الفصل السابع والعشرون

720 21 0
                                    

السابع والعشرون

وجد باب المنزل مفتوحاً على مصرعيه وأمه تتلهف للقادم فتعدو للخارج بتوتر كلما وصلتها خطوات صاعدة أو هابطة على الدرج .. لاحت لناظريه وهي تبكي وتدفن نفسها في جذعه الطويل تهمس بخوف :" إنها بالحمام لا ترد عليّ ولا تفتح لي .. أخاف عليها يا غيث " قبَّل أمه بلثمة سريعة وهو يربت على ظهرها مطمئناً لها بما ليس يملكه لنفسه .. يخطو بقوة مخترقاً غرفتهما ، توقفت خطواته مصحوبة بلهاثه المعلن عن زيادة معدل نبضاته القلبية أمام باب الحمام الذي تم إصلاحه خشى أن يكون مغلقاً .. ولكن عندما لم تجبه على طرقاته دفع الباب بأصابع مرتجفة تكاد تتجمد أوصاله هلعاً على صورتها .. جلبت له صورة أخرى ليوم زفافهما وبشرتها الصفراء الشاحبة وذلك القلب الخافق هو الدليل الوحيد على أنها مازالت مقيدة بين الأحياء .. مكومة بالمغطس بملابسها والماء البارد ينساب على جسدها المنتفض شفتيها زرقاوتين .. شعرها يلتصق بوجهها ويفترش كتفيها مستمراً بإفراغ الماء خلاله ، اقترب بوجل وخشوع يخشى أن تنهره أو تدخل بنوبة هياج .. نادى بخفوت قلق :" سناريا حبيبتي ما بك ؟؟" لم يجد منها أي إستجابة .. قطع المسافة بينهما بخطوتين يزداد تعلقاً بالأمل أن ترد عليه حتى لو سبته سيجد بذلك راحته أكثر من ذاك التوتر المشبع به جو الحمام الخانق يكاد يزهق أنفاسه :" سناريا ماذا حدث ؟" مدّ كفه وأغلق الصنبور وإصراره يعلو لإخراجها من ذلك الجمود المريع ، هزّ كتفها تعلو رأسها لتواجهه لأول مرة منذ وقت طويل بنظرة متألمة شاحبة ضعيفة لم يستطع أن يتحملها فأشاح هو بنظره للحظة ثم عاد بنظره وجدها جامدة النظرات تجاهه .. قطرات العرق على جبينه ازدحمت في حشود متكالبة تصارع للفرار خارج إطار جسده .. أنفاسه تتسارع لدرجة أعجزت رئتيه عن مجاراتها بالتنفس .. أطرافه ترتجف من مجرد رؤيتها مازالت على جمودها وعيونها الباكية المنتفخة بتورم ، صرخة واهنة تجاهد لتخرج مختنقة من حلقومها :" لا .. لا " عندما وجدت كفه الداعية على كتفها وصوته المختنق يحاول أن يجذبها للتفاعل معه :" ماذا حدث ليجعلك بتلك الحال ؟" طرقة خافتة على زجاج الحمام جعلتها تجفل كمن سمع دوي مدفع .. جعله إرتجافها يستدير كطلقة ويفتح الباب يتصدى لنظرات أمه القلقة المتلصصة على تلك الجامدة بأرض المغطس فلا تراها وهي تتساءل بهلع :" ماذا بها سناريا ؟" يجيبها بكفه الرطب مربتاً على كتفها هامساً بكلماته بثقة العالم كيفية التصرف :" أمي هذه المرة دعيني وحدي معها .. واطمئني عليها ستصبح أفضل حالاً " شعرت السيدة بإشارات الثقة تتسرب لداخلها وتلك النظرة الحانية وصلتها رسالتها المعلنة
(( إنها ملكيتي ومليكتي ))
ابتسمت وغادرت من فورها وهي تتذكر تلك النظرة لمعتصم عندما كانت تبدو مرهقة .. تدرك أن إيمانها بقدرات ابنها على العودة لا تتزعزع ..

