيعتها، فسارت من شارعٍ لآخر حتى وصلت إلى البيت.

لكن بالطبع لم تعود لطبيعتها نهائيًّا بل كاد يذهب عقلها من فرط السعادة، وفجأة تحولت لمراهقة صغيرة تقفز وتتمايل عندما رأت ابن الجيران، الحب الأول الذي عاش أعوامًا تظنه وهمًا وسرابًا.

لكنه لم يقل أي شيء يدل على مشاعره نحوها بل هي التي كانت مشاعرها ظاهرة أكثر من اللازم، وكأنه من شدة الشوق المخبّأ بداخلها فاض وفاض وانتشر في كل مكان.

فتحت باب شقتهم فوجدت أمها جالسة على الأريكة كعادتها تمسك بإبرتا التريكو وتصنع ثوبًا من خيوط الصوف لابنتها.

وما أن دخلت نور حتى وضعت حقيبتها على المنضدة وراحت تسرع نحو أمها بابتسامة عريضة غير المعتادة، وجهها بالكامل مبتسمًا وفائق الإشراق.

أسرعت تعانق أمها بشدة وكأنها كانت مسافرة، فبادلتها أمها العناق وهي تشعر أن هناك أمرٍ ما.

صاحت نور بسعادة غير معتادة: ماما حبيبتي، كيف حالك اليوم يا أغلى الناس؟

أجابت عديلة بتعجب محاول قراءة ابنتها: أنا بخير والحمد لله، وقد أوشكت على الانتهاء من ثوبك.

- تسلم يديكي وعينيكي يا ست الحبايب.

وقبلتها على وجنتيها وانطلقت نحو حجرتها تتمايل في مشيتها كأنما ترقص وتدندن، بالطبع لا يمكن لعديلة أن تترك ابنتها بهذه الحالة، فسرعان ما تبعتها لحجرتها، طرقت الباب ودخلت، كانت نور تبدل ملابسها، ارتدت جلبابًا من الكاستور من اللون الأبيض مطبوعًا فيها ورودٌ صغيرة باللون الأزرق السماوي.

ثم جلست أمام المرآة تلف شعرها فجلست عديلة على حافة السرير تتمعن ابنتها وهي تربط عصبتها فوق شعرها.

تسآلت نور: هل هناك شيء يا أمي؟!

قالت عديلة محاولة تفقد حال ابنتها: من المفترض أن أسأل ماذا هناك؟ ما سر تغيرك الكلي؟

- ماذا بي يا أمي؟! إني في أحسن حال وعلى ما يرام، ألستِ من قلتِ لي أن أدع الكآبة وأصبح أكثر إشراقًا! وها أنا أفعل، ما الأمر إذن؟!

ثم نهضت متجهة نحو المطبخ لتعد الغداء ثم توقفت وقالت: هل تعلمي يا أمي من قابلت اليوم؟

عديلة بعدم توقع: من؟!

أجابت نور بتوتر وارتباك واضحَين: هل تذكرين عزيز ابن خالتي حميدة، جيراننا في السويس؟

صاحت عديلة بسعادة: بالطبع أتذكرهم، وهل أمثالهم يُنسوا؟! أم تلك أيام تُنسى؟! هي أفضل وأحلى أيام حياتي، هي أخت وحبيبة، لكن كيف جاءوا إلى الأسكندرية؟

فأومأت نور أن لا وتابعت: لا يا أمي، لقد عادوا إلى بيتهم بالسويس بعد الحرب، لكن عزيز هو من يعمل هنا، لقد نُقل في عمله ويعيش هنا بمفرده.

فصاحت عديلة: ماذا أيتها الحمقاء؟! ألم يخطر ببالك أن تدعي الرجل الوحداني ليتناول معنا طعامًا طيبًا؟ أم أنه قد تزوج؟!

أجابت نور بوجهٍ مبتسم ويزداد إشراقًا: لا يا أمي هو لم يتزوج بعد.

ثم قالت: أقسم لك يا أمي! لقد دعوته لكنه قد اعتذر وأخبرني سيجئ في فرصة أخرى، سأدخل لأعد الغداء.

وغادرتها نور، بينما جلست عديلة بعض الوقت تعيد الكلام متمعنة فيه وبعد قليل ابتسمت ناظرة لأعلى وتمتمت من داخلها: يا رب!

بينما عزيز ابتسم عندما وجدها تدخل مسرعة في شارع غير شارع بيتهم، و هو يتذكر ارتباكها وتوترها، ثم أكمل طريقه إلى محطة الترام وركب ولازالت الابتسامة على وجهه حتى وصل إلى سيدي جابر، فهبط وسار علي قدميه، اشترى بعض متطلبات البيت ثم اتجه للبيت.

كانت الشقة بالدور الأول، فتح الباب فإذا بصالة بها أريكة، كرسيين ومنضدة وضع عليها أكياس ما اشتراه، ثم اتجه للحجرة الوحيدة الموجودة.

وكان بها سرير وخزانة ملابس صغيرة فأبدل ملابسه بمنامة (كاستور) مخططة بخطوطٍ بنية وعلّق زيه العسكري.

ثم خرج وأدار (الكاسيت) واضعًا شريط لعبد الحليم حافظ، أخذ أكياس المشتروات ودخل بها إلي المطبخ فوقف يقشر الباذنجان، قطعه مع بعض الفلفل والبطاطس ثم قام بقليهم ووضعهم في طبق ورشّ عليهم خلطة من الخل والثوم، جلس ليتناول طعامه، ولما انتهى نهض متجهًا إلى المطبخ وغسل الأطباق، صنع كوبًا من الشاي ثم عاود الجلوس على الأريكة ليشرب الشاي ثم أشعل سيجارته وتمدد برجليه على الأريكة.

كان يعيد شريط موقف لقاءهما من البداية، بكل تفاصيله فهاهو يتذكر ملامحها بكل تفاصيلها، كم صارت جميلة!

تعجب من نفسه وقد انهارت حصون قلبه فجأة على غفلة وباغتها هجومًا من عينيها الرائعتين فاحتلت قلبه فسلّمه لها في لحظة دون أدنى مقاومة، لكنه احتلال بلا جلاءٍ ولا تحرير.

ثم نهض فجأة جالسًا ووجم متذكرًا أمرًا هامًا، لقد تذكر ذلك الفارق بينهما فهو يكبرها بإحدى عشر عامًا، لقد حملها طفلة بين يديه، لقد تعامل معها ولعب معها على أنها مجرد طفلة وأصغر أخواته البنات ولم ينظر إليها غير ذلك قط، فكيف يسمح لإحساسه أن يتغير نحوها هكذا؟!

لكنها ليست بأختٍ له، فلِمَ يحرم نفسه من ذلك الشعور و يحرّمه عليه؟! وبعد صراعٍ من الأفكار بداخله، قرر الابتعاد عنها.

بينما نور والتي صارت أكثر إشراقًا وبهجة، كانت كل يوم تخرج لعملها متفننة في تزيين هيئتها لكن بلا ابتذال، لكنها كانت تريد فقط أن تبدو جميلة وصاحبة طلة رائعة عندما يراها أو يقابلها.

لكنه اختفى عنها لفترة غير قصيرة، ترى هل هو مشغولًا لتلك الدرجة؟ هل أصابه مكروه؟ أم سافر لأهله؟!

كانت تتلفت في سيرها ربما تراه لكنها لم تراه، ترى هل انتهى الحلم بهذه السرعة؟! وعديلة تراقبها دون تعليق، لكن يبدو أنها لم تقابله من يومها.

Noonazad

( رواية نور)       By: NoonaAbdElWahed حيث تعيش القصص. اكتشف الآن