وجد نفسه أمامها بإختبار الثقة الذي هوى داخله ، بكل حب وعناية جذبها وهي تتخبط بين يديه وبدأ ينزع ملابسها المبللة وكان قد حمل ملاءة قطنية كبيرة سرعان ما كانت تلتف حول جسدها الشاحب من البرودة وحملها كطفلة تائهة تئن بوجع
" سوف تعودين دافئة بعد قليل " انسابت كلماته بهدوء غريب تتخلل نفسها فتوقظها مما كانت وشيكة الوقوع فيه وداخله فراغ الألم والحزن .. بدأت دموعها تذرف ماءها وهو كل ما استطاع فعله أن بدَّل ملابسه المبللة بأخرى جافة قميصاً وبنطالاً من الجينز خشية أن تفاجئه بنوبة لا يعلم مداها ، أراد أن يكون مستعداً فقط إذا استدعت حالتها التوجه السريع للمشفى ، متوسداً السرير بجوارها يحتضنها وهو يحاول أن يجلب بصوته الهدوء داخل روحها المعذبة .. حتى بدأت بالهدوء وشاعت السكينة جسدها من الإنتفاض وبدأت تدخله ببؤرة أخرى من العقاب بصوتها المقيد بألم مذنب :" لقد ماتت !"
همس بحب وصبر يجلب الهدوء :" من تقصدين ؟" حركت رأسها والتوت شفتاها من الرغبة بالبكاء والنحيب وأجابت كمن يزهق أنفاسه :" زهرة الياسمين !" خفوت صوتها يستولي على مفاتيح عقله فيجلب الوعي داخله :" لقد جعلتكما تساعداني بقتلها " صرخ داخله ( مَن قتَل مَن ؟! وكيف ؟) وجد نفسه يهمس برغبة ملتاعة في أن يصمتها ويجعلها تنام :" اهدأي حبيبتي أنتِ لا تستطيعين إيذاء نبتة فما بالك بامرأة !" سددت له نظرة غاضبة ينام فيها الحقد والبغض بأريحية تامة معلنة :" إنها الطفلة ياسمين ... تلك الفتاة.. التريمادول " جلست نافضة جسدها المرتخي وهي تدفن وجهها بين راحتيها :" ليتني ما استمعت إليكما أنتَ ورامز " لم يجد غير أن يواسيها بإحتضانه لها بدون أن ينبس ببنت شفة ، تأوهت منتحبة كمن فقد عزيز غالٍ عليه :" آآآه ضاعت تلك المسكينة بجرعة زائدة .. تحت أنظار حاميها ذلك مدعي الأبوة " يعلم كم تتألم من أجل تلك الطفلة ولكنها تنفي أن الوضع هو الذي فرض نفسه على تصرفه وقتها .. صوتها المختنق مستمر بنفس الوتيرة :" لم تعد هناك ياسمين ، لن تتفتح زهرة الياسمين " ظلت فترة هكذا حتى ارتخى جسدها وهمدت أطرافها ينظر لجفونها المفتوحة على إتساعها الغائبة عن حدود مكانها وجسدها يعطي لمحة على الحياة بنفضة كل فترة مرافقة لنشجة أو إنطلاق آهة واحدة .. وجد نفسه يخرجها لتستطرد لا يعجبه صمتها ذلك وهدوءها المستكين بين ذراعيه .. يتمنى أن تكون فورة من حيوية :" كيف علمتِ ؟" انتظرت برهة كمن يفتش عن تلك اللحظات داخل حصن عقله تعود لذاتها تتذكر في منتصف مناوبتها وجدت وقت فراغ أرادت معه تناول كوب من القهوة السوداء فتأثير مجاهدتها لمشاعرها الأيام السابقة أنهكها كلياً وقضى على تركيزها بشكل نهائي .. عائدة تحمل كوبها الورقي تتنسم رائحته بخياشيمها فتعمل على إيقاظ عقلها ، انتظرت المصعد فلا طاقة لها للصعود للطابق الرابع على قدميها .. حدقتاها تئنان من إتساعهما بحدة ، تهمس لذاتها :" ما الذي جاء بهما هنا ؟" وهي تحملق للرجل الساند امرأته الواهنة الأقدام تتمنى أن تجد مجالاً لإنهيارها ، وجدت الرجل يسند زوجته لتجلس على إحدى مقاعد الممر منتحبة ترتدي ثوباً أسوداً والرجل يضرب بكفيه حائطاً رخامياً جعله منفساً لحزنه .. مرت عيناها الضبابيتان الرؤية أمام الغرفة التي خرجا منها للتو ( الثلاجة ) ..
جذبت بيدها إحدى الممرضات التي كادت تجتازها وسألتها مشيرة بإتجاههما :" ما بهما ؟" نظرت الممرضة حيث أشارت بإصبعها وضربت كفاً بكف :" إن ابنتهما الصغيرة توفيت اليوم .. اسمها كان زهرة الياسمين كما كتبا بتقرير الدخول .. وجداها في غرفتها في حالة تجمد ، يرجح الأطباء أنها جرعة مخدر وتم إبلاغ الشرطة وسوف يأتون بعد قليل " وجدت نفسها تترك كوبها يسقط بصوت مكتوم على الأرض تتناثر البقع البنية الحارقة على ساقيها بإتهام سافر :" قتلة .. لقد شاركت في قتلها " وجدت خطواتها تتجه لذلك الأب المدعي وتربت على كتفه .. التوت عنقه بقوة وهو يستدير إليها ، لم تصدق أنها من قالت تلك الكلمات :" أهنئها على خلاصها منكما وخروجها من تلك الدنيا المزيفة طالما بها أب مدعٍ مثلك أنتَ وتلك التي تبكي مدعية الأمومة .. اجعل رشوتك تعيدها " وخرجت من المشفى بعد أن جلبت حقيبتها ولكنها رأت سيارة الإسعاف تنقل جثمان صغير لداخلها ، مدت يدها بعد أن أمرتهم بالتوقف وسألت :" هي زهرة الياسمين ؟" نظر المسعف للائحة بيده و هزّ رأسه موافقاً .. واتتها الجرأة لتفتح سحاب الكيس الأسود الحافظ وهبطت لتلثم الجبين الأزرق البارد لتلك الزهرة وهي تهمس :" أعتذر ، ليتني تمسكت برأيي وأبلغت كنت .." بترت كلماتها و رفعت رأسها وخطت للخارج وسط دهشة المسعفين والضابط الواقف بجوار السيارة تريد أن تهرب من قلبها الملتاع وعقلها المعذب وذاتها الملومة بتأنيب موجع وكلمة واحدة تتردد داخلها بلوم مخزٍ :" لقد ساعدتِ بقتلها .. ليتكِ تمسكت بقراركِ كانت حية الآن ".. خرجت من شرودها على هزة كفه وهمسه المصمم على سماع رد من بين شفتيها :" كيف علمتِ ؟" وجدت صوتها أخيراً يجيب بشبه الهمس :" رأيتُ أهلها بالمشفى ورأيت جثمانها يخرج للمشرحة " ابتسمت بسخرية قاتلة :" كنتم تريدون إخفاء الحقيقة خوفاً من الفضيحة والآن الأمر سيمر بكل سرية فالصحافة والشرطة سيتعاملون مع الحالة بكل سرية " جذبها مرة أخرى مصدوماً من كل ما يحدث المرة الوحيدة الذي تدخل بعملها انتهت بكارثة ..

الفجر الخجول(مكتوبة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